فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{وَإلَى مَدْيَنَ أَخَاهمْ شعَيْبا فَقَالَ يَا قَوْم اعْبدوا اللهَ وَارْجوا الْيَوْمَ الْآخرَ}.
عطف على {ولوطا} [العنكبوت: 28] المعطوف على {نوحا} [العنكبوت: 14] المعمول ل {أرسلنا} [العنكبوت: 14].
فالتقدير: وأرسلنا إلى مدين أخاهم شعيبا.
والمناسبة في الانتقال من قصة لوط وقومه إلى قصة مدين ورسولهم أن مدين كان من أبناء إبراهيم وأن الله أنجاه من العذاب كما أنجى لوطا.
وتقديم المجرور في قوله: {إلى مدين} ليتأتى الإيجاز في وصف شعيب بأنه أخوهم لأن هذا الوصف غير موجود في نوح وإبراهيم ولوط.
وتقدم معنى كونه أخا لهم في سورة هود.
وقوله: {فقال} عطف على الفعل المقدر، أي أرسلناه فعقب إرساله بأن قال.
والرجاء: الترقب واعتقاد الوقوع في المستقبل.
وأمره إياهم بترقب اليوم الآخر دل على أنهم كانوا لا يؤمنون بالبعث وتقدم الكلام على نظير قوله: {ولا تعثوا في الأرض مفسدين} عند قوله تعالى: {كلوا واشربوا من رزق الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين} في سورة البقرة.
وتقدمت قصة شعيب في سورة هود.
{فَكَذبوه فَأَخَذَتْهم الرجْفَة فَأَصْبَحوا في دَارهمْ جَاثمينَ (37)}.
الأخذ: الإعدام والإهلاك؛ شبه الإعدام بالأخذ بجامع الإزالة.
و{الرجفة} الزلزال الشديد الذي ترتجف منه الأرض، وفي سورة هود سميت بالصيحة لأن لتلك الرجفة صوتا شديدا كالصيحة.
وتقدم تفسير ذلك.
وقد أشير في قصة إبراهيم ولوط إلى ما له تعلق بالغرض المسوق فيه، وهو المصابرة على إبلاغ الرسالة، والصبر على أذى الكافرين، ونصر الله إياهما، وتعذيب الكافرين وإنجاء المؤمنين.
{وَعَادا وَثَمودَ وَقَدْ تَبَينَ لَكمْ منْ مَسَاكنهمْ}.
لما جرى ذكر أهل مدين وقوم لوط أكملت القصص بالإشارة إلى عاد وثمود إذ قد عرف في القرآن اقتران هذه الأمم في نسق القصص.
والواو عاطفة قصة على قصة.
وانتصاب {عادا} يجوز أن يكون بفعل مقدر يدل عليه السياق، تقديره: وأهلكنا عادا، لأن قوله تعالى آنفا {فأخذتهم الرجفة} [العنكبوت: 37] يدل على معنى الإهلاك، قاله الزجاج وتبعه الزمخشري.
ومعلوم أنه إهلاك خاص من بطش الله تعالى، فظهر تقدير: وأهلكنا عادا.
ويجوز أن يقدر فعل {واذكر} كما هو ظاهر ومقدر في كثير من قصص القرآن.
ويجوز أن يكون معطوفا على ضمير {فأخذتهم الرجفة} [العنكبوت: 37] والتقدير: وأخذت عادا وثمودا.
وعن الكسائي أنه منصوب بالعطف على {الذين من قبلهم} من قوله تعالى: {ولقد فتنا الذين من قبلهم} [العنكبوت: 3].
وهذا بعيد لطول بعد المعطوف عليه.
والأظهر أن نجعله منصوبا بفعل تقديره {وأخذنا} يفسره قوله: {فكلا أخذنا بذنبه} [العنكبوت: 40] لأن {كلا} اسم يعم المذكورين فلما جاء منتصبا ب {أخذنا} تعين أن ما قبله منصوب بمثله وتنوين العوض الذي لحق {كلا} هو الرابط وأصل نسج الكلام: وعادا وثمودا وقارون وفرعون. إلخ.
