فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{وَلوطا إذْ قَالَ لقَوْمه إنكمْ لَتَأْتونَ الفاحشة مَا سَبَقَكمْ بهَا منْ أَحَدٍ منَ العالمين أَئنكمْ لَتَأْتونَ الرجال وَتَقْطَعونَ السبيل وَتَأْتونَ في نَاديكم المنكر}.
الانتقال من رسالة إبراهيم إلى قومه إلى رسالة لوط لمناسبة أنه شابه إبراهيم في أن أنجاه الله من عذاب الرجز.
والقول في صدر هذه الآية كالقول في آية {وإبراهيم إذ قال لقومه} [العنكبوت: 16] المتقدم آنفا.
وتقدم نظيرها في سورة النمل وفي سورة الشعراء.
وما بين الآيات من تفاوت هو تفنن في حكاية القصة للغرض الذي ذكرته في المقدمة السابعة، إلا قوله هنا {إنكم لتأتون الفاحشة} فإنه لم يقع له نظير فيما مضى.
وقوم لوط من الكنعانيين وتقدم ذكرهم في سورة الأعراف.
وتوكيد الجملة ب {إن} واللام توكيد لتعلق النسبة بالمفعول لا تأكيد للنسبة، فالمقصود تحقيق أن الذي يفعلونه فاحشة، أي عمل قبيح بالغ الغاية في القبح، لأن الفحش بلوغ الغاية في شيء قبيح لأنهم كانوا غير شاعرين بشناعة عملهم وقبحه.
وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر وحفص عن عاصم وأبو جعفر {إنكم لتأتون الفاحشة} بهمزة واحدة على الإخبار المستعمل في التوبيخ.
وقرأه أبو عمرو وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم ويعقوب وخلف بهمزتين: همزة الاستفهام وهمزة {إن}.
وقرأ الجميع {أإنكم لتأتون الرجال} بهمزتين.
وفي الكشاف: قال أبو عبيد: وجدت الأول أي {إنكم لتأتون الفاحشة} في الإمام بحرف واحد بغير ياء، أي بغير الياء التي تكتب الهمزة المكسورة على صورتها ورأيت الثاني أي {أينكم لتأتون الرجال} بحرفي الياء والنون. اهـ.
يعني الياء بعد همزة الاستفهام والنون نون إن.
ولعله يعني بالإمام مصحف البصرة أو الكوفة فتكون قراءة قرائهما رواية مخالفة لصورة الرسم.
وجملة: {أينكم لتأتون الرجال} الخ بدل اشتمال من مضمون جملة {لتأتون الفاحشة} باعتبار ما عطف على جملة {أئنكم لتأتون الرجال} من قوله: {وتقطعون السبيل} الخ لأن قطع السبيل وإتيان المنكر في ناديهم مما يشتمل عليه إتيان الفاحشة.
وأدخل استفهام الإنكار على جميع التفصيل وأعيد حرف التأكيد لتتطابق جملة البدل مع الجملة المبدل منها لأنها الجزء الأول من هذه الجملة المبدلة عند قطع النظر عما عطف عليها تكون من الجملة المبدل منها بمنزلة البدل المطابق.
وقطع السبيل: قطع الطريق، أي التصدي للمارين فيه بأخذ أموالهم أو قتل أنفسهم أو إكراههم على الفاحشة.
وكان قوم لوط يقعدون بالطرق ليأخذوا من المارة من يختارونه.
فقطع السبيل فساد في ذاته وهو أفسد في هذا المقصد.
وأما إتيان المنكر في ناديهم فإنهم جعلوا ناديهم للحديث في ذكر هذه الفاحشة والاستعداد لها ومقدماتها كالتغازل برمي الحصى اقتراعا بينهم على من يرومونه، والتظاهر بتزيين الفاحشة زيادة في فسادها وقبحها لأنه معين على نبذ التستر منها ومعين على شيوعها في الناس.
