فصل: قال الزمخشري:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ثم عزاهم، فقال عز من قائل: {ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين} والله تعالى عالم بهم قبل الإختبار، وعلمه قديم تام، وإنما معنى ذلك: فليظهرن الله تعالى ذلك حتى يوجد معلومة.
قال مقاتل: فليرين الله، الأخفش: فليميزن الله.
وقال القتيبي: علم الله سبحانه نوعان: أحدهما: علم شيء كان يعلم إنه كان، والثاني: علم شيء يكون، فعلم إنه يكون وقت كذا ولا يعلمه كائنا واقعا إلا بعد كونه ووقوعه، بيانه قوله سبحانه: {ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين} [محمد: 31] أي نعلم المجاهدين منكم مجاهدين ونعلم الصابرين صابرين، فكذلك هاهنا فليعلمن الله ذاك موجودا كائنا وهذا سبيل علم الله في الإستقبال.
{أم حسب الذين يعملون السيئات} الشرك {أن يسبقونا} يعجزونا ويقولوا ما بأنفسهم فلا يقدر على الإنتقام منهم {ساء ما يحكمون} أي ساء حكمهم الذي يحكمون {من كان يرجو لقاء الله} قال ابن عباس ومقاتل: من كان يخشى البعث.
سعيد بن جبير: من كان يطمع في ثواب الله {فإن أجل الله لآت} يعني ما وعد الله من الثواب والعقاب الكائن {وهو السميع العليم ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه} له ثوابه. {إن الله لغني عن العالمين والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنكفرن عنهم سيئاتهم ولنجزينهم أحسن الذي كانوا يعملون} أي بأحسن أعمالهم وهو الطاعة.
{ووصينا الإنسان بوالديه حسنا} اختلف النحاة في وجه نصب الحسن، فقال أهل البصرة: على التكرير تقديره ووصيناه حسنا أي بالحسن، كما يقول: وصيته خيرا، أي بخير، وقال أهل الكوفة: معناه ووصينا الإنسان أن يفعل حسنا، فحذفه لدلالة الكلام عليه كقول الراجز:
عجبت من دهماء إذ تشكونا ** ومن أبي دهماء إذ يوصينا

خيرا بها كأننا جافونا. أي يوصينا أن نفعل بها خيرا، وهو مثل قوله: {فطفق مسحا} [ص: 33] أي يمسح مسحا.
وقيل معناه: وألزمناه حسنا، وقرأ العامة {حسنا} بضم الحاء وجزم السين، وقرأ أبو رجاء العطاردي بفتح الحاء والسين.
وفي مصحف أبي {إحسانا} نزلت في سعد بن أبي وقاص الزهري. واسم أبي وقاص: مالك بن وهبان، وذلك إنه لما أسلم قالت له أمه جمنة بنت أبي سفيان بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف: يا سعد بلغني إنك صبوت فوالله لا يظلني سقف بيت من الضح والريح ولا آكل ولا أشرب حتى تكفر بمحمد وترجع إلى ما كنت عليه، وكان أحب ولدها إليها، فأبى سعد وصبرت هي ثلاثة أيام لم تأكل ولم تشرب ولم تستظل بظل، فأتى سعد النبي عليه السلام وشكا ذلك إليه فأنزل الله سبحانه هذه الآية والتي في لقمان والأحقاف، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يترضاها ويحسن إليها ولا يطيعها في الشرك وذلك قوله سبحانه: {وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم} إنه لي شريك {فلا تطعهمآ إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون}.
أخبرنا عبد الله بن حامد قراءة قال: أخبرنا مكي بن عبدان قال: حدثنا عبد الله بن هاشم قال: حدثنا أبو أسامة قال: حدثنا نمير بن حكيم، عن أبيه، عن جده، قال: «قلت: يا رسول الله من أبر؟ قال: أمك، قلت: ثم من؟ قال: أمك، قلت: ثم من؟ قال: ثم أمك، قلت: ثم من؟ قال: ثم أباك ثم الأقرب فالأقرب».
