فصل: قال الشنقيطي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشنقيطي:

قوله تعالى: {وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب}.
الضمير في قوله: ذريته راجع إلى إبراهيم.
والمعنى: أن الأنبياء والمرسلين الذين أنزلت عليهم الكتب بعد إبراهيم كلهم من ذرية إبراهيم، وما ذكره هنا عن إبراهيم ذكر في سورة الحديد: أن نوحا مشترك معه فيه، وذلك واضح لأن إبراهيم من ذرية نوح مع أن بعض الأنبياء من ذرية نوح دون إبراهيم، وذلك في قوله تعالى: {ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب} [الحديد: 26].
قوله تعالى: {وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين}.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه أتى إبراهيم أجره أي جزاء عمله في الدنيا، وإنه في الآخرة أيضا من الصالحين.
وقال بعض أهل العلم: المراد بأجره في الدنيا: الثناء الحسن عليه في دار الدنيا من جميع أهل الملل على اختلافهم إلى كفار ومؤمنين. والثناء الحسن المذكور، هو لسان الصدق في قوله: {واجعل لي لسان صدق في الآخرين} [الشعراء: 84] وقوله تعالى: {وجعلنا لهم لسان صدق عليا} [مريم: 50] وقوله: {وإنه في الآخرة لمن الصالحين} لا يخفى أن الصلاح في الدنيا يظهر بالأعمال الحسنة، وسائر الطاعات، وأنه في الآخرة يظهر بالجزاء الحسن، وقد أثنى الله في هذه الآية الكريمة على نبيه إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وقد أثنى على إبراهيم أيضا في آيات أخر كقوله تعالى: {وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما} [البقرة: 124] وقوله تعالى: {إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم وآتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الآخرة لمن الصالحين} [النحل: 120- 122]. اهـ.

.قال الشعراوي:

{فما كان جواب قومه إلا أن قالوا اقتلوه أو حرقوه}.
كنا ننتظر منهم جوابا منطقيا، بعد أن دعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وبين لهم بطلان عبادة آلهتهم، وأنها لا تضر ولا تنفع، كان عليهم أن يجادلوه، وأن يدافعوا عن آلهتهم، وأن يظهروا حجتهم في عبادتهم.
إنما يأتي جوابهم دالا على إفلاسهم {فما كان جواب قومه إلا أن قالوا اقتلوه أو حرقوه} [العنكبوت: 24] أهذا جواب على ما قيل لكم؟ إنه مجرد هروب من المواجهة، وإفلاس في الحجة، إنه جواب من لم يجد جوابا، وليس لديه إلا التهديد والتلويح بالقوة وبالبطش، فهذه لغة من لا حجة عنده.
لكن، لماذا سماه القرآن جوابا؟ قالوا: لأنهم لو لم يتكلموا بهذا الكلام لقيل عنهم أنهم لم يلتفتوا إلى كلام نبيهم ولم يأبهوا به، وأن كلامه لا وزن له، ولا يرد عليه، فإن كان كلامهم لا يعد جوابا فهو في صورة الجواب، وإن كان جوابا فاسدا.
وقولهم: {اقتلوه} [العنكبوت: 24] نعلم أن القتل هو هدم البنية هدما يتبعه خروج الروح لأنها لا تجد بنية سليمة تسكنها، أما الموت فتخرج الروح أولا، ثم تهدم البنية حين تتحلل في التراب، إذن: فهما سواء في أنهما هلاك.
وسبق أن أوضحنا هذه المسألة بلمبة الكهرباء التي تضيء، فالكهرباء لا توجد في اللمبة، إنما في شيء خارج عنها، لكن يظهر أثر الكهرباء في اللمبة إن كانت سليمة صالحة لإستقبال التيار، فإن كسرتها فلا تجد فيها أثرا للكهرباء ولا تضيء، وقد تمنع عنها الكهرباء وهي سليمة.
