فصل: قال الزمخشري:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وروى أبو سلمة عن أبي هريرة قال: كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة بالعبرانية، فيفسرونها بالعربية لأهل الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم» {وقولوا آمَنَّا بالذي أُنزلَ إلَيْنَا وَأُنزلَ إلَيْكُمْ}. الآية.
وروى سفيان ومسعود، عن سعد بن إبراهيم، عن عطاء بن يسار قال: بينما رجل من أهل الكتاب يحدث أصحابه وهم يسبّحون كلما ذكر شيئًا من أمرهم، قال: فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه، فقال: «لا تصدقوهم ولا تكذبوهم ولكن {قولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم}».
{وإلهنا وإلهكم وَاحد وَنَحْنُ لَهُ مُسْلمُونَ وَكَذَلكَ} أي وكما أنزلنا الكتاب عليهم.
{أَنزَلْنَآ إلَيْكَ الكتاب فالذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب يُؤْمنُونَ به} يعني مؤمني أهل الكتاب عبد الله بن سلام وأصحابه.
{وَمنْ هؤلاء} الذين هم بين ظهرانيك اليوم من يؤمن به {وَمَا يَجْحَدُ بآيَاتنَآ إلاَّ الكافرون} قال قتادة: إنّما يكون الجحود بعد المعرفة.
{وَمَا كُنتَ تَتْلُوا} يا محمد {من قَبْله} أي من قبل هذا الكتاب الذي أنزلنا عليك {من كتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ} تكتبه {بيَمينكَ إذًا لاَّرْتَابَ المبطلون} يعني: لو كنت تكتب أو تقرأ الكتب قبل الوحي إذًا لشك المبطلون أي المشركون من أهل مكة وقالوا: هذا شيء تعلّمه محمد وكتبه، قاله قتادة.
وقال مقاتل: {المبطلون} هم اليهود، ومعنى الآية: إذا لشكّوا فيك واتهموك يا محمد، وقالوا: إنّ الذي نجد نعته في التوراة هو أمي لا يقرأ ولا يكتب.
{بَلْ هُوَ} يعني القرآن {آيَات بَيّنَات} عن الحسن، وقال ابن عباس وقتادة: بل هو يعني محمد صلى الله عليه وسلم والعلم بأنّه أمي {آيَات بَيّنَات في صُدُور الذين} أهل العلم من أهل الكتاب يجدونها في كتبهم. ودليل هذا التأويل قراءة ابن مسعود وابن السميفع {بل هي آيات}.
{وَمَا يَجْحَدُ بآيَاتنَآ إلاَّ الظالمون وَقَالُوا لَوْلاَ أُنزلَ عَلَيْه آيَات مّن رَّبّه} كما أنزل على الأنبياء قبلك، قرأ ابن كثير والأعمش وحمزة والكسائي وخلف وأيوب وعاصم برواية أبي بكر {ءَايَةً} على الواحد، الباقون {آيَات} بالجمع واختاره أبو عبيد لقوله: {قُلْ إنَّمَا الآيات عندَ الله} حتى إذا شاء أرسلها، وليست عندي ولا بيدي.
{وَإنَّمَآ أَنَا نَذير مُّبين أَوَلَمْ يَكْفهمْ أَنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب يتلى عَلَيْهمْ إنَّ في ذلك لَرَحْمَةً وذكرى لقَوْمٍ يُؤْمنُونَ} هذا جواب لقولهم {لَوْلاَ أُنزلَ عَلَيْه آيَات مّن رَّبّه} وروى حجاج، عن ابن جريج، عن عمرو بن دينار، عن يحيى بن جعدة أنّ أناسًا من المسلمين أتوا نبي الله عليه السلام بكتب قد كتبوها فيها بعض ما يقول اليهود فلما أن نظر فيها ألقاها ثم قال: «كفى بها حماقة قوم أو ضلالة قوم أن يرغبوا عما جاءهم به نبيهم إلى ما جاء به غير نبيهم إلى قوم غيرهم» فنزلت {أو لم يكفهم}. الآية.