وفي قوله: {ما سبقكم بها من أحد من العالمين} تشديد في الإنكار عليهم في أنهم الذين سنوا هذه الفاحشة السيئة للناس وكانت لا تخطر لأحد ببال، وإن كثيرا من المفاسد تكون الناس في غفلة عن ارتكابها لعدم الاعتياد بها حتى إذا أقدم أحد على فعلها وشوهد ذلك منه تنبهت الأذهان إليها وتعلقت الشهوات بها.
والنادي: المكان الذي ينتدي فيه الناس، أي يجتمعون نهارا للمحادثة والمشاورة وهو مشتق من النَدْو بوزن العفو وهو الاجتماع نهارا.
وأما مكان الاجتماع ليلا فهو السامر، ولا يقال للمجلس ناد إلا ما دام فيه أهله فإذا قاموا عنه لم يسم ناديا.
{نَاديكم المنكر فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمه إلا أَن قَالوا ائتنا بعَذَاب الله إن كنتَ منَ الصادقين قَالَ رَب انصرنى عَلَى القوم المفسدين}.
الكلام فيه كالقول في نظيره المتقدم آنفا في قوله: {فما كان جواب قومه إلا أن قالوا اقتلوه} [العنكبوت: 24] الآية، والأمر في {ائتنا بعذاب الله} للتعجيز وهو يقتضي أنه أنذرهم العذاب في أثناء دعوته.
ولم يتقدم ذكر ذلك في قصة لوط فيما مضى لكن الإنذار من شؤون دعوة الرسل.
وأراد بالنصر عقاب المكذبين ليريهم صدق ما أبلغهم من رسالة الله.
ووصفهم ب {المفسدين} لأنهم يفسدون أنفسهم بشناعات أعمالهم ويفسدون الناس بحملهم على الفواحش وتدريبهم بها، وفي هذا الوصف تمهيد للإجابة بالنصر لأن الله لا يحب المفسدين.
{وَلَما جَاءَتْ رسلنَا إبْرَاهيمَ بالْبشْرَى قَالوا إنا مهْلكو أَهْل هَذه الْقَرْيَة}.
{لما} أداة تدل على التوقيت، والأصل أنها ظرف ملازم الإضافة إلى جملة.
ومدلولها وجود لوجود، أي وجود مضمون الجملة التي تضاف إليها عند وجود الجملة التي تتعلق بها فهي تستلزم جملتين: أولاهما فعلية ماضوية وتضاف إليها {لما} والثانية فعلية أو اسمية مشتملة على ما يصلح لأن يتعلق به الظرف من فعل أو اسم مشتق، ويطلق على الجملة الثانية الواقعة بعد {لما} اسم الجزاء تسامحا.
ولما كانت {لما} ظرفا مبهما تعين أن يكون مضمون الجملة التي تضاف إليها {لما} معلوما للسامع، إذ التوقيت الإعلام بمقارنة زمن مجهول بزمن معلوم.
فوجود {لما} هنا يقتضي أن مجيء الملائكة بالبشرى أمر معلوم للسامع مع أنه لم يتقدم ذكر للبشرى، فتعين أن يكون التعريف في البشرى تعريف العهد لاقتضاء {لما} أن تكون معلومة، فالبشرى هي ما دل عليه قوله تعالى آنفا {ووهبنا له إسحاق ويعقوب وجعلنا في ذريته النبوءة والكتاب} [العنكبوت: 27] كما تقدم بيانه.
والبشرى: اسم للبشارة وهي الإخبار بما فيه مسرة للمخبر بفتح الباء وتقدم ذكر البشارة عند قوله تعالى: {إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا} في سورة البقرة (119).
ومن لطف الله بإبراهيم أن قدم له البشرى قبل إعلامه بإهلاك قوم لوط لعلمه تعالى بحلم إبراهيم.
والمعنى: قالوا لإبراهيم إنا مهلكوا أهل هذه القرية. إلخ.
والقرية هي سدوم قرية قوم لوط.
وقد تقدم ذكرها في سورة الأعراف.
وجملة {إن أهلها كانوا ظالمين} تعليل للإهلاك وقصد به استئناس إبراهيم لقبول هذا الخبر المحزن، وأيضا لأن العدل يقتضي أن لا يكون العقاب إلا على ذنب يقتضيه.
