فصل: قال الخازن:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الخازن:

قوله: {ولوطًا إذ قال لقومه إنكم لتأتون الفاحشة} أي الفعلة القبيحة {ما سبقكم بها من أحد من العالمين} أي لم يفعلها أحد من قبلكم ثم فسر الفاحشة فقال: {أئنكم لتأتون الرجال} يعني أنكم تقضون الشهوة من الرجال {وتقطعون السبيل} وذلك أنهم كانوا يأتون الفاحشة بمن مر بهم من المسافرين فترك الناس الممر بهم لأجل ذلك وقيل معناه تقطعون سبيل النسل بإيثار الرجال على النساء {وتأتون في ناديكم المنكر} أي مجالسكم والنادي مجلس القوم ومتحدثهم عن أم هانئ بنت أبي طالب عن النبي صلى الله عليه سلم في قوله وتأتون في ناديكم المنكر قال «كانوا يحذفون أهل الأرض ويسخرون منهم» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب الحذف هو رمي الحصى بين الأصابع قيل إنهم كانوا يجلسون في مجالسهم وعند كل رجل منهم قصعة فيها حصى فإذا مر بهم عابر سبيل حذفوه فأيهم أصابه قال: أنا أولى به وقيل: إنه كان يأخذ ما معه وينكحه ويغرمه ثلاثة دراهم وقيل إنهم كانوا يجامعون بعضهم بعضًا في مجالسهم وقيل إنهم كانوا يتضارطون في مجالسهم وعن عبد الله بن سلام كان يبزق بعضهم على بعض.
وقيل كان أخلاق قوم لوط مضغ العلك وتطريف الأصابع بالحناء وحل الإزار والصفير والحذف والرمي بالجلاهق واللوطية {فما كان جواب قومه} أي لما أنكر عليهم لوط ما يأتونه من القبائح {إلا أن قالوا} أي استهزاء {ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين} أي إن العذاب نازل بنا.
{قال رب انصرني على القوم المفسدين} أي بتحقيق قولي إن العذاب نازل بهم.
قوله: {ولما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى} أي من الله بإسحاق ويعقوب {قالوا إنا مهلكو أهل هذه القرية} أي قوم لوط والقرية سدوم {إن أهلها كانوا ظالمين قال} يعني إبراهيم إشفاقًا على لوط وليعلم حاله {إن فيها لوطًا قالوا} أي قالت الملائكة {نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين} أي من الباقين في العذاب {ولما أن جاءت رسلنا لوطًا سيء بهم} أي ظنهم من الإنس فخاف عليهم ومعناه أنه جاءه ما ساءه {وضاق بهم ذرعًا} أي عجز عن تدبير أمرهم فحزن لذلك {وقالوا لا تخف} أي من قومك {ولا تحزن} علينا {إنا منجوك وأهلك} أي إنا مهلكوهم ومنجوك وأهلك {إلا امرأتك كانت من الغابرين إنا منزلون على أهل هذه القرية رجزًا} أي عذابًا {من السماء} قيل هو الخسف والحصب بالحجارة {بما كانوا يفسقون ولقد تركنا منها} أي من قريات لوط {آية بينة} أي عبرة ظاهرة {لقوم يعقلون} يعني أفلا يتدبرون الآيات تدبر ذوي العقول قال ابن عباس الآية البينة آثار منازلهم الخربة وقيل هي الحجارة التي أهلكوا بها أبقاها الله حتى أدركها أوائل هذه الأمة.
وقيل هي ظهور الماء الأسود على وجه الأرض.
قوله تعالى: {وإلى مدين} أي وأرسلنا إلى مدين؛ ومدين اسم رجل وقيل اسم المدينة؛ فعلى القول الأول يكون المعنى وأرسلنا إلى ذرية مدين وأولاده؛ وعلى القول الثاني وأرسلنا إلى أهل مدين {أخاهم شعيبًا فقال يا قوم اعبدوا الله وارجوا اليوم الآخرة} أي افعلوا فعل من يرجو اليوم الآخر وقيل معناه اخشوا اليوم الآخر وخافوه {ولا تعثوا في الأرض مفسدين فكذبه فأخذتهم الرجفة} أي الزلزلة وذلك أن جبريل صاح فرجفت الأرض رجفة {فأصبحوا في دارهم جاثمين} أي باركين على الركب ميتين {وعادًا وثمود} أي وأهلكنا عادًا وثمود {وقد تبين لكم} يا أهل مكة {من مساكنهم} أي منازلهم بالحجر واليمن {وزين لهم الشيطان أعمالهم} أي عبادتهم لغير الله {فصدهم عن السبيل} أي عن سبيل الحق {وكانوا مستبصرين} أي عقلاء ذوي بصائر.
