فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{وَمَا هَذه الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إلَّا لَهْو وَلَعب}.
هذا الكلام مبلَّغ إلى الفريقين اللذين تضمنهما قوله تعالى: {بل أكثرهم لا يعقلون} [العنكبوت: 63] فإن عقلاءهم آثروا باطل الدنيا على الحق الذي وضح لهم، ودهماءهم لم يشعروا بغير أمور الدنيا، وجميعهم أنكروا البعث فأعقب الله ما أوضحه لهم من الدلائل بأن نبههم على أن الحياة الدنيا كالخيال وأن الحياة الثانية هي الحياة الحق.
والمراد بالحياة ما تشتمل عليه من الأحوال وذلك يسري غلى الحياة نفسها.
واللهو: ما يلهو به الناس، أي يشتغلون به عن الأمور المكدرة أو يعْمرون به أوقاتهم الخلية عن الأعمال.
واللعب: ما يقصد به الهزل والانبساط.
وتقدم تفسير اللعب واللهو ووجه حصر الحياة الدنيا فيهما عند قوله تعالى: {وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو} في سورة الأنعام (32).
والحصر: ادعائي كما تقدم.
وقد زادت هذه الآية بتوجيه اسم الإشارة إلى الحياة وعهي إشارة تحقير وقلة اكتراث، كقول قيس بن الخطيم مشيرًا إلى الموت:
متى يأت هذا الموتُ لا يُلف حَاجة ** لنفسيَ إلا قَد قضيتُ قضاءها

ولم توجه الإشارة إلى الحياة في سورة الأنعام.
ووجه ذلك أن هذه الآية لم يتقدم فيها ما يقتضي تحقير الحياة فجيء باسم الإشارة لإفادة تحقيرها، وأما آية سورة الأنعام فتقدم قوله: {حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة قالوا يا حسرتنا على ما قرطنا فيها} [الأنعام: 31] فذُكر لهم في تلك الآية ما سيظهر لهم إذا جاءتهم الساعة من ذهاب حياتهم الدنيا سُدى.
وأمر تقديم ذكر اللهو هنا وذكر اللعب في سورة الأنعام فلأن آية سورة الأنعام لم تشتمل على اسم إشارة يقصد منه تحقير الحياة الدنيا فكان الابتداء بأنها لعب مشيرًا إلى تحقيرها لأن اللعب أعرق في قلة الجدوى من اللهو.
ولما أشير في هذه الآية إلى الحياة الآخرة في قوله: {فأحيا به الأرض من بعد موتها} [العنكبوت: 63] زاده تصريحًا بأن الحياة الآخرة هي الحياة الحق فصيغ لها وزن الفعلان الذي هو صيغة تنبئ عن معنى التحرك توضيحًا لمعنى كمال الحياة بقدر المتعارف، فإن التحرك والاضطراب أمارة على قوة الحيوية في الشيء مثل الغليان واللهبان.
وهم قد جهلوا الحياة الآخرة من أصلها فلذلك قالوا {لو كانوا يعلمون}.
وجواب {لو} محذوف دليله ما تقدم، أو هو الجواب مقدّمًا.
{فَإذَا رَكبُوا في الْفُلْك دَعَوُا اللَّهَ مُخْلصينَ لَهُ الدّينَ}.
أفادت الفاء تفريع ما بعدها على ما قبلها، والمفرع عليه محذوف ليس هو واحد من الأخبار المتقدمة بخصوصه ولكنه مجموع ما تدل عليه قوة الحديث عنهم وما تقتضيه الفاء.
والتقدير: هم أي المشركون على ما وُصفوا به من الغفلة عن دلائل الوحداينة وإلغائهم ما في أحوالهم من دلائل الاعتراف لله بها لا يضرعون غلا إلى الله فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله، فضمائر جمع الغائبين عَائدة إلى المشركين.
وهذا انتقال إلى إلزامهم بما يقتضيه دعاؤهم حين لا يشركون فيه إلهًا آخر مع الله بعد إلزامهم بموجبات اعترافاتهم فإنهم يدعون أصنامهم في شؤون من أحوالهم ويستنصرونهم ولكنهم إذا أصابهم هول توجهوا بتضرعهم إلى الله.
وإنما خصّ بالذكر حال خوفهم من هول ابحر في هذه الآية وفي آيات كثيرة مثل ما في سورة يونس وما في سورة الإسراء لأن أسفارهم في البر كانوا لا يعتريهم فيها خوف يعم جميع السفر لأنهم كانوا يسافرون قوافلَ، معهم سلاحهم، ويمرون بسبل يالفونها فلا يعترضهم خوف عام، فأما سفرهم في البحر فإنهم يَفْرَقون من هوْله ولا يدفعه عنهم وفرة عدد ولا قوة عُدد، فهم يضرعون إلى الله بطلب النجاة ولعلهم لا يدعون أصنامهم حينئذ.
فأما تسخير المخلوقات فما كانوا يطمعون به غلا من الله تعالى، وأيضًا كان يخامرهم الخوف عند ركوبهم في البحر لقلة إلفهم بركوبه إذ كان معظم أسفارهم في البراري.
وقد تقدم تعدية الركوب بحرف في عند قوله: {وقال اركبوا فيها} في سورة [هود: 41].
والإخلاص: التمحيص والإفراد.
و{الدين} المعاملة.
والمراد به هنا الدعاء، أي ادعوا الله غير مشركين معه أصنامهم.
ويفسر ذلك قوله: {فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون}.
فجيء بحرف المفاجأة للدلالة على أنهم ابتدروا إلى الإشراك في حين حصولهم في البر، أي أسرعوا إلى ما اعتادوه من زيارة أصنامهم والذبح لها.
والمفاجأة عرفية بحسب ما يقتضيه الإرساء في البر والوصول إلى مواطنهم فكانوا يبادرون بإطعام الطعام عند الرجوع من السفر.
واللام في {ليَكْفُرُوا} لام التعليل وهي لام كي وهي متعلقة بفعل {يشْركُون}.
والكفر هنا ليس هو الشرك ولكنه كفران النعمة بقرينة قوله: {بما آتَيْنَاهُم} فإن الإيتاء بمعنى الإنعام وبقرينة تفريعه على {يشْركُون} فالعلة مغايرة للمعلول وكفران النعمة مسبب عن الإشراك لأنهم لما بادروا إلى شؤون الإشراك فقد أخذوا يكفرون النعمة، فاللام استعارة تبعية، شبه المسبَّب بالعلة الباعثة فاستعير له حرف التعليل عوضًا عن فاء التفريع.
وأما اللام في قوله: {وليَتَمَتَّعُوا} بكسر اللام على أنها لام التعليل في قراءة ورش عن نافع وأبي عمرو وابن عامر وعاصم وأبي جعفر ويعقوب.
وقرأه قالون عن نافع وابنُ كثير، وحمزة والمكسائي وخلف بسكونها فهي لام امر، وهي بعد حرف العطف تسكَّن وتكْسر، وعليه فالأمر مستعمل في التهديد نظير قوله: {اعْمَلُوا ما شئْتُم} [فصلت: 40] وهو عطف جملة التهديد على جملة {فَلَمَّا نَجاهُمْ إلى البَرّ}. إلخ.
نظير قوله في سورة [الروم: 34] {ليكفُروا بمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} والتمتع: الانتفاع القصير زمنُه.
وجملة {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} تفريع على التهديد بالوعيد.
{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ منْ حَوْلهمْ}.
هذا تذكير خاص لأهل مكة وإنما خُصُّوا من بين المشركين من العرب لأن أهل مكة قدوة لجميع القبائل؛ ألا ترى أن أكثر قبائل العرب كانوا ينتظرون ماذا يكون من أهل مكة فلما اسلم أهل مكة يومَ الفتح أقبلت وفود القبائل معلنة إسلامهم.
والجملة معطوفة على جملة {فإذَا رَكبوا في الفُلك دَعُوا الله} [العنكبوت: 65] باعتبار ما اشتملت عليه تلك الجملة من تقريعهم على كفران نعم الله تعهالى، ولذلك عقبت هذه الجملة بقولة {وبنعمة الله يكفرون} والاستفهام إ، كاري، وجعلت نعمة أمن بلدهم كالشيء المشاهد فأنكر عليهم عدم رؤيته، فقوله: {أنا جعلنا حرمًا آمنًا} مفعول {يَرُوا} ومعنى هذه الآية يعلم مما تقدم عند الكلام على قوله تعالى: {وَقَالُوا إنْ نَتَّبعْ الهُدَى معَكَ نُتخَطَّفْ من أرْضنَا أوَ لَمْ نُمَكّنْ لَهُمْ حرَمًا آمنًا} في سورة [القصص: 57] ، وقد كان أهل مكة في بحبوحة من الأمن وكان غيرهم من القبائل حول مكة وما بعدُ منها يغزو بعضهم بعضًا ويتغاورون ويتناهون، وأهل مكة آمنون لا يعدو عليهم أحد مع قتلهم، فذكرهم الله هذه النعمة عليهم والباطل: هو الشرك كما تقدم عند قوله تعالى: {والذين آمنوا بالباطل} في هذه السورة العنكبوت (52).
و{نعْمَةَ الله} المراد بها الجنس الذي منه إنجاؤهم من الغرق وما عداه من النعم المحسوسة المعروفة، ومن النعم الخفية التي لو تأملوا لأدركوا عظمها، ومنها نعمة الرسالة المحمدية.
والمضارع في المواضع الثلاثة دال على تجدّد الفعل.
{وَمَنْ أَظْلَمُ ممَّن افْتَرَى عَلَى اللَّه كَذبًا أَوْ كَذَّبَ بالْحَقّ لَمَّا جَاءَهُ}.
لما أوفاهم ما يستأهلونه من تشنيع أحوالهم وسوء انتظام شؤونهم جاء في عقبه بتذييل يجمعها في أنها افتراء على الله وتكذيب بالحق، ثم جزاهم الجزاء الأوفى اللائق بحالهم وهو أن النار مثواهم.
وافتتح تشخيص حالهم بالاستفهام عن وجود فريق هم أظلم من هؤلاء الذين افتروا على الله وكذبوا بالحق توجيهًا لأذهان السامعين نحو البحث هل يجدون أظلم منهم حتى إذا أجادوا التأمل واستَقْروا مظانّ الظلمة واستعرضوا أصنافهم تيقنُوا أن ليس ثمة ظلم أشدُّ من ظلم هؤلاء.
وإنما كانوا أشد الظالمين ظُلمًا لأن الظلم الاعتداء على أحد بمنعه من حقه وأشدّ من المنع أن يمنعه مستحقَّه ويعطيه من لا يستحقه، وأن يلصق باحد ما هو بريء منه.
ث إن الاستحقاق وعدمه قد يثبتان بحكم العوائد وقد يثبتان بأحكام الشرائع وقد يثبتان بقضايا العقول السليمة وهو أعلى مراتب الثبوت ومَدار أمور أهل الشرك على الافتراء على الله بأن سَلبوا عنه ما هو متصف به من صفات الإلهية الثابتة بدلالة العقول، وأثبتوا له ما هو منزه عنه من الصفات والأفعال بدلالة العقول، وعلى تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم ونكران دلالة المعجزة التي يقتضيها العقل، وعلى رمي الرسول عليه الصلاة والسلام بما هو بريء منه بشهادة العقل والعادة التي عرفوها منه بهتانًا وكذبًا؛ فكانوا بمجموع الأمرين وضعوا اشياء في مواضع لا يمكن أن تكون مواضعها فكانوا أظلم الناس لأن عدم الإمكان أقوى من عدم الحصول.
وتقييد الافتراء بالحال الموكّدة في قوله: {كَذبًا} لزيادة تفظيع الافتراء لأن اسم الكذب مشتهر القبح في عرف الناس، وإنما اختير الافتراء للدلالة على أنهم يتعمدون الاختلاق تعمدًا لا تخالطه شبهة.
وتقييد تكذيبهم بالحق بقوله: {لَمَّا جَاءَهُ} لإدماج ذم المكذبين بنكران نعمة إرسال الحق إليهم التي لم يقدروها قدرها، وكان شأن العقلاء أن يتطلبوا الحق ويرحلوا في طلبه، وهؤلاء جاءهم الحق بين أيديهم فكذبوا به.
وأيضًا فإن {لَمَّا} التوقيتية تؤذن بأن تكذيبهم حصل بدارًا عند مجيء الحق، أي دون أن يتركوا لأنفسهم مهلة النظر.