وأخبرنا عبد الله إجازة قال: أخبرنا عثمان بن أحمد قال: حدثنا علي بن إبراهيم الواسطي قال: حدثنا منصور بن مهاجر قال: حدثنا أبو النصر الأبار، عن أنس بن مالك قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الجنة تحت أقدام الأمهات».
{والذين آمنوا وعملوا الصالحات لندخلنهم في الصالحين} أي في زمرتهم وجملتهم، وقال محمد بن جرير: أي في مدخل الصالحين وهو الجنة، وقيل: {في} بمعنى مع، والصالحون هم الأولياء والأنبياء.
{ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذآ أوذي في الله جعل فتنة الناس} أي أذاهم وعدائهم {كعذاب الله} في الآخرة فارتد عن إيمانه {ولئن جاء نصر من ربك ليقولن} هؤلاء المرتدون {إنا كنا معكم} وهم كاذبون {أو ليس الله بأعلم بما في صدور العالمين وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنافقين} أي ليميزنهم ويظهر أمرهم بالإبتلاء والاختبار والفتن والمحن.
واختلف المفسرون في سبب نزول هذه الآية:
فقال مجاهد: نزلت في ناس كانوا يؤمنون بألسنتهم، فإذا أصابهم بلاء من الله ومصيبة في أنفسهم افتتنوا. الضحاك: نزلت في ناس من المنافقين بمكة كانوا يؤمنون، فإذا أوذوا رجعوا إلى الشرك. عكرمة عن ابن عباس: نزلت في المؤمنين الذين أخرجهم المشركون معهم إلى بدر، فارتدوا وهم الذين نزلت فيهم {إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم} [النساء: 97]. الآية، وقد مضت القصة. قتادة: نزلت هذه الآية في القوم الذين ردهم المشركون إلى مكة.
وهذه الآيات العشر مدنية إلى هاهنا، وسائرها مكي، وقال مقاتل والكلبي: نزلت في العياش بن أبي ربيعة بن مغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشي، وذلك إنه أسلم فخاف أهل بيته فهاجر إلى المدينة قبل أن يهاجر النبي عليه السلام، فحلفت أمه أسماء بنت مخرمة ابن أبي جندل بن نهشل التميمي أن لاتأكل ولا تشرب ولا تغسل لها رأسا ولا تدخل لبيتا حتى يرجع إليها، فلما رأى ابناها أبو جهل والحارث ابنا هشام وهما أخوا عياش لأمه جزعها وحلفها رهبا في ظلمة حتى أتيا المدينة فلقياه، فقال أبو جهل لأخيه عياش بن أبي ربيعة: قد علمت أنك أحب إلى أمك من جميع ولدها وكنت بها بارا، وقد حلفت أمك إنها لا تأكل ولا تشرب ولا تغسل رأسها ولا تدخل بيتا حتى ترجع إليها، وأنت تزعم أن في دينك بر الوالدين، فارجع إليها فإن ربك الذي تعبده بالمدينة هو ربك بمكة فاعبده بها، فلم يزالا به حتى أخذ عليهما المواثيق لا يحركاه ولا يصرفاه عن دينه، فأعطياه ما سأل من المواثيق فتبعهما، وقد صبرت أمه ثلاثة أيام ثم أكلت وشربت، قالا: فلما خرجوا من أهل المدينة أخذاه فأوثقاه وجلده كل واحد منهما مائة جلدة حتى تبرأ من دين محمد رحمهما الله جزعا من الضرب وقال ما لا ينبغي، فأنزل الله سبحانه فيه: {ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذآ أوذي}. الآية.
قالا: وكان الحارث أشدهما عليه وأسوأهما قولا، فحلف عياش بالله لئن قدر عليه خارجا من الحرم ليضربن عنقه، فلما رجعوا إلى مكة مكثوا حينا ثم هاجر النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون إلى المدينة، فهاجر عياش وأسلم وحسن إسلامه. ثم إن الله تعالى قذف الإيمان في قلب الحارث بن هشام، فهاجر إلى المدينة وبايع النبي عليه السلام على الإسلام ولم يحضر عياش، فلقيه عياش يوما بظهر قباء ولم يشعر بإسلامه، فضرب عنقه، فقيل له: إن الرجل قد أسلم، فاسترجع عياش وبكى، ثم أتى النبي عليه السلام وأخبره بذلك، فأنزل الله سبحانه وتعالى: {وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطئا} [النساء: 92]. الآية.