وقيل كانوا معجبين في دينهم وضلالتهم يحسبون أنهم على هدى وهم على باطل وضلالة والمعنى أنهم كانوا عند أنفسهم مستبصرين {وقارون وفرعون وهامان} أي أهلكنا هؤلاء {ولقد جاءهم موسى بالبينات} أي بالدلالات الواضحات {فاستكبروا في الأرض وما كانوا سابقين} أي فائتين من عذابنا {فكلًا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبًا} وهم قوم لوط رموا بالحصباء وهي الحصى الصغار {ومنهم من أخذته الصيحة} يعني ثمود {ومنهم من خسفنا به الأرض} يعني قارون وأصحابه {ومنهم من أغرقنا} يعني قوم نوح وفرعون وقومه {وما كان الله ليظلمهم} أي بالهلاك {ولكن كانوا أنفسهم يظلمون} أي بالإشراك.
قوله تعالى: {مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء} يعني الأصنام يرجون نصرها ونفعها {كمثل العنكبوت اتخذت بيتًا} لنفسها تأوي إليه وإن بيتها في غاية الضعف والوهن لا يدفع عنها حرًا ولا بردًا فكذلك الأوثان لا تملك لعابدها نفعًا ولا ضرًا.
وقيل معنى هذا المثل أن المشرك الذي يعبد الأصنام بالقياس إلى المؤمن الذي يعبد الله مثل العنكبوت تتخذ بيتًا من نسجها بالإضافة إلى رجل بنى بيتًا بآجر وجص أو نحته من صخر فكما أن أوهن البيوت إذا استقريتها بيتًا بيتًا بيت العنكبوت فكذلك أضعف الأديان إذا استقريتها دينًا دينًا عبادة الأوثان لأنها لا تضر ولا تنفع {وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت} أشار إلى ضعفه فإن الريح إذا هبت عليه أو لمسه لامس فلا يبقى له عين ولا أثر فقد صح أن أوهن البيوت لبيت العنكبوت وقد تبين أن دينهم أوهن الأديان {لو كانوا يعلمون} أي أن هذا مثلهم وأن أمر دينهم بلغ هذه الغاية من الوهن {إن الله يعلم ما يدعون من دونه من شيء} هذا توكيد للمثل وزيادة عليه يعني إن الذي يدعون من دونه ليس بشيء {وهو العزيز الحكيم} معناه كيف يجوز للعاقل أن يترك عبادة الله العزيز الحكيم القادر على كل شيء ويشتغل بعبادة من ليس بشيء أصلًا {وتلك الأمثال} أي الأشباه يعني أمثال القرآن التي شبه بها أحوال الكفار من هذه الأمة بأحوال كفار الأمم السابقة {نضربها} أي نبينها {للناس} أي لكفار مكة {وما يعقلها إلا العالمون} يعني ما يعقل الأمثال إلا العلماء الذين يعقلون عن الله.
روى البغوي بإسناد الثعلبي عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية: {وتلك الأمثال نضربها للناس ومايعقلها إلا العالمون} قال: «العالم من عقل عن الله فعمل بطاعته واجتنب سخطه» {خلق الله السموات والأرض بالحق} أي للحق وإظهار الحق {إن في ذلك لآية} أي دلالة {للمؤمنين} على قدرته وتوحيده.
وقوله تعالى: {اتل ما أوحي إليك من الكتاب} يعني القرآن {وأقم الصلاة} فإن قلت: لم أمر بهذين الشيئين تلاوة الكتاب وإقامة الصلاة فقط؟ قلت لأن العبادة المختصة بالعبد ثلاثة: قلبية وهي الاعتقاد الحق ولسانية وهي الذكر الحسن وبدنية وهي العمل الصالح، لكن الاعتقاد لا يتكرر فإن اعتقد شيئًا لا يمكنه أن يعتقده مرة أخرى بل ذلك يدوم مستمرًا فبقي الذكر العبادة البدنية وهما ممكنا التكرار فلذلك أمر بهما {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء} أي ما قبح من الأعمال {والمنكر} أي ما لا يعرف في الشرع.