{قُلْ كفى بالله بَيْني وَبَيْنَكُمْ شَهيدًا} أني رسوله، وأن هذا القرآن كتابه. {يَعْلَمُ مَا في السماوات والأرض والذين آمَنُوا بالباطل وَكَفَرُوا بالله أولئك هُمُ الخاسرون وَيَسْتَعْجلُونَكَ بالعذاب} نزلت في النضر بن الحارث حين قال: فأمطر علينا حجارة من السماء وقال: عجل لنا قطنا.
{وَلَوْلاَ أَجَل مُّسَمًّى} في نزول العذاب، وقال ابن عباس: يعني ما وعدتك أن لا أعذب قومك ولا أستأصلهم وأؤخر عذابهم إلى يوم القيامة، بيانه قوله: {بَل الساعة مَوْعدُهُمْ} [القمر: 46]. الآية، وقال الضحاك: يعني مدة أعمارهم في الدنيا. وقيل: يوم بدر.
{لَّجَاءَهُمُ العذاب وَلَيَأْتيَنَّهُمْ} يعني العذاب وقيل: الأجل {بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ يَسْتَعْجلُونَكَ بالعذاب وَإنَّ جَهَنَّمَ لَمُحيطَة بالكافرين} لا يبقى منهم أحد إلاّ دخلها، وقيل: هو متصل بقوله: {يَوْمَ يَغْشَاهُمُ} يصيبهم {العذاب من فَوْقهمْ وَمن تَحْت أَرْجُلهمْ} يعني: إذا غشيهم العذاب أحاطت بهم جهنّم.
{وَيقُولُ} بالياء كوفي ونافع وأيوب، غيرهم بالنون {ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}.
{يا عبادي الذين آمنوا} بإرسال الياء عراقي غير عاصم، سائرهم بفتحها {إنَّ أَرْضي} مفتوحة الياء ابن عامر، غيره ساكنة {وَاسعَة فَإيَّايَ فاعبدون} توحدون من غير طاعة مخلوق في معصيتي، قال سعيد بن جبير: إذا عُمل في أرض بالمعاصي، فاهربوا فإنّ أرضي واسعة.
مجاهد: {إنَّ أَرْضي وَاسعَة} فهاجروا وجاهدوا، وقال مقاتل والكلبي: نزلت في المستضعفين المؤمنين الذين كانوا بمكة لا يقدرون على إظهار الإيمان وعبادة الرحمن، يحثهم على الهجرة ويقول لهم: إنّ أرض المدينة واسعة آمنة. وقال مطرف بن عبد الله بن الشخير: {أَرْضي وَاسعَة} أي رزقي لكم واسع، أُخرج من الأرض ما يكون بها.
أخبرنا عبد الله بن حامد، قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن شاذان، قال: حدثنا جيغويه ابن محمد الترمذي، قال: حدثنا صالح بن محمد، عن سليمان، عن عباد بن منصور الناجي، عن الحسين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من فرّ بدينه من أرض إلى أرض وإن كان شبرًا من الأرض استوجب الجنة وكان رفيق إبراهيم ومحمد صلى الله عليه وسلم».
{كُلُّ نَفْسٍ ذَآئقَةُ الموت ثُمَّ إلَيْنَا تُرْجَعُونَ} فلا تقيموا بدار المشركين.
{والذين آمَنُوا وَعَملُوا الصالحات لَنُبَوّئَنَّهُمْ مّنَ الجنة غُرَفًَا} علالي، قرأ حمزة والكسائي وخلف بالتاء، غيرهم بالياء أي لينزلنّهم {تَجْري من تَحْتهَا الأنهار خَالدينَ فيهَا نعْمَ أَجْرُ العاملين الذين صَبَرُوا وعلى رَبّهمْ يَتَوَكَّلُونَ وَكَأَيّن} وكم {مّن دَآبَّةٍ لاَّ تَحْملُ رزْقَهَا} وذلك إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للمؤمنين الذين كانوا بمكة وقد آذاهم المشركون: «أخرجوا إلى المدينة وهاجروا ولا تجاوروا الظلمة فيها».
فقالوا: يا رسول الله كيف نخرج إلى المدينة ليس لنا بها دار ولا عقار ولا مال، فمن يطعمنا بها ويسقينا؟ فأنزل الله سبحانه: {وَكَأَيّن مّن دَآبَّةٍ} ذات حاجة إلى غذاء لا تحمل رزقا فيرفعه لغذائها يعني الطير والبهائم.
{الله يَرْزُقُهَا وَإيَّاكُمْ} يومًا بيوم {وَهُوَ السميع} لأقوالكم: نخشى لفراق أوطننا العيلة. {العليم} بما في قلوبكم وما إليه صائرة أموركم.
أخبرني أبو عبد الله الحسين بن محمد الثقفي، قال: حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن الرقاق، وقال: حدثنا محمد بن عبد العزيز، قال: حدثنا إسماعيل بن زرارة الرقي، قال: حدثنا أبو العطوف الجراح بن المنهال الجوزي، عن الزهري، عن عطاء بن أبي رياح، عن ابن عمر قال: دخلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حائطًا من حياطان الأنصار، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقط الرطب بيده ويأكل فقال: «كل يا ابن عمر» قلت: لا أشتهيها يا رسول الله، قال: «لكنّي أشتهيه وهذه صبحة رابعة لم أزق طعامًا ولم أجده» فقلت: إنّا لله، الله المستعان، قال: «يا بن عمر لو سألت ربّي لأعطاني مثل ملك كسرى وقيصر أضعافًا مضاعفة، ولكني أجوع يومًا وأشبع يومًا فكيف بك يابن عمر إذا عمرت وبقيت في حثالة من الناس يخبّؤون رزق سنة ويضعف اليقين» فنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَكَأَيّن مّن دَآبَّةٍ لاَّ تَحْملُ رزْقَهَا}. الآية.
أخبرني ابن فنجويه، حدثنا ابن حنيش، حدثنا أبو يعلى الموصلي، حدثنا يحيى من معين، حدثنا يحيى بن اليمان، عن سفيان، عن علي بن الأرقم {وَكَأَيّن مّن دَآبَّةٍ لاَّ تَحْملُ رزْقَهَا} قال: لا تدخر شيئًا لغد.
قال سفيان: ليس شيء مما خلق الله يخبّيء إلاّ الإنسان والفأرة والنملة.
{وَلَئن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض وَسَخَّرَ الشمس والقمر لَيَقُولُنَّ الله فأنى يُؤْفَكُونَ الله يَبْسُطُ الرزق لمَن يَشَاءُ منْ عبَاده وَيَقْدرُ لَهُ إنَّ الله بكُلّ شَيْءٍ عَليم وَلَئن سَأَلْتَهُمْ مَّن نَّزَّلَ منَ السماء مَاءً فَأَحْيَا به الأرض من بَعْد مَوْتهَا لَيَقُولُنَّ الله قُل الحمد للَّه بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقلُونَ وَمَا هذه الحياة الدنيآ إلاَّ لَهْو وَلَعب وَإنَّ الدار الآخرة لَهيَ الحيوان} يعني الدائمة الباقية التي لا زوال لها ولا موت فيها. {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} ولكنهم لا يعلمون ذلك.
{فَإذَا رَكبُوا في الفلك} وخافوا الغرق والهلاك {دَعَوُا الله مُخْلصينَ لَهُ الدين فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إلَى البر إذَا هُمْ يُشْركُونَ ليَكْفُرُوا بمَآ آتَيْنَاهُمْ} ليجحدوا نعمه في إنجائه إياهم وسائر الآية {وَليَتَمَتَّعُوا} جزم لامه الأعمش وحمزة والكسائي وخلف وأيوب، واختلف فيه عن عاصم ونافع وابن كثير، الباقون بكسر اللام واختاره أبو عبيد ليكفروا لكون الكلام نسقًا. ومن جزم احتج بقراءة أبي بن كعب {يمتعوا}. {فَسَوْفَ يَعلَمُونَ}.
أخبرني أبو محمد عبد الله بن حامد فيما أذن لي روايته عنه قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن أبي سعيد، قال: حدثنا محمد بن الحسن بن أسكت، قال: حدثنا عقال، قال: حدثنا جعفر بن سلمان قال: حدثنا ملك بن دينار، قال: سمعت أبو العالية قرأ: {ليَكْفُرُوا بمَآ آتَيْنَاهُمْ فتمتعوا فَسَوْفَ يَعلَمُونَ} بالياء، فالكسر على كي والجزم على التهديد.
{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمنًا وَيُتَخَطَّفُ الناس منْ حَوْلهمْ أفبالباطل} بالأصنام {يُؤْمنُونَ وَبنعْمَة الله} يعني الإيمان {يَكْفُرُونَ وَمَنْ أَظْلَمُ ممَّنْ افترى عَلَى الله كَذبًا} فزعموا أنّ لله شريكًا، وقالوا إذا فعلوا فاحشة، {قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَآ آبَاءَنَا والله أَمَرَنَا بهَا} [الأعراف: 28].
{أَوْ كَذَّبَ بالحق} بمحمد والقرآن {لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ في جَهَنَّمَ مَثْوًى} منزل {لّلْكَافرينَ والذين جَاهَدُوا فينَا لَنَهْديَنَّهُمْ سُبُلَنَا} أي والذين قاتلوا لأجلنا أعداءنا لنصرة ديننا لنثبتهم على ما قاتلوا عنه.
قال أبو سورة: {والذين جَاهَدُوا} في الغزو {لَنَهْديَنَّهُمْ} سبيل الشهادة أو المغفرة.
أخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا ابن شنبه، قال: حدثنا عبد الله بن محمد بن وهب، قال: حدثنا إبراهيم بن سعيد، قال: سمعت سفيان بن عيينة يقول: إذا اختلف الناس فانظروا ما عليه أهل الثغر فإنّ الله سبحانه وتعالى يقول: {والذين جَاهَدُوا فينَا لَنَهْديَنَّهُمْ سُبُلَنَا}.
وقال الفضيل بن عياض: والذين جاهدوا في طلب العلم لنهدينّهم سبل العمل به.
وأخبرني أبو الحسن محمد بن القاسم بن أحمد، قال: حدثني أبو الطيب محمد بن أحمد ابن حمدون، قال: حدثنا عبد الرحمن بن الحسين، قال: حدثنا محمد بن إدريس، قال: حدثنا أحمد بن أبي الجواري، قال: قال أبو أحمد يعني عباس الهمداني وأبو سليمان الداراني في قوله سبحانه: {والذين جَاهَدُوا فينَا لَنَهْديَنَّهُمْ سُبُلَنَا} قال: الذين يعملون بما يعلمون يهديهم ربّهم إلى ما لا يعلمون.
وعن عمر بن عبد العزيز إنّه تكلم بكلمات وعنده نفر من العلماء، فقال له الوضين بن عطاء: بمَ أوتيت هذا العلم يا أبا مروان؟ قال: ويحك يا وضين إنّما قصر بنا من علم ما جهلنا بتقصيرنا في العمل بما علمنا، ولو أنّا عملنا ببعض ما علمنا لأورثنا علمًا لا تقوم به أبداننا.
وعن عبد الله بن الزبير قال: تقول الحكمة: من طلبني فلم يجدني فليطلبني في موضعين: أن يعمل بأحسن ما يعلمه، أو يدع أسوأ ما يعلمه.
وروي عن ابن عباس: والذين جاهدوا في طاعتنا لنهدينهم سبل ثوابنا.
ضحاك: والذين جاهدوا بالهجرة لنهدينّهم سبل الثبات على الإيمان، وقيل: والذين جاهدوا بالثبات على الإيمان لنهدينهم سبل دخول الجنان، سهل بن عبد الله: والذين جاهدوا في إقامة السنّة لنهدينّهم سبل الجنة ثم قال: مثل السنّة في الدنيا كمثل الجنة في العقبى، من دخل الجنة في العقبى سلم، فكذلك من لزم السنّة في الدنيا سلم، وقال الحسين بن الفضل: فيه تقديم وتأخير مجازه: والذين هديناهم سبيلنا جاهدوا فