فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



و{الذين ظلموا منهم} هم الذين كابروا وأظهروا العداء للنبيء صلى الله عليه وسلم وللمسلمين وأبوا أن يتلقوا الدعوة فهؤلاء ظلموا النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين حسدًا وبغضًا على أن جاء الإسلام بنسخ شريعتهم، وجعلوا يكيدون للنبيء صلى الله عليه وسلم ونشأ منهم المنافقون وكل هذا ظلم واعتداء.
وقد كان اليهود قبل هجرة المسلمين إلى المدينة مسالمين الإسلام وكانوا يقولون: إن محمدًا رسول الأميين كما قال ابن صياد لما قال له النبي صلى الله عليه وسلم: «أتشهد أني رسول الله؟ فقال: أشهد أنك رسول الأميين» فلما جاء المدينة دعاهم في أول يوم قدم فيه وهو اليوم الذي أسلم فيه عبد الله بن سَلام فأخذوا من يومئذ يتنكرون للإسلام.
وعطف {وقولوا ءامنا} إلى آخر الآية تعليم لمقدمة المجادلة {بالتي هي أحسن}.
وهذا مما يسمى تحرير محل النزاع وتقريب شقة الخلاف وذلك تأصيل طرق الإلزام في المناظرة وهو أن يقال قد اتفقنا على كذا وكذا فلنحتج على ما عدا ذلك، فإن ما أمروا بقوله هنا مما اتفق عليه الفريقان فينبغي أن يكون هو السبيل إلى الوفاق وليس هو بداخل في حيز المجادلة لأن المجادلة تقع في موضع الاختلاف ولأن ما أمروا بقوله هنا هو إخبار عما يعتقده المسلمون وإنما تكون المجادلة فيما يعتقده أهل الكتاب مما يخالف عقائد المسلمين مثل قوله: {يا أهل الكتاب لمَ تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بَعْده} إلى قوله: {وما كان منَ المُشْركين} آل عمران: (65- 67).
ولأجل أن مضمون هذه الآية لا يدخل في حيز المجادلة عطفت على ما قبلها ولو كانت مما شملته المجادلة لكان ذلك مقتضيًا فصلها لأنها مثل بدل الاشتمال.
ومعنى {بالذي أُنْزلَ إلَيْنا} القرآن.
والتعبير عنه بهذه الصلة للتنبيه على خطأ أهل الكتاب إذ جحدوا أن ينزل الله كتابًا على غير أنبيائهم، ولذلك عقب بقوله: {وأنزل إليكم}.
وقوله: {وأنزل إليكم} عطف صلة اسم موصول محذوف دل عليه ما قبله.
والتقدير: والذي أنزل إليكم، أي الكتاب وهو التوراة بقرينة قوله: {إليكم} والمعنى: إننا نؤمن بكتابكم فلا ينبغي أن تنحرفوا عنا وهذا كقوله تعالى: {قُلْ يأهل الكتَاب هل تَنْقمون منا إلا أنْ ءامنا بالله وما أُنْزل إليْنَا ومَا أُنْزلَ من قَبْل} [المائدة: 59] ، وكذلك قوله: {وإلهَنا وإلهكُم واحد} تذكير بأن المؤمنين واليهود يؤمنون بإله واحد فهذان أصلان يختلف فيهما كثير من أهل الأديان.
وقوله: {ونَحْنُ لَهُ مُسْلمُون} مراد به كلاَ الفريقين، فريق المتكلمين وفريق المخاطبين فيشمل المسلمين وأهلَ الكتاب فيكون المراد بوصف {مسلمون} أحد إطلاقيه وهو إسلام الوجه إلى الله، أي عدم الإشراك به، أي وكلانا مسلمون لله تعالى لا نشرك معه غيره.
وتقديم المجرور على عامله في قوله: {لَهُ مُسْلمُون} لإفادة الاختصاص تعريضًا بالمشركين الذين لم يفردوا الله بالإلهية.
{وَكَذَلكَ أَنْزَلْنَا إلَيْكَ الْكتَابَ} هذا عود إلى مجادلة المشركين في إثبات أن القرآن منزل من الله على رسوله صلى الله عليه وسلم فالمعنى: ومثلَ ذلك التنزيل البديع أنزلنا إليك الكتاب، فهو بديع في فصاحته، وشرف معانيه، وعذوبة تراكيبه، وارتفاعه على كل كلام من كلام البلغاء، وفي تنجيمه، وغير ذلك.
وقد تقدم بيان مثل هذه الإشارة عند قوله تعالى: {وكذلك جعلناكم أمة وسَطًا} في سورة [البقرة: 143].
وقد تفرع على بداعة تنزيله الإخبارُ بأن الذين علمهم الله الكتاب يؤمنون به أي يصدقون أنه من عند الله لأنهم أدرى بأساليب الكتب المنزلة على الرسل والأنبياء وأعلم بسمات الرسل وشمائلهم.
وإنما قال: {فالذين ءاتيناهم الكتاب} دون أن يقول: فأهل الكتاب، لأن في {آتيناهم الكتاب} تذكيرًا لهم بأنهم أمناء عليه كما قال تعالى: {بما استحفظوا من كتاب الله} [المائدة: 44].
وجيء بصيغة المضارع للدلالة على أنه سيقع في المستقبل أو للدلالة على تجدد إيمان هذا الفريق به، أي إيمان من آمن منهم مستمر يزداد عدد المؤمنين يومًا فيومًا.
والإشارة ب {هؤلاء} إلى أهل مكة بتنزيلهم منزلة الحاضرين عند نزول الآية لأنهم حاضرون في الذهن بكثرة ممارسة أحوالهم وجدالهم.
وهكذا اصطلاح القرآن حيث يذكر {هؤلاء} بدون سبق ما يصلح للإشارة إليه، وهذا قد ألهمني الله إليه، وتقدم عند قوله تعالى: {فإن يكفر بها هؤلاء} في سورة [الأنعام: 89].
والمعنى: ومن مشركي أهل مكة من يؤمن به، أي بأن القرآن منزل من الله، وهؤلاء هم الذين أسلموا والذين يسلمون من بعد، ومنهم من يؤمن به في باطنه ولا يظهر ذلك عنادًا وكبرًا مثل الوليد بن المغيرة.
وقد أشار قوله تعالى: {وما يجحد بآياتنا إلا الكافرون} إلى أن من هؤلاء الذين يؤمنون بالقرآن من أهل الكتاب وأهل مكة من يكتم إيمانه جحودًا منهم لأجل تصلبهم في الكفر.
فالتعريف في {الكافرون} للدلالة على معنى الكمال في الوصف المعرف، أي إلا المتوغلون في الكفر الراسخون فيه، ليظهر وجه الاختلاف بين {ما يجحد} وبين {الكافرون} إذ لولا الدلالة على معنى الكمال لصار معنى الكلام: وما يجحد إلا الجاحدون.
وعبر عن {الكتاب} بالآيات لأنه آيات دالة على أنه من عند الله بسبب إعجازه وتحديه وعجز المعاندين عن الإتيان بسورة مثله.
وهذا يتوجه ابتداء إلى المشركين لأن جحودهم واقع، وفيه تهيئة لتوجهه إلى من عسى أن يجحد به من أهل الكتاب من دون أن يواجههم بأنهم كافرون لأنه لم يعرف منهم ذلك الآن فإن فعلوه فقد أوجبوا ذلك على أنفسهم.
{وَمَا كُنْتَ تَتْلُو منْ قَبْله منْ كتَابٍ وَلَا تَخُطهُ بيَمينكَ إذًا لَارْتَابَ الْمُبْطلُونَ (48)}.
هذا استدلال بصفة الأمية المعروف بها الرسول صلى الله عليه وسلم ودلالتُها على أنه موحى إليه من الله أعظم دلالة وقد ورد الاستدلال بها في القرآن في مواضع كقوله: {ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان} [الشورى: 52] وقوله: {فقد لبثتُ فيكم عُمرًا من قَبْله أفلا تَعْقلون} [يونس: 16].
ومعنى: {ما كنت تتلو من قبله من كتاب} أنك لم تكن تقرأ كتابًا حتى يقول أحد: هذا القرآن الذي جاء به هو مما كان يتلوه من قبل.
و{لا تَخُطهُ} أي لا تكتب كتابًا ولو كنت لا تتلوه، فالمقصود نفي حالتي التعلم، وهما التعلم بالقراءة والتعلم بالكتابة استقصاء في تحقيق وصف الأمية فإن الذي يحفظ كتابًا ولا يعرف يكتب لا يُعد أميًا كالعلماء العمي، والذي يستطيع أن يكتب ما يُلقى إليه ولا يحفظ علمًا لا يُعد أميًا مثل النُساخ فبانتفاء التلاوة والخط تحقق وصف الأمية.