كلهم أخذنا بذنبه.
وجملة {وقد تبين لكم من مساكنهم} في موضع الحال أو هي معترضة.
والمعنى: تبين لكم من مشاهدة مساكنهم أنهم كانوا فيها فأهلكوا عن بكرة أبيهم.
ومساكن عاد وثمود معروفة عند العرب ومنقولة بينهم أخبارها وأحوالها ويمرون علهيا في أسفارهم إلى اليمن وإلى الشام.
والضمير المستتر في {تبين} عائد إلى المصدر المأخوذ من الفعل المقدر، أي يتبين لكم إهلاكهم أو أخذنا إياهم.
وجملة {وزين لهم الشيطان أعمالهم} معطوفة على جملة {وعادا وثمودا}.
والتزيين: التحسين.
والمراد: زين لهم أعمالهم الشنيعة فأوهمهم بوسوسته أنها حسنة.
وقد تقدم عند قوله تعالى: {كذلك زينا لكل أمة عملهم} في سورة الأنعام (108).
والصد: المنع عن عمل.
و{السبيل} هنا: ما يوصل إلى المطلوب الحق وهو السعادة الدائمة، فإن الشيطان بتسويله لهم كفرهم قد حرمهم من السعادة الأخروية فكأنه منعهم من سلوك طريق يبلغهم إلى المقر النافع.
والاستبصار: البصارة بالأمور، والسين والتاء للتأكيد مثل: استجاب واستمسك واستبكر.
والمعنى: أنهم كانوا أهل بصائر، أي عقول فلا عذر لهم في صدهم عن السبيل.
وفي هذه الجملة اقتضاء أن ضلال عاد كان ضلالا ناشئا عن فساد اعتقادهم وكفرهم المتأصل فيهم والموروث عن آبائهم وأنهم لم ينجوا من عذاب الله لأنهم كانوا يستطيعون النظر في دلائل الوحدانية وصدق رسلهم.
{وَقَارونَ وَفرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهمْ موسَى بالْبَينَات فَاسْتَكْبَروا في الْأَرْض وَمَا كَانوا سَابقينَ (39)}.
كما ضرب الله المثل لقريش بالأمم التي كذبت رسلها فانتقم الله منها، كذلك ضرب المثل لصناديد قريش مثل أبي جهل، وأمية بن خلف، والوليد بن المغيرة، وأبي لهب، بصناديد بعض الأمم السالفة كانوا سبب مصاب أنفسهم ومصاب قومهم الذين اتبعوهم، إنذارا لقريش بما عسى أن يصيبهم من جراء تغرير قادتهم بهم وإلقائهم في خطر سوء العاقبة.
وهؤلاء الثلاثة جاءهم موسى بالبينات.
وتقدمت قصصهم وقصة قارون في سورة القصص.
فأما ما جاء به موسى من البينات لفرعون وهامان فهي المعجزات التي تحداهم بها على صدقه فأعرض فرعون عنها واتبعه هامان وقومه.
وأما ما جاء به موسى لقارون فنهيه عن البطر.
وأومأ قوله تعالى: {فاستكبروا في الأرض} إلى أنهم كفروا عن عناد وكبرياء لا عن جهل وغلواء كما قال تعالى: {وأضله الله على علم} [الجاثية: 23] فكان حالهم كحال صناديد قريش الذين لا يظن أن فطنتهم لم تبلغ بهم إلى تحقق أن ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم صدق وأن ما جاء به القرآن حق ولكن غلبت الأنفة.
وموقع جملة {ولقد جاءهم موسى} كموقع جملة {وقد تبين لكم من مساكنهم} [العنكبوت: 38].
والاستكبار: شدة الكبر، فالسين والتاء للتأكيد كقوله: {وكانوا مستبصرين} [العنكبوت: 38].
وتعليق قوله: {في الأرض} ب {استكبروا} للإشعار بأن استكبار كل منهم كان في جميع البلاد التي هو منها، فيومىء ذلك أن كل واحد من هؤلاء كان سيدا مطاعا في الأرض.
فالتعريف في {الأرض} للعهد، فيصح أن يكون المعهود هو أرض كل منهم، أو أن يكون المعهود الكرة الأرضية مبالغة في انتشار استكبار كل منهم في البلاد حتى كأنه يعم الدنيا كلها.
ومعنى السبق في قوله: {وما كانوا سابقين} الانفلات من تصريف الحكم فيهم.
وقد تقدم في قوله تعالى: {ولا تحسبن الذين كفروا سبقوا} في سورة [الأنفال: 59] ، فالواو للحال، أي استكبروا في حال أنهم لم يفدهم استكبارهم.
وإقحام فعل الكون بعد النفي لأن المنفي هو ما حسبوه نتيجة استكبارهم، أي أنهم لا ينالهم أحد لعظمتهم.
ومثل هذا الحال مثل أبي جهل حين قتله ابنا عفراء يوم بدر فقال له عبد الله بن مسعود حين وجده محتضرا: أنت أبو جهل؟ فقال: وهل أعْمَد من رجل قتلتموه لو غير أكارٍ قتلني أي زراع يعني رجلا من الأنصار لأن الأنصار أهل حرث وزرع.
{فَكلا أَخَذْنَا بذَنْبه} أفادت الفاء التفريع على الكلام السابق لما اشتمل عليه من أن الشيطان زين لهم أعمالهم ومن استكبار الآخرين، أي فكان من عاقبة ذلك أن أخذهم الله بذنوبهم العظيمة الناشئة عن تزيين الشيطان لهم أعمالهم وعن استكبارهم في الأرض، وليس المفرع هو أخذ الله إياهم بذنوبهم لأن ذلك قد أشعر به ما قبل التفريع، ولكنه ذكر ليفضى بذكره إلى تفصيل أنواع أخذهم وهو قوله: {فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا} إلى آخره، فالفاء في قوله: {فمنهم من أرسلنا عليه} الخ لتفريع ذلك التفصيل على الإجمال الذي تقدمه فتحصل خصوصية الإجمال ثم التفصيل، وللدلالة على عظيم تصرف الله.
فأما الذين أرسل عليهم حاصب فهم عاد.
والحاصب: الريح الشديدة، سميت حاصبا لأنها تقلع الحصباء من الأرض.
قال أبو وجرة السعدي:
صببت عليكم حاصبي فتركتكم ** كأصرام عادٍ حين جللها الرمْد

فجعل الحاصب مما أصاب عادا.
وليس المراد بهم قوم لوط كالذي في قوله تعالى: {إنا أرسلنا عليهم حاصبا إلا ءال لوط} [القمر: 34] لأن قوم لوط مر آنفا الكلام على عذابهم مفصلا فلا يدخلون في هذا الإجمال.
والذين أخذتهم الصيحة هم ثمود.
والذين خسفت بهم الأرض هو قارون وأهله.
وقد تقدم ذكر الخسف في سورة القصص [81، 82] والذين أغرقهم: فرعون وهامان ومن معهما من قومهما.
وقد جاء هذا على طريقة النشر على ترتيب اللف.
والأخذ: الإتلاف والإهلاك؛ شبه الإعدام بالأخذ بجامع إزالة الشيء من مكانه فاستعير له فعل {أخذنا}.
وقد نفي عن الله تعالى ظلم هؤلاء لأن إيلامهم كان جزاء على أعمالهم وكل ما كان من نوع الجزاء يوصف بالعدل وقد نفى الله عن نفسه الوصف بالظلم فوجب الإيمان به سمعا لا عقلا في مقام الجزاء، وأما في مقام التكوين فلا.
وظلمهم أنفسهم هو تسببهم في عذاب أنفسهم فجروا إليها العقاب لأن النفس أولى الأشياء برأفة صاحبها بها وتفكيره في أسباب خيرها.
والاستدراك ناشىء عن نفي الظلم عن الله في عقابهم لأنه يتوهم منه انتفاء موجب العقاب فالاستدراك لرفع هذا التوهم. اهـ.

