فصل: قال الخطيب الشربيني:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الخطيب الشربيني:

وفي إعراب قوله تعالى: {ولوطًا} ما تقدم في إعراب نصب إبراهيم {إذ} أي: حين {قال لقومه} أهل سدوم الذين سكن فيهم وصاهرهم وانقطع إليهم فصاروا قومه حين فارق عمه الخليل إبراهيم عليهما السلام منكرًا ما رأى من حالهم وقبيح فعالهم مؤكدًا له {أئنكم لتأتون الفاحشة} وهي أدبار الرجال المجاوزة للحد في القبح فكأنها لذلك لا فاحشة غيرها ثم علل كونها فاحشة استئنافًا بقوله: {ما سبقكم بها} وهي حالة مبينة لعظيم جراءتهم على المنكر أي: غير مسبوقين به وأغرق في النفي بقوله: {من أحد} وزاد بقوله: {من العالمين} أي: كلهم من الأنس والجن أي: فضلًا عن خصوص الناس ثم كرر الإنكار تأكيدًا التجاوز قبحها الذي ينكرونه بقوله: {أئنكم لتأتون الرجال} إتيان الشهوة وعطف عليها ما ضموه إليها من المناكر بقوله: {وتقطعون السبيل} أي: طريق المارة بالقتل وأخذ المال بفعلكم الفاحشة بمن يمر بكم فترك الناس الممر بكم أو تقطعون سبيل النساء بالإعراض عن الحرث وإتيان ما ليس بحرث {وتأتون في ناديكم المنكر} أي: تفعلون في متحدثكم فعل الفاحشة بعضكم ببعض وهو مما تنكره الشرائع والمروءآت والعقول وأنتم لا تتحاشون عن شيء منه في المجتمع الذي يتحاشى فيه الإنسان من فعل خلاف الأولى من غير أن يستحي بعضكم من بعض، قال ابن عباس: المنكر هو الحذف بالحصا والرمي بالبنادق والفرقعة ومضع العلك والسواك بين الناس وحل الأزار والسباب والتضارط في مجالسهم والفحش والمزاح، وعن عائشة رضى الله تعالى عنها كانوا يتحابقون، وقيل: السخرية بمن يمر بهم، وقيل المجاهرة في ناديهم بذلك العمل وكل معصية فإظهارها أقبح من سترها، ولذلك جاء من خرق جلباب الحياء فلا غيبة له ولا يقال للمجلس ناديًا إلا ما دام فيه أهله فإذا قاموا عنه لم يسم ناديًا، وعن مكحول في أخلاق قوم لوط مضغ العلك وتطريف الأصابع بالحناء وحل الإزار والصفير والحذف واللوطية، ودل على عنادهم بقوله تعالى مسببًا عن هذه الفضائح بالنهي عن تلك القبائح {فما كان جواب قومه} أي: الذين فيهم قوة ونجدة بحيث يخشى شرهم ويتقى أذاهم لما أنكر عليهم ما أنكر {إلا أن قالوا} عنادًا وجهلًا واستهزاءً {ائتنا بعذاب الله} وعبروا بالاسم الأعظم زيادة في الجراءة {إن كنت من الصادقين} أي: في استقباح ذلك وأن العذاب نازل بفاعليه، فإن قيل: قال قوم إبراهيم عليه السلام اقتلوه أو حرقوه وقال قوم لوط: {ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين} وما هددوه مع أن إبراهيم كان أعظم من لوط فإن لوطًا كان من قومه؟
أجيب: بأن إبراهيم كان يقدح في دينهم ويشتم آلهتهم ويعدد صفات نقصهم بقوله لا يسمع ولا يبصر ولا ينفع ولا يغني والسب في الدين صعب فجعلوا جزاءه القتل والتحريق، ولوط كان ينكر عليهم فعلهم وينسبهم إلى ارتكاب المحرم وهم ما كانوا يقولون إن هذا واجب من الدين فلم يصعب عليهم مثل ما صعب على قوم إبراهيم كلام إبراهيم فقالوا له: إنك تقول إن هذا حرام والله يعذب عليه فإن كنت صادقًا فائتنا بالعذاب، فإن قيل: إن الله تعالى قال في موضع آخر.
{فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم} (النمل: 56) وقال هنا: {فما كان جواب قومه إلا أن قالوا ائتنا بعذاب الله} فكيف الجمع؟
أجيب: بأن لوطًا كان ثابتًا على الإرشاد مكررًا على النهي والوعيد فقالوا أولًا: ائتنا، ثم لما كثر ذلك منه ولم يسكت عنهم قالوا: أخرجوا ولما أيس منهم طلب النصرة من الله بأن.
{قال} أي: لوط عليه السلام معرضًا عنهم مقبلًا بكليته على المحسن إليه {رب} أي: أيها المحسن إلي {انصرني على القوم} أي: الذين فيهم من القوة ما لا طاقة لي بهم معه {المفسدين} أي: العاصين بإتيان الرجال ووصفهم بذلك مبالغة في استنزال العذاب وإشعارًا بأنهم أحقاء بأن يعجل لهم العذاب ولما دعا لوط على قومه بقوله رب إلى آخره استجاب الله تعالى دعاءه وأمر ملائكته بإهلاكهم وأرسلهم مبشرين ومنذرين كما قال تعالى: {ولما جاءت} وأسقط أن لأنه لم يتصل القول بأول المجيء بل كان قبله السلام والضيافة وعظم الرسل بقوله تعالى: {رسلنا} أي: من الملائكة تعظيمًا لهم في أنفسهم {إبراهيم بالبشرى} أي: بإسحاق ولدًا له ويعقوب ولدًا لإسحاق عليهما السلام.
{قالوا} أي: الرسل عليهم السلام لإبراهيم عليه السلام بعد أن بشروه وتوجهوا نحو سدوم {إنا مهلكوا أهل هذه القرية} أي: قرية سدوم، والإضافة لفظية لأن المعنى على الاستقبال، ثم عللوا ذلك بقولهم: {إن أهلها كانوا ظالمين} أي: غريقين في هذا الوصف فلا حيلة في رجوعهم عنه، فإن قيل قال تعالى في قوم نوح: {فأخذهم الطوفان وهم ظالمون} (العنكبوت: 14) ففي ذلك إشارة إلى أنهم كانوا على ظلمهم حين أخذهم ولم يقل فأخذهم وكانوا ظالمين وهنا قال: {إن أهلها كانوا ظالمين} ولم يقل وهم ظالمون؟
أجيب: بأنه لا فرق في الموضعين في كونهما مهلكين وهم مصرون على الظلم لكن هناك الإخبار من الله تعالى عن الماضي حيث قال فأخذهم وهم عند الوقوع في العذاب ظالمون وهاهنا الإخبار من الملائكة عن المستقبل حيث قالوا: {إنا مهلكوا} فذكروا ما أمروا به فإن الكلام عن الملك بغير إذنه سوء أدب، وهم كانوا ظالمين في وقت الأمر وكونهم يبقون كذلك لا علم لهم به، ولما قالت الملائكة لإبراهيم عليه السلام ذلك {قال} لهم مؤكدًا تنبيهًا على حالة ابن أخيه {إن فيها لوطًا} ولم يقل عليه السلام إن منهم لوطًا لأنه نزيل عندهم فلذا جاء بالتصريح بالسؤال عنه {قالوا} أي: الرسل عليهم السلام له: {نحن أعلم} منك {بمن فيها} أي: من لوط وغيره {لننجينه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين} أي: الباقين في العذاب وهم الفجرة لتعم وجهها معهم الغبرة، وقرأ حمزة والكسائي بسكون النون الثانية وتخفيف الجيم بعدها، والباقون بفتح النون وتشديد الجيم بعدها.
{ولما أن جاءت رسلنا لوطًا} أي: المعظمون بنا {سيء} أي: حصلت له المساءة والغم {بهم} أي: بسببهم مخافة أن يقصدهم قومه بسوء لما رأى من حسن أشكالهم وهو يظن أنهم من الناس لأنهم جاؤوا من عند إبراهيم عليه السلام إليه على صورة البشر، روي أنهم كانوا يجلسون مجالسهم وعند كل رجل منهم قصعة فيها حصًا فإذا مر بهم عابر سبيل حذفوه فأيهم أصابه كان أولى به، قيل: إنه كان يأخذه معه وينكحه ويغرمه ثلاثة دراهم ولهم قاض بذلك، ولهذا يقال: أجور من قاضي سدوم.
{وضاق} أي: بأعمال الحيلة في الدفع عنهم {بهم ذرعًا} أي: ذرعه أي: طاقته والأصل في ذلك أن من طالت ذراعه نال ما لا يناله قصيرها يضرب مثلًا في العجز والقدرة، ولما رأوه على هذه الحالة خفضوا عليه {قالوا} له {لا تخف} إنا رسل ربك لإهلاكهم {ولا تحزن} أي: على تمكنهم منا أو على أحد ممن يهلك فإنه ليس في أحد منهم خير يؤسف عليه بسببه فإنهم وصلوا في الخبث إلى حد لا مطمع في الرجوع عنه مع ملازمته لدعائهم من غير ملل ولا ضجر، ثم عللوا ذلك بقولهم مبالغين في التأكيد: {إنا منجوك} أي: مبالغون في إنجائك وقولهم: {وأهلك} منصوب على محل الكاف {إلا امرأتك كانت من الغابرين} فإن قيل: القوم عذبوا بسبب ما صدر منهم من الفاحشة وامرأته لم يصدر منها ذلك فكيف كانت من الغابرين معهم؟.
أجيب: بأن الدال على الشر كفاعله كما أن الدال على الخير كفاعله وهي كانت تدل القوم على ضيوف لوط حتى كانوا يقصدونهم فبالدلالة صارت كأحدهم، فإن قيل ما مناسبة قولهم إنا منجوك لقولهم لا تخف ولا تحزن فإن خوفه ما كان على نفسه؟
أجيب: بأن لوطًا لما ضاق عليهم وحزن لأجلهم قالوا له: لا تخف أي: علينا ولا تحزن لأجلنا فإنا ملائكة، ثم قالوا له: يا لوط خفت علينا وحزنت لأجلنا ففي مقابلة خوفك وقت الخوف نزيل خوفك وننجيك، وفي مقابلة حزنك نزيل حزنك ولا نتركك تفجع في أهلك فقالوا إنا منجوك وأهلك، وقرأ ابن كثير وشعبة وحمزة والكسائي بسكون النون وتخفيف الجيم والباقون بفتح النون وتشديد الجيم ثم إنهم بعد بشارة لوط بالتنجية قالوا له:
{إنا منزلون} أي: لا محالة {على أهل هذه القرية رجزًا} أي: عذابًا {من السماء} فهو عظيم وقعه، شديد صدعه، واختلف في ذلك الرجز فقيل: حجارة وقيل: نار، وقيل: خسف، وعلى هذا يكون المراد أن الأمر بالخسف والقضاء به من السماء، وقرأ ابن عامر بفتح النون وتشديد الزاي، والباقون بسكون النون وتخفيف الزاي، تنبيه: كلام الملائكة مع لوط جرى على نمط كلامهم مع إبراهيم عليه السلام فقدموا البشارة على إنزال العذاب ثم قالوا إنا منجوك ثم قالوا إنا منزلون ولم يعللوا التنجية فلم يقولوا إنا منجوك لأنك نبي أو عابد وعللوا الإهلاك فقالوا: {بما كانوا يفسقون} أي: يخرجون في كل وقت من دائرة العقل والحياء كقولهم هناك إن أهلها كانوا ظالمين، ولما كان التقدير ففعلت رسلنا ما وعدوه به من إنجائه وإهلاك جميع قراهم فتركناها كأن لم يسكنها أحد عطف عليه قوله تعالى: {ولقد تركنا} أي: بما لنا من العظمة {منها} أي: من تلك القرى {آية} أي: علامة على قدرتنا على كل ما نريد {بينة} أي: ظاهرة، قال ابن عباس: منازلهم الخربة، وقال قتادة هي الحجارة التي أهلكوا بها أبقاها الله تعالى حتى أدركها أوائل هذه الأمة، وقال مجاهد هو ظهور الماء الأسود على وجه الأرض، فائدة: اتفق القراء على إدغام الدال في التاء، تنبيه: في هذه الآية إشارة إلى غفلة المخاطبين بهذه القصة من العرب وغيرهم وأنه ليس بينهم وبين الهدى إلا تفكرهم في أمرهم مع الانخلاع من الهوى وإنما يكون ذلك {لقوم يعقلون} أي: يتدبرون فعد من لم يستبصر بذلك غير عاقل، تنبيه: هاهنا أسئلة:
الأول: كيف جعل الآية في نوح وإبراهيم عليهما السلام بالنجاة فقال: {فأنجيناه وأصحاب السفينة وجعلناها آية} (العنكبوت: 15) وقال: {فأنجاه الله من النار إن في ذلك لآيات} (العنكبوت: 24) وجعل هاهنا الهلاك آية.
الثاني: ما الحكمة في قوله تعالى في السفينة {جعلناها آية} ولم يقل بينة وقال هاهنا آية بينة.
الثالث: ما الحكمة في قوله تعالى هناك {للعالمين} وقال ههنا: {لقوم يعقلون}؟
أجيب عن الأول: بأن الآية في إبراهيم كانت في النجاة لأن في ذلك الوقت لم يكن إهلاك، وأما في نوح فلأن الإنجاء من الطوفان الذي علا الجبال بأسرها أمر عجيب إلهي وما به النجاة وهو السفينة كان باقيًا والغرق لم يبق له بعده أثر محسوس في البلاد فجعل الباقي آية، وأما هاهنا فنجاة لوط لم تكن بأمر يبقى في أثره للحس، والهلاك أثره محسوس في البلاد فجعل الآية الأمر الباقي هاهنا البلاد وهناك السفينة.
وههنا لطيفة: وهي أن الله تعالى آية قدرته موجودة في الإنجاء والإهلاك فذكر من كل باب آية وقدم آيات الإنجاء لأنها أثر الرحمة وآخر آيات الهلاك لأنها أثر الغضب ورحمته سابقة، وعن الثاني بأن الإنجاء بالسفينة لا يفتقر إلى أمر آخر، وأما الآية هاهنا الخسف وجعل ديارهم المعمورة عاليها سافلها وهو ليس بمعتاد وإنما ذلك بإرادة قادر يخصصه بمكان دون مكان وبزمان دون زمان فهي بينة لا يمكن الجاهل أن يقول هذا أمر يكون كذلك وكان له أن يقول في السفينة أمرها يكون كذلك فيقال له فلو دام الماء حتى ينفد زادهم كيف كانت تحصل لهم النجاة ولو سلط الله تعالى عليهم الريح العاصفة كيف تكون أحوالهم، وعن الثالث بأن السفينة موجودة معلومة في جميع أقطار العالم فعند كل قوم مثال السفينة يتذكرون بها حالة نوح وإذا ركبوها يطلبون من الله النجاة منه ولا يثق أحد بمجرد السفينة بل يكون دائمًا مرتجف القلب متضرعًا إلى الله تعالى طالبًا للنجاة، وأما أثر الهلاك في بلاد لوط ففي موضع مخصوص لا يطلع عليه إلا من مر بها ويصل إليها ويكون له عقل يعلم أن ذلك من الله تعالى وإراداته بسبب اختصاصه بمكان دون مكان ووجوده في زمان دون زمان، ولما كان شعيب عليه السلام أيضًا قد ابتلي بتكذيب قومه اتبع قصته بقصة لوط بقوله تعالى: {وإلى مدين} أي: ولقد أرسلنا أو بعثنا إلى مدين {أخاهم} أي: من النسب والبلد {شعيبًا} ومدين قيل: اسم رجل في الأصل وجهل وله ذرية فاشتهر في القبيلة كتميم وقيس وغيرهما، وقيل: اسم ماء نسب القوم إليه فاشتهر في القوم، قال الرازي: والأول كأنه أصح لأن الله تعالى أضاف الماء إلى مدين بقوله تعالى: {ولما ورد ماء مدين}.