و{إذن} جواب وجزاء لشرط مقدر بلو لأنه مفروض دل عليه قوله: {وما كنت تتلو} {ولا تُخطه}.
والتقدير: لو كنت تتلو قبله كتابًا أو تخطه لارتاب المبطلون.
ومجيء جواب {إذن} مقترنًا باللام التي يغلب اقتران جواب لو بها دليل على أن المقدر شرط ب لو كما في قول قُريظ العنبري:
لو كُنتُ من مازن لم تستبح إبلي ** بنو اللقيطة من ذهل ابن شيبانا

إذَنْ لقام بنصري معشر خشن ** عند الحفيظة إن ذو لوثة لانا

قال المرزوقي في شرح الحماسة: إذن هو أنه أخرج البيت الثاني مُخرج جواب قائل قال له: ولو استباحوا إبلك ماذا كان يفعل بنو مازن؟ فقال:
إذن لقام بنصري معشر خشن.
ويجوز أن يكون أيضًا: إذن لقام، جواب لو كأنه أجيب بجوابين.
وهذا كما تقول: لو كنتَ حرًا لاستقبحت ما يفعله العبيد إذن لاستحسنت ما يفعله الأحرار. اهـ.
يعني يجوز أن تكون جملة: إذن لقام، بدَلًا من جملة: لم تستبح.
وقد تقدم الكلام على نظيره في قوله تعالى: {ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذًا لَذَهَب كل إله بما خلق} في سورة [المؤمنين: 91].
والارتياب: حصول الريب في النفس وهو الشك.
ووجه التلازم بين التلاوة والكتابة المتقدمين على نزول القرآن، وبين حصول الشك في نفوس المشركين أنه لو كان ذلك واقعًا لاحتمل عندهم أن يكون القرآن من جنس ما كان يتلوه من قبلُ من كتب سالفة وأن يكون مما خطه من قبل من كلام تلقاه فقام اليوم بنشره ويدعو به.
وإنما جعل ذلك موجب ريب دون أن يكون موجب جَزم بالتكذيب لأن نظم القرآن وبلاغته وما احتوى عليه من المعاني يبطل أن يكون من نوع ما سبق من الكتب والقصص والخطب والشعر، ولكن ذلك لما كان مستدعيًا تأملًا لم يمنع من خطور خاطر الارتياب على الإجمال قبل إتمام النظر والتأمل بحيث يكون دوام الارتياب بهتانًا ومكابرة.
وتقييد تخطه بقيد {بيمينك} للتأكيد لأن الخط لا يكون إلا باليمين فهو كقوله: {ولا طائر يطير بجناحيه} [الأنعام: 38].
ووصف المكذبين بالمبطلين منظور فيه لحالهم في الواقع لأنهم كذبوا مع انتفاء شبهة الكذب فكان تكذيبهم الآن باطلًا، فهم مبطلون متوغلون في الباطل، فالقول في وصفهم بالمبطلين كالقول في وصفهم بالكافرين.
{بَلْ هُوَ آيَات بَينَات في صُدُور الذينَ أُوتُوا الْعلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بآيَاتنَا إلا الظالمُونَ (49)}.
{بل} إبطال لما اقتضاه الفرض من قوله: {إذن لارتاب المبطلون} [العنكبوت: 48] ، أي بل القرآن لا ريب يتطرقه في أنه من عند الله، فهو كله آيات دالة على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وأنه من عند الله لما اشتمل عليه من الإعجاز في لفظه ومعناه ولما أيد ذلك الإعجازَ من كون الآتي به أميا لم يكن يتلو من قبله كتابًا ولا يخط، أي بل القرآن آيات ليست مما كان يتلى قبل نزوله بل هو آيات في صدر النبي صلى الله عليه وسلم.
فالمراد من: {صدور الذين أوتوا العلم} صدر للنبيء صلى الله عليه وسلم عبر عنه بالجمع تعظيمًا له.
و{العلم} الذي أوتيه النبي صلى الله عليه وسلم هو النبوءة كقوله تعالى: {ولقد آتينا داوود وسليمان علمًا} [النمل: 15].
ومعنى الآية أن كونه في صدر النبي صلى الله عليه وسلم هو شأن كل ما ينزل من القرآن حين نزوله، فإذا أنزل فإنه يجوز أن يخطه الكاتبون، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ كُتابًا للوحي فكانوا ربما كتبوا الآية في حين نزولها كما دل عليه حديث زيد بن ثابت في قوله تعالى: {لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر} [النساء: 95] وكذلك يكون بعد نزوله متلوا، فالمنفي هو أن يكون متلوًا قبل نزوله.
