فصل: قال السعدي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال السعدي:

يخبر تعالى أن الذين كفروا بالله وبآياته ورسله، ولم ينقادوا لشرعه، أنهم زينت لهم الحياة الدنيا، فزينت في أعينهم وقلوبهم، فرضوا بها، واطمأنوا بها وصارت أهواؤهم وإراداتهم وأعمالهم كلها لها، فأقبلوا عليها، وأكبوا على تحصيلها، وعظموها، وعظموا من شاركهم في صنيعهم، واحتقروا المؤمنين، واستهزأوا بهم وقالوا: أهؤلاء منَّ الله عليهم من بيننا؟
وهذا من ضعف عقولهم ونظرهم القاصر، فإن الدنيا دار ابتلاء وامتحان، وسيحصل الشقاء فيها لأهل الإيمان والكفران، بل المؤمن في الدنيا، وإن ناله مكروه، فإنه يصبر ويحتسب، فيخفف الله عنه بإيمانه وصبره ما لا يكون لغيره.
وإنما الشأن كل الشأن، والتفضيل الحقيقي، في الدار الباقية، فلهذا قال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} فيكون المتقون في أعلى الدرجات، متمتعين بأنواع النعيم والسرور، والبهجة والحبور.
والكفار تحتهم في أسفل الدركات، معذبين بأنواع العذاب والإهانة، والشقاء السرمدي، الذي لا منتهى له، ففي هذه الآية تسلية للمؤمنين، ونعي على الكافرين. ولما كانت الأرزاق الدنيوية والأخروية، لا تحصل إلا بتقدير الله، ولن تنال إلا بمشيئة الله، قال تعالى: {وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} فالرزق الدنيوي يحصل للمؤمن والكافر، وأما رزق القلوب من العلم والإيمان، ومحبة الله وخشيته ورجائه، ونحو ذلك، فلا يعطيها إلا من يحب. اهـ.

.من فوائد صاحب المنار في الآيات السابقة:

قال رحمه الله:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً}.
بَعْدَ مَا بَيَّنَ عَزَّ وَجَلَّ اخْتِلَافَ النَّاسِ فِي الصَّلَاحِ وَالْفَسَادِ وَالْإِصْلَاحِ وَالْإِفْسَادِ أَرَادَ أَنْ يَهْدِيَنَا إِلَى مَا يَجْمَعُ الْبَشَرَ كَافَّةً عَلَى الصَّلَاحِ وَالسَّلَامِ، وَالْوِفَاقِ الَّذِي قَرَّرَهُ الْإِسْلَامُ، وَهُوَ مَا يَقْتَضِيهِ الْإِيمَانُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَجَعَلَ هَذِهِ الْهِدَايَةَ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ، وَشَرَّفَ أَهْلَ الْإِيمَانِ بِهِ فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} إِلَخْ. السِّلْمُ الْمُسَالَمَةُ وَالِانْقِيَادُ وَالتَّسْلِيمُ، فَيُطْلَقُ عَلَى الصُّلْحِ وَالسَّلَامِ، وَعَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ. قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ وَالْكِسَائِيُّ {السَّلْمِ} بِفَتْحِ السِّينِ وَالْبَاقُونَ بِكَسْرِهَا وَهُمَا لُغَتَانِ. وَقَدْ فَسَّرَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ بِالصُّلْحِ، وَبَعْضُهُمْ بِالْإِسْلَامِ وَعَلَيْهِ الْجَلَالُ، وَقَالَ فِي تَفْسِيرِ {كَافَّةً} حَالٌ مِنَ السِّلْمِ؛ أَيْ: فِي جَمِيعِ شَرَائِعِهِ. وَأَقُولُ: إِنَّ أَسَاسَهَا الِاسْتِسْلَامُ لِأَمْرِ اللهِ وَالْإِخْلَاصُ لَهُ، وَمِنْ أُصُولِهَا الْوِفَاقُ وَالْمُسَالَمَةُ بَيْنَ النَّاسِ وَتَرْكُ الْحُرُوبِ وَالْقِتَالِ بَيْنَ الْمُهْتَدِينَ بِهِ. وَاللَّفْظُ يَشْمَلُ جَمِيعَ مَعَانِيهِ الَّتِي يَقْتَضِيهَا الْمَقَامُ، وَالْأَمْرُ بِالدُّخُولِ فِيهِ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ حِصْنٌ مَنِيعٌ لِلدَّاخِلِينَ فِي كَنَفِهِ، وَهُوَ لِلْكَامِلِينَ مِنْهُمْ أَمْرٌ بِالثَّبَاتِ وَالدَّوَامِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ} [33: 1] وَلِمَنْ دُونَهُمْ أَمْرٌ بِالتَّمَكُّنِ مِنْهُ وَتَحَرِّي الْكَمَالِ فِيهِ، وَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْخِطَابَ فِيهِ لِأَهْلِ الْكِتَابِ أَوْ كُلِّ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ فَالدُّخُولُ عَلَى حَقِيقَتِهِ. يَقُولُ لَهُمْ: إِذَا لَمْ تَدْخُلُوا فِي دِينِ الْإِسْلَامِ الَّذِي أَكْمَلَهُ لِخَلْقِهِ كَافَّةً بِبَعْثَةِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ، فَلَا يَنْفَعُكُمْ إِيمَانُكُمْ بِهِ مَعَ بَقَائِكُمْ عَلَى تَعَادِيكُمْ وَتَفَرُّقِكُمْ، وَدِينُ اللهِ جَامِعٌ لَا تَفَرُّقَ فِيهِ. وَهَاكَ مَا كَتَبْتُهُ بَعْدَ حُضُورِ دَرْسِ تَفْسِيرِ شَيْخِنَا لِلْآيَةِ:
هَذِهِ كَلِمَةٌ عَظِيمَةٌ، وَقَاعِدَةٌ لَوْ بَنَى جَمِيعُ عُلَمَاءِ الدِّينِ مَذَاهِبَهُمْ عَلَيْهَا لَمَا تَفَاقَمَ أَمْرُ الْخِلَافِ فِي الْأُمَّةِ، ذَلِكَ أَنَّهَا تُفِيدُ وُجُوبَ أَخْذِ الْإِسْلَامِ بِجُمْلَتِهِ، بِأَنْ نَنْظُرَ فِي جَمِيعِ مَا جَاءَ بِهِ الشَّارِعُ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ مِنْ نَصٍّ قَوْلِيٍّ وَسُنَّةٍ مُتَّبَعَةٍ، وَنَفْهَمَ الْمُرَادَ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ وَنَعْمَلَ بِهِ، لَا أَنْ يَأْخُذَ كُلُّ وَاحِدٍ بِكَلِمَةٍ أَوْ سُنَّةٍ وَيَجْعَلَهَا حُجَّةً عَلَى الْآخَرِ، وَإِنْ أَدَّتْ إِلَى تَرْكِ مَا يُخَالِفُهَا مِنَ النُّصُوصِ وَالسُّنَنِ، وَحَمْلِهَا عَلَى النَّسْخِ أَوِ الْمَسْخِ بِالتَّأْوِيلِ، أَوْ تَحْكِيمِ الِاحْتِمَالِ بِلَا حُجَّةٍ وَلَا دَلِيلٍ، وَلَوْ أَنَّكَ دَعَوْتَ الْعُلَمَاءَ إِلَى الْعَمَلِ بِالْآيَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ- الَّذِي عَرَفُوهُ وَلَمْ يُنْكِرْهُ عَلى قَائِلِيهِ أَحَدٌ مِنْهُمْ، وَإِنْ رَجَّحَ بَعْضُهُمْ فِي التَّفْسِيرِ غَيْرَهُ عَلَيْهِ- لَوَلَّوْا مِنْكَ فِرَارًا، وَأَعْرَضُوا عَنْكَ اسْتِكْبَارًا، وَقَالُوا: مَكَرَ مَكْرًا كُبَّارًا، إِذْ دَعَا إِلَى تَرْكِ الْمَذَاهِبِ، وَحَاوَلَ إِقَامَةَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مَنْهَجٍ وَاحِدٍ.
وَمِنْ آيَاتِ الْعِبْرَةِ فِي هَذَا الْمَقَامِ أَنَّنَا نَجِدُ فِي كَلَامِ كَثِيرٍ مِنْ عُلَمَائِنَا هُدًى وَنُورًا لَوِ اتَّبَعَتْهُ الْأُمَّةُ فِي أَزْمِنَتِهِمْ لَاسْتَقَامَتْ عَلَى الطَّرِيقَةِ، وَوَصَلَتْ إِلَى الْحَقِيقَةِ بَعْدَ الْخُرُوجِ مِنْ مَضِيقِ الْخِلَافِ وَالشِّقَاقِ إِلَى بُحْبُوحَةِ الْوَحْدَةِ وَالِاتِّفَاقِ، وَالسَّبَبُ فِي بَقَاءِ الْغَلَبِ لِسُلْطَانِ الْخِلَافِ وَالنِّزَاعِ فُشُوُّ الْجَهْلِ، وَتَعَصُّبُ أَهْلِ الْجَاهِ مِنَ الْعُلَمَاءِ لِمَذَاهِبِهِمُ الَّتِي إِلَيْهَا يَنْتَسِبُونَ، وَبِجَاهِهَا يَعِيشُونَ وَيُكْرَمُونَ، وَتَأْيِيدُ الْأُمَرَاءِ وَالسَّلَاطِينِ لَهُمُ اسْتِعَانَةً بِهِمْ عَلَى إِخْضَاعِ الْعَامَّةِ، وَقَطْعِ طَرِيقِ الِاسْتِقْلَالِ الْعَقْلِيِّ وَالنَّفْسِيِّ عَلَى الْأُمَّةِ؛ لِأَنَّ هَذَا أَعْوَنُ لَهُمْ عَلَى الِاسْتِبْدَادِ، وَأَشَدُّ تَمْكِينًا لَهُمْ مِمَّا يَهْوَوْنَ مِنَ الْفَسَادِ وَالْإِفْسَادِ؛ إِذِ اتِّفَاقُ كَلِمَةِ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ وَاجْتِمَاعُهَا عَلَى أَنَّ الْحَقَّ كَذَا بِدَلِيلِ كَذَا مُلْزِمٌ لِلْحَاكِمِ بِاتِّبَاعِهِمْ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْخَوَاصَّ إِذَا اتَّحَدُوا تَبِعَهُمُ الْعَوَامُّ، وَهَذِهِ هِيَ الْوَسِيلَةُ الْفَرْدَةُ لِإِبْطَالِ اسْتِبْدَادِ الْحُكَّامِ، وَهَذَا التَّفْسِيرُ مُؤَيَّدٌ بِالنَّعْيِ عَلَى الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ، وَالْإِنْكَارِ عَلَى الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَيَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ؛ أَيْ: يَعْمَلُونَ بِبَعْضِهِ عَلَى أَنَّهُ دِينٌ وَيَتْرُكُونَ بَعْضًا بِتَأْوِيلٍ أَوْ غَيْرِ تَأْوِيلٍ، كَشَأْنِ مَنْ لَمْ يُصَدِّقْ بِأَنَّهُ مِنَ اللهِ. فَوُجُوبُ أَخْذِ الْقُرْآنِ وَالدِّينِ بِجُمْلَتِهِ، وَفَهْمِ هِدَايَتِهِ مِنْ مَجْمُوعِ مَا ثَبَتَ عَمَّنْ جَاءَ بِهِ أَمْرٌ مُقَرَّرٌ فِي ذَاتِهِ، سَوَاءٌ فُسِّرَتْ بِهِ الْآيَةُ أَوْ لَا؛ لِأَنَّ الْآيَتَيْنِ اللَّتَيْنِ أَشَرْنَا إِلَيْهِمَا آنِفًا فِي جَعْلِ الْقُرْآنِ عِضِينَ، وَفِي الْإِيمَانِ بِبَعْضِهِ وَالْكُفْرِ بِبَعْضٍ، وَمَا فِي مَعْنَاهُمَا مِنَ النُّصُوصِ تُثْبِتُهُ.
وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ كَافَّةً تَرْجِعُ إِلَى الَّذِينَ آمَنُوا؛ أَيِ: ادْخُلُوا فِي الْإِسْلَامِ جَمِيعًا لَا يَتَخَلَّفُ مِنْكُمْ أَحَدٌ، وَصَاحِبُ هَذَا الْقَوْلِ يَصْرِفُ نِدَاءَ {الَّذِينَ آمَنُوا} إِلَى أَهْلِ الْكِتَابِ- أَيْ آمَنُوا بِالْأَنْبِيَاءِ السَّابِقِينَ وَالْوَحْيِ- حَتَّى لَا يُرَدَّ عَلَيْهِ أَنَّ الْإِيمَانَ يَسْتَلْزِمُ الدُّخُولَ فِي الْإِسْلَامِ، فَيَكُونُ أَمْرُ الْمُؤْمِنِ بِالْإِسْلَامِ مِنْ تَحْصِيلِ الْحَاصِلِ، وَوَجْهُ اللُّزُومِ أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ التَّصْدِيقُ الْجَازِمُ مَعَ إِذْعَانِ النَّفْسِ، فَمَنْ صَدَّقَ بِالشَّيْءِ وَأَذْعَنَ لَهُ فَقَدْ دَخَلَ فِي أَعْمَالِهِ وَانْقَادَ لِأَحْكَامِهِ لَا مَحَالَةَ.
وَأَمَّا قَوْلُ الْجَمَاهِيرِ: إِنَّ الْعِلْمَ لَا يُوجِبُ الْعَمَلَ فَهُوَ عَلَى إِطْلَاقِهِ خَطَأٌ؛ فَالْعِلْمُ التَّصْدِيقِيُّ الْإِذْعَانِيُّ الْمُتَعَلِّقُ بِالْمَنَافِعِ وَالْمَضَارِّ يُوجِبُ الْعَمَلَ بِهِ مَا لَمْ يُعَارِضْهُ فِي مَوْضُوعِهِ عِلْمٌ أَقْوَى مِنْهُ، وَأَمَّا الْعِلْمُ التَّصَوُّرِيُّ وَالْعِلْمُ النَّظَرِيُّ الْمُعَارَضُ بِعِلْمٍ ضَرُورِيٍّ أَوْ نَظَرِيٍّ أَقْوَى مِنْهُ فَلَا يُوجِبَانِ الْعَمَلَ.
وَقَدْ صَرَّحَ حُجَّةُ الْإِسْلَامِ الْغَزَّالِيُّ وَشَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ وَالْعَلَّامَةُ الشَّاطِبِيُّ صَاحِبُ الْمُوَافَقَاتِ بِأَنَّ الْعِلْمَ الصَّحِيحَ يَسْتَلْزِمُ الْعَمَلَ، وَالْحَقَّ التَّفْصِيلَ الَّذِي أَشَرْنَا إِلَيْهِ آنِفًا، وَآيَاتُ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ دَالَّةٌ عَلَيْهِ وَمُعَزِّزَةٌ لَهُ، وَيَدُلُّ لِمَنْ قَالَ: إِنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ مَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ سَلَامٍ وَثَعْلَبَةُ وَابْنُ يَامِينَ وَأَسَدُ وَأُسَيْدُ ابْنَا كَعْبٍ وَسَعِيدُ بْنُ عُمَرَ وَقَيْسُ بْنُ زَيْدٍ- كُلُّهُمْ مِنْ يَهُودَ-: يَا رَسُولَ اللهِ يَوْمَ السَّبْتَ نُعَظِّمُهُ فَدَعْنَا فَلْنُسْبِتْ فِيهِ، وَإِنَّ التَّوْرَاةَ كِتَابُ اللهِ فَدَعْنَا فَلْنَقُمْ بِهَا بِاللَّيْلِ، فَنَزَلَتْ. فَالْخِطَابُ عَلَى هَذَا لِلْيَهُودِ خَاصَّةً لَا لِأَهْلِ الْكِتَابِ عَامَّةً، وَلَكِنَّ الرِّوَايَةَ غَيْرُ صَحِيحَةٍ وَهِيَ تَنِمُّ عَلَى نَفْسِهَا فَهِيَ مَوْضُوعَةٌ لِلْآيَةِ، وَهُنَاكَ رِوَايَةٌ أُخْرَى بِمَعْنَاهَا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي فِي تَفْسِيرِ السِّلْمِ، وَهُوَ الْمُسَالَمَةُ وَالْوِفَاقُ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ- أَخْذُ الدِّينِ بِجُمْلَتِهِ- لِأَنَّهُ أَمَرَ بِرَفْعِ الشِّقَاقِ وَالتَّنَازُعِ، وَبِالِاعْتِصَامِ بِحَبَلِ الْوَحْدَةِ، وَشَدِّ أَوَاخِي الْإِخَاءِ، وَلَا يَرْتَفِعُ الشَّيْءُ إِلَّا بِرَفْعِ أَسْبَابِهِ، وَلَا يَسْتَقِرُّ إِلَّا بِتَحَقُّقِ وَسَائِلِهِ، وَهُوَ بِمَعْنَى قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [3: 103] الْآيَةَ. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا} [8: 46].
وَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ أَعْنَاقَ بَعْضٍ». رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ كُلُّهُمْ. وَقَدْ خَالَفْنَا كُلَّ هَذِهِ النُّصُوصِ فَتَفَرَّقْنَا وَتَنَازَعْنَا وَشَاقَّ بَعْضُنَا بَعْضًا بِشُبْهَةِ الدِّينِ، إِذِ اتَّخَذْنَا مَذَاهِبَ مُتَفَرِّقَةً، كُلُّ فَرِيقٍ يَتَعَصَّبُ لِمَذْهَبٍ وَيُعَادِي سَائِرَ إِخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ لِأَجْلِهِ، زَاعِمًا أَنَّهُ يَنْصُرُ الدِّينَ وَهُوَ يَخْذُلُهُ بِتَفْرِيقِ كَلِمَةِ الْمُسْلِمِينَ، هَذَا سُنِّيٌّ يُقَاتِلُ شِيعِيًّا، وَهَذَا شِيعِيٌّ يُنَازِلُ إِبَاضِيًّا، وَهَذَا شَافِعِيٌّ يُغْرِي التَّتَارَ بِالْحَنَفِيَّةِ، وَهَذَا حَنَفِيٌّ يَقِيسُ الشَّافِعِيَّةَ عَلَى الذِّمِّيَّةِ، وَهَؤُلَاءِ مُقَلِّدَةُ الْخَلَفِ، يُحَادُّونَ مَنِ اتَّبَعَ طَرِيقَةَ السَّلَفِ {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ} [23: 68] أَمْ أُمِرُوا بِهَذَا مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَمِنَ الْأَئِمَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ؟ كَلَّا؛ بَلْ كَانَ التَّعَادِي وَالتَّنَازُعُ انْحِرَافًا عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَاتِّبَاعًا لِخُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، فَكَمَا خَالَفَ الْمُفَرِّقُونَ الْمُتَنَازِعُونَ رَبَّهُمْ فِي ذَلِكَ الْأَمْرِ خَالَفُوا مَا اتَّبَعَهُ بِهِ مِنْ هَذَا النَّهْيِ، إِذْ قَالَ: {وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} الْخُطُوَاتُ جَمْعُ خُطْوَةٍ- بِالضَّمِّ وَبِالْفَتْحِ- وَهُمَا مَا بَيْنَ قَدَمَيْ مَنْ يَخْطُو بِنَقْلِهِمَا فِي الْمَشْيِ؛ أَيْ: لَا تَسِيرُوا سَيْرَهُ وَتَتَّبِعُوا سُبُلَهُ فِي التَّفَرُّقِ فِي الدِّينِ، أَوِ الْخِلَافِ وَالتَّنَازُعِ مُطْلَقًا. وَسُبُلُ الشَّيْطَانِ وَخُطُوَاتُهُ هِيَ كُلُّ أَمْرٍ يُخَالِفُ سَبِيلَ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ وَالْمَصْلَحَةِ، وَهِيَ مَا عَبَّرَ عَنْهُ بِالسُّبُلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [6: 153] فَذَكَرَ تَعَالَى أَنَّ لَهُ سَبِيلًا وَاحِدَةً سَمَّاهَا صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا؛ لِأَنَّهَا أَقْرَبُ طَرِيقٍ إِلَى الْحَقِّ وَالْخَيْرِ وَالسَّلَامِ، وَأَنَّ هُنَاكَ سُبُلًا مُتَعَدِّدَةً يَتَفَرَّقُ مُتَّبِعُوهَا عَنْ ذَلِكَ الصِّرَاطِ وَهِيَ طُرُقُ الشَّيْطَانِ، وَقَدْ عَلِمَ مَنْ جَعَلَ التَّفَرُّقَ تَابِعًا لِاتِّبَاعِ سُبُلٍ هِيَ غَيْرُ صِرَاطِ اللهِ أَنَّ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ سَبِيلَ اللهِ لَا يَتَفَرَّقُونَ {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [6: 159] نَعَمْ قَدْ يَطْرَأُ عَلَيْهِمْ سَبَبُ الْخِلَافِ وَالتَّنَازُعِ وَلَكِنَّهُمْ مَتَى شَعُرُوا بِأَنَّ التَّنَازُعَ قَدْ دَبَّ إِلَيْهِمْ فِي أَمْرٍ فَزِعُوا إِلَى تَحْكِيمِ اللهِ وَرَسُولِهِ فِيهِ بِرَدِّهِ إِلَى حُكْمِهِمَا كَمَا أَمَرَهُمْ بِقَوْلِهِ: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [4: 59] أَيْ: مَآلًا وَعَاقِبَةً. فَالْآيَاتُ يُفَسِّرُ بَعْضُهَا بَعْضًا إِذَا نَحْنُ أَخَذْنَا الْقُرْآنَ بِجُمْلَتِهِ كَمَا أُمِرْنَا.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: هَذِهِ الْآيَاتُ حُجَّةٌ لِعُلَمَاءِ الْأُصُولِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ لَا يَتَعَدَّدُ، وَيَا لَيْتَ أَصْحَابَ هَذَا الْأَصْلِ فَرَضُوا عَلَى أَنْفُسِهِمُ الِاجْتِمَاعَ لِكُلِّ خِلَافٍ يَعْرِضُ لَهُمْ، وَالْبَحْثَ عَنْ وَجْهِ الْحَقِّ فِيهِ بِلَا تَعَصُّبٍ وَلَا مِرَاءٍ، حَتَّى إِذَا مَا ظَهَرَ أَجْمَعُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا هُوَ لَمْ يَظْهَرْ لِبَعْضِهِمْ ثَابَرَ مَنْ لَمْ يَظْهَرْ لَهُ عَلَى تِطْلَابِهِ بِإِخْلَاصٍ لَا يُعَادِي فِيهِ أَحَدًا، وَلَا يَجْعَلُهُ ذَرِيعَةً لِتَفْرِيقِ الْكَلِمَةِ.
طَرِيقُ الْحَقِّ هُوَ الْوَحْدَةُ وَالْإِسْلَامُ، وَطُرُقُ الشَّيْطَانِ هِيَ مُثَارَاتُ التَّفَرُّقِ وَالْخِصَامِ، وَهِيَ مَعْرُوفَةٌ فِي كُلِّ الْأُمَمِ، وَلَكِنَّ الشَّيْطَانَ يُزَيِّنُ طُرُقَهُ وَيُسَوِّلُ لِلنَّاسِ الْمَنَافِعَ وَالْمَصَالِحَ فِي التَّفَرُّقِ وَالْخِلَافِ، فَقَدْ كَانَتْ يَهُودُ أُمَّةً وَاحِدَةً مُجْتَمِعَةً عَلَى كِتَابٍ وَاحِدٍ هُوَ صِرَاطُ اللهِ، فَسَوَّلَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ فَتَفَرَّقُوا وَجَعَلُوا لَهُمْ مَذَاهِبَ وَطُرُقًا، وَأَضَافُوا إِلَى الْكِتَابِ مَا أَضَافُوا، وَحَرَّفُوا مِنْ كَلِمِهِ مَا حَرَّفُوا، وَاتَّبَعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَتْ بِهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ حَتَّى حَلَّ بِهِمُ الْهَلَاكُ وَالدَّمَارُ، وَمُزِّقُوا كُلَّ مُمَزَّقٍ وَكَذَلِكَ فَعَلَ غَيْرُهُمْ، كَأَنَّهُمْ رَأَوْا دِينَهُمْ نَاقِصًا فَكَمَّلُوهُ، وَقَلِيلًا فَكَثَّرُوهُ، وَوَاحِدًا فَعَدَّدُوهُ، وَسَهْلًا فَصَعَّبُوهُ، فَثَقُلَ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ فَوَضَعُوهُ، فَذَهَبَ اللهُ بِوَحْدَتِهِمْ حَتَّى لَمْ تُغْنِ عَنْهُمْ كَثْرَتُهُمْ، وَسَلَّطَ عَلَيْهِمُ الْأَعْدَاءَ، وَأَنْزَلَ بِهِمُ الْبَلَاءَ، {سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ} [40: 85].
هَذَا هُوَ الْمُتَبَادَرُ مِنْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فِي هَذَا الْمَقَامِ. وَمِنْ خُطُوَاتِهِ طُرُقُ الْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرَاتِ كُلِّهَا، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ النُّورِ: {وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [24: 21] وَأَمَّا كَوْنُ الشَّيْطَانِ عَدُوًّا مُبِينًا فَذَاكَ أَنَّ جَمِيعَ مَا يَدْعُوا إِلَيْهِ ظَاهِرُ الْبُطْلَانِ، بَيِّنُ الضَّرَرِ لِمَنْ تَأَمَّلَ وَعَقَلَ، فَمَنْ لَمْ يُدْرِكْ ذَلِكَ فِي بَدْءِ الْخُطُوَاتِ أَدْرَكَهُ فِي غَايَتِهَا عِنْدَمَا يَذُوقُ مَرَارَةَ مَغَبَّتِهَا، وَلاسيما بَعْدَ تَذْكِيرِ اللهِ تَعَالَى وَهِدَايَتِهِ عِبَادَهُ إِلَى ذَلِكَ، فَلَا عُذْرَ لِمَنْ بَلَغَتْهُ هَذِهِ الْهِدَايَةُ إِذَا بَقِيَ عَلَى ضَلَالَتِهِ وَاسْتَحَبَّ الْعَمَى عَلَى الْهُدَى؛ وَلِذَلِكَ قَالَ عَزَّ شَأْنُهُ: {فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} أَيْ: فَإِنْ زَلَلْتُمْ وَحِدْتُمْ عَنْ صِرَاطِ اللهِ- وَهُوَ السُّلَّمُ- إِلَى خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ- وَهِيَ طُرُقُ الْخِلَافِ وَالِافْتِرَاقِ وَالْبَاطِلِ وَالشَّرِّ- مِنْ بَعْدِ أَنْ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى لَكُمْ أَنَّ سَبِيلَهُ وَاحِدَةٌ وَهِيَ السِّلْمُ، وَأَنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ، وَأَمَرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوهُ عَدُوًّا وَتَجْتَنِبُوا طُرُقَهُ وَخُطُوَاتِهِ، ثُمَّ فَصَّلَ لَكُمْ مِنْ ذَلِكَ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ، وَأَكَّدَ النَّهْيَ عَنْ شَرِّ تِلْكَ الطُّرُقِ وَأَشْأَمِهَا وَهِيَ طُرُقُ التَّفَرُّقِ وَالْخِلَافِ، فَاعْلَمُوا أَنَّ أَمَامَكُمْ أَمْرًا جَلِيلًا، وَأَخْذًا وَبِيلًا؛ ذَلِكَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى لِعِزَّتِهِ لَا يَنْسَى مَنْ يَنْسَى سُنَنَهُ وَيَزِلَّ عَنْ شَرِيعَتِهِ؛ بَلْ يَأْخُذُهُ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ، وَلِحِكْمَتِهِ قَدْ وَضَعَ تِلْكَ السُّنَنَ فِي الْخَلِيقَةِ، وَهَدَى إِلَيْهَا النَّاسَ بِمَا أَنْزَلَ مِنَ الشَّرِيعَةِ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ جَعَلَ لِكُلِّ ذَنْبٍ عُقُوبَةً، وَجَعَلَ الْعُقُوبَةَ عَلَى ذُنُوبِ الْأُمَمِ أَثَرًا مِنْ آثَارِهَا لَازِمًا لَهَا حَتْمًا، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: فَاعْلَمُوا أَنَّهُ يُحِلُّ بِكُمُ الْعِقَابَ؛ لِأَنَّهُ عَزِيزٌ لَا يُغْلَبُ عَلَى أَمْرِهِ، وَحَكِيمٌ لَا يُهْمِلُ أَمْرَ خَلْقِهِ، وَلَكِنَّ هَذَا التَّعْبِيرَ أَبْلَغُ؛ لِأَنَّهُ بَيَانٌ لِلْحُجَّةِ، وَتَقْرِيرٌ لِلْبُرْهَانِ بِالْإِشَارَةِ إِلَى مُقَدِّمَاتِهِ اكْتِفَاءً بِهِ عَنْ ذِكْرِ النَّتِيجَةِ، وَهُوَ مِنْ ضُرُوبِ إِيجَازِ الْقُرْآنِ الَّتِي لَمْ تُعْهَدْ فِي كَلَامِ إِنْسَانٍ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّهُ ذِكْرٌ مِنْ صِفَاتِهِ تَعَالَى مَا هُوَ دَلِيلُ الْعِقَابِ وَهُوَ مَا لَا مَطْمَعَ فِي زَوَالِهِ، وَلَا هُزْءَ فِي الدِّينِ أَكْبَرُ مِنْ ظَنِّ الْمَغْرُورِ أَنَّهُ يَنَالُ جَنَّةً عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَفِيهَا مِنَ النَّعِيمِ وَالرِّضْوَانِ مَا لَمْ يَخْطُرْ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ بِغَيْرِ الْأَعْمَالِ الَّتِي أَرْشَدَتْ إِلَيْهَا آيَاتُ اللهِ تَعَالَى، مُبَيِّنَةً أَنَّ الْعُقُوبَاتِ عَلَى تَرْكِهَا مِنْ آثَارِ صِفَاتِهِ الْقَدِيمَةِ الَّتِي لَا يَلْحَقُهَا تَغْيِيرٌ، وَلَا تُؤَثِّرُ فِيهَا الْحَوَادِثُ بِتَبْدِيلٍ وَلَا تَحْوِيلٍ اهـ.
وَنَقُولُ نَحْنُ عَلَى طَرِيقَتِهِ: إِنَّ ظَنَّ الْمَغْرُورِينَ بِأَنَّهُ يَكُونُ لَهُمُ السُّلُطَاتُ وَالْخِلَافَةُ فِي الْأَرْضِ بِمُجَرَّدِ دَعْوَى الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ- وَلَوْ مَعَ بَعْضِ الْأَعْمَالِ الْبَدَنِيَّةِ مِنْ غَيْرِ إِقَامَةِ الْعَدْلِ فِي النَّاسِ وَالْعِمَارَةِ وَالْإِصْلَاحِ فِي الْأَرْضِ- هُوَ مِنَ الْهُزْءِ بِآيَاتِ اللهِ فِي كِتَابِهِ، وَآيَاتِهِ فِي خَلْقِهِ، فَإِنَّهَا مُتَّفِقَةٌ عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادُ اللهِ الصَّالِحُونَ لِعِمَارَتِهَا وَإِقَامَةِ الْعَدْلِ فِيهَا {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى} أَيِ: الْأُمَمَ {بِظُلْمٍ} مِنْهُمْ أَيْ: شِرْكٍ وَكُفْرٍ، أَوْ مِنْهُ لَهُمْ {وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [11: 117] أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّهُمْ مُصْلِحُونَ فِي أَعْمَالِهِمْ وَسِيَاسَتِهِمْ، وَإِنَّمَا يُهْلِكُهَا إِذَا ظَلَمُوا وَأَفْسَدُوا فِيهَا.
وَالْآيَتَانِ الْمُفَسَّرَتَانِ آنِفًا وَمَا فِي مَعْنَاهُمَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} إِلَى قَوْلِهِ: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينِ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [3: 103- 105] وَقَوْلُهُ: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دَيْنَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [6: 159] كُلُّهَا هَادِمَةٌ لِلتَّقَالِيدِ الَّتِي فَرَّقَتِ الْأُمَّةَ وَجَعَلَتْهَا شِيَعًا، حَتَّى صَارَ بَأْسُهَا بَيْنَهَا شَدِيدًا فَسَفَكَتْ دِمَاءَهَا بِأَيْدِيهَا، وَمَزَّقَتْ دُنْيَاهَا بِتَمْزِيقِ دِينِهَا، وَكَانَ مِنْ أَمْرِهَا بَعْدَ ذَلِكَ مَا نَرَى سُوءَ عَاقِبَتِهِ فِي كُلِّ شَعْبٍ وَكُلِّ قُطْرٍ.
ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى غَايَةَ الْوَعِيدِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ فِي الِاسْمَيْنِ الْكَرِيمَيْنِ فَقَالَ: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ} وَقَدْ غَيَّرَ الْأُسْلُوبَ بِالِالْتِفَاتِ عَنِ الْخِطَابِ وَالْأَمْرِ إِلَى الْحِكَايَةِ عَنِ الزَّالِّينَ عَنْ صِرَاطِ اللهِ بِضَمِيرِ الْغَائِبِ. وَالْحِكْمَةُ فِي الِالْتِفَاتِ تَنَاوُلُ هَذَا الْوَعِيدِ لِجَمِيعِ مَنْ زَلَّ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُخَاطَبِينَ فِي الدُّخُولِ فِي السِّلْمِ وَالْمَنْهِيِّينَ عَنْ ضِدِّهِ وَمَنْ زَلَّ مِنْ غَيْرِهِمْ، أَوْ هِيَ الْإِيذَانُ بِأَنَّ الزَّالِّينَ لَا يَسْتَحِقُّونَ شَرَفَ الْخِطَابِ الْإِلَهِيِّ.
الِاسْتِفْهَامُ فِي الْآيَةِ بِمَعْنَى النَّفْيِ، وَيَنْظُرُونَ بِمَعْنَى يَنْتَظِرُونَ، وَهِيَ كَثِيرَةُ الِاسْتِعْمَالِ بِهَذَا الْمَعْنَى فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ وَلاسيما فِي أُمُورِ الْآخِرَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً} [47: 18] و{مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً} [36: 49] وَإِتْيَانُ اللهِ تَعَالَى فَسَّرَهُ الْجَلَالُ وَآخَرُونَ بِإِتْيَانِ أَمْرِهِ؛ أَيْ: عَذَابِهِ، كَقَوْلِهِ فِي آيَةٍ أُخْرَى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ} [16: 33] أَيْ: فَهُوَ بِمَعْنَى مَا جَاءَ مِنَ التَّخْوِيفِ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ فِي الْآيَاتِ الْكَثِيرَةِ الْمُوَافِقَةِ لِهَذِهِ الْآيَاتِ فِي أُسْلُوبِهَا. وَأَقَرَّ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ الْجَلَالَ عَلَى ذَلِكَ، وَبَيَّنَ فِي الدَّرْسِ أَنَّ هَذَا الِاسْتِعْمَالَ مِنْ أَسَالِيبِ الْعَرَبِ الْمَعْرُوفَةِ مِنْ حَذْفِ الْمُضَافِ وَإِسْنَادِ الْفِعْلِ إِلَى الْمُضَافِ إِلَيْهِ مَجَازًا، وَأَوْضَحَهُ أَتَمَّ الْإِيضَاحِ، فَهُوَ عَلَى حَدِّ {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [12: 82] وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْإِسْنَادَ حَقِيقِيٌّ وَإِنَّمَا حُذِفَ الْمَفْعُولُ لِلْعِلْمِ بِهِ مِنَ الْوَعِيدِ السَّابِقِ؛ أَيْ: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ بِمَا وَعَدَهُمْ بِهِ مِنَ السَّاعَةِ وَالْعَذَابِ، وَعَدَّهُ آخَرُونَ مِنَ الْمُتَشَابِهَاتِ فَقَالُوا: إِنَّ اللهَ تَعَالَى يَأْتِي بِذَاتِهِ وَلَكِنْ لَا كَإِتْيَانِ الْبَشَرِ، بَلْ إِتْيَانُهُ مِنْ صِفَاتِهِ الَّتِي لَا نَبْحَثُ عَنْ كَيْفِيَّتِهَا اتِّبَاعًا لِلسَّلَفِ، وَأَمَّا تَأْوِيلُ الْإِتْيَانِ بِمَا نَقَلَهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنِ الْأَشْعَرِيِّ فَلَا نَذْكُرُهُ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا يَزِيدُ الْمَعْنَى بُعْدًا عَنِ الْفَهْمِ.
وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ مُقْتَضَى مَذْهَبِ السَّلَفِ أَنْ يُجْعَلَ كُلُّ مَا يُسْنَدُ إِلَى اللهِ تَعَالَى مِنَ الْمُتَشَابِهَاتِ الَّتِي لَا تُفْهَمُ بِحَالٍ، وَلَا تُفَسَّرُ وَلَوْ بِإِجْمَالٍ، فَحَسْبُنَا أَنَّ نَقُولَ عَلَى رَأْيِ مَنْ فَسَّرَ إِتْيَانَ اللهِ هُنَا بِإِتْيَانِ أَمْرِهِ وَمَا وَعَدَ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ، أَوْ إِتْيَانِهِ بِمَا وَعَدَ بِهِ: إِنَّنَا نُفَوِّضُ إِلَيْهِ تَعَالَى كَيْفِيَّةَ ذَلِكَ، وَبِذَلِكَ نَكُونُ عَلَى طَرِيقَةِ السَّلَفِ فِي التَّفْوِيضِ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى يُنْذِرُ الَّذِينَ زَالُوا عَنْ صِرَاطِهِ وَفَرَّقُوا دَيْنَهُ بِأَمْرٍ مَعْرُوفٍ فِي الْجُمْلَةِ لَا بِشَيْءٍ مَجْهُولٍ مُطْلَقٍ، وَمِمَّا يَدُلُّنَا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ مَا ذَكَرْنَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُّ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا} [25: 25] مَعَ الْآيَاتِ الْكَثِيرَةِ النَّاطِقَةِ بِأَنَّ قِيَامَ السَّاعَةِ وَخَرَابَ الْعَالَمِ يَكُونُ {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [84: 1] وَانْتَثَرَتْ كَوَاكِبُهَا إِلَخْ. وَإِنَّمَا يَأْتِي بِذَلِكَ اللهُ تَعَالَى بِتَغْيِيرِ هَذَا النِّظَامِ الَّذِي وَضَعَهُ لِارْتِبَاطِ الْكَوَاكِبِ وَحِفْظِ كُلِّ كَوْكَبٍ فِي فَلَكِهِ، وَسَيَأْتِي لِمَذْهَبِ السَّلَفِ فِي الْإِتْيَانِ تَوْجِيهٌ أَقْرَبُ مِنْ هَذَا.
وَأَمَّا ظُلَلُ الْغَمَامِ: فَهِيَ قِطَعُ السَّحَابِ الْأَوَّلِ، وَهِيَ جَمْعُ ظُلَّةٍ- بِالضَّمِّ- كَغُرَفٍ، جُمَعُ غُرْفَةٍ، وَهِيَ مَا أَظَلَّكَ، وَالثَّانِي جَمْعُ غَمَامَةٍ كَسَحَابٍ وَسَحَابَةٍ وَزْنًا وَمَعْنًى، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ يُغِمُّ السَّمَاءَ؛ أَيْ: يَسْتُرُهَا، وَخَصَّ بَعْضُهُمُ الْغَمَامَ بِالسَّحَابِ الْأَبْيَضِ، وَزَادَ بَعْضٌ آخَرُ الرَّقِيقَ، وَفِيهِ أَنَّ الْأَبْيَضَ الرَّقِيقَ لَا يُمْطِرُ، وَالْعَرَبُ تُسَمِّي الْبَرَدَ حَبَّ الْغَمَامِ. وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّ إِتْيَانَ أَمْرِ اللهِ أَوْ عَذَابِهِ فِي الْغَمَامِ عِبَارَةٌ عَنْ مَجِيئِهِ مِنْ حَيْثُ تُرْجَى الرَّحْمَةُ بِالْمَطَرِ، وَذَلِكَ أَبْلَغُ فِي تَمْثِيلِ هَوْلِ الْعَذَابِ وَفَظَاعَتِهِ؛ لِأَنَّ الْخَوْفَ إِذَا جَاءَ مِنْ مَوْضِعِ الْأَمْنِ كَانَ خَطْبُهُ أَعْظَمَ، وَالْعَذَابُ إِذَا فَاجَأَ مِنْ حَيْثُ تُرْجَى الرَّحْمَةُ كَانَ وَقْعُهُ آلَمُ، كَمَا وَقَعَ لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ {قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [46: 24] وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْغَمَامَ مَظِنَّةُ الْمَطَرِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْغَمَامَ هُوَ السَّحَابُ الْأَبْيَضُ لَا يَعْنِي بِهِ تِلْكَ السَّحَائِبَ الْبِيضَ الرِّقَاقَ الْمُرْتَفِعَةَ الَّتِي تَظْهَرُ فِي أَيَّامِ الصَّيْفِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ ذَلِكَ السَّحَابَ الْمُسِفَّ لِثِقَلِهِ بِالْمَطَرِ الَّذِي هُوَ أَقْرَبُ إِلَى الْبَيَاضِ مِنْهُ إِلَى السَّوَادِ.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَإِنَّ الْحِكْمَةَ فِي نُزُولِ الْعَذَابِ فِي الْغَمَامِ إِنْزَالُهُ فَجْأَةً مِنْ غَيْرِ تَمْهِيدٍ يُنْذِرُ بِهِ، وَلَا تَوْطِئَةٍ تُوَطِّنُ النُّفُوسَ عَلَى احْتِمَالِهِ، وَذَلِكَ أَبْلَغُ فِي هَوْلِهِ مَا مَنْ دُهِيَ بِالْأَمْرِ كَالْمُعْتَدِّ وَهُوَ ذَلِكَ الْغَمَامُ الَّذِي يَحْدُثُ عَنْ تَخْرِيبِ الْعَالَمِ فَجْأَةً، فَيَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ قَبْلَ أَنْ يَتَبَدَّدَ الْغَمَامُ النَّاشِئُ عَنِ الْخَرَابِ، وَهَذَا الْقَوْلُ يَتَّفِقُ مَعَ الْأَوَّلِ وَهُوَ أَقْرَبُ إِلَى مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى فِي السَّاعَةِ: {لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً} [7: 187].
وَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْآيَاتُ عِبْرَةً لِلْمُؤْمِنِ تُرَغِّبُهُ فِي الْمُبَادَرَةِ إِلَى التَّوْبَةِ؛ لِئَلَّا يُفَاجِئَهُ وَعْدُ اللهِ تَعَالَى وَهُوَ غَافِلٌ، فَإِنْ لَمْ يُفَاجِئْهُ قِيَامُ السَّاعَةِ الْعَامَّةِ الَّتِي بِهَا يَهْلِكُ هَذَا الْعَالَمُ كُلُّهُ فَاجَأَهُ قِيَامُ قِيَامَتِهِ بِمَوْتِهِ بَغْتَةً، فَإِنْ لَمْ يَمُتْ بَغْتَةً جَاءَهُ مَرَضُ الْمَوْتِ بَغْتَةً حَتَّى لَا يَقْدِرَ عَلَى الْعَمَلِ، وَتَدَارُكِ الزَّلَلِ.
وَإِذَا جَرَيْنَا عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ الَّتِي أَرْشَدَتْنَا إِلَيْهَا الْآيَةُ السَّابِقَةُ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فِي تَفْسِيرِهَا فَحَمَلْنَا بَعْضَ الْآيَاتِ عَلَى بَعْضٍ وَاسْتَخْرَجْنَا الْمَعْنَى مِنْ مَجْمُوعِهَا كَانَ لَنَا أَنْ نَقُولَ: إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ، وَقَرَعَتِ الْقَارِعَةُ، وَكُوِّرَتِ الشَّمْسُ، وَتَنَاثَرَتِ الْكَوَاكِبُ، وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ شَقًّا، وَرُجَّتِ الْأَرْضَ رَجًّا، وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا، فَكَانَتْ أَوَّلًا كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ ثُمَّ صَارَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا، فَإِنَّ مَادَّةَ هَذَا الْكَوْنِ تَعُودُ كَمَا كَانَتْ قَبْلَ التَّكْوِينِ؛ أَيْ: مَادَّةً سَدِيمِيَّةً، وَهِيَ مَا عَبَّرَ عَنْهُ فِي بَدْءِ التَّكْوِينِ بِالدُّخَانِ وَفِي الْحِكَايَةِ عَنِ الْخَرَابِ بِالْغَمَامِ. وَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ عُلَمَاءِ الْهَيْئَةِ الْغَرْبِيِّينَ لَيَتَوَقَّعُونَ خَرَابَ هَذَا الْعَالَمِ بِقَارِعَةٍ تَحْدُثُ مِنِ اصْطِدَامِ بَعْضِ الْكَوَاكِبِ بِبَعْضٍ بِحَيْثُ تُبْطِلُ الْجَذْبَ الْعَامَّ الَّذِي بِهِ قَامَ هَذَا النِّظَامُ، وَهُوَ فِي مَعْنَى مَا وَرَدَ مِنْ تَشَقُّقِ السَّمَاءِ بِالْغَمَامِ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَمْ يَكُنْ يَخْطُرُ بِبَالِ أَحَدٍ عَلَى عَهْدِ نُزُولِ الْقُرْآنِ.
وَأَمَّا إِتْيَانُ الْمَلَائِكَةِ هُنَا فَهُوَ بِمَعْنَى نُزُولِهِمْ فِي قَوْلِهِ: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا} [25: 25] أَيْ: وَتَأْتِيهِمُ الْمَلَائِكَةُ الْمُوَكَّلَةُ بِكُلِّ مَا قَضَاهُ اللهُ يَوْمَئِذٍ. وَقَوْلُهُ: {وَقُضِيَ الْأَمْرُ} جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، أَيْ: كَيْفَ يَنْتَظِرُونَ غَيْرَ ذَلِكَ وَهُوَ أَمْرٌ قَضَاهُ اللهُ وَأَبْرَمَهُ فَلَا مَفَرَّ مِنْهُ {وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} فَيَضَعُ كُلَّ شَيْءٍ فِي مَوْضِعِهِ الَّذِي قَضَاهُ، فَهُوَ الْأَوَّلُ وَمِنْهُ بَدَأَتِ الْأَشْيَاءُ، وَهُوَ الْآخِرُ وَإِلَيْهِ تَرْجِعُ وَتَصِيرُ، وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٍ {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [55: 33، 34].
وَإِذَا كَانَ كُلُّ مَا سَنَّهُ اللهُ تَعَالَى مِنَ النِّظَامِ لِخَلْقِهِ حَتْمًا مَقْضِيًّا لَا يَضِلُّ وَاضِعُهُ وَلَا يَنْسَى، فَعَلَى مَنْ زَلَّ عَنْ صِرَاطِهِ وَاتَّبَعَ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ أَنْ يُبَادِرَ بِالتَّوْبَةِ وَالرُّجُوعِ إِلَى الْحَقِّ قَبْلَ أَنْ يَحِيقَ بِهِ زَلَلُهُ، وَيَبْسُلَهُ عَمَلُهُ، وَقَبْلَ أَنْ تَقُومَ قِيَامَتُهُ، أَوْ قِيَامَةُ النَّاسِ أَجْمَعِينَ فَيُجَازَى عَلَى زَلَلِهِ وَ{كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [52: 21] وَأَجْدَرُ النَّاسِ بِالْمُبَادَرَةِ إِلَى هَذِهِ التَّوْبَةِ عُلَمَاءُ الْأُمَّةِ الَّذِينَ أَبْسَلُوهَا بِخِلَافِهِمْ وَتَفَرُّقِهِمْ، فَعَلَيْهِمْ أَنْ يُحَكِّمُوا كِتَابَ اللهِ وَسُنَّةَ رَسُولِهِ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ مِنْ غَيْرِ تَعَصُّبٍ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا.
وَذَكَرَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ وَجْهًا آخَرَ يُعَدُّ بَيَانًا لِلْقَوْلِ بِأَنَّ الْإِتْيَانَ مُسْنَدٌ إِلَى اللهِ تَعَالَى عَلَى أَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَأْتِي عَلَى ظَاهِرِ مَذْهَبِ السَّلَفِ لَا عَذَابُهُ وَلَا يَوْمُهُ الْمَوْعُودُ، وَهُوَ مِنَ الْآيَاتِ الْكُبْرَى، وَأَسْرَارُ الْمَعَارِفِ الْعُلْيَا، فَقَالَ مَا مِثَالُهُ:
مِنَ النَّاسِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ تَعَالَى وَصِحَّةِ دِينِهِ إِيمَانًا مُوَافِقًا لِمَا جَاءَ فِي كِتَابِهِ، وَيَكُونُ فِي إِيمَانِهِ عَلَى حَقِّ الْيَقِينِ وَالِاطْمِئْنَانِ الَّذِي لَا زِلْزَالَ فِيهِ وَلَا اضْطِرَابَ، وَأَهْلُ هَذَا الْيَقِينِ هُمُ الَّذِينَ يُقَالُ إِنَّ اللهَ حَاضِرٌ عِنْدَهُمْ وَأَنَّهُ مَعَهُمْ أَيْنَمَا كَانُوا؛ لِأَنَّ مَعْرِفَتَهُ ثَبَتَتْ فِي عُقُولِهِمْ، وَالتَّوَكُّلَ عَلَيْهِ قَدْ لَابَسَ قُلُوبَهُمْ، وَهُمُ الَّذِينَ قَالَ قَائِلُهُمْ: لَوْ كُشِفَ الْحِجَابُ مَا ازْدَدْتُ يَقِينًا، وَمِنْهُمْ مَنْ لَيْسَ لَهُ تِلْكَ الْمَعْرِفَةُ وَهَذَا الْيَقِينُ، فَلَا يُقَالُ إِنَّ اللهَ عِنْدَهُمْ؛ لِأَنَّ مَا حَضَرَ فِي عَقْلِهِ هُوَ غَيْرُ مَا وَصَفَ اللهُ تَعَالَى بِهِ نَفْسَهُ، وَشَهِدَتْ بِهِ آيَاتُهُ فِي كِتَابِهِ وَآيَاتِهِ فِي خَلْقِهِ، ثُمَّ هُوَ لَيْسَ عَلَى يَقِينٍ مِمَّا عِنْدَهُ، أُولَئِكَ أَصْحَابُ الظُّنُونِ وَأَرْبَابُ الشُّكُوكِ، وَحَمَلَةُ التَّقَالِيدِ الَّذِينَ زَلُّوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاتَّخَذُوا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اللهِ حِجَابًا وَوُسَطَاءَ، وَشَبَّهُوهُ بِخَلْقِهِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الشُّئُونِ، فَهُمْ غَائِبُونَ عَنِ اللهِ تَعَالَى وَمَحْجُوبُونَ عَنْ رَبِّهِمْ بِحَيْثُ لَا تَطُوفُ مَعْرِفَتُهُ الْحَقِيقَةُ بِعُقُولِهِمْ، وَلَا تُلَابِسُ عَظَمَتُهُ وَكَمَالُهُ قُلُوبَهُمْ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ وَكُشِفَ الْحِجَابُ عَرَفُوا اللهَ رَبَّهُمُ الْحَقَّ، وَتَبَيَّنَ لَهُمْ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْبَاطِلِ، فَذَلِكَ إِتْيَانُ اللهِ لَهُمْ؛ أَيْ: يَأْتِيهِمْ مِنْ مَعْرِفَتِهِ مَا كَانُوا غَائِبِينَ عَنْهُ وَمَحْرُومِينَ مِنْهُ فِي الدُّنْيَا، وَالْإِتْيَانُ يَكُونُ فِي الْمَعْقُولَاتِ كَمَا يَكُونُ فِي الْمَحْسُوسَاتِ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى التَّأْوِيلِ.
إِنَّ هَؤُلَاءِ الزَّالِّينَ عَنْ صِرَاطِ اللهِ تَعَالَى صِنْفَانِ: صِنْفٌ اعْتَقَدُوا الْبَاطِلَ حَقًّا فَلَمْ يَعْرِفُوا حَقِيقَةَ التَّوْحِيدِ وَرُجُوعَ كُلِّ أَمْرٍ إِلَى مَنْ أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ عَلَى سُنَنٍ ثَابِتَةٍ، وَلَا غَيْرَ التَّوْحِيدِ مِنْ أُصُولِ الْإِيمَانِ. وَصِنْفٌ اتَّبَعُوا الظَّنَّ وَهَامُوا فِي أَوْدِيَةِ الْوَهْمِ، فَلَمْ يَكُونُوا عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ، فَإِذَا مَا تَجَلَّى اللهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ عَلَى الْأَرْوَاحِ، وَزَالَتِ الْحُجُبُ الَّتِي كَانَتْ دُونَهَا فِي سِجْنِ الْأَشْبَاحِ زَالَ جَهْلُ الْجَاهِلِينَ، وَانْكَشَفَ ظَنُّ الظَّانِّينَ، وَبَطَلَ وَهْمُ الْوَاهِمِينَ، وَعَرَفَ الْجَمِيعُ رَبَّ الْعَالَمِينَ، بِمَا جَاءَهُمْ مِنَ الْحَقِّ الْيَقِينِ، فَذَلِكَ مَجِيءُ اللهِ تَعَالَى وَإِتْيَانُهُ فِي يَوْمِ الدِّينِ، هَذَا مَا تَجَلَّى بِهِ مَسْأَلَةُ الْإِتْيَانِ عَلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ.
وَأَمَّا كَوْنُ هَذَا الْإِتْيَانِ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ فَهُوَ مِنَ الْأُمُورِ الْأُخْرَوِيَّةِ الْغَيْبِيَّةِ الَّتِي قُلْنَا مِرَارًا إِنَّنَا لَا نَبْحَثُ عَنْ حَقِيقَتِهَا، فَكَوْنُ مَعْرِفَةِ اللهِ تَعَالَى وَالْيَقِينِ بِهِ مِمَّا يَحْصُلُ لِلْجَاهِلِينَ وَالْغَافِلِينَ بِحُصُولِ ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ نُفَوِّضُ سِرَّهُ إِلَى اللهِ تَعَالَى، وَمَا يُدْرِينَا أَنَّ فِي ذَلِكَ الْغَمَامِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ، وَحُجَجًا بَاهِرَاتٍ، وَإِتْيَانُ الْمَلَائِكَةِ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ أَظْهَرُ مِنْهُ فِي التَّأْوِيلِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ تَمْثِيلِ ظُهُورِ سُلْطَانِ اللهِ تَعَالَى وَعَظَمَتِهِ، وَاسْتِغْرَاقِ الْقُلُوبِ فِي الْخُضُوعِ لِجَلَالِهِ عِنْدَمَا يَغْشَاهَا نُورُ مَعْرِفَتِهِ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ حُضُورَ الْمَلِكِ فِي جُنْدِهِ الْأَكْبَرِ، هُوَ أَبْيَنُ لِكَمَالِ الْعَظَمَةِ وَأَظْهَرُ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ فِي سُورَةِ الْفَجْرِ: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [89: 22] وَقَالَ فِي سُورَةِ النَّبَأِ: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا} [78: 38].
وَالْمُرَادُ بِهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي قَرَّرَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ تَقْرِيبُ هَذَا الْمَذْهَبِ مِنَ الْأَفْهَامِ، وَلَا يَعْنِي أَنَّ هَذَا بَيَانٌ لِكَيْفِيَّةِ الْإِتْيَانِ فِي الْغَمَامِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْغَمَامَ فِي الْآيَةِ إِشَارَةٌ إِلَى الْحِجَابِ أَوِ الرِّدَاءِ الَّذِي وَرَدَ فِي حَدِيثِ أَبِي مُوسَى عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ وَغَيْرِهِمَا «وَمَا بَيْنَ الْقَوْمِ وَبَيْنَ أَنْ يَرَوْا رَبَّهُمْ إِلَّا رِدَاءُ الْكِبْرِيَاءِ عَلَى وَجْهِهِ» وَبَيَانُهُ أَنَّهُ وَرَدَ فِي أَحَادِيثَ أُخْرَى أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «سَأَلْتُ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ هَلْ تَرَى رَبَّكَ؟ فَقَالَ: إِنَّ بَيْنِي وَبَيْنَهُ سَبْعِينَ حِجَابًا مِنْ نُورٍ».
وَقَالَ الْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ أَئِمَّةِ الصُّوفِيَّةِ: إِنَّ الْحُجُبَ؛ أَيِ: الْمَوَانِعَ الَّتِي تَمْنَعُ الْعَبْدَ مِنْ مَعْرِفَةِ الْحَقِّ كَثِيرَةٌ أَكْثَفَهَا نَفْسَهُ، وَهَذِهِ الْحُجُبُ تُزَالُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَّا حِجَابًا وَاحِدًا، فَيَعْرِفُونَ الْحَقَّ مَعْرِفَةً كَامِلَةً تَسْتَغْرِقُ الرُّوحَ. وَذَلِكَ مَا عَبَّرَ عَنْهُ بِالرُّؤْيَةِ وَبِمَجِيءِ اللهِ وَإِتْيَانِهِ.
فَالْغَمَامُ فِي هَذَا الْمَقَامِ التَّمْثِيلِيِّ إِشَارَةٌ إِلَى الْحِجَابِ الَّذِي لَا يَحْصُلُ كَمَالُ الْمَعْرِفَةِ الْمُمْكِنَةِ بِدُونِهِ، وَبِذَلِكَ تَتَّفِقُ الْآيَاتُ مَعَ الْأَحَادِيثِ {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} [16: 60] وَ{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [42: 11].
وَلَنَا أَنْ نَقُولَ- عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ مَعَ تَفْسِيرِنَا الْغَمَامَ بِمَادَّةِ التَّكْوِينِ الْأُولَى كَمَا مَرَّ-: إِنَّ الْحُجُبَ- الَّتِي تَشْغَلُ الْإِنْسَانَ عَنْ رَبِّهِ فِي الدُّنْيَا؛ حُظُوظَ النَّفْسِ وَشَهَوَاتِهَا وَشَوَاغِلَ الْحِسِّ بِالْمَحْسُوسَاتِ وَالْفِكْرِ بِالْمُدْرَكَاتِ كُلَّهَا- تَرْتَفِعُ فَلَا تَعُودُ حَائِلَةً دُونَ كَمَالِ الْعِلْمِ بِاللهِ تَعَالَى، مَا خَلَا سِرَّ الْإِيجَادِ وَالتَّكْوِينِ الْأَوَّلِ؛ مِمَّ كَانَ؟ وَبِمَ كَانَ؟ وَكَيْفَ كَانَ؟ فَهَذَا لَا يَرْتَفِعُ فِي الدُّنْيَا لِلْمُوقِنِينَ، وَلَا فِي الْآخِرَةِ لِلْمُقَرَّبِينَ.
هَذَا، وَأَنْتَ تَرَى أَنَّ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ هُوَ الْمُتَبَادَرُ وَالْمُنْطَبِقُ عَلَى الْآيَاتِ الْأُخْرَى فِي نُذُرِ الْقِيَامَةِ، وَفِي كُلٍّ مِنْهُمَا عِبْرَةٌ وَهِدَايَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ. وَأَمَّا الْمُرْتَابُونَ الْمُمَارُونَ فَلَا يَزِيدُهُمُ الْكَلَامُ عَنِ الْآخِرَةِ إِلَّا ظُلْمَةً وَرِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ مَحْجُوبُونَ فِي حِسِّهِمْ حَتَّى عَنْ نَفْسِهِمْ وَ{كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [23: 53].
{سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}.
تَقَدَّمَ أَنَّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِالَّذِينِ آمَنُوا أَهْلُ الْكِتَابِ، وَثَانِيهِمَا: أَنَّ الْمُخَاطَبَ بِهَا الْمُؤْمِنُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ} ظَاهِرٌ عَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ، فَهُوَ عَلَى الْأَوَّلِ بَيَانٌ لِحَقِيقَةِ حَالِهِمْ، وَأَنَّ الْآيَاتِ وَالنُّذُرَ لَا تُرْجِعُهُمْ عَنْ ضَلَالِهِمْ، فَإِذَا اسْتَمَرُّوا عَلَى الْجُحُودِ وَالْخِصَامِ، وَأَعْرَضُوا عَنِ الدَّعْوَةِ إِلَى الدُّخُولِ فِي السَّلَامِ، فَلَيْسَ ذَلِكَ بِدْعًا مِنْهُمْ، وَلَا دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْإِسْلَامَ غَيْرُ بَيِّنٍ لَهُمْ، فَكَمْ جَاءَهُمْ أَنْبِيَاؤُهُمْ بِالْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ، وَكَمْ بَلَاهُمُ اللهُ تَعَالَى بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ، وَلَمْ يُغْنِ ذَلِكَ عَنْهُمْ، وَلَا صَدَّهُمْ عَنْ خِلَافِهِمْ وَشِقَاقِهِمْ، بَلْ بَدَّلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ، وَبَدَّلُوا نِعْمَةَ اللهِ كُفْرًا {وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللهِ} عَلَيْهِ بِالْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى الْحَقِّ، وَالْوَحْدَةِ الدَّاعِيَةِ إِلَى الشُّكْرِ {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ} بِالْبَيَانِ، وَأُبْرِهَتْ بِالْبُرْهَانِ، بِجَعْلِهَا مُثَارًا لِلتَّفَرُّقِ وَالِاخْتِلَافِ، وَجَعْلِ الْأُمَّةِ الْوَاحِدَةِ شِيَعًا وَأَحْزَابًا وَمَذَاهِبَ وَفِرَقًا بِسُوءِ التَّأْوِيلِ وَعَصَبِيَّاتِ الرِّيَاسَةِ وَالسِّيَاسَةِ {فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} لِمَنْ تَنَكَّبَ سُنَّتَهُ وَخَالَفَ شِرْعَتَهُ- وَهَؤُلَاءِ الْمُبَدِّلُونَ مِنْهُمْ- فَالْعِقَابُ الشَّدِيدُ نَازِلٌ لَا مَحَالَةَ بِهِمْ، وَلَمْ يَقُلْ: فَإِنَّ اللهَ يُعَاقِبُهُمْ؛ لِيُشْعِرَنَا بِأَنَّ هَذَا مِنْ سُنَنِهِ الْعَامَّةِ فَحَذَّرَنَا أَنْ نَكُونَ مِنَ الْمُخَالِفِينِ الْمُبَدِّلِينِ، تَوَهُّمًا أَنَّ الْعِقَابَ خَاصٌّ بِبَعْضِ الْغَابِرِينَ، كَمَا يَلْغُو كَثِيرٌ مِنَ الْجَاهِلِينَ، فَأَنْتَ تَرَى أَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: {فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} وَالتَّقْيِيدُ بِمَجِيءِ الْبَيِّنَاتِ وَالْآيَاتِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ الصَّحِيحَةُ بِالْبَيِّنَةِ وَالدَّلِيلِ لَا يُخَاطَبُ بِهَذَا الْوَعِيدِ، فَحَسُبُهُ حِرْمَانُهُ مِنْ هِدَايَةِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، فَكَيْفَ يُطَالَبُ مَعَ ذَلِكَ بِمَا لَا يَعْلَمُ، وَيُجْعَلُ مَعَ مَنْ عَانَدَ الْحَقَّ مِنْ بَعْدِ ظُهُورِهِ لَهُ فِي قَرْنٍ؟!
وَفِي هَذِهِ مِنَ الْهِدَايَةِ أَيْضًا بَيَانُ أَمْرٍ عَظِيمٍ يَغْفُلُ عَنْهُ الْعُلَمَاءُ وَالْأَذْكِيَاءُ، وَهُوَ أَنَّ الْآيَاتِ وَالْبَيِّنَاتِ إِنَّمَا تُفِيدُ النُّفُوسَ الْخَيِّرَةَ الْمُسْتَعِدَّةَ لِقَبُولِ الْحَقِّ الْمُتَوَجِّهَةَ إِلَى طَلَبِهِ، وَأَمَّا النُّفُوسُ الْخَبِيثَةُ الَّتِي يَفْضَحُهَا الْحَقُّ وَيُظْهِرُ بَاطِلَهَا الَّذِي تُحِبُّ سَتْرَهُ، وَالِاسْتِرْسَالَ فِيمَا هِيَ فِيهِ مِنَ اللَّذَّةِ الْحِسِّيَّةِ وَالْجَاهِ الْبَاطِلِ؛ فَإِنَّ الْآيَاتِ وَالْبَيِّنَاتِ لَا تَزِيدُهَا إِلَّا مُمَارَاةً وَجَدَلًا فِي الْقَوْلِ وَجُحُودًا وَعِنَادًا بِالْفِعْلِ. هَذِهِ سُنَّةُ اللهِ تَعَالَى فِي الْبَشَرِ عَامَّةً، لَا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ خَاصَّةً، كَذَلِكَ كَانَ وَكَذَلِكَ يَكُونُ وَسَيَكُونُ وَسَوْفَ يَكُونُ إِلَى مَا شَاءَ اللهُ.
وَأَمَّا تَفْسِيرُ الْآيَةِ عَلَى الْوَجْهِ الْمُخْتَارِ فِي الْمُخَاطَبِينَ بِالدُّخُولِ فِي السِّلْمِ، فَهُوَ أَنَّهَا هَادِيَةٌ إِلَى الِاعْتِبَارِ بِسُنَّةِ اللهِ تَعَالَى فِي الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا آنِفًا، كَأَنَّهُ يَقُولُ: يَا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم عَلَيْكُمْ بِالدُّخُولِ فِي السِّلْمِ وَالِاتِّفَاقِ، وَالِاعْتِصَامِ بِالْإِسْلَامِ فِي جُمْلَتِهِ، لَا تُفَرِّقُوهُ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ وَتَكُونُوا شِيَعًا، كَيْلَا يُصِيبَكُمْ مَا أَصَابَ أُولَئِكَ الَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ مِنْ قَبْلِكُمْ، وَهَؤُلَاءِ بَنُو إِسْرَائِيلَ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَحَالُهُمْ لَا تَخْفَى عَلَيْكُمْ، فَسَلُوهُمْ حَالَهُمْ، وَاسْتَنْطِقُوا آثَارَهُمْ وَاقْرَءُوا تَارِيخَهُمْ تَرَوْا أَنَّهُمْ أُوتُوا نَحْوًا مِمَّا أُوتِيتُمْ مِنَ الْبَيِّنَاتِ، وَأُمِرُوا كَمَا أُمِرْتُمْ بِالِاتِّحَادِ وَالِاجْتِمَاعِ، فَتَفَرَّقُوا إِلَى مَذَاهِبَ وَشِيَعٍ، وَزَلُّوا عَنْ صِرَاطِ اللهِ فَتَفَرَّقَتْ بِهِمُ السُّبُلُ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِعِزَّتِهِ وَنَفَّذَ فِيهِمْ حُكْمَ سُنَّتِهِ، وَزَالَ سُلْطَانُهُمْ، وَلَفِظَتْهُمْ أَوْطَانُهُمْ، وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ، وَمُزِّقُوا فِي الْأَرْضِ كُلَّ مُمَزَّقٍ.
وَالْآيَةُ عَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ عِبْرَةٌ لِلْمُخَاطَبِينَ بِالْقُرْآنِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ، لَا حِكَايَةٌ تَارِيخِيَّةٌ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَلَكِنْ هَلْ يَعْتَبِرُ بِهَا الْمُنْتَسِبُونَ إِلَى الْقُرْآنِ؟ وَهَلْ يَفْهَمُونَ مِنْهَا أَنَّ مُلْكَهُمُ الَّذِي يَتَقَلَّصُ ظِلُّهُ عَنْ رُءُوسِهِمْ عَامًا بَعْدَ عَامٍ، وَعِزَّهُمُ الَّذِي تَتَخَطَّفُهُ مِنْهُمْ حَوَادِثُ الْأَيَّامِ مَا بَدَّلَهُمَا اللهُ تَعَالَى إِلَّا بَعْدَ مَا بَدَّلُوا نِعْمَتَهُ عَلَيْهِمْ فِي قَوْلِهِ: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [3: 103] وَ{ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [8: 53] كَلَّا إِنَّهُمْ لَمْ يَفْهَمُوا هَذَا وَلَوْ تَغَنَّوْا وَتَرَنَّمُوا بِهَذِهِ الْآيَاتِ فِي كُلِّ مَأْتَمٍ وَكُلِّ مَوْسِمٍ، وَإِنَّ رُؤَسَاءَهُمْ لَا يَمْقُتُونَ أَحَدًا مَقْتَهُمْ لِمَنْ يُذَكِّرُهُمْ بِهِ، وَإِنَّ أَكْثَرَ عَامَّتِهِمْ تَبَعٌ لِهَؤُلَاءِ الرُّؤَسَاءِ كَمَا كَانَ بَنُو إِسْرَائِيلَ عَلَى عَهْدِ نُزُولِ الْقُرْآنِ، وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ السَّاكِنِينَ مِنْهُمْ عَلَى جَمِيعِ مَا مُنِيَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ مِنَ الْبِدَعِ وَالْخُرَافَاتِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ يَتَّفِقُونَ مَعَ الْمُدَافِعِينَ عَنِ الْفَاسِقِينَ وَالْمُبْتَدِعِينَ عَلَى إِيذَاءِ الْوَاعِظِينَ النَّاصِحِينَ، بِاسْمِ الْمُدَافِعَةِ عَنِ الدِّينِ، وَالسَّبَبُ فِي هَذَا وَأَمْثَالِهِ لَمْ يُفْرِطْ فِيهِ الْكِتَابُ الْمُبِينُ بَلْ هُوَ مَا هَدَانَا اللهُ تَعَالَى إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} هَذَا بَيَانٌ مُعَلِّلٌ لِمَا قَبْلَهُ مِنَ الْوَعِيدِ لِمَنْ يُبَدِّلُ نِعْمَةَ اللهِ كُفْرًا، وَلاسيما نِعْمَةُ آيَاتِ اللهِ تَعَالَى فِي هِدَايَةِ الْمِلَّةِ إِلَى وَحْدَةِ الْأُمَّةِ، فَالْكُفْرُ فِيهَا هُوَ كُفْرُ النِّعْمَةِ لَا إِنْكَارُ وُجُودِ اللهِ تَعَالَى وَلَا الشَّرَكُ بِهِ كَمَا زَعَمَ الْجَلَالُ وَغَيْرُهُ، وَسَبَبُهُ الِافْتِتَانُ بِزِينَةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا الزَّائِلَةِ، وَإِيثَارُهَا عَلَى حَيَاةِ الْآخِرَةِ الْبَاقِيَةِ، وَالْمَقَامُ مَقَامُ الْأَمْرِ بِالِاتِّفَاقِ فِي الدِّينِ وَالْأَخْذِ بِجَمِيعِ أَحْكَامِهِ وَشَرَائِعِهِ وَالنَّهْيِ عَنِ التَّفَرُّقِ فِيهَا، وَالْمُسْلِمُونَ هُمُ الْمُخَاطَبُونَ بِالْوَعِيدِ عَلَى التَّفَرُّقِ وَاتِّبَاعِ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ عَلَى رَأْيِهِ وَتَفْسِيرِهِ- وَهُوَ الْمُخْتَارُ- فَبَعْدَ أَنْ أَمَرَنَا تَعَالَى وَنَهَانَا وَتَوَعَّدَ مَنْ يَزِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ مِنَّا بَعْدَ مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ ذَكَّرَنَا بِحَالِ مَنْ سَبَقَنَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ نَزَلَ بِهِمْ عَذَابُ التَّفَرُّقِ وَالْخِلَافِ فِي الدُّنْيَا، لَمْ يَمْنَعْهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ، وَأَنَّهُمْ مُنْتَمُونَ إِلَى نَبِيٍّ مُرْسَلٍ وَعِنْدَهُمْ شَرِيعَةٌ إِلَهِيَّةٌ، ذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمْ يَجْتَمِعُوا عَلَى الْكِتَابِ لِاخْتِلَافِ أَئِمَّتِهِمْ وَأَحْبَارِهِمْ فِي التَّأْوِيلِ وَالتَّأْلِيفِ، وَكَانَ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ يَعْتَذِرُ عَنْ تَرْكِهِ الْعَمَلَ بِالتَّوْرَاةِ بِأَنَّهُ مُتَّبِعٌ لِبَعْضِ الْأَحْبَارِ الَّذِينَ هُمْ أَعْلَمُ مِنْهُ بِهَا.
بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ يَسْأَلُ سَائِلٌ: كَيْفَ يَخْتَلِفُ النَّاسُ فِي دِينِهِمْ وَيَتَفَرَّقُونَ شِيَعًا بَعْدَ مَجِيءِ الْبَيِّنَاتِ الْمَانِعَةِ مِنْ ذَلِكَ؟ فَهَذِهِ الْآيَةُ جَوَابٌ لِهَذَا السُّؤَالِ، وَحَلٌّ لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِشْكَالِ، مُلَخَّصُهُ أَنَّ حُبَّ الدُّنْيَا وَالْغُرُورِ بِزِينَتِهَا يَصْرِفَانِ جَمِيعَ قُوَى النَّفْسِ إِلَى التَّفَانِي فِي طَلَبِهَا، وَبِذَلِكَ تَنْصَرِفُ عَنِ النَّظَرِ الصَّحِيحِ فِي آيَاتِ الْحَقِّ وَبَيِّنَاتِهِ، أَمَّا الرُّؤَسَاءُ فَإِنَّهُمْ يَنْصَرِفُونَ إِلَى حُبِّ الِامْتِيَازِ وَالشُّهْرَةِ وَالِاسْتِعْلَاءِ عَلَى الْأَقْرَانِ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْخِلَافِ وَانْتِصَارِ كُلِّ رَئِيسٍ لِمَذْهَبٍ، وَالذَّبِّ عَنْهُ بِالْجَدَلِ وَالتَّأْوِيلِ. وَأَمَّا الْمَرْءُوسُونَ فَإِنَّ كُلَّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ يَنْتَمِي إِلَى رَئِيسٍ يَعْتَزُّ بِهِ وَيُقَلِّدُهُ دِينَهُ، وَلَا يَسْتَمِعُ قَوْلًا لِمُخَالِفِهِ، وَيَرْبِطُ كُلًّا مِنْهُمَا بِالْآخَرِ الِاشْتِرَاكُ فِي الْمَصَالِحِ الدُّنْيَوِيَّةِ، فَحُبُّ الدُّنْيَا هُوَ عِلَّةُ الْعِلَلِ وَرَأْسُ كُلِّ خَطِيئَةٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ ارْتِبَاطِ الرُّؤَسَاءِ بِالْمَرْءُوسِينَ فِي تَفْسِيرِ {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَادًا} [2: 165] الْآيَاتِ.
وَمَا ذَكَرْنَاهُ هُنَا قَاضٍ بِأَنْ يَخْتَصَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَنْ أُوتُوا كِتَابًا وَجَاءَتْهُمْ بَيِّنَاتٌ تَجْمَعُ كَلِمَتَهُمْ وَتُحَقِّقُ وَحْدَتَهُمْ، فَفَصَمُوا بِالْخِلَافِ عُرْوَتَهَا، وَمَزَّقُوا بِالتَّفَرُّقِ نَسِيجَ وَحْدَتِهَا، وَذَلِكَ كُفْرٌ بِهَذِهِ النِّعْمَةِ وَتَبْدِيلٌ لَهَا بِالنِّقْمَةِ. وَيَدُلُّكَ عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ لَا يَزَالُ فِي مَسْأَلَةِ الْخِلَافِ وَالْوِفَاقِ فِي الدِّينِ الْآيَةُ التَّالِيَةُ لِهَذِهِ، فَإِنَّهَا مُبَيِّنَةٌ لِأَصْلِ الْخِلَافِ فِي الدِّينِ مُنْذُ بَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ.
جُمْلَةُ {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا} إِلَخْ. فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّا جَعَلَنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [18: 7] ابْتَلَاهُمْ فَغَرَّتْ أَقْوَامًا زِينَتُهَا، وَفَتَنَتْهُمْ بَهْجَتُهَا، فَانْصَرَفَتْ هِمَّتُهُمْ إِلَى الِاسْتِمَاعِ بِلَذَّاتِهَا، وَانْحَصَرَتْ أَفْكَارُهُمْ فِي اسْتِنْبَاطِ الْوَسَائِلِ لِشَهَوَاتِهَا، وَمُسَابَقَةِ طُلَّابِ الْمَالِ وَالْجَاهِ عِنْدَ أَرْبَابِهَا، وَمُزَاحَمَةِ الطَّارِقِينَ لِأَبْوَابِهَا، فَلَمْ يَبْقَ فِيهَا سِعَةٌ لِطَلَبِ شَيْءٍ آخَرَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُعَارِضًا لَهُمْ فِيهَا يَرْغَبُونَ، وَحَائِلًا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ، فَمَا بَالُكَ بِطَلَبِ الْحَقِّ، وَالتَّطَلُّعِ إِلَى حَيَاةٍ بَعْدَ هَذِهِ الْحَيَاةِ، وَالْحَقُّ يَنْعَى عَلَيْهِمْ إِسْرَافَهُمْ فِي أَمْرِهِمْ، وَيُطَالِبُهُمْ بِحُقُوقٍ عَلَيْهِمْ لِغَيْرِهِمْ. وَالتَّطَلُّعُ إِلَى حَيَاةٍ أُخْرَى يُزَعْزِعُ مِنْ سُكُونِهِمْ إِلَى لَهْوِهِمْ، وَيَغُضُّ شَيْئًا مِنْ تَعَالِيهِمْ فِي زَهْوِهِمْ، بَلْ يُكَدِّرُ عَلَيْهِمْ بَعْضَ صَفْوِهِمْ، وَيَقِفُ بِهِمْ دُونَ شَأْوِهِمْ. وَمَنْ لَمْ يَطْلُبِ الْحَقَّ مِنْ طَرِيقِهِ بِإِخْلَاصٍ وَإِنْصَافٍ لَا يَجِدُهُ وَلَا يَتَّفِقُ مَعَ أَهْلِهِ، وَأَنَّى لِلْمَفْتُونِينَ بِالزِّينَةِ الْإِخْلَاصُ وَالْإِنْصَافُ؟!
أَقُولُ: وَثَمَّ أَقْوَامٌ آخَرُونَ نَظَرُوا إِلَى زِينَةِ الدُّنْيَا كَمَا أَمَرَ اللهُ، وَهُوَ مِنْ وَجْهَيْنِ، أَحَدُهُمَا: مَا فِيهَا مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى قُدْرَتِهِ تَعَالَى وَعِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ بِعِبَادِهِ. وَثَانِيهِمَا: كَوْنُهَا نِعْمَةً مِنْهُ تَعَالَى يَنْتَفِعُ بِهَا، وَيَشْكُرُ اللهَ تَعَالَى عَلَيْهَا، وَيَتَّبِعُ شَرْعَهُ فِيهَا بِالْقَصْدِ وَاجْتِنَابِ السَّرَفِ وَالْخُيَلَاءِ، وَتَذَكُّرِ الدُّعَاءِ بِحَسَنَةِ الدُّنْيَا وَحَسَنَةِ الْآخِرَةِ وَهُوَ قَرِيبٌ، وَلَا تَنْسَ قَوْلَهُ تَعَالَى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ} إِلَخْ.
وَالْمُرَادُ بِالَّذِينِ كَفَرُوا هُنَا مَنْ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْحُقُوقِ الْمَشْرُوعَةِ لِلَّهِ وَلِلنَّاسِ إِيمَانًا إِذْعَانًا وَانْقِيَادًا، بَلْ يُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى مَا عِنْدَ اللهِ تَعَالَى مِنَ النَّعِيمِ الْمُقِيمِ، لَا الْمُشْرِكُونَ أَوِ الْكَافِرُونَ فِي عُرْفِ بَعْضِ النَّاسِ كَالَّذِينِ لَا يُسَمَّوْنَ مُسْلِمِينَ، كَمَا أَنَّ الْقُرْآنَ لَا يَعْنِي بِالْمُؤْمِنِينَ النَّاجِينَ طَائِفَةً يُسَمُّونَ أَنْفُسَهُمْ أَوْ يَصِفُونَهَا بِالْإِيمَانِ أَوِ الْإِسْلَامِ، وَإِنَّمَا يَعْنِي بِهِمْ أُولَئِكَ الْمُوقِنِينَ بِمَا عِنْدَ اللهِ، الَّذِينَ يُؤْثِرُونَ الْحَقَّ عَلَى كُلِّ مَا يُعَارِضُهُ مِنْ شَهَوَاتِهِمْ وَلَذَّاتِهِمْ، وَإِذَا عَثَرَ أَحَدُهُمْ فَعَمِلَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ يَتُوبُ مِنْ قَرِيبٍ. وَانْظُرْ سَائِرَ مَا عَرَّفَ اللهُ تَعَالَى بِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ مِنَ النُّعُوتِ وَالْأَوْصَافِ يَظْهَرُ لَكَ هَذَا.
وَأَظْهَرُ أَوْصَافِ الْكَافِرِ أَنْ تَكُونَ زِينَةُ الدُّنْيَا أَكْبَرَ هَمِّهِ، يُؤْثِرُهَا عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، حَتَّى إِنَّ أَمْرَ الدِّينِ لَا يُزَحْزِحُهُ عَنْ شَيْءٍ يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ هَذِهِ الزِّينَةِ وَمَتَاعِهَا بِلَا مَعَارِضٍ مِنَ الدُّنْيَا، كَحَاكِمٍ يَزِعُ أَوْ إِهَانَةٍ تُتَوَقَّعُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقِينَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ، فَإِنْ كَانَ مُنْتَسِبًا إِلَى دِينٍ فَمَا دِينُهُ إِلَّا تَقَالِيدٌ وَعَادَاتٌ، وَخَوَاطِرُ تَتَنَازَعُهَا الشُّبُهَاتُ، وَتَتَجَاذَبُهَا الشُّكُوكُ وَالتَّأْوِيلَاتُ. وَمِنْهُمْ مَنْ يُسَلِّمُ تَقْلِيدًا بِأَنَّ هُنَالِكَ آخِرَةً فِيهَا نَعِيمٌ خَاصٌّ بِأَهْلِ مِلَّتِهِ وَإِنْ كَانُوا عَلَى مَا وَصَفَ اللهُ الْكَافِرِينَ، وَضِدَّ مَا نَعَتَ الْمُؤْمِنِينَ، كَمَا كَانَ الْيَهُودُ فِي زَمَنِ التَّنْزِيلِ. وَقَدْ أَطْلَقَ الْقُرْآنُ عَلَيْهِمُ اسْمَ الْإِيمَانِ فِي مَوَاضِعَ مِنْهَا الْآيَةُ السَّابِقَةُ قَرِيبًا عَلَى قَوْلِ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ، وَفِي غَيْرِهَا أَيْضًا كَقَوْلِهِ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ عَامَّةً مِنْ آخَرِ سُورَةِ الْحَدِيدِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحِمَتِهِ} [57: 28] إِلَخْ، وَأَطْلَقَ عَلَيْهِمُ اسْمَ الْكُفْرِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ.
وَذَلِكَ أَنَّ لِلْإِيمَانِ- كَمَا ذَكَرْنَا قَبْلُ- إِطْلَاقَيْنِ، فَيُطْلَقُ عَلَى الْمُؤْمِنِ الْمُوقِنِ الْمُذْعِنِ لِلْعَمَلِ وَالِاتِّبَاعِ، وَيُطْلَقُ عَلَى مَنْ يُصَدِّقُ تَقْلِيدًا بِأَنَّ لِلْعَالَمِ إِلَهًا أَرْسَلَ رُسُلًا وَيَنْتَسِبُ إِلَى بَعْضِهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى يَقِينٍ فِي إِيمَانِهِ، وَبَصِيرَةٍ فِي دِينِهِ، وَحُسْنِ اتِّبَاعٍ لِنَبِيِّهِ، بَلْ هُوَ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَهَؤُلَاءِ قَدْ يَكُونُونَ فِي عُرْفِ الْقُرْآنِ كَافِرِينَ، وَذَكَرَ مِنْ عَلَامَتِهِمُ الِافْتِتَانَ بِزِينَةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، فَهُمْ يَعُدُّونَ الْكِيَاسَةَ الِانْغِمَاسَ فِي نَعِيمِهَا، وَيَرَوْنَ الْفَضْلَ فِي الِاسْتِكْثَارِ مِنْ فُضُولِهَا {وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} إِيمَانًا حَقِيقِيًّا يَحْمِلُ عَلَى الْعَمَلِ- يَسْخَرُونَ مِنْ فُقَرَائِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ مَحْرُومُونَ مِنْ زِينَتِهِمْ وَإِنْ كَانُوا رَاضِينَ مِنَ اللهِ مَغْبُوطِينَ بِمَا مَنَحَهُمْ مِنَ الْإِيمَانِ وَالرَّجَاءِ بِالْآخِرَةِ، وَمِنْ أَغْنِيَائِهِمْ لِأَنَّهُمْ لَا يَتَنَوَّقُونَ فِي النَّعِيمِ، بَلْ يَرَوْنَ الْكِيَاسَةَ فِي الِاسْتِعْدَادِ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ بِتَرْقِيَةِ النَّفْسِ بِالِاعْتِقَادِ الصَّحِيحِ الْمُؤَيَّدِ بِالْبَيِّنَاتِ وَالتَّحَلِّي بِالْفَضَائِلِ وَأَحَاسِنِ الْأَخْلَاقِ، وَيَعُدُّونَ الْفَضْلَ فِي الْقِيَامِ بِحُقُوقِ النَّاسِ وَخِدْمَةِ الْأُمَّةِ، وَالْإِفَاضَةِ مِنْ فَضْلِ الْمَالِ عَلَى الْعَاجِزِينَ وَالْبَائِسِينَ، وَكُلَّمَا أَنْفَقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ دِرْهَمًا عَدَّهُ أُولَئِكَ الْمُسْتَهْزِئُونَ مَغْرَمًا.