{وقال الذين كفروا} من أهل مكة {للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم} أوزاركم، قال الفراء: لفظة أمر ومعناه: جزاء، مجازه إن اتبعتم سبيلنا حملنا خطاياكم كقوله سبحانه: {فليلقه اليم بالساحل} [طه: 39] وقوله سبحانه: {لا يحطمنكم سليمان وجنوده} [النمل: 18] لفظة نهي وتأويله جزاء. وقال الشاعر:
فقلت ادعي وادع فإن أندى ** لصوت أن ينادي داعيان

يريد إن دعوت دعوت.
فأكذبهم الله تعالى، فقال: {وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء إنهم لكاذبون وليحملن أثقالهم} أوزار أنفسهم وأثقال من أضلوا وصدوا عن سبيل الله {وأثقالا مع أثقالهم} نظيرها و{ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم} [النحل: 25] الآية.
روي عوف، عن الحسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أيما داع دعا إلى هدى فاتبع عليه وعمل به فله مثل أجور الذين اتبعوه ولا ينقص ذلك من أجورهم شيئا وأيما داع دعا إلى ضلالة، فاتبع عليها وعمل بها فعليه مثل أوزار الذين اتبعوه ولا ينقص ذلك من أوزارهم شيئا» ثم قرأ الحسن {وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم}.
أخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا مكي بن عبدان قال: حدثنا عبد الله بن هاشم قال: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن مسلم، عن عبد الرحمن بن هلال العنسي، عن جرير قال: «خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فحثنا على الصدقة، فأبطأ الناس حتى رئي في وجهه الغضب، ثم إن رجلا من الأنصار قام فجاء بصرة وأعطاها، فتتابع الناس، فأعطوا حتى رئي في وجهه السرور، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من سن سنة حسنة كان له أجرها ومثل أجر من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن سنة سيئة كان عليه وزرها ومثل وزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شيء».
{وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما فأخذهم الطوفان وهم ظالمون}.
قال ابن عباس: بعث نوح عليه السلام لأربعين سنة وبقي في قومه يدعوهم ألف سنة إلا خمسين عاما وعاش بعد الطوفان ستين سنة حتى كثر الناس وفشوا.
{فأنجيناه وأصحاب السفينة وجعلناهآ آية للعالمين وإبراهيم إذ قال لقومه اعبدوا الله واتقوه ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون إنما تعبدون من دون الله أوثانا وتخلقون إفكا}.
ويقولون كذبا، وقال مجاهد: وتصنعون أصناما بأيديكم فتسمونها آلهة، نظيره قوله سبحانه: {أتعبدون ما تنحتون} [الصافات: 95] ، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي {وتخلقون إفكا} على المبالغة والكثرة. {إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقا فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون وإن تكذبوا فقد كذب أمم من قبلكم} فاهلكوا {وما على الرسول إلا البلاغ المبين أولم يروا} بالتاء كوفي غيرهم بالياء {كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده إن ذلك على الله يسير قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ} الله، {الخلق} يعني فانظروا إلى مساكن القرون الماضية وديارهم وآثارهم كيف بدأ خلقهم ولم يتعذر عليه مبدئا فكذلك لا يتعذر عليه إنشائها معيدا.
{ثم الله ينشىء النشأة} أي يبدأ البدأة {الآخرة} بعد الموت.
وفيها لغتان: بالمد وهي قراءة ابن كثير والحسن وأبو عمر وحبيب كانت، و{نشأة} بالقصر وتسكين السين وهي قراءة الناس ونظيرها الرأفة، والرأفة {إن الله على كل شيء قدير يعذب من يشاء ويرحم من يشاء وإليه تقلبون} تردون.
{ومآ أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء} اختلف أهل المعاني في وجهها، فقال الفراء: معناه ولا من في السماء بمعجز، وهو من غامض العربية الضمير الذي لم يظهر في الثاني. كقول حسان بن ثابت:
فمن يهجو رسول الله منكم ** ويمدحه وينصره سواء

أراد ومن يمدحه وينصره فأضمر من وإلى هذا التأويل ذهب عبد الرحمن بن زيد قال: لا يعجزه أهل الأرض في الأرض ولا أهل السماء في السماء إن عصوا.
وقال قطرب: ولا في السماء لو كنتم فيها، كقولك: ما يفوتني فلان بالبصرة ولا هاهنا في بلدي، وهو معك في البلد أي ولا بالبصرة لو صار إليها.
{وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير والذين كفروا بآيات الله ولقآئه أولئك يئسوا من رحمتي وأولئك لهم عذاب أليم} فأعرض سبحانه بهذه الآيات تذكيرا وتحذيرا لأهل مكة، ثم عاد إلى قصة إبراهيم، فقال عز من قائل: {فما كان جواب قومه} قرأ العامة بنصب الباء على خبر كان وإن قالوا: في محل الرفع على اسم كان، وقرأ سالم الأفطس {جواب} رفعا على اسم كان، وإن موضعه نصب على خبره {إلا أن قالوا اقتلوه أو حرقوه فأنجاه الله من النار} وجعلها عليه بردا وسلاما، قال كعب: ما حرقت منه إلا وثاقه.
{إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون وقال} يعني إبراهيم عليه السلام لقومه: {إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم} اختلف القراء فيها، فقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي ويعقوب {مودة} رفعا {بينكم} خفضا بالإضافة، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم على معنى: أن الذين اتخذتم من دون الله أوثانا هي {مودة بينكم}. {في الحياة الدنيا} لم تنقطع ولا تنفع في الآخرة كقوله: {لم يلبثوا إلا ساعة من نهار} [الأحقاف: 35] ثم قال: {بلاغ} [الأحقاف: 35] أي هذا بلاغ، وقوله سبحانه: {لا يفلحون} [يونس: 69] ثم قال: {متاع} [يونس: 70] أي هو متاع، فكذلك أضمروا هاهنا هي ويجوز أن تكون خبر إن.
وقرأ عاصم في بعض الروايات {مودة} مرفوعة منونة {بينكم} نصبا وهو راجع إلى معنى القراءة الأولى، وقرأ حمزة {مودة} بالنصب {بينكم} بالخفض على الإضافة بوقوع الإتحاد عليها وجعل إنما حرفا واحدا وهي رواية حفص عن عاصم، وقرأ الآخرون: {مودة} نصبا منونة {بينكم} بالنصب وهي راجعة إلى قراءة حمزة ومعنى الآية أنكم اتخذتم هذه الأوثان مودة بينكم في الحياة الدنيا.
{مودة بينكم في الحياة الدنيا} تتوادون وتتحابون على عبادتها وتتواصلون عليها.
{ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا} وتتبرأ الأوثان من عابديها {ومأواكم} جميعا العابدون والمعبودون {النار وما لكم من ناصرين فآمن له لوط} وهو أول من صدق إبراهيم عليه السلام حين رأى أن النار لم تضره.
{وقال إني مهاجر إلى ربي} فهاجر من كوتي من سواد الكوفة إلى حران ثم إلى الشام ومعه ابن أخيه لوط وامرأته سارة، وهو أول من هاجر، قال مقاتل: هاجر إبراهيم عليه السلام وهو ابن خمس وسبعين سنة.
{إنه هو العزيز الحكيم ووهبنا له إسحاق ويعقوب وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين}. اهـ.

.قال الزمخشري:

سورة العنكبوت مكية إلا من آية 1 إلى غاية آية 11 فمدنية وآياتها 69 نزلت بعد الروم.
بسم الله الرحمن الرحيم.