هذا الذي يقتضيه سياق الإضراب عن أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم يتلو كتابًا قبل هذا القرآن بحيث يظن أن ما جاء به من القرآن مما كان يتلوه من قبل فلما انتفى ذلك ناسب أن يكشف عن حال تلقي القرآن، فذلك هو موقع قوله: {في صدور الذين أوتوا العلم} كما قال: {نزل به الروح الأمين على قلبك} [الشعراء: 193، 194] وقال: {كذلك لنُثَبت به فؤادك} [الفرقان: 32].
وأما الإخبار بأنه آيات بينات فذلك تمهيد للغرض وإكمال لمقتضاه، ولهذا فالوجه أن يكون الجار والمجرور في قوله: {في صدور الذين أوتوا العلم} خبرًا ثانيًا عن الضمير.
ويلتئم التقدير هكذا: وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك بل هو ألقي في صدرك وهو آيات بينات.
ويجوز أن يكون المراد ب {صدور الذين أوتوا العلم} صدور أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وحفاظ المسلمين، وهذا يقتضي أن يكون قوله: {في صدور الذين أوتوا العلم} تتميمًا للثناء على القرآن وأن الغرض هو الإخبار عن القرآن بأنه آيات بينات فيكون المجرور صفة ل {ءايات} والإبطال مقتصر على قوله: {بل هو آيات بينات}.
وجملة {وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون} تذييل يؤذن بأن المشركين جحدوا آيات القرآن على ما هي عليه من وضوح الدلالة على أنها من عند الله لأنهم ظالمون لا إنصاف لهم وشأن الظالمين جحد الحق، يحملهم على جحده هوى نفوسهم للظلم، كما قال تعالى: {وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظُلمًا وعُلُوا} [النمل: 14] فهم متوغلون في الظلم كما تقدم في وصفهم بالكافرين والمبطلين. اهـ.

.قال الشعراوي:

{وَلَا تُجَادلُوا أَهْلَ الْكتَاب إلا بالتي هيَ أَحْسَنُ إلا الذينَ ظَلَمُوا منْهُمْ}.
الحق تبارك وتعالى يُعلمنا كيف نجادل أهل الكتاب، وقبل أن نتكلم عن ألوان الجدل في القرآن الكريم نقول: ما معنى الجدل؟
الجدل: مأخوذ من الجَدْل، وهو فَتْل الشيء ليشتد بعد أنْ كان لينًا كما نفتل حبالنا في الريف، فالقطن أو الصوف مثلًا يكون منتفشًا يأخذ حيزًا واسعًا، فإذا أردْنا أن نأخذ منه خيطًا جمعنا بعض الشعيرات ليُقوي بعضها بعضًا بلفها حول بعضها، وبجَدْل الخيوط نصنع الحبال لتكون أقوى، وعلى قَدْر الغاية التي يُراد لها الحبل تكون قوته.
ومن الجدل أُخذ الجدال والجدَل والمجادلة، وفي معناها: الحوار والحجاج والمناظرة، ومعناه أن يوجد فريقان لكل منها مذهب يؤيده ويدافع عنه ليفتن الآخر أي: ليلفته عن مذهبه إلى مذهبه هو.
فإذا كان المقصود هو الحق في الجدال أو الحجَاج أو المناظرة فهذا الاسم يكفي، لكن إنْ دخل الجدال إلى مراءٍ أو لجاجة، فليس القصد هو الحق، إنما أنْ يتغلب أحد الفريقين على الآخر، والجدل في هذه الحالة له أسماء متعددة، منها قوله تعالى: {للَجوا في طُغْيَانهمْ} [المؤمنون: 75].
لكن إذا فَتَلْنا الشيء المنفوش حتى صار مُضْمرًا، وأخذ من الضمر قوة، أأنت تجعل في الجدل خَصْمك قويًا؟ إنك تحاول أنْ تُقوي نفسك في مواجهته. قالوا: حين أنهاه عن الباطل وأعطفه ناحية الحق، فإنه يقوي يقينه في شيء ينفعه، وكأنه كان منتفشًا آخذًا حيزًا أكبر من حجمه بالباطل الذي كان عليه، فأنا قويته بالحق. وفي العامية نقول فلان منفوخ على الفاضي أو نقول فلان نافش ريشه كأنه أخذ حيزًا أكبر من حجمه.