فصل: قال عبد الكريم الخطيب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال حامد: فتركناه ودخلنا مكة وخرجنا إلى الموقف فبينما نحن جلوس بعرفات إذا به قد أقبل عليه ثوبان وهو محرم يتصفح الوجوه حتى وقف علينا فأكب على إبراهيم يقبل رأسه فقال له: ما الحال يا عبد المسيح؟ فقال له: هيهات أنا اليوم عبد من المسيح عبده فقال له إبراهيم: حدثني حديثك قال: جلست مكاني حتى أقبلت قافلة الحاج فقمت وتنكرت في زي المسلمين كأني محرم فساعة وقعت عيني على الكعبة اضمحل عندي كل دين سوى دين الإسلام فأسلمت واغتسلت وأحرمت فها أنا أطلبك يومي فالتفت إلى إبراهيم وقال: يا حامد انظر إلى بركة الصدق في النصرانية كيف هداه إلى الإسلام ثم صحبنا حتى مات بين الفقراء رحمه الله تعالى.
يقول الفقير: أصلحه الله القدير في هذه الحكاية إشارات:
منها: كما أن حرم الكعبة لا يدخله مشرك متلوث بلوث الشرك كذلك حرم القلب لا يدخله مدع متلوث بلوث الدعوى.
ومنها أن النصراني المذكور صحب إبراهيم أيامًا في طريق الصورة فلم يضيعه الله حيث هداه إلى الصحبة به في طريق المعنى.
ومنها أن صدقه في طريقه أدّاه إلى أن آمن بالله وكفر بالباطل.
ومنها أن من كان نظره صحيحًا فإذا شاهد شيئًا من شواهد الحق يستدل به على الحق ولا يكذب بآيات ربه كما وقع للنصراني المذكور حين رأى الكعبة التي هي صورة سر الذات وكما وقع لعبد الله بن سلام فإنه حين رأى النبي عليه السلام آمن وقال: عرفت أنه ليس بوجه كذاب نسأل الله حقيقة الصدق والإخلاص والتمتع بثمرات أهل الاختصاص.
{وَالَّذينَ جَاهَدُوا فينَا} الجهاد والمجاهدة استفراغ الوسع في مدافعة العدو أي جدوا وبذلوا وسعهم في شأننا وحقنا ولوجهنا خالصًا.
وأطلق المجاهدة ليعم جهاد الأعداء الظاهرة والباطنة أما الأول فكجهاد الكفار المحاربين وأما الثاني فكجهاد النفس والشيطان وفي الحديث: «جاهدوا أهواءكم كما تجاهدون أعداءكم» ويكون الجهاد باليد واللسان كما قال عليه السلام: «جاهدوا الكفار بأيديكم وألسنتكم» أي بما يسوءهم من الكلام كالهجر ونحوه.
قال ابن عطاء: المجاهدة صدق الافتقار إلى الله بالانقطاع عن كل ما سواه وقال عبد الله بن المبارك المجاهدة علم أدب الخدمة فإن أدب الخدمة أعز من الخدمة.
وفي الكواشي: المجاهدة غض البصر وحفظ اللسان وخطرات القلب ويجمعها الخروج عن العادات البشرية انتهى فيدخل فيها الغرض والقصد {لَنَهْديَنَّهُمْ سُبُلَنَا} الهداية الدلالة إلى ما يوصل إلى المطلوب.
والسبل جمع سبيل وهو من الطرق ما هو معتاد السلوك ويلزمه السهولة ولهذا قال الإمام الراغب: السبيل الطريق الذي فيه سهولة انتهى.
وإنما جمع لأن الطريق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق والمعنى سبل السير إلينا والوصول إلى جنابنا.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: يريد المهاجرين والأنصار أي والذين جاهدوا المشركين وقاتلوهم في نصرة ديننا لنهدينهم سبل الشهادة والمغفرة والرضوان.
وقال بعضهم: معنى الهداية هاهنا التثبيت عليها والزيادة فيها فإنه تعالى يزيد المجاهدين هداية ما يزيد الكافرين ضلالة فالمعنى لنزيدنهم هداية إلى سبل الخير وتوفيقًا لسلوكها كقوله تعالى: {وَالَّذينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى} (محمد: 17) وفي الحديث: «من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم» وفي الحديث: «من أخلص أربعين صباحًا انفجرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه».
وقال سهل بن عبد الله التستري رحمه الله: والذين جاهدوا في إقامة السنة لنهدينهم سبيل الجنة ثم قيل: مثل السنة في الدنيا كمثل الجنة في العقبى من دخل الجنة في العقبى سلم كذا من لزم السنة في الدنيا سلم.
