فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

قوله تعالى: {مَثَل الذين اتخذوا من دون الله أَوْليَاءَ كَمَثَل العنكبوت}.
قال الأخفش: {كَمَثَل الْعَنْكَبوت} وقف تام، ثم قص قصتها فقال: {اتخذت بَيْتًا} قال ابن الأنباري: وهذا غلط؛ لأن {اتخَذَتْ بَيْتًا} صلة للعنكبوت، كأنه قال: كمثل التي اتخذت بيتًا فلا يحسن الوقف على الصلة دون الموصول، وهو بمنزلة قوله: {كَمَثَل الحمار يَحْمل أَسْفَارًا} [الجمعة: 5] فيحمل صلة للحمار ولا يحسن الوقف على الحمار دون يحمل.
قال الفراء: هو مثل ضربه الله سبحانه لمن اتخذ من دونه آلهة لا تنفعه ولا تضره؛ كما أن بيت العنكبوت لا يقيها حرًا ولا بردًا.
ولا يحسن الوقف على العنكبوت؛ لأنه لما قصد بالتشبيه لبيتها الذي لا يقيها من شيء، فشبهت الآلهة التي لا تنفع ولا تضر به.
{وَإن أَوْهَنَ البيوت} أي أضعف البيوت {لَبَيْت العنكبوت}.
قال الضحاك: ضرب مثلًا لضعف آلهتهم ووهنها فشبهها ببيت العنكبوت.
{لَوْ كَانوا يَعْلَمونَ} {لَوْ} متعلقة ببيت العنكبوت.
أي لو علموا أن عبادة الأوثان كاتخاذ بيت العنكبوت التي لا تغني عنهم شيئًا، وأن هذا مثلهم لَمَا عبدوها؛ لا أنهم يعلمون أن بيت العنكبوت ضعيف.
وقال النحاة: إن تاء العنكبوت في آخرها مزيدة؛ لأنها تسقط في التصغير والجمع وهي مؤنثة.
وحكى الفراء تذكيرها وأنشد:
على هَطالهمْ منهمْ بيوت ** كأن العنكبوتَ قد ابتناهَا

ويروى:
على أهطالهم منهمْ بيوت

قال الجوهري والهطال: اسم جبل.
والعنكبوت الدويبة المعروفة التي تنسج نسجًا رقيقًا مهلهلًا بين الهواء.
ويجمع عناكيب وعَنَاكب وعكَاب وعكب وأَعْكب.
وقد حكي أنه يقال عَنْكَب وعَكَنْبَاة قال الشاعر:
كأنما يَسقط من لغَامها ** بيت عَكَنْبَاةٍ على زمَامهَا

