فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

قوله تعالى: {كَانَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً} أي على دين واحد. قال أُبيّ بن كعب، وابن زيد: المراد بالناس بنو آدم حين أخرجهم الله نَسَمًا من ظهر آدم فأقرّوا له بالوحدانية. وقال مجاهد: الناس آدم وحده؛ وسُمِّي الواحد بلفظ الجمع لأنه أصل النَّسْل. وقيل: آدم وحوّاء. وقال ابن عباس وقَتادة: المراد بالناس القرون التي كانت بين آدم ونوح، وهي عشرة كانوا على الحقّ حتى اختلفوا فبعث الله نوحًا فمن بعده. وقال ابن أبي خَيْثَمة: منذ خلق الله آدم عليه السلام إلى أن بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم خمسة آلاف سنة وثمانمائة سنة. وقيل: أكثر من ذلك، وكان بينه وبين نوح ألف سنة ومائتا سنة. وعاش آدم تسعمائة وستين سنة، وكان الناس في زمانه أهل مِلّة واحدة، متمسكين بالدّين، تصافحهم الملائكة، وداموا على ذلك إلى أن رُفع إدريس عليه السلام فاختلفوا. وهذا فيه نظر؛ لأن إدريس بعد نوح على الصحيح. وقال قوم منهم الكلبيّ والواقديّ: المراد نوح ومن في السفينة؛ وكانوا مسلمين ثم بعد وفاة نوح اختلفوا. وقال ابن عباس أيضًا: كانوا أُمة واحدة على الكفر؛ يريد في مدّة نوح حين بعثه الله. وعنه أيضًا: كان الناس على عهد إبراهيم عليه السلام أُمة واحدة، كلهم كفار؛ ووُلِد إبراهيم في جاهلية، فبعث الله تعالى إبراهيم وغيره من النبيين. فكان على هذه الأقوال على بابها من المُضِيّ المنقضي. وكل مَن قدّر الناس في الآية مؤمنين قدّر في الكلام فاختلفوا فبعث، ودلّ على هذا الحذف: {وَمَا اختلف فِيهِ إِلاَّ الذين أُوتُوهُ} أي كان الناس على دين الحق فاختلفوا فبعث الله النبيين، مبشّرين من أطاع ومنذرين من عصى. وكل مَن قدّرهم كفّارًا كانت بعثة النبيين إليهم. ويحتمل أن تكون كان للثبوت، والمراد الإخبار عن الناس الذين هم الجنس كله أنهم أُمة واحدة في خلوّهم عن الشرائع، وجهلهم بالحقائق، لولا منُّ الله عليهم، وتفضّله بالرسل إليهم. فلا يختص كان على هذا التأويل بالمضيّ فقط، بل معناه معنى قوله: {وَكَانَ الله غَفُورًا رَّحِيمًا}. اهـ.

.قال ابن عاشور:

والأظهر أنه من زمن وجود آدم إلى أن أشرك قوم نوح.
وإن كان المراد الوحدة على الباطل فقد حصل ذلك في زمن نوح في أول ما قص الله علينا مع ما ورد في الصحيح أن نوحًا أول الرسل إلى أهل الأرض، فيظهر أن الضلال حدث في أهل الأرض وعمَّهم عاجلًا فبعث الله نوحًا إليهم ثم أهلك الكافرين منهم بالطوفان ونجى نوحًا ونفرًا معه فأصبح جميع الناس صالحين، ثم اختلفوا بعد ذلك فبعث الله النبيين. فيجدر بنا أن ننظر الآن فيما تضمنته هذه الآية من المعنى في تاريخ ظهور الشرائع وفي أسباب ذلك.
الناس أبناء أب واحد وأم واحدة فلا جرم أن كانوا في أول أمرهم أمة واحدة لأن أبويهم لما ولدا الأبناء الكثيرين وتوالد أبناؤهما تألفت منهم في أمد قصير عائلة واحدة خلقت من مزاج نقي فكانت لها أمزجة متماثلة ونشأوا على سيرة واحدة في أحوال الحياة كلها وما كانت لتختلف إلاّ اختلافًا قليلًا ليس له أثر يؤبه به ولا يحدث في العائلة تنافرًا ولا تغالبًا.
ثم إن الله تعالى لما خلق نوع الإنسان أراده ليكون أفضل الموجودات في هذا العالم الأرضي فلا جرم أن يكون خلقه على حالة صالحة للكمال والخير قال تعالى: {لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم} [التين: 4]. فآدم خلق في أحسن تقويم يليق بالذكر جسمًا وعقلًا وألهمه معرفة الخير واتباعه ومعرفة الشر وتجنبه فكانت آراؤه مستقيمة تتوجه ابتداء لما فيه النفع وتهتدي إلى ما يحتاج للاهتداء إليه، وتتعقل ما يشار به عليه فتميز النافع من غيره ويساعده على العمل بما يهتدي إليه فكره جسد سليم قوي متين وحواءُ خلقت في أحسن تقويم يليق بالأنثى خلقًا مشابهًا لخلق آدم، إذ إنها خلقت كما خلق آدم، قال تعالى: {خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها} [النساء: 1] فكانت في انسياق عقلها واهتدائها وتعقلها ومساعدة جسدها على ذلك على نحو ما كان عليه آدم. ولا شك أن أقوى عنصر في تقويم البشر عند الخلقة هو العقل المستقيم فبالعقل تأتَّى للبشر أن يتصرف في خصائصه، وأن يضعها في مواضع الحاجة إليها.
هكذا كان شأن الذكَر والأنثى فما ولدا من الأولاد نشأ مثل نشأتهما في الأحوال كلها، ألم تر كيف اهتدى أحد ابني آدم إلى دفن أخيه من مشاهدة فعل الغراب الباحث في الأرض فكانت الاستنباط الفكري والتقليدُ به أسَّ الحضارة البشرية. فالصلاح هُوَ الأصل الذي خلق عليه البشر ودام عليه دهرًا ليس بالقصير، ثم أخذ يرتد إلى أسفل سافلين، ذلك أن ارتداد الإنسان إلى أسفل سافلين إنما عرض له بعوارض كانت في مبدأ الخليقة قليلة الطرُوّ أوْ معدومته، لأن أسباب الانحراف عن الفطرة السليمة لا تعدو أربعة أسباب:
الأول: خلل يعرض عند تكوين الفرد في عقله أو في جسده فينشأ منحرفًا عن الفضيلة لتلك العاهة.
الثاني: اكتساب رَذائل من الأخلاق من مخترعات قواه الشهوية والغضبية ومن تقليد غيره بداعية استحسان ما في غيره من مفاسد يخترعها ويدعو إليها.
الثالث: خواطر خياليّة تحدث في النفس مخالفة لما عليه الناس كالشهوات والإفراط في حب الذات أو في كراهية الغير مما توسوس به النفس فيفكر صاحبها في تحقيقها.
الرابع: صدور أفعال تصدر من الفرد بدواع حاجية أو تكميلية ويجدها ملائمة له أو لذيذة عنده فيلازمها حتى تصير له عادة وتشتبه عنده بعد طول المدة بالطبيعة، لأن العادة إذا صادفت سذاجة من العقل غير بصيرة بالنواهي رسخت فصارت طبعًا.
فهذه أربعة أسباب للانحطاط عن الفطرة الطيبة، والأول كان نادر الحدوث في البشر، لأن سلامة الأبدان وشبابَ واعتدالَ الطبيعة وبساطةَ العيش ونظامَ البِيئة كل تلك كانت موانع من طرو الخلل التكويني، ألا ترى أن نوع كل حيواننٍ يلازم حال فطرته فلا ينحرف عنها باتباع غيره.
والثاني كان غير موجود، لأن البشر يومئذٍ كانوا عائلة واحدة في موطن واحد يسير على نظام واحد وتربية واحدة وإحساس واحد فمن أين يجيئه الاختلاف؟
والثالث ممكن الوجود لكن المحبة الناشئة عن حسن المعاشرة وعن الإلف، والشفقة الناشئة عن الأخوة والمواعظ الصادرة عن الأبوين كانت حُجبًا لما يهجس من هذا الإحساس.
والرابع لم يكن بالذي يكثر في الوقت الأول من وجود البشر، لأن الحاجات كانت جارية على وفق الطباع الأصلية ولأن التحسينات كانت مفقودة، وإنما هذا السبب الرابع من موجبات الرقي والانحطاط في أحوال الجمعيات البشرية الطارئة.
أما حادثة قتل ابن آدم أخاه فما هي إلاّ فلتة نشأت عن السبب الثالث عن إحساس وجداني هو الحسَد مع الجهل بمغبة ما ينشأ عن القتل؛ لأن البشر لم يعرف الموت إلاّ يومئذٍ ولذلك أسرعت إليه الندامة، فتبين أن الصلاح هو حال الأمة يومئذٍ أو هو الغالب عليها.
وينشأ عن هذا الصلاح والاستقامة في الآباء دوام الاستقامة في النسل، لأن النسل مُنْسَلٌ من ذوات الأصول فهو ينقل ما فيها من الأحوال الخِلقية والخُلُقية، ولما كان النسل منسَلاَ من الذكر والأنثى كان بحكم الطبع محصِّلًا على مجموع من الحالتين فإن استوت الحالتان أو تقاربتا جاء النسل على أحوال مساويةِ المظاهرِ لأحوال سلفه، قال نوح عليه السلام في عكسه {ولا يَلدوا إلاّ فاجرًا كفارًا} [نوح: 27]، ومما يدل على أن حال البشر في أول أمره صلاحٌ ما نقله في (الكشاف) عن ابن عباس أنه كان بين آدم ونوح عشرة قرون على شريعة من الحق.
ثم كثرت العائلة البشرية وتكونت منها القبيلة فتكاثرت ونشأ فيها مع الزمان قليلًا قليلًا خواطر مختلفة ودبت فيها أسباب الاختلاف في الأحوال تبعًا لاختلاف بين حالي الأب والأم، فجاء النسل على أحوال مركبة مخالفة لكل من مفرد حالتي الأب والأم، وبذلك حدثت أمزجة جديدة وطرأت عليها حينئذٍ أسباب الانحطاط الأربعة، وصارت ملازمة لطوائف من البشر بحكم التناسل والتلقي، هنالك جاءت الحاجة إلى هدي البشر ببعثة الرسل، والتاريخُ الديني دلنا على أن نوحًا أول الرسل الذين دَعوا إلى الله تعالى قال تعالى: {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحًا} [الشورى: 13] الآية، ولما ذكر الرسل في آيات القرآن ابتدأهم في جميع تلك الآيات بنوح ولم يذكر آدم وفي حديث الشفاعة في الصحيح تصريح بذلك أن آدم يقول للذين يستشفعون به إني لست هناكم، ويذكر خطيئته ايتوا نوحًا أول رسول أرسله الله إلى أهل الأرض، وبهذا يتعين أن خطيئة قابيل ليست مخالفة شرع مشروع، وأن آدم لم يكن رسولًا وأنه نبيء صالح أوحي إليه بما يهذب ابناءه ويعلمهم بالجزاء.
فقوله تعالى: {فبعث الله النبيئين} هو على الوجه الأول مفرع على ما يؤذن به قوله: {كان الناس أمة واحدة} مع تحقق وجود الخلاف بينهم بالمشاهدة من إرادة أن كونهم أمة واحدة دام مدة ثم انقضى، فيكون مفرعًا على جملة مقدرة تقديرها فاختلفوا فبعث الله النبيئين، وعلى الوجه الآخر مفرعًا على الكون أمة واحدة في الباطل فعلى الأول يكون أول النبيين المبعوثين نوحًا، لأنه أول الرسل لإصلاح الخلق. وعلى الثاني: يكون أولهم آدم بعث لبنيه لما قتل أحدهم أخاه؛ فإن الظاهر أن آدم لم يبعث بشريعة لعدم الدواعي إلى ذلك، وإنما كان مرشدًا كما يرشد المربي عائلته. اهـ.