ويقال: والذين جاهدوا بالتوبة لنهدينهم إلى الإخلاص.
والذين جاهدوا في طلب العلم لنهدينهم إلى طريق العمل به.
والذين جاهدوا في رضانا لنهدينهم إلى الوصول إلى محل الرضوان.
والذين جاهدوا في خدمتنا لنفتحن عليهم سبل المناجاة معنا والإنس بنا والمشاهدة لنا.
والذين أشغلوا ظواهرهم بالوظائف أوصلنا إلى أسرارهم اللطائف والعجب ممن يعجز عن ظاهره ويطمع في باطنه ومن لم يكن أوائل حاله المجاهدة كانت أوقاته موصولة بالأماني ويكون حظه البعد من حيث يأمل القرب.
والحاصل أنه بقدر الجد تكتسب المعالي فمن جاهد بالشريعة وصل إلى الجنة ومن جاهد بالطريقة وصل إلى الهدى ومن جاهد بالمعرفة والانفصال عما سوى الله وصل إلى العين واللقاء.
ومن تقدمت مجاهدته على مشاهدته كما دلت الآية عليه صار مريدًا مرادًا وسالكًا مجذوبًا وهو أعلى درجة ممن تقدمت مشاهدته على مجاهدته وصار مرادًا مريدًا ومجذوبًا سالكًا لأن سلوكه على وفق العادة الإلهية ولأنه متمكن هاضم بخلاف الثاني فإنه متلون مغلوب وربما تكون مفاجأة الكشف من غير أن يكون المحل متهيئًا له سببًا للإلحاد والجنون والعياذ بالله تعالى.
وفي التأويلات: {لَنَهْديَنَّهُمْ سُبُلَنَا} أي سبيل وجداننا كما قال: «ألا من طلبني وجدني ومن تقرب إليّ شرًا تقربت إليه ذراعًا».
قالت المشايخ: المجاهدات تورث المشاهدات ولو قال قائل للبراهمة والفلاسفة إنهم يجاهدون النفس حق جهادها ولا تورث لهم المشاهدة قلنا: لأنهم قاموا بالمجاهدات فجاهدوا وتركوا الشرط الأعظم منها وهو قوله: {فينا} أي خالصًا لنا وهم جاهدوا في الهوى والدنيا والخلق والرياء والسمعة والشهرة وطلب الرياسة والعلو في الأرض والتكبر على خلق الله فأما من جاهد في الله جاهد أولًا بترك المحرمات ثم بترك الشبهات ثم بترك الفضلات ثم يقطع التعلقات تزكية للنفس ثم بالتنقي عن شواغل القلب على جميع الأوقات وتخليته عن الأوصاف المذمومات تصفية للقلب ثم بترك الالتفات إلى الكونين وقطع الطمع عن الدارين تحلية للروح فالذين جاهدوا في قطع النظر عن الأغيار بالانقطاع والانفصال لنهدينهم سبلنا بالوصول والوصال.
واعلم أن الهداية على نوعين هداية تتعلق بالمواهب وهداية تتعلق بالمكاسب فالتي تتعلق بالمواهب فمن هبة الله وهي سابقة والتي تتعلق بالمكاسب فمن كسب العبد وهي مسبوقة ففي قوله تعالى: {وَالَّذينَ جَاهَدُوا فينَا} إشارة إلى أن الهداية الموهبية سابقة على جهد العبد وجهده ثمرة ذلك البذر فلو لم يكن بذر الهداية الموهبية مزروعًا بنظر العناية في أرض طينة العبد لما نبتت فيها خضرة الجهد ولو لم يكن المزروع مربى جهد العبد لما أثمر بثمار الهداية المكتسبية.
قال بعض الكبار: النبوة والرسالة كالسلطنة اختصاص إلهي لا مدخل لكسب العبد فيها وأما الولاية كالوزارة فلكسب العبد مدخل فيها فكما تمكن الوزارة بالكسب كذلك تمكن الولاية بالكسب {وَإنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسنينَ} بمعية النصرة والإعانة والعصمة في الدنيا والثواب والمغفرة في العقبى.
وفي التأويلات النجمية: {لمع المحسنين} الذين يعبدون الله كأنهم يرونه. اهـ.

.قال عبد الكريم الخطيب:

قوله تعالى: {وَما هذه الْحَياةُ الدُّنْيا إلَّا لَهْو وَلَعب وَإنَّ الدَّارَ الْآخرَةَ لَهيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ}.