ثم قالوا {أو حرقوه} [العنكبوت: 24] وهل التحريق بعد القتل يعد ارتقاء في العقوبة؟ لا شك أن القتل أبلغ من التحريق، فقد يحرق شخص، وتتم نجدته وإسعافه فلا يموت، فالقتل تأكيد للموت، أما التحريق فلا يعني بالضرورة الموت، فلماذا لم يقولوا فقد اقتلوه وتنتهي المسألة، أو يصعدوا العقوبة فيقولوا: حرقوه أو اقتلوه؟
إنهم بدأوا بأقصى ما عندهم من عقوبة لشدة حنقهم عليه فقالوا {اقتلوه} [العنكبوت: 24] ثم تراءى لهم رأي آخر: ولماذا لا نحرقه بالنار، فربما يعود ويرجع عن دعوته حينما يجد ألم التحريق، وهذا يعد كسبا لهم، وتحسب الجولة لصالحهم.
لكن من الذي قال: {اقتلوه} [العنكبوت: 24] ؟ من الآمر بالقتل، ومن المأمور؟ لقد اتفقوا جميعا على قتله، فالآمر والمأمور سواء، وهذا واضح من الآية: {فما كان جواب قومه} [العنكبوت: 24] فالقوم جميعا تواطئوا على هذه المسألة. أو أن الآمر هم رؤساء القوم وكبارهم الذين يأتمر الناس بأمرهم، أما التنفيذ فمهمة الأتباع.
ونحن نرى ثورة الجمهور وانفعاله حينما تقع جريمة مثلا، فالكل يغضب ويقول: اقتلوه، اسجنون، فكلهم قائل، وكلهم مقول له.
ثم يقول سبحانه: {فأنجاه الله من النار} [العنكبوت: 24] وهنا يعترض الفلاسفة: كيف والنار من طبيعتها الإحراق؟ كيف يتخلف هذا القانون؟ لكن كيف معجزة إن لم تأت على هذه الصورة؟
إن الحق سبحانه خلق الخلق وجعل فيه نواميس تفعل فعلها وتؤدي مهمتها تلقائيا، فالأرض مثلا حينما تحرثها، وتلقي فيها الحب، ثم ترويها، الناموس أن تنبت، وحتى لا يظن ظان أن الكون إنما يسير على وفق هذه النواميس، لا وفق قدرة الله نجد أنه سبحانه يخرق هذه النواميس ليثبت لنا قيوميته على خلقه وطلاقة قدرته فيه.
لذلك إن لم يكن لك رزق في حرثك هذا، فلا ينبت النبات، أو ينبت ثم تصيبه آفة أو إعصار فيهلكه قبل استوائه. إذن: فالمسألة قيومية لله تعالى وليست ميكانيكا.
وقد خرق الله نواميس الكون لموسى- عليه السلام- حينما ضرب البحر، فصار كل فرق كالطود العظيم، وتحولت سيولة الماء إلى جبل صلب. وخرق نواميس الكون لإبراهيم حينما قال للنار: {قلنا يانار كوني بردا وسلاما على إبراهيم} [الأنبياء: 69].
وخرق النواميس ليثبت الإعجاز، وليثبت أن يد الله تعالى لا تزال مسيطرة على ملكه سبحانه، لا أنه خلق النواميس وتركها تعمل في الكون دون تدخل منه سبحانه كما يقول الفلاسفة، فالحق سبحانه خلق النواميس لتفعل، ولكن قيوميته تعالى وقدرته تعطل النواميس.
{فأنجاه الله من النار إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون} [العنكبوت: 24] ونذكر في قصة السفينة أن الله تعالى قال عنها: {وجعلناهآ آية للعالمين} [العنكبوت: 15] آية وهنا قال: {لآيات} [العنكبوت: 24] وهناك قال: {للعالمين} [العنكبوت: 15] وهنا قال: {لقوم يؤمنون} [العنكبوت: 24] فالاختلاف إذن بين السياقين في أمرين:
قال في السفينة {آية} [العنكبوت: 15] لأن العجيب في أمر السفينة ليس في صناعتها، فمن رآها يمكن أن يصنع مثلها، إنما الآية فيها أن الله تعالى أعلمه بها قبل الحاجة إليها، ثم منع عنها الزوابع والأعاصير أن تلعب بها وتغرق ركابها.
أما في مسألة الإحراق فعجائب كثيرة وآيات شتى، فكان من الممكن ألا يمكنهم الله منه، وكان من الممكن بعد أن أمسكوا به وألقوه في النار أن ينزل الله مطرا يطفيء نارهم وينجو إبراهيم، أو يسخر له من القوم أهل رأفة ورحمة ينقذونه من الإلقاء في النار.
لكن لم يحدث شيء من هذا، حيث أمكنهم الله منه حتى ألقوه في النار وهي مشتعلة، وهو موثق بالحبال، ومع ذلك لم تصبه النار بسوء، وظهرت الآيات بينات واضحات أمام أعين الجميع.
الأمر الآخر: قال هناك {للعالمين} [العنكبوت: 15] لأن السفينة حينما رست ونجا ركابها ظلت باقية في مكانها يراها الناس جميعا ويتأملونها، فقد كان لها أثر باق قائم مشاهد.
أما في مسألة إبراهيم- عليه السلام- فقال: {لقوم يؤمنون} [العنكبوت: 24] لأن نجاة إبراهيم- عليه السلام- كانت عبرة لمن شاهدها فقط، ونحن نؤمن بها لأن الله أخبرنا بها، ونحن مؤمنون بالله، فهي آيات للمؤمنين بالله لا للعالمين.
ثم يقول الحق سبحانه: {وقال إنما اتخذتم من دون الله أوثانا}.
المعنى: إن كنتم لم تؤمنوا بالآيات الكونية الدالة على قدرة الله، ولم تؤمنوا بالمعجزة التي رأيتموها حين نجاني ربي من النار، وكان عليكم أن تؤمنوا بأنه لا يقدر على ذلك إلا الله، فلماذا إصراركم على الكفر؟
فلابد أنكم كفرتم بالله وعبدتم الأصنام، لا لأنكم مقتنعون بعبادتها، ولا لأنها تستحق العبادة، إنما عبدتموها {مودة بينكم في الحياة الدنيا} [العنكبوت: 25] يعني: نفاقا ينافق به بعضكم بعضا ومجاملة؛ لأنكم رأيتم رءوس القوم فيكم يعبدونها فقلدتموهم دون اقتناع منكم بما تعبدون، أو مودة لآبائكم الأولين، وسيرا على نهجهم، كما حكى القرآن: {إنا وجدنآ آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون} [الزخرف: 23].
وفي آية أخرى {قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنآ} [المائدة: 104].
لكن هذه المودة وهذه المجاملة وهذا النفاق عمرها الحياة الدنيا فحسب، وفي الآخرة ستتقطع بينكم هذه المودات: {الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو} [الزخرف: 67] يعني: ستنقلب هذه المودة وهذه المجاملة إلى عداوة، بل وإلى معركة حكاها القرآن: {ربنآ أرنا الذين أضلانا من الجن والإنس نجعلهما تحت أقدامنا} [فصلت: 29].
وقال: {إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب} [البقرة: 166].
ويقرر هنا أيضا هذه الحقيقة: {ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين} [العنكبوت: 25] ذلك لأن المقدمات التي سبقت كانت تقتضي أن يؤمنوا، فما كان منهم إلا الإصرار على الكفر.
وفي الوقت الذي تنقلب فيه مودة الكافرين عداوة تنقلب عداوة المؤمنين الذين تعاونوا على الطاعة إلى حب ومودة، فيقول المؤمن لأخيه الذي جره إلى الطاعة وحمله عليها- على كره منه وضيق- جزاك الله خيرا لقد أنقذتني.
ولا ينتهي الأمر عند هذه العقوبة التي يوقعونها بأنفسهم من التبرؤ واللعن، بل ينصرفون إلى عقوبة أشد {ومأواكم النار وما لكم من ناصرين} [العنكبوت: 25] ونلحظ هنا أن الحق سبحانه لم يقل: وما لكم من دون الله؛ لأن الكلام في الآخرة حيث لا توبة لهم ولا رجوع، فقد انتفى أن يكون لهم ولي أو نصير من الله.