وجملة {أليس في جهنم مثوى للكافرين} بيان لجملة {ومَنْ أظْلَمُ ممَّن افْتَرَى على الله} وتقرير لها لأن في جملة {ومن أظلم ممن افترى على الله} إلى آخرها إيذانًا إجماليًا بجزاء فظيع يترقبهم، فكان بيانه بمضمون جملة {أليس في جهنم مثوى لكافرين} وهو بالفاظه ونظمه يفيد تمكنهم من عذاب جهنم إذ جعلت مثواهم.
فالمثوى: مكان الثواء.
والثواء: الإقامة الطويلة والسكنى.
وعلق ذلك بعنوان الكافرين للتنبيه على استحقاقهم ذلك لأجل كفرهم.
والتعريف في {الكَافرين} تعريف العهد، أي لهؤلاء الكافرين وهم الذين ذكروا من قبلُ بأنهم افتروا على الله كذبًا وكذبوا بالحق، فكان مقتضى الظاهر الإتيان بضميرهم فعدل عنه إلى الاسم الظاهر لإحضارهم بوصف الكفر.
والهمزة في {أليس في جهنم مثوى} للاستفهام التقريري، واصلها: إما الإنكار بتنزيل المُقرّ منزلة المنكر ليكون إقراره أشد لزومًا له، وإما أن تكون للاستفهام فلما دخلت على النفي أفادت التقرير لأن إنكار النفي إثبات للمنفي وهو إثبات مستعمل في التقرير على وجه الكناية.
وهذا التقرير بالهمزة هو غالب استعمال الاستفهام مع النفي، ومنه قول جرير:
ألستم خير من ركب المطايا ** وأندى العالمين بطون راح

فإنه لا يحتمل غير معنى التقرير بشهادة الذوق ولياقة مقام مدح الخليفة.
وهذا تقرير لمن يسمع هذا الكلام.
جُعل كون جهنم مثواهم أمرًا مسلمًا معروفًا بحيث يُقرّ به كل من يُسأل عنه كناية عن تحقيق المغبة على طريقة إيماء الكناية.
{وَالَّذينَ جَاهَدُوا فينَا لَنَهْديَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسنينَ (69)}.
خُتم توبيخ المشركين وذمُّهم بالتنويه بالمؤمنين إظهارًا لمزيد العناية بهم فلا يخلو مقام ذم أعدائهم عن الثناء عليهم، لأن ذلك يزيد الأعداء غيظًا وتحقيرًا.
و{الذين جاهدوا} في الله هم المؤمنون الأولون فالموصول بمنزلة المعرّف بلام العهد.
وهذا الجهاد هو الصبر على الفتن والأذى ومدافعة كيد العدو وهو المتقدم في قوله أول السورة [العنكبوت: 6] {ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه} إذ لم يكن يومئذ جهاد القتال كما علمت من قبل.
وجيء بالموصول للإيماء إلى أن الصلة سبب الخبر.
ومعنى {جاهدوا فينا} جاهدوا في مرضاتنا، والدّين الذي اخترناه لهم.
والظرفية مجازية، يقال: هي ظرفية تعليل تفيد مبالغة في التعليل.
والهداية: الإرشاد والتوفيق بالتيسير القلبي والإرشاد الشرعي، أي لنزيدنهم هُدى.
وسُبُل الله: الأعمال الموصلة إلى رضاه وثوابه، شبهت بالطرق الموصلة إلى منزل الكريم المكرم للضيف.
والمراد ب {المحسنين} جميع الذين كانوا محسنين، أي كان عمل الحسنات شعارهم وهو عامّ.
وفيه تنويه بالمؤمنين بأنهم في عداد من مضى من الأنبياء والصالحين.
وهذا أوقع في إثبات الفوز لهم مما لو قيل: فأولئك المحسنون لأن في التمثيل بالأمور المقررة المشهورة تقريرًا للمعاني ولذلك جاء في تعليم الصلاة على النبيء صلى الله عليه وسلم قوله: «كما صليتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم».
والمعية: هنا مجاز في العناية والاهتمام بهم.
والجملة في معنى التذييل بما فيها من معنى العموم.
وإنما جيء بها معطوفة للدلالة على أن المهم من سَوقها هو ما تضمنته من أحوال المؤمنين، فعطفت على حالتهم الأخرى وأفادت التذييل بعموم حكمها.
وفي قوله: {لنهدينهم سبلنا} إيماء إلى تيسير طريق الهجرة التي كانوا يتأهبون لها أيام نزول هذه السورة. اهـ.