قال ابن مسعود وابن عباس في الصلاة منتهى ومزدجر عن معاصي الله، فمن لم تأمره صلاته بالمعروف ولم تنهه عن المنكر لم تزده صلاته من الله إلا بعدًا.
وقال الحسن وقتادة: من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فصلاته وبال عليه وقيل من داوم على الصلاة جره ذلك إلى ترك المعاصي والسيئات كما روي عن أنس قال: كان فتى من الأنصار يصلي الصلوات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم لم يدع من الفواحش شيئًا إلا ركبه فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال «إن صلاته ستنهاه يومًا» فلم يلبث أن تاب وحسن حاله وقيل: معنى الآية أنه ما دام في صلاته فإنها تنهاه عن الفحشاء والمنكر ومنه قوله: «إن في الصلاة لشغلًا» وقيل أراد بالصلاة القرآن وفيه ضعف لتقدم ذكر القرآن على هذا يكون معناه أن القرآن ينهاه عن الفحشاء والمنكر كما روي عن جابر قال: قال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن رجل يقرأ القرآن الليل كله فإذا أصبح سرق قال ستنهاه قراءته» وفي رواية أنه قيل يا رسول الله إن فلانًا يصلي بالنهار ويسرق بالليل فقال «إن صلاته لتردعه» وعلى كل حال فإن المراعي للصلاة لابد وأن يكون أبعد عن الفحشاء والمنكر ممن لا يراعيها {ولذكر الله أكبر} أي أنه أفضل الطاعات.
عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من إعطاء الذهب والورق وخير لكم من أن تلقوا أعداءكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم قالوا بلى يا رسول الله قال بذكر الله» أخرجه الترمذي وله عن أبي سعيد الخدري قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل أي العباد أفضل درجة عند الله يوم القيامة؟ قال: «الذاكرون الله كثيرًا قالوا يا رسول الله والغازي في سبيل الله؟ فقال لو ضرب بسيفه الكفار والمشركين حتى ينكسر ويختصب في سبيل الله دمًا لكان الذاكرون الله كثيرًا أفضل منه درجة» م عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سبق المفردون قالوا وما المفردون يا رسول الله؟ قال: الذاكرون الله كثيرًا والذاكرات» يروي «المفردون» بتشديد الراء وتخفيفها والتشديد أتم يقال فرد الرجل بتشديد الراء إذا تفقه واعتزل الناس وحده مراعيًا للأمر والنهي وقيل هم المتخلفون عن الناس بذكر الله لا يخلطون به غيره، خ عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري أنهما شهدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يقعد قوم يذكرون الله إلا حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة ونزلت عليهم السكينة وذكرهم الله فيمن عنده» وروي أن أعرابيًا قال يا رسول الله أي الأعمال أفضل قال «أن تفارق الدنيا ولسانك رطب بذكر الله» وقال ابن عباس: معنى ولذكر الله أكبر ذكر الله إياكم أفضل من ذكركم إياه ويروى ذلك مرفوعًا عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه سلم وقال ابن عطاء ولذكر الله أكبر أي لن تبقى معه معصية {والله يعلم ما تصنعون} يعني لا يخفى عليه شيء من أمركم. اهـ.

.قال النسفي:

{وَلوطًا} أي واذكر لوطًا {إذْ قَالَ لقَوْمه إنكمْ لَتَأْتونَ الفاحشة} الفعلة البالغة في القبح وهي اللواطة {مَا سَبَقَكمْ بهَا منْ أَحَدٍ من العالمين} جملة مستأنفة مقررة لفحاشة تلك الفعلة كأن قائلًا قال: لم كانت فاحشة؟ فقيل: لأن أحدًا قبلهم لم يقدم عليها، قالوا: لم ينزل ذكر على ذكر قبل قوم لوط.