قَالَ تَعَالَى رَدًّا عَلَى هَؤُلَاءِ السَّاخِرِينَ الَّذِينَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ فِي زِينَتِهِمْ وَلَذَّاتِهِمْ خَيْرٌ مِنْ أَهْلِ الْيَقِينِ فِي نَزَاهَتِهِمْ وَتُقَاتِهِمْ: {وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} فَإِذَا اسْتَعْلَى بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضِ الْمُؤْمِنِينَ طَائِفَةً مِنَ الزَّمَنِ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الْقَصِيرَةِ الْفَانِيَةِ بِمَا يَكُونُ لَهُمْ مِنَ الْأَتْبَاعِ وَالْأَنْصَارِ وَالْمَالِ والسُّلْطَانِ، فَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ يَكُونُونَ أَعْلَى مِنْهُمْ مَقَامًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي تِلْكَ الْحَيَاةِ الْعَلِيَّةِ الْأَبَدِيَّةِ. وَلَمْ يَقُلْ: وَالَّذِينَ آمَنُوا فَوْقَهُمْ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ الْمَفْتُونِينَ بِزِينَةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا يَدَّعُونَ الْإِيمَانَ لِأَنَّهُمْ وُلِدُوا وَنُشِّئُوا بَيْنَ قَوْمٍ يُدْعَوْنَ بِأَهْلِ الْإِيمَانِ وَأَهْلِ الْكِتَابِ، فَاللهُ يُرْشِدُنَا إِلَى أَنَّهُ لَا اعْتِدَادَ بِالْإِيمَانِ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا إِذَا صَحِبَتْهُ التَّقْوَى، وَكَانَتْ أَثَرًا لَهُ فِي النَّفْسِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا} [19: 63] وَ{أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [3: 133] وَ{لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا} [5: 93] وَالْآيَاتُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَلَكِنَّ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّ النَّجَاةَ فِي الْآخِرَةِ وَالدَّرَجَاتِ الْعُلَا فِيهَا تَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ اللَّقَبِ وَالْجِنْسِيَّةِ، أَوْ بَعْضِ التَّقَالِيدِ الَّتِي لَا أَثَرَ لَهَا فِي النَّفْسِ، لَا يَلْتَفِتُونَ إِلَى مِثْلِهَا، وَإِذَا قِيلَ لِعُظَمَائِهِمْ فِيهَا وَاحْتُجَّ عَلَيْهِمْ بِهَا طَفِقُوا يُحَرِّفُونَ وَيُؤَوِّلُونَ، وَيَدَّعُونَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْكَافِرِينَ وَهُمْ مُسْلِمُونَ. أَوْ يَقُولُونَ: هَكَذَا شُيُوخُنَا وَإِنَّمَا نَحْنُ مُقَلِّدُونَ، وَهَؤُلَاءِ الدَّاعُونَ إِلَى الْكِتَابِ ضَالُّونَ مُضِلُّونَ؛ لِأَنَّهُمْ يَدَّعُونَ الِاجْتِهَادَ فِي الدِّينِ، وَقَدْ أَقْفَلَ عُلَمَاؤُنَا بَابَهُ مُنْذُ مِئِينَ مِنَ السِّنِينَ.
ذَكَرَ تَعَالَى مَا يَمْتَازُ بِهِ الْمُؤْمِنُ الْمُتَّقِي عَلَى الْكَافِرِ الْقَائِمِ بِتَبْدِيلِ النِّعْمَةِ وَتَفْرِيقِ الْكَلِمَةِ- وَهُوَ الْعُلُوُّ فِي دَارِ الْكَرَامَةِ، ثُمَّ أَخْبَرَنَا أَنَّ رِزْقَ الدُّنْيَا وَنَعِيمَهَا لَيْسَ خَاصًّا فِيهَا بِتَقِيٍّ وَلَا شَقِيٍّ، بَلْ هُوَ مَبْذُولٌ لِكُلِّ أَحَدٍ، وَأَنَّهُ قَدْ يَأْتِي مِنْ حَيْثُ لَا يَظُنُّ الْمَرْءُ وَلَا يَحْتَسِبُ فَقَالَ: {وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} الْحِسَابُ: التَّقْدِيرُ؛ أَيْ: مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرٍ لَهُ عَلَى حَسَبِ الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى وَالْكُفْرِ وَالْفُجُورِ، وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهُ كِنَايَةٌ عَنِ السَّعَةِ وَعَدَمِ التَّقْتِيرِ وَالتَّضْيِيقِ، كَقَوْلِهِمْ: يُنْفِقُ فُلَانٌ بِغَيْرِ حِسَابٍ؛ أَيْ: يُنْفِقُ كَثِيرًا، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ بَذَلَ الْعَطَاءَ فِي الدُّنْيَا لِكُلِّ أَحَدٍ بِخَلْقِ الْأَرْزَاقِ وَإِقْدَارِ النَّاسِ عَلَى الْكَسْبِ، وَقِيلَ: إِنَّ الْمَعْنَى بِغَيْرِ حِسَابٍ عَلَيْهِ مِنْ أَحَدٍ، فَهُوَ الَّذِي خَلَقَ وَرَزَقَ، وَهُوَ الَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى مِنْ غَيْرِ مُحَاسَبَةِ أَحَدٍ وَلَا مُرَاجَعَتِهِ، وَقَدْ بَسَطَ مَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ فِي آيَاتٍ أُخْرَى، قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا} [17: 18- 21] فَأَنْتَ تَرَى أَنَّهُ لَمْ يَشْتَرِطِ السَّعْيَ لِرِزْقِ الدُّنْيَا؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَأْتِي بِلَا سَعْيٍ كَإِرْثٍ وَهِبَةٍ وَوَصِيَّةٍ وَكَنْزٍ، أَوِ ارْتِفَاعٍ لِأَثْمَانِ مَا يَمْلِكُ مِنْ عَقَارٍ وَعُرُوضٍ بِأَسْبَابٍ عَامَّةٍ، وَاشْتَرَطَ لِلْآخِرَةِ السَّعْيَ مَعَ الْإِيمَانِ، كَمَا خَصَّهَا هُنَا بِالَّذِينِ اتَّقَوْا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِيهِمْ. ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ عَطَاءَهُ وَاسِعٌ مَبْذُولٌ لِكُلِّ أَحَدٍ لَيْسَ فِيهِ حَظْرٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى، فَلِلْمُشَمِّرِ تَشْمِيرُهُ، وَعَلَى الْمُقَصِّرِ تَقْصِيرُهُ، وَفِي الْحِسَابِ هُنَا وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ الِاحْتِسَابُ وَالتَّقْدِيرُ مِنْ جَانِبِ الْعَبْدِ، فَيَكُونُ بِمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الطَّلَاقِ: {وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [65: 2، 3].
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ الرِّزْقَ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَلَا سَعْيٍ فِي الدُّنْيَا إِنَّمَا يَصِحُّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَفْرَادِ؛ فَإِنَّكَ تَرَى كَثِيرًا مِنَ الْأَبْرَارِ وَكَثِيرًا مِنَ الْفُجَّارِ أَغْنِيَاءَ مُوسِرِينَ مُتَمَتِّعِينَ بِسَعَةِ الرِّزْقِ، وَكَثِيرًا مِنَ الْفَرِيقَيْنِ فُقَرَاءَ مُعْسِرِينَ، وَالْمُتَّقِي يَكُونُ دَائِمًا أَحْسَنَ حَالًا وَأَكْثَرَ احْتِمَالًا وَمَحَلًّا لِعِنَايَةِ اللهِ تَعَالَى بِهِ، فَلَا يُؤْلِمُهُ الْفَقْرُ كَمَا يُؤْلِمُ الْفَاجِرَ، فَهُوَ يَجِدُ بِالتَّقْوَى مَخْرَجًا مِنْ كُلِّ ضَيِّقٍ، وَيَجِدُ مِنْ عِنَايَةِ اللهِ رِزْقًا غَيْرَ مُحْتَسَبٍ، وَأَمَّا الْأُمَمُ فَأَمْرُهَا عَلَى غَيْرِ هَذَا؛ فَإِنَّ الْأُمَّةَ الَّتِي تَرَوْنَهَا فَقِيرَةً ذَلِيلَةً مُعْدَمَةً مَهِينَةً لَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ مُتَّقِيَةً لِأَسْبَابِ نِقَمِ اللهِ وَسَخَطِهِ بِالْجَرْيِ عَلَى سُنَنِهِ الْحَكِيمَةِ وَشَرِيعَتِهِ الْعَادِلَةِ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ سُنَّةِ اللهِ تَعَالَى أَنْ يَرْزُقَ الْأُمَّةَ الْعِزَّةَ وَالثَّرْوَةَ، وَالْقُوَّةَ وَالسُّلْطَةَ مِنْ حَيْثُ لَا تَحْتَسِبُ وَلَا تُقَدِّرُ، وَلَا تَعْمَلُ وَلَا تُدَبِّرُ، بَلْ يُعْطِيهَا بِعَمَلِهَا، وَيَسْلُبُهَا بِزَلَلِهَا، وَقَدْ بَيَّنَ الْأُسْتَاذُ هَذَا الْمَعْنَى غَيْرَ مَرَّةٍ وَتَقَدَّمَ التَّفْسِيرُ، وَهُوَ مُؤَيَّدٌ بِآيَاتِ الْكِتَابِ الْمُبَيِّنَةِ لِسُنَنِ اللهِ الْعَامَّةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [8: 25] فَجَعَلَ وُقُوعَ الظُّلْمِ سَبَبًا فِي وُقُوعِ الْبَلَاءِ عَلَى الْأُمَّةِ مَنْ ظَلَمَ مِنْهَا وَمَنْ لَمْ يَظْلِمْ، وَمِنَ الظُّلْمِ تَرْكُ مُقَاوَمَةِ الظُّلْمِ حَتَّى يَفْشُوَ وَيَكُونَ لَهُ السُّلْطَانُ الَّذِي يَذْهَبُ بِكُلِّ سُلْطَانٍ، وَكَقَوْلِهِ: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [8: 46] وَلَأَجْلِ هَذِهِ السُّنَّةِ أَمَرَ بِالِاسْتِعْدَادِ عَلَى قَدْرِ الطَّاقَةِ {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [8: 60] وَلَا قُوَّةَ مَعَ الْخِلَافِ وَالنِّزَاعِ وَالتَّفَرُّقِ وَالِانْقِسَامِ؛ وَلِذَلِكَ أَمَرَنَا تَعَالَى بِالدُّخُولِ فِي السِّلْمِ كَافَّةً، وَمَنْحَنَا عَلَى ذَلِكَ الْبَيِّنَاتِ الْكَافِيَةَ، وَضَرَبَ لَنَا الْأَمْثَالَ، وَتَوَعَّدَنَا بِالْوَعِيدِ بَعْدَ الْوَعِيدِ. اهـ.