وتصغر فيقال عنَيْكب.
وقد حكي عن يزيد بن مَيْسرة أن العنكبوت شيطان مسخها الله تعالى.
وقال عطاء الخراساني: نسجت العنكبوت مرتين مرة على داود حين كان جالوت يطلبه، ومرة على النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك نهي عن قتلها.
ويروى عن علي رضي الله عنه أنه قال: طهروا بيوتكم من نسج العنكبوت فإن تركه في البيوت يورث الفقر، ومنع الخمير يورث الفقر.
قوله تعالى: {إن الله يَعْلَم مَا يَدْعونَ من دونه من شَيْءٍ} {ما} بمعنى الذي، و{منْ} للتبعيض، ولو كانت زائدة للتوكيد لانقلب المعنى؛ والمعنى: إن الله يعلم ضعف ما يعبدون من دونه.
وقرأ عاصم وأبو عمرو ويعقوب: {يَدْعونَ} بالياء وهو اختيار أبي عبيد؛ لذكر الأمم قبلها.
الباقون بالتاء على الخطاب.
قوله تعالى: {وَتلْكَ الأمثال نَضْربهَا} أي هذا المثل وغيره مما ذكر في البقرة والحج وغيرهما {نَضْربهَا} نبينها {للناس وَمَا يَعْقلهَآ} أي يفهمها {إلا العالمون} أي العالمون بالله؛ كما روى جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «العالم من عقل عن الله فعمل بطاعته واجتنب سخطه».
قوله تعالى: {خَلَقَ الله السماوات والأرض بالحق} أي بالعدل والقسط وقيل: بكلامه وقدرته وذلك هو الحق.
{إن في ذلك لآيَةً} أي علامة ودلالة {للْمؤْمنينَ} المصدقين.
{اتْل مَا أوحيَ إلَيْكَ منَ الْكتَاب وَأَقم الصلَاةَ إن الصلَاةَ تَنْهَى عَن الْفَحْشَاء وَالْمنْكَر وَلَذكْر الله أَكْبَر وَالله يَعْلَم مَا تَصْنَعونَ (45)} فيه أربع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {اتل} أمر من التلاوة والدءوب عليها.
وقد مضى في طه الوعيد فيمن أعرض عنها، وفي مقدمة الكتاب الأمر بالحض عليها.
والكتاب يراد به القرآن.
الثانية: قوله تعالى: {وَأَقم الصلاة} الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وأمته وإقامة الصلاة أداؤها في أوقاتها بقراءتها وركوعها وسجودها وقعودها وتشهدها وجميع شروطها.
وقد تقدم بيان ذلك في البقرة فلا معنى للإعادة.
الثالثة: قوله تعالى: {إن الصلاة تنهى عَن الفحشاء والمنكر} يريد إن الصلاة الخمس هي التي تكفر ما بينها من الذنوب؛ كما قال عليه السلام: «أرأيتم لو أن نهرًا بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمس مرات هل يبقى من دَرَنه شيء قالوا: لا يبقى من دَرَنه شيء؛ قال: فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا» خرجه الترمذي من حديث أبي هريرة، وقال فيه حديث حسن صحيح.
وقال ابن عمر: الصلاة هنا القرآن.
والمعنى: الذي يتلى في الصلاة ينهى عن الفحشاء والمنكر، وعن الزنى والمعاصي.
قلت: ومنه الحديث الصحيح: «قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين» يريد قراءة الفاتحة.
وقال حماد بن أبي سليمان وابن جريج والكلبي: العبد ما دام في صلاته لا يأتي فحشاء ولا منكرًا؛ أي إن الصلاة تنهى ما دمت فيها.
قال ابن عطية: وهذه عجمة وأين هذا مما رواه أنس بن مالك قال: كان فتى من الأنصار يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم ولا يدع شيئًا من الفواحش والسرقة إلا ركبه، فذكر للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: «إن الصلاة ستنهاه» فلم يلبث أن تاب وصلحت حاله.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألم أقل لكم» وفي الآية تأويل ثالث، وهو الذي ارتضاه المحققون وقال به المشيخة الصوفية وذكره المفسرون؛ فقيل المراد ب {أَقم الصلاَةَ} إدامتها والقيام بحدودها، ثم أخبر حكمًا منه بأن الصلاة تنهى صاحبها وممتثلها عن الفحشاء والمنكر؛ وذلك لما فيها من تلاوة القرآن المشتمل على الموعظة.
والصلاة تشغل كل بدن المصلي، فإذا دخل المصلي في محرابه وخشع وأخبت لربه وادكر أنه واقف بين يديه، وأنه مطلع عليه ويراه، صلحت لذلك نفسه وتذللت، وخامرها ارتقاب الله تعالى، وظهرت على جوارحه هيبتها، ولم يكد يفتر من ذلك حتى تظله صلاة أخرى يرجع بها إلى أفضل حالة.
فهذا معنى هذه الأخبار، لأن صلاة المؤمن هكذا ينبغي أن تكون.
قلت: لاسيما وإن أشعر نفسه أن هذا ربما يكون آخر عمله، وهذا أبلغ في المقصود وأتم في المراد؛ فإن الموت ليس له سن محدود، ولا زمن مخصوص، ولا مرض معلوم، وهذا مما لا خلاف فيه.
وروي عن بعض السلف أنه كان إذا قام إلى الصلاة ارتعد واصفر لونه، فكلم في ذلك فقال: إني واقف بين يدي الله تعالى، وحق لي هذا مع ملوك الدنيا فكيف مع ملك الملوك.
فهذه صلاة تنهى ولابد عن الفحشاء والمنكر، ومن كانت صلاته دائرة حول الإجزاء، لا خشوع فيها ولا تذكر ولا فضائل، كصلاتنا وليتها تجزي فتلك تترك صاحبها من منزلته حيث كان، فإن كان على طريقة معاص تبعده من الله تعالى تركته الصلاة يتمادى على بعده.
وعلى هذا يخرج الحديث المروي عن ابن مسعود وابن عباس والحسن والأعمش قولهم: «من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم تزده من الله إلا بعدًا» وقد روي أن الحسن أرسله عن النبي صلى الله عليه وسلم وذلك غير صحيح السند.
قال ابن عطية: سمعت أبي رضي الله عنه يقول: فإذا قررنا ونظر معناه فغير جائز أن يقول إن نفس صلاة العاصي تبعده من الله حتى كأنها معصية، وإنما يتخرج ذلك على أنها لا تؤثر في تقريبه من الله، بل تتركه على حاله ومعاصيه، من الفحشاء والمنكر والبعد، فلم تزده الصلاة إلا تقرير ذلك البعد الذي كان سبيله؛ فكأنها بعدته حين لم تكف بعدَه عن الله.
وقيل لابن مسعود: إن فلانًا كثير الصلاة.
فقال: إنها لا تنفع إلا من أطاعها.
قلت: وعلى الجملة فالمعنى المقصود بالحديث: لم تزده من الله إلا بعدًا ولم يزدد بها من الله إلا مقتًا إشارة إلى أن مرتكب الفحشاء والمنكر لا قدر لصلاته؛ لغلبة المعاصي على صاحبها.
وقيل: هو خبر بمعنى الأمر.
أي لينته المصلي عن الفحشاء والمنكر.
والصلاة بنفسها لا تنهى، ولكنها سبب الانتهاء.
وهو كقوله تعالى: {هذا كتَابنَا يَنطق عَلَيْكم بالحق} [الجاثية: 29] وقوله: {أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهمْ سلْطَانًا فَهوَ يَتَكَلم بمَا كَانوا به يشْركونَ} [الروم: 35].
الرابعة: قوله تعالى: {وَلَذكْر الله أَكْبَر} أي ذكر الله لكم بالثواب والثناء عليكم أكبر من ذكركم له في عبادتكم وصلواتكم.
قال معناه ابن مسعود وابن عباس وأبو الدرداء وأبو قرة وسلمان والحسن؛ وهو اختيار الطبري.
وروي مرفوعًا من حديث موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في قول الله عز وجل: {وَلَذكْر الله أَكْبَر} قال: «ذكر الله إياكم أكبر من ذكركم إياه» وقيل: ذكركم اللهَ في صلاتكم وفي قراءة القرآن أفضل من كل شيء وقيل: المعنى؛ إن ذكر الله أكبر مع المداومة من الصلاة في النهي عن الفحشاء والمنكر.
وقال الضحاك: ولذكر الله عندما يحرم فيترك أجل الذكر.
وقيل: المعنى ولذكر الله للنهي عن الفحشاء والمنكر أكبر أي كبير، وأكبر يكون بمعنى كبير.
وقال ابن زيد وقتادة: ولذكر الله أكبر من كل شيء أي أفضل من العبادات كلها بغير ذكر.
وقيل: ذكر الله يمنع من المعصية فإن مَن كان ذاكرًا له لا يخالفه.
قال ابن عطية: وعندي أن المعنى ولذكر الله أكبر على الإطلاق، أي هو الذي ينهى عن الفحشاء والمنكر، فالجزء الذي منه في الصلاة يفعل ذلك، وكذلك يفعل في غير الصلاة؛ لأن الانتهاء لا يكون إلا من ذاكر الله مراقبٍ له.
وثواب ذلك أن يذكره الله تعالى؛ كما في الحديث: «من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ومن ذكرني في ملإ ذكرته في ملإ خير منهم» والحركات التي في الصلاة لا تأثير لها في نهيٍ، والذكر النافع هو مع العلم وإقبال القلب وتفرغه إلا من الله.
وأما ما لا يتجاوز اللسان ففي رتبة أخرى.
وذكر الله تعالى للعبد هو إفاضة الهدى ونور العلم عليه، وذلك ثمرة لذكر العبد ربه.
قال الله عز وجل: {فاذكروني أَذْكرْكمْ} [البقرة: 152].
وباقي الآية ضرب من الوعيد والحث على المراقبة. اهـ.

.قال أبو حيان:

{مَثَل الذين اتخذوا من دون الله أَوْليَاء}.
{العنكبوت} حيوان معروف، ووزنه فعللوت، ويؤنث ويذكر، فمن تذكيره قول الشاعر:
على هطالهم منهم بيوت ** كأن العنكبوت هو ابتناها

ويجمع عناكب، ويصغر عنيكيب.
يشبه تعالى الكفار في عبادتهم الأصنام، وبنائهم أمورهم عليها بالعنكبوت التي تبني وتجتهد، وأمرها كله ضعيف، متى مسته أدنى هامة أو هامة أذهبته، فكذلك أمر أولئك، وسعيهم مضمحل، لا قوة له ولا معتمد.
وقال الزمخشري: الغرض تشبيه ما اتخذوه متكلًا ومعتمدًا في دينهم، وتولوه من دون الله، مما هو مثل عند الناس في الوهن وضعف القوة، وهو نسج العنكبوت.
ألا ترى إلى مقطع التشبيه، وهو قوله: {وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت}؟ انتهى.
يعني بقوله: ألا ترى إلى مقطع التشبيه بما ذكر أولًا من أن الغرض تشبيه المتخذ بالبيت، لا تشبيه المتخذ بالعنكبوت؟ والذي يظهر، هو تشبيه المتخذ من دون الله وليًا، بالعنكبوت المتخذة بيتًا، أي فلا اعتماد للمتخذ على وليه من دون الله، كما أن العنكبوت لا اعتماد لها على بيتها في استظلال وسكنى، بل لو دخلت فيه خرقته.
ثم بين حال بيتها، وأنه في غاية الوهن، بحيث لا ينتفع به.
كما أن تلك الأصنام لا تنفع ولا تجدي شيئًا ألبتة، وقوله: {لو كانوا يعلمون} ليس مرتبطًا بقوله: {وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت} لأن كل أحد يعلم ذلك، فلا يقال فيه: لو كانوا يعلمون؛ وإنما المعنى: لو كانوا يعلمون أن هذا مثلهم، وأن أمر دينهم بالغ من الوهن هذه الغاية لأقلعوا عنه، وما اتخذوا الأصنام آلهة.