إن الذي يغطّى على أبصار هؤلاء المشركين، ويعمّى عليهم الطريق إلى الحق، هو اشتغالهم بهذه الدنيا، وتنافسهم على متاعها، واستهلاك أنفسهم في الجري اللاهث وراء لذاذاتها وشهواتها. ولو أنهم تخففوا قليلا من تعلقهم بالحياة، ونظروا إليها على أنها طريق إلى حياة أخرى، أخلد وأبقى- لو أنهم فعلوا هذا لكان شأنهم مع آيات اللّه وكلماته، غير شأنهم هذا، ولوجدوا لدعوة لرسول آذانا تسمع، وعقولا تعقل، وقلوبا تتقبل ما تعقله العقول.
ولهذا جاء قوله تعالى: في هذه الآية، كاشفا عن حقيقة دنيا المشركين هذه، التي فتنوا بها، وسكروا من خمرها. فما هي في حقيقتها إلا لهو ولعب، لا يشغل نفسه بها إلا لاعب لاه، شأنه في هذا شأن الصغار، الذين يعيشون لساعتهم، في مرح معربد، ولهو صاحب، غير ملتفتين إلى أي شيء وراء هذا.
وقوله تعالى: {وَإنَّ الدَّارَ الْآخرَةَ لَهيَ الْحَيَوانُ}- هو عرض للجانب الآخر من حياة الإنسان، وهو الجانب الحق، الجدير بأن يلتفت الإنسان إليه، ويعمل له. إنه المستقبل الذي ينتظره، والذي يأخذ فيه مكانه بين الناس وينزل منه منزلته، حسب ما قدم لهذا المستقبل من جهد، وما بذل من عمل.
تماما كما هو الشأن في حياة الإنسان في هذه الدنيا، فإن مكانه في الرجال، ومنزلته في الناس إنما تتحدد بما كان منه من سعى وعمل في دور الصبا والشباب. فإذا لها المرء في صباه، وعبث في شبابه، أسلمه ذلك إلى حياة ضائعة وإلى مستقبل أسود كئيب!.
إذا أنت لم تزرع وأبصرت حاصدا ** ندمت على التفريط في زمن البذر

وفى قوله تعالى: {لَهيَ الْحَيَوانُ} بدلا من لهى الحياة إشارة إلى أن الحياة الآخرة هي الحياة، بل هي أصل الحياة، وما سواها من حيوات، ظل لها، أو فرع منها.
وقوله تعالى: {لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ}. اتهام لهؤلاء المشركين بالجهل والغباء، وأنهم لو كانوا على شيء من العلم لما عموا عن هذه الحقيقة، ولما آثروا الفانية على الباقية، ولما اشتروا الضلالة بالهدى. فإن العاقل العالم، من شأنه أن يميز الخبيث من الطيب، ويفرق بين الغث والثمين.
قوله تعالى: {فَإذا رَكبُوا في الْفُلْك دَعَوُا اللَّهَ مُخْلصينَ لَهُ الدّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إلَى الْبَرّ إذا هُمْ يُشْركُونَ} أي أن هؤلاء المشركين اللاهين الغافلين، الذين أعماهم الضلال عن الآخرة، وعن العمل لها، وعن ذكر اللّه ذكرا خالصا- هؤلاء يظلون سادرين في لهوهم وشركهم، حتى إذا ركبوا في الفلك، واستشعروا الخطر، ذكروا اللّه، وفزعوا إليه، وأسلموا وجوههم له، مخلصين له الدين، لا يذكرون وجها من وجوه آلهتهم، ولا يهتفون باسم معبود من معبوداتهم فإذا خلصوا من البلاء، ونجوا من الهلاك، ولبستهم الطمأنينة- عادوا إلى ما كانوا فيه من شرك، ونسوا ما كان منهم للّه من دعاء ومواثيق! وهكذا المشركون في الآخرة، يوم يلقاهم العذاب، وتفتح لهم أبواب جهنم.
هناك لا يجرون لآلهتهم ذكرا على ألسنتهم، بل يذكرون اللّه وحده، طالبين الغوث من هذا البلاء العظيم، قائلين: {رَبَّنا أَخْرجْنا منْها فَإنْ عُدْنا فَإنَّا ظالمُونَ}. وأنّى لهم الخروج وقد دانهم الديّان بما كانوا يعملون؟: {قالَ اخْسَؤُا فيها وَلا تُكَلّمُون} (108: المؤمنون).