.قال الشنقيطي:

قوله تعالى: {وَعَادا وَثَمودَ وَقَد تبَينَ لَكم من مسَاكنهمْ وَزَينَ لَهم الشيطان أَعْمَالَهمْ فَصَدهمْ عَن السبيل وَكَانوا مسْتَبْصرينَ}.
الظاهر أن قوله: {وعادا} مفعول به لأهلكنا مقدرة، ويدل على ذلك قوله قبل: {فَأَخَذَتْهم الرجفة} [العنكبوت: 37] أي أهلكنا مدين بالرجفة، وأهلكنا عادا ويدل للإهلاك المذكور قوله بعده {وَقَد تبَينَ لَكم من مسَاكنهمْ} أي هي خالية منهم لإهلاكهم. وقوله بعده أيضا: {فَكلا أَخَذْنَا بذَنبه}.
وقد أشار جل وعلا في هذه الآيات الكريمة إلى إهلاك عاد، وثمود، وقارون، وفرعون، وهامان، ثم صرح بأنه أخذ كلا منهم بذنبه، ثم فصل على سبيل ما يسمى في البديع باللف والنشر المرتب، أسباب إهلاكهم فقال: {فَمنْهم من أَرْسَلْنَا عَلَيْه حَاصبا} وهي الريح يعني: عادا، بدليل قوله: {وَأَمَا عَاد فَأهْلكوا بريحٍ صَرْصَرٍ عَاتيَةٍ} [الحاقة: 6] وقوله: {وَفي عَادٍ إذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهم الريح العقيم} [الذاريات: 41] ونحو ذلك من الآيات. وقوله تعالى: {وَمنْهمْ منْ أَخَذَتْه الصيحة} يعني ثمود بدليل قوله تعالى فيهم: {وَأَخَذَ الذين ظَلَموا الصيحة فَأَصْبَحوا في ديَارهمْ جَاثمينَ كَأَن لمْ يَغْنَوْا فيهَآ أَلاَ إن ثَمودَ كَفروا رَبهمْ أَلاَ بعْدا لثَمودَ} [هود: 67- 68] وقوله: {وَمنْهمْ منْ خَسَفْنَا به الأرض} يعني قارون بدليل قوله تعالى فيه: {فَخَسَفْنَا به وَبدَاره الأرض فَمَا كَانَ لَه من فئَةٍ يَنصرونَه من دون الله وَمَا كَانَ منَ المنتصرين} [القصص: 81] الآية. وقوله تعالى: {وَمنْهمْ منْ أَغْرَقْنَا} يعني فرعون وهامان بدليل قوله تعالى: {ثم أَغْرَقْنَا الآخرين} [الشعراء: 66] [الصافات: 82] ونحو ذلك من الآيات.
والأظهر في قوله هذه الآية: وكانوا مستبصرين، أن استبصارهم المذكور هنا بالنسبة إلى الحياة الدنيا خاصة، كما دل عليه قوله تعالى: {يَعْلَمونَ ظَاهرا منَ الحياة الدنيا وَهمْ عَن الآخرة همْ غَافلونَ} [الروم: 7]. وقوله تعالى: {وَقَالوا لَوْ كنا نَسْمَع أَوْ نَعْقل مَا كنا في أَصْحَاب السعير} [الملك: 10] ونحو ذلك من الآيات. وقوله: {وَمَا كَانوا سَابقين} كقوله تعالى: {أَمْ حَسبَ الذين يَعْمَلونَ السيئات أَن يَسْبقونَا سَاءَ مَا يَحْكمونَ} [العنكبوت: 4]. اهـ.

.قال الشعراوي:

{وَإلَى مَدْيَنَ أَخَاهمْ شعَيْبا}.
مدين: اسم من أسماء أولاد إبراهيم عليه السلام، وسميت باسمه القبيلة؛ لأنهم كانوا عادة ما يسمون القوم باسم أبرز أشخاصها، فانتقل الاسم من الشخص إلى القبيلة، ثم إلى المكان، بدليل قوله تعالى في موضع آخر: {وَلَما وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ} [القصص: 23] فصارت مدين عَلَما على البقعة، وقالوا: إنها من الطور إلى الفرات.