والظلم: ظلمهم أنفسهم بالكفر والفواحش، وظلمهم الناس بالغصب على الفواحش والتدرب بها.
وقوله: {إن فيها لوطا} خبر مستعمل في التذكير بسنة الله مع رسله من الإنجاء من العذاب الذي يحل بأقوامهم.
فهو من التعريض للملائكة بتخصيص لوط ممن شملتهم القرية في حكم الإهلاك، ولوط وإن لم يكن من أهل القرية بالأصالة إلا أن كونه بينهم يقتضي الخشية عليه من أن يشمله الإهلاك.
ولهذا قال: {إن فيها لوطا} بحرف الظرفية ولم يقل: إن منها.
وجواب الملائكة إبراهيم بأنهم أعلم بمن فيها يريدون أنهم أعلم منه بأحوال من في القرية، فهو جواب عما اقتضاه تعريضه بالتذكير بإنجاء لوط، أي نحن أعلم منك باستحقاق لوط النجاة عند الله، واستحقاق غيره العذاب فإن الملائكة لا يسبقون الله بالقول وهم بأمره يعملون وكان جوابهم مطَمْئنا إبراهيم.
فالمراد من علمهم بمن في القرية علمهم باختلاف أحوال أهلها المرتب عليها استحقاق العذاب، أو الكرامة بالنجاة.
وإنما كان الملائكة أعلم من إبراهيم بذلك لأن علمهم سابق على علمه ولأنه علم يقين ملقى من وحي الله فيما سخر له أولئك الملائكة إذ كان إبراهيم لم يوح الله إليه بشيء في ذلك، ولأنه علم تفصيلي لا إجمالي، وعمومي لا خصوصي.
فلأجل هذا الأخير أجابوا ب {نحن أعلم بمن فيها}.
ولم يقولوا: نحن أعلم بلوط، وكونهم أعلم من إبراهيم في هذا الشأن لا يقتضي أنهم أعلم من إبراهيم في غيره فإن لإبراهيم علم النبوءة والشريعة وسياسة الأمة، والملائكة يسبحون الليل والنهار لا يفترون ولا يشتغلون بغير ذلك إلا متى سخرهم الله لعمل.
وبالأولى لا يقتضي كونهم أعلم بهذا منه أن يكونوا أفضل من إبراهيم، فإن قول أهل الحق إن الرسل أفضل من الملائكة، والمزية لا تقتضي الأفضلية، ولكل فريق علم أطلعه الله عليه وخصه به كما خص الخضر بما لم يعلمه موسى، وخص موسى بما لا يعلمه الخضر، ولذلك عتب الله على موسى لما سئل: هل يوجد أعلم منك؟ فقال: لا، لأنه كان حق الجواب أن يفكر في أنواع العلم.
وجملة {لَننْجيَنه وأهله إلا امرأته} بيان لجملة {نحن أعلم بمن فيها} فلذلك لم تعطف عليها وفصلت، فقد علموا بإذن الله أن لا ينجو إلا لوط وأهله، أي بنتاه لا غير ويهلك الباقون حتى امرأة لوط.
وفعل {كانت} مستعمل في معنى تكون، فعبر بصيغة الماضي تشبيها للفعل المحقق وقوعه بالفعل الذي مضى مثل قوله: {أتى أمر الله} [النحل: 1] ، ويجوز أن يكون مرادا به الكون في علم الله وتقديره، كما في آية النمل {قدرناها من الغابرين} فتكون صيغة الماضي حقيقة.
وتقدم الكلام على نظير قوله: {إلا امرأته كانت من الغابرين} في سورة النمل. اهـ.

.قال الشعراوي:

{وَلوطا إذْ قَالَ لقَوْمه إنكمْ لَتَأْتونَ الْفَاحشَةَ مَا سَبَقَكمْ بهَا منْ أَحَدٍ منَ الْعَالَمينَ (28)}.