قوله تعالى: {ليَكْفُرُوا بما آتَيْناهُمْ وَليَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}.
اللام في {ليكفروا} وفى {ليتمتعوا} هي لام التعليل. وهو تعليل لسؤال يرد على قوله تعالى: {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إلَى الْبَرّ إذا هُمْ يُشْركُونَ} والسؤال الوارد هنا هو: لم لم يهلكهم اللّه في هذه الدنيا؟ ولم لم يعجّل لهم العذاب بشركهم هذا؟ ولم نجاهم اللّه سبحانه من الغرق، ولم يدع يد الغرق التي امتدت إلى سفينتهم تدفع بها وبهم إلى لجة الماء، فيبتلعهم اليمّ؟.
والجواب: {ليَكْفُرُوا بما آتَيْناهُمْ وَليَتَمَتَّعُوا} أي ليأخذوا فرصتهم كاملة في الكفر بهذه الآيات التي تطلع عليهم من آثار قدرتنا، وليتمتعوا بما بقي في آجالهم المقدورة لهم، من أيام.
وقوله تعالى: {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} تهديد ووعيد لهؤلاء المشركين الذين لم تزدهم آيات اللّه إلا ضلالا، ولم تزدهم نعمه وآلاؤه إلا كفرا. وأنهم إذا كانوا اليوم في غفلة عن مصيرهم الذي هم صائرون إليه، فسوف يعلمون علم اليقين، هذا المصير، وسيصلون عما قليل إلى ما أعد اللّه لهم من عذاب أليم.
هذا وقد قرىء قوله تعالى: {ليَكْفُرُوا بما آتَيْناهُمْ وَليَتَمَتَّعُوا} يسكون اللام في {وليتمتّعوا} وهذا يعني أن الأسلوب أمر، يراد به التهديد والوعيد.
قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَمًا آمنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ منْ حَوْلهمْ أَفَبالْباطل يُؤْمنُونَ وَبنعْمَة اللَّه يَكْفُرُونَ}.
هو استفهام إنكارىّ، ينكر فيه على هؤلاء المشركين كفرهم بآيات اللّه، وجحودهم النعم التي يعيشون فيها من فضله وإحسانه. فقد اختصهم اللّه سبحانه من بين العرب جميعا، بهذا البلد الحرام، الذي ألقى في قلوب العرب جميعا توقيره، وتوقير ساكنيه. وبهذا عاش هؤلاء المشركون في ظل هذا البلد الحرام، آمنين لا ينالهم أحد بسوء، على حين يعيش الناس من حولهم، في خوف وفزع، وفى بغى وعدوان، لا يأمن أحد على نفسه، وأهله وماله، من أن تطلع عليه في أية لحظة، عاصفة تأتى على كل شى ء!.
هكذا الحياة في هذه الغابة التي لا يتعامل فيها ساكنوها إلا بالظفر والنّاب، ما عدا هذه البقعة المباركة منها، فقد حماها اللّه، وحمى أهلها من كل عادية. {الَّذي أَطْعَمَهُمْ منْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ منْ خَوْفٍ} (4: قريش).
أفلا يرى هؤلاء المشركون تلك النعمة الجليلة؟ ألا يذكرون فضل اللّه عليهم بها؟ ألا يخلصون له العبادة؟ ألا يتركون عبادة هذه الدّمى التي شوّهوا بها وجه هذا الحرم، وجعلوها أندادا للّه؟ {أَفَبالْباطل يُؤْمنُونَ وَبنعْمَة اللَّه يَكْفُرُونَ}؟ ألا ما أسخف عقولهم، وما أخفّ أحلامهم! قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ ممَّن افْتَرى عَلَى اللَّه كَذبًا أَوْ كَذَّبَ بالْحَقّ لَمَّا جاءَهُ أَلَيْسَ في جَهَنَّمَ مَثْوىً للْكافرينَ}.
وإن هؤلاء المشركين لظالمون معتدون، بل إنهم لأشد الناس ظلما وأكثرهم عدوانا. إنّهم افتروا على اللّه الكذب، فخلقوا هذه الدّمى، وأعطوها ما شاءوا لها من أسماء، وجعلوها آلهة يعبدونها من دون اللّه، وقالوا: {ما نَعْبُدُهُمْ إلَّا ليُقَرّبُونا إلَى اللَّه زُلْفى}. ثم إنهم حين جاءهم رسول اللّه، يكشف لهم وجه هذا الباطل، ويفضح هذا الزّور، ويقيم لهم طريقا إلى اللّه، قائما على الحق- كذّبوه، ولم يقبلوا الهدى الذي معه. إن ذلك جرم غليظ، لا تتسع له أية عقوبة في هذه الدنيا، وإنه ليس إلا جهنّم ونكالها، وبلاؤها، جزاء يجزى به هؤلاء الكافرون. {أَلَيْسَ في جَهَنَّمَ مَثْوىً للْكافرينَ}؟
وبلى. إن فيها لمكانا لكل من كفر باللّه، وكذّب بآيات اللّه.
قوله تعالى: {وَالَّذينَ جاهَدُوا فينا لَنَهْديَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسنينَ}.
بهذه الآية الكريمة تختم السورة. فيلتقى ختامها مع بدئها، ولقد بدئت السورة بإيذان المؤمنين بالابتلاء، وملاقاة الفتن على طريق الإيمان، وأن استمساك المؤمن بإيمانه يقتضيه جهادا وتضحية، بالنفس والمال، والأهل والولد، والوطن، وكما يقول سبحانه: {أَحَسبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} كما يقول سبحانه في آية أخرى: {لَتُبْلَوُنَّ في أَمْوالكُمْ وَأَنْفُسكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ منَ الَّذينَ أُوتُوا الْكتابَ منْ قَبْلكُمْ وَمنَ الَّذينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثيرًا} (186: آل عمران).
وهذا الختام الذي ختمت به السورة، هو وعد كريم من اللّه سبحانه وتعالى المؤمنين الذين يجاهدون في سبيل اللّه، ويحتملون ما يلقاهم على طريق الجهاد من ضرّ وأذى- أن يهديهم اللّه، ويثبّت أقدامهم على سبيله. لأنهم سعوا إلى اللّه، فتلقاهم اللّه بإمداد عونه، وتأييده، ونصره، فكان لهم الغلب، وكانت لهم العزّة في الدنيا، وجنات النعيم في الآخرة.
وفى قوله تعالى: {جاهَدُوا فينا}. إشارة إلى هذا الجهاد الذي يجاهده المؤمن، وأنه جهاد للّه، وفى سبيل اللّه، وإعزاز دينه، ونصر كلمته. واللّه سبحانه وتعالى يقول: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} (40: الحج).
ومعنى الجهاد في اللّه، الجهاد في كل ما هو للّه- مما جعله حمى له، جل شأنه.
وفي توكيد الفعل {لنهدينّهم} توكيد لوعد اللّه، وأنه وعد أوجبه اللّه سبحانه على نفسه، كما يقول سبحانه: {وكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمنينَ} (47: الروم) وفى قوله سبحانه: {وَإنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسنينَ} تطمين لقلوب المؤمنين، وإشعار لهم بأن اللّه معهم، بعزته وقوته، وسلطانه. ومن كان اللّه معه، فهو في أمان من أن يذلّ أو يهون: {أُولئكَ حزْبُ اللَّه أَلا إنَّ حزْبَ اللَّه هُمُ الْمُفْلحُونَ} (22: المجادلة) وفى وصف المجاهدين في سبيل اللّه بأنهم محسنون، إشارة إلى أن الجهاد في جميع صوره، هو إحسان، وأن المجاهد محسن، لأنه يأخذ طريق الإحسان، ويسلك مسالكه، على حين أن غير المجاهد مسىء، لأنه يركب مراكب الضلال، ويهيم في أودية الباطل. فحيثما كان الإنسان مع اللّه سبحانه وتعالى، فهو في جهاد. فإذا قهر المرء أهواء نفسه، ووساوس شيطانه، فهو مع اللّه، وفى جهاد في اللّه. وإذا انتصر الإنسان لمظلوم، فهو مع اللّه وعلى جهاد في سبيل اللّه. وإذا قال المرء كلمة الحقّ، وردّ بها باطلا، وسفّه بها ضلالا، فهو مع اللّه، وفى جهاد في اللّه. وإذا حمل المرء سلاحه، ودخل الحرب تحت راية المجاهدين فهو مع اللّه، وفى جهاد في اللّه.
إن سبل الجهاد كثيرة، وميادينه متعددة. بالقول، وبالعمل، باللسان وبالسيف، ولعلّ هذا هو السرّ في جمع السبيل في قوله تعالى: {وَالَّذينَ جاهَدُوا فينا لَنَهْديَنَّهُمْ سُبُلَنا}. فهناك أكثر من سبيل يصل به المؤمن إلى اللّه. لأنها جميعها قائمة على الحق، والعدل، والإحسان.
وصدق اللّه العظيم. اهـ.