كذلك لا ناصر لهم من أوليائهم الذين عبدوهم من دون الله حيث يطلبون النصرة من أحجار وأصنام، لا تنطق ولا تجيب.
وهكذا تنتهي هذه اللقطة السريعة من قصة سيدنا إبراهيم- عليه السلام- وله تاريخ طويل، وهو شيخ المرسلين وأبو الأنبياء، وإن أردت أن تحكي قصته لأخذت منك وقتا طويلا، ويكفي أن الله تعالى قال عنه: {إن إبراهيم كان أمة} [النحل: 120].
ثم يقول الحق سبحانه: {فآمن له لوط وقال إني مهاجر}.
أي: أن قوم إبراهيم- عليه السلام- ظلوا على كفرهم، والذي آمن به لوط- عليه السلام- وكان ابن أخيه، وكانوا في العراق، ثم سينتقلون بعد ذلك إلى الشام.
وكلمة {فآمن له لوط} [العنكبوت: 26] حين نتتبع كلمة آمن في القرآن الكريم نجد أنها تدور حول الأمن والطمأنينة والراحة والهدوء، لكنها تختلف في المدلولات حسب اختلاف موقعها الإعرابي، فهنا {فآمن له} [العنكبوت: 26] وهل يؤمن لوط لإبراهيم؟ والإيمان كما نقول يؤمن بالله فما دام السياق {فآمن له} [العنكبوت: 26] فلابد أن المعنى مختلف، ولا يقصد هنا الإيمان بالله.
ومعنى {آمن} هنا كما في قوله تعالى عن قريش: {وآمنهم من خوف} [قريش: 4] فالفعل هنا متعد، فالذي آمن الله، آمن قريشا من الخوف. وكذلك في قوله تعالى: {هل آمنكم عليه} [يوسف: 64] ومعنى {فآمن له} [العنكبوت: 26] أي: صدقه.
ومنه قوله تعالى: {ومآ أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين} [يوسف: 17] أي: بمصدق، أما آمنت بالله: اعتقدت وجوده بصفات الكمال المطلق فيه سبحانه.
ولوط لا يصدق بإبراهيم، إلا إذا كان مؤمنا بإله أرسله، فكأنه آمن بالله ثم صدقه فيما جاء به وقصة لوط عليه السلام لها موضع آخر فصلت فيه، إنما جاء ذكره هنا؛ لأنه حصيلة الصفقة الجدلية والجهادية بين إبراهيم وقومه، فبعد أن دعاهم إلى الله ما آمن له إلا لوط ابن أخيه.
وأذكر أن الشيخ موسى- رحمه الله عليه- وكان يدرس لنا التفسير، وجاءت قصة لوط عليه السلام فقلت له: لماذا ننسب رذيلة قوم لوط إليه فنقول: لوطي. وما جاء لوط إلا ليحارب هذه الرذيلة ويقضي عليها؟
فقال الشيخ: فماذا نقول عنها إذن؟ قلت: إن اللغة العربية واسعة الاشتقاق، فمثلا عند النسب إلى عبد الأشهل قالوا: أشهلي، ولعبد العزيز قالوا: عبدزي، ولبختنصر قالوا: بختي، والآن نقول في النسب إلى دار العلوم درعمي. إلخ فلماذا لا نتبع هذه الطريقة؟ فنأخذ القاف المفتوحة، والواو الساكنة من قوم، ونأخذ الطاء من لوط، ثم ياء النسب فنقول قوطي ونجنب نبي الله لوطا عليه السلام أن ننسب إليه ما لا يليق أن ينسب إليه.
وقد حضرت احتفالا لتكريم طه حسين، فكان مما قلته في تكريمه: لك في العلم مبدأ طحسني؛ لأنه كثيرا ما نجد بين العلماء اسم طه، واسم حسين.