هنا ينتقل السياق من قصة إبراهيم لقصة ابن أخيه لوط، ونلحظ أن القرآن في الكلام عن نوح وإبراهيم ولوط بدأ الحديث بذكره أولا، وعادة القرآن حينما يتكلم عن الرسل يذكر القوم أولا، كما قال تعالى: {وإلى عَادٍ أَخَاهمْ هودا} [الأعراف: 65] ، {وإلى ثَمودَ أَخَاهمْ صَالحا} [الأعراف: 73] ، {وإلى مَدْيَنَ أَخَاهمْ شعَيْبا} [الأعراف: 85].
قالوا: لأن قوم نوح، وقوم إبراهيم، وقوم لوط لم يكنْ لهم اسم معروف، فذكر أنبياءهم أولا، أما عاد وثمود ومدين فأسماء لأناس معروفين، ولهم قرى معروفة، فالأصل أن القوم هم المقصودون بالرسالة والهداية؛ لذلك يذكَرون أولا فهم الأصل في الرسالة، أما الرسول فليستْ الرسالة وظيفة يجعلها الله لواحد من الناس.
{وَلوطا إذْ قَالَ لقَوْمه إنكمْ لَتَأْتونَ الفاحشة مَا سَبَقَكمْ بهَا منْ أَحَدٍ منَ العالمين} [العنكبوت: 28] وسمى خسيسة قومه فاحشة؛ لذلك قال العلماء في عقوبتها: يصير عليها ما يصير على الفاحشة من الجزاء؛ لأن الحق سبحانه سمى الزنا فاحشة فقال: {إنه كَانَ فَاحشَة} [النساء: 22] والزنا شرع له الرجم، وكذلك يكون جزاء مَنْ يفعل فعلْة قوم لوط الرجم.
وقوله: {مَا سَبَقَكمْ بهَا منْ أَحَدٍ منَ العالمين} [العنكبوت: 28] لا يعني هذا أن أحدا لم يفعلها قبلهم، لكنها إنْ فعلت فهي فردية، ليست وباء منتشرا كما في هؤلاء.
قوله: {أَئنكمْ لَتَأْتونَ الرجال} [العنكبوت: 29] دلالة على انحراف الغريزة الجنسية عندهم، والغريزة الجنسية جعلها الله في الإنسان لبقاء النوع، فالحكمة منها التناسل، والتناسل لا يكون إلا بين ذكر وأنثى، حيث تستقبل الأنثى الحيوان المنوي الذكَري الذي تحتضنه البويضة الأنثوية، وتعلق في جدار الرحم وتكون الجنين؛ لذلك سمي الله تعالى المرأة حَرْثا؛ لأنها مكان الاستنبات، وشَرْط في إتيان المرأة أن يكون في مكان الاستنبات.
لذلك، فالجماعة الذين كانوا ينادون بتشريع للمرأة يسمح للرجل بأن يأتيها كيفما يشاء، احتجوا بقوله تعالى: {نسَآؤكمْ حَرْث لكمْ فَأْتوا حَرْثَكمْ أنى شئْتمْ} [البقرة: 223].
ونقول لهؤلاء: لقد أخطأتم في فَهْم الآية، فالحَرْث هو الزرع المستنبت من الأرض، فمعنى {أنى شئْتمْ} [البقرة: 223] أي: أنهم حرث، إذن: فاحتجاجهم باطل، وبطلانه يأتي من عدم فهمهم لمعنى الحرث، وعليه يكون المعنى ائتوهن على أي وجه من الوجوه شريطة أن يكون في مكان الحَرْث.
ولحكمة ربط الحق سبحانه بقاء النوع بالغريزة الجنسية، وجعل لها لذة ومتَعة تفوق أي لذة أخرى في الحياة، فمثلا أنت ترى المنظر الجميل فتسَر به عينك، وتسمع الصوت العَذْب فتسعد به أذنك. إلخ فكل منافذ الإدراك لديك لها أشياء تمتعها.
لكن بأي هذه الحواس تدْرَك اللذة الجنسية؟ وأي ملكة فيك تسَر منها؟ كل الحواس وكل الملكات تستمتع بها؛ لذلك لا يستطيع الإنسان مقاومتها، حتى قالوا: إنها اللحظة الوحيدة التي يمكن للإنسان فيها أنْ يغفل عن ربه؛ لذلك أمرنا بعدها بالاغتسال.