{أَئنكمْ لَتَأْتونَ الرجال وَتَقْطَعونَ السبيل} بالقتل وأخذ المال كما هو عمل قطاع الطريق، وقيل: اعتراضهم السابلة بالفاحشة {وَتَأْتونَ في نَاديكم} مجلسكم ولا يقال للمجلس نادٍ إلا ما دام فيه أهله {المنكر} أي المضارطة والمجامعة والسباب والفحش في المزاح والحذف بالحصى ومضغ العلك والفرقعة والسواك بين الناس {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمه إلا أَن قَالوا ائتنا بعَذَاب الله إن كنتَ منَ الصادقين} فيما تعدنا من نزول العذاب.
{إنكم} {أئنكم} شامي وحفص وهو الموجود في الإمام، وكل واحدة بهمزتين كوفي غير حفص {آينكم} {آينكم} بهمزة ممدودة بعدها ياء مكسورة: أبو عمرو {أينكم} {أينكم} بهمزة مقصورة بعدها ياء مكسورة: مكي ونافع غير قالون وسهل ويعقوب غير زيد {قَالَ رَب انصرنى} بإنزال العذاب {عَلَى القوم المفسدين} كانوا يفسدون الناس بحملهم على ما كانوا عليه من المعاصي والفواحش.
{وَلَما جَاءتْ رسلنَا إبراهيم بالبشرى} بالبشارة لإبراهيم بالولد والنافلة يعني إسحق ويعقوب {قَالوا إنآ مهْلكو أَهْل هذه القرية} إضافة {مهلكوا} لم تفد تعريفًا لأنها بمعنى الاستقبال.
والقرية سدوم التي قبل فيها أجور من قاضي سدوم وهذه القرية تشعر بأنها قريبة من موضع إبراهيم عليه السلام.
قالوا: إنها كانت على مسيرة يوم وليلة من موضع إبراهيم عليه السلام.
{إن أَهْلَهَا كَانوا ظالمين} أي الظلم قد استمر منهم في الأيام السالفة وهم عليه مصرون وظلمهم كفرهم وأنواع معاصيهم.
{قَالَ} إبراهيم {إن فيهَا لوطًا} أي أتهلكونهم وفيهم من هو بريء من الظلم وهو لوط {قَالوا} أي الملائكة {نحْن أَعْلَم} منك {بمَن فيهَا لَننَجيَنه} {لننجينه} يعقوب وكوفي غير عاصم {وَأَهْلَه إلا امرأته كَانَتْ منَ الغابرين} الباقين في العذاب.
ثم أخبر عن مسير الملائكة إلى لوط بعد مفارقتهم إبراهيم بقوله: {وَلَما أَن جَاءتْ رسلنَا لوطًا سىء بهمْ} ساءه مجيئهم و{أن} صلة أكدت وجود الفعلين مرتبًا أحدهما على الآخر كأنهما وجدا في جزء واحد من الزمان كأنه قيل: كما أحس بمجيئهم فاجأته المساءة من غير ريث خيفة عليهم من قومهم أن يتناولوهم بالفجور {سىء بهمْ} مدني وشامي وعلي {وَضَاقَ بهمْ ذَرْعًا} وضاق بشأنهم وبتدبير أمرهم ذرعه أي طاقته، وقد جعلوا ضيق الذرع والذراع عبارة عن فقد الطاقة كما قالوا رحب الذراع إذا كان مطيقًا، والأصل فيه أن الرجل إذا طالت ذراعه نال ما لا يناله القصير الذراع فضرب ذلك مثلًا في العجز والقدرة وهو نصب على التمييز {وَقَالوا لاَ تَخَفْ وَلاَ تَحْزَنْ إنا منَجوكَ} وبالتخفيف: مكي وكوفي غير حفص {وَأَهْلَكَ} الكاف في محل الجر ونصب {أهلك} بفعل محذوف أي وننجي أهلك {إلا امرأتك كَانَتْ منَ الغابرين إنا منزلونَ} {منزلون} شامي {على أَهْل هذه القرية رجْزًا} عذابًا {منَ السماء بمَا كَانوا يَفْسقونَ} بفسقهم وخروجهم عن طاعة الله ورسوله {وَلَقَد ترَكْنَا منْهَا} من القرية {آيةً بَينَةً} هي آثار منازلهم الخربة.
وقيل: الماء الأسود على وجه الأرض {لقَوْمٍ} يتعلق ب {تركنا} أو ب {بينة} {يَعْقلونَ}.
{وإلى مَدْيَنَ} وأرسلنا إلى مدين {أخاهم شعَيْبًا فَقَالَ ياقوم اعبدوا الله وارجوا اليوم الآخر} وافعلوا ما ترجون به الثواب في العاقبة أو خافوه {وَلاَ تَعْثَوْا في الأرض مفْسدينَ} قاصدين الفساد {فَكَذبوه فَأَخَذَتْهم الرجفة} الزلزلة الشديدة أو صيحة جبريل عليه السلام لأن القلوب رجفت بها {فَأَصْبَحوا في دَارهمْ} في بلدهم وأرضهم {جاثمين} باركين على الركب ميتين {وَعَادًا} منصوب بإضمار أهلكنا لأن قوله: {فأخذتهم الرجفة} يدل عليه لأنه في معنى الإهلاك {وَثَمودَا} حمزة وحفص وسهل ويعقوب {وَقَد تبَينَ لَكم} ذلك يعني ما وصفه من إهلاكهم {من مساكنهم} من جهة مساكنهم إذا نظرتم إليها عند مروركم بها، وكان أهل مكة يمرون عليها في أسفارهم فيبصرونها {وَزَينَ لَهم الشيطان أعمالهم} من الكفر والمعاصي {فَصَدهمْ عَن السبيل} السبيل الذي أمروا بسلوكه هو الإيمان بالله ورسله {وَكَانوا مسْتَبْصرينَ} عقلاء متمكنين من النظر وتمييز الحق من الباطل ولكنهم لم يفعلوا {وقارون وَفرْعَوْنَ وهامان} أي وأهلكناهم {وَلَقَدْ جَاءهمْ موسى بالبينات فاستكبروا في الأرض وَمَا كَانوا سابقين} فائتين أدركهم أمر الله فلم يفوتوه {فَكلًا أَخَذْنَا بذَنبه} فيه رد على من يجوز العقوبة بغير ذنب {فَمنْهم من أَرْسَلْنَا عَلَيْه حَاصبًا} هي ريح عاصف فيها حصباء وهي لقوم لوط {وَمنْهمْ منْ أَخَذَتْه الصيحة} هي لمدين وثمود {وَمنْهمْ منْ خَسَفْنَا به الأرض} يعني قارون {وَمنْهمْ منْ أَغْرَقْنَا} يعني قوم نوح وفرعون {وَمَا كَانَ الله ليَظْلمَهمْ} ليعاقبهم بغير ذنب {ولكن كَانوا أَنفسَهمْ يَظْلمونَ} بالكفر والطغيان.
{مَثَل الذين اتخذوا من دون الله أَوْليَاء} أي آلهة يعني مثل من أشرك بالله الأوثان في الضعف وسوء الاختيار {كَمَثَل العنكبوت اتخذت بَيْتًا} أي كمثل العنكبوت فيما تتخذه لنفسها من بيت فإن ذلك بيت لا يدفع عنها الحر والبرد ولا يقي ما تقي البيوت، فكذلك الأوثان لا تنفعهم في الدنيا والآخرة، جعل حاتم {اتخذت} حالًا {وَإن أَوْهَنَ البيوت لَبَيْت العنكبوت} لا بيت أوهن من بيتها.
عن علي رضي الله عنه: طهروا بيوتكم من نسج العنكبوت فإن تركه يورث الفقر {لَوْ كَانوا يَعْلَمونَ} أن هذا مثلهم وأن أمر دينهم بالغ هذه الغاية من الوهن.
وقيل: معنى الآية مثل الشرك الذي يعبد الوثن بالقياس إلى المؤمن الذي يعبد الله مثل عنكبوت تتخذ بيتًا بالإضافة إلى رجل يبنى بيتًا بآجر وجص أو ينحته من صخر، وكما أن أوهن البيوت إذا استقريتها بيتًا بيتًا بيت العنكبوت، كذلك أضعف الأديان إذا استقريتها دينًا دينًا عبادة الأوثان لو كانوا يعلمون.
وقال الزجاج: في جماعة تقدير الآية: مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء لو كانوا يعلمون كمثل العنكبوت {إن الله يَعْلَم مَا يَدْعونَ} بالياء: بصري وعاصم، وبالتاء: غيرهما غير الأعشى والبرجمي.
و{ما} بمعنى الذي وهو مفعول {يعلم} ومفعول {يدعون} مضمر أي يدعونه يعني يعبدونه {من دونه من شَىْء} {من} في {من شيء} للتبيين {وَهوَ العزيز} الغالب الذي لا شريك له {الحكيم} في ترك المعاجلة بالعقوبة، وفيه تجهيل لهم حيث عبدوا جمادًا لا علم له ولا قدرة وتركوا عبادة القادر القاهر على كل شيء الحكيم الذي لا يفعل كل شيء إلا بحكمة وتدبير.
{وَتلْكَ الأمثال} الأمثال نعت والخبر {نَضْربهَا} نبينها {للناس} كان سفهاء قريش وجهلتهم يقولون: إن رب محمد يضرب المثل بالذباب والعنكبوت ويضحكون من ذلك فلذلك قال: {وَمَا يَعْقلهَا إلا العالمون} به وبأسمائه وصفاته أي لا يعقل صحتها وحسنها ولا يفهم فائدتها إلا هم، لأن الأمثال والتشبيهات إنما هي الطرق إلى المعاني المستورة حتى تبرزها وتصورها للأفهام كما صور هذا التشبيه الفرق بين حال المشرك وحال الموحد.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تلا هذه الآية فقال «العالم من عقل عن الله فعمل بطاعته واجتنب سخطه» ودلت الآية على فضل العلم على العقل.
{خَلَقَ الله السموات والأرض بالحق} أي محقًا يعني لم يخلقهما باطلًا بل لحكمة وهي أن تكونا مساكن عباده وعبرة للمعتبرين منهم ودلائل على عظم قدرته، ألا ترى إلى قوله: {إن في ذَلكَ لآيَةً للْمؤْمنينَ} وخصهم بالذكر لانتفاعهم بها {اتل مَا أوْحىَ إلَيْكَ منَ الكتاب} تقربًا إلى الله تعالى بقراءة كلامه ولتقف على ما أمر به ونهى عنه {وأقم الصلاة} أي دم على إقامة الصلاة {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء} الفعلة القبيحة كالزنا مثلًا {والمنكر} هو ما ينكره الشرع والعقل.
قيل: من كان مراعيًا للصلاة جره ذلك إلى أن ينتهي عن السيئات يومًا ما فقد روي أنه قيل يومًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن فلانًا يصلي بالنهار ويسرق بالليل.
فقال: «إن صلاته لتردعه» روي أن فتى من الأنصار كان يصلي معه الصلوات ولا يدع شيئًا من الفواحش إلا ركبه فوصف له فقال «إن صلاته ستنهاه» فلم يلبث أن تاب.
وقال ابن عوف: إن الصلاة تنهى إذا كنت فيها فأنت في معروف وطاعة وقد حجزتك عن الفحشاء والمنكر.
وعن الحسن: من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فليست صلاته بصلاة وهي وبال عليه {وَلَذكْر الله أَكْبَر} أي والصلاة أكبر من غيرها من الطاعات، وإنما قال: {ولذكر الله} ليستقل بالتعليل كأنه قال: والصلاة أكبر لأنها ذكر الله.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: ولذكر الله إياكم برحمته أكبر من ذكركم إياه بطاعته.
وقال ابن عطاء: ذكر الله لكم أكبر من ذكركم له الآن، لأن ذكره بلا علة وذكركم مشوب بالعلل والأماني، ولأن ذكره لا يفنى وذكركم لا يبقى.
وقال سلمان: ذكر الله أكبر من كل شيء وأفضل فقد قال عليه السلام «ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير من إعطاء الذهب والفضة وأن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم» قالوا وما ذاك يا رسول الله قال «ذكر الله» وسئل أي الأعمال أفضل قال «أن تفارق الدنيا ولسانك رطب بذكر الله» أو ذكر الله أكبر من أن تحويه أفهامكم وعقولكم، أو ذكر الله أكبر من تلقى معه معصية، أو ذكر الله أكبر في النهي عن الفحشاء والمنكر من غيره: {والله يَعْلَم مَا تَصْنَعونَ} من الخير والطاعة فيثيبكم أحسن الثواب. اهـ.