.قال ابن عادل:

قد جاءت الأمة على خمسة أَوْجُهٍ:
الأوَّل: الأُمَّةُ المِلَّة، كهذه الآية، أي: مِلَّة واحدة، ومثله: {وَإِنَّ هذه أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [المؤمنون: 52] أي: مِلتكُم.
الثاني: الأُمَّةُ الجماعة؛ قال تعالى: {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق} [الأعراف: 181] أي: جماعةٌ.
الثالث: الأُمَّةُ السنين؛ قال تعالى: {وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ العذاب إلى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ} [هود: 8]، أي: إلى سنين معدودةٍ، ومثله {وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} أي: بعد سنين.
الرابع: بمعنى إمامٍ يُعلِّمُ الخير؛ قال تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ} [النحل: 120].
الخامس: الأُمَّةُ: إحدى الأُمم؛ قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110]. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {فَبَعَثَ الله النبيين} وجملتهم مائة وأربعة وعشرون ألفًا، والرسل منهم ثلثمائة وثلاثة عشر، والمذكورون في القرآن بالاسم العلم ثمانية عشر، وأوّل الرسل آدم؛ على ما جاء في حديث أبي ذَرّ، أخرجه الآجريّ وأبو حاتم البُسْتيّ. وقيل: نوح، لحديث الشفاعة؛ فإن الناس يقولون له: أنت أوّل الرسل. وقيل: إدريس، وسيأتي بيان هذا في الأعراف إن شاء الله تعالى. اهـ.

.قال الألوسي:

{فَبَعَثَ الله النبيين} أي فاختلفوا فبعث الخ وهي قراءة ابن مسعود رضي الله تعالى عنه، وإنما حذف تعويلًا على ما يذكر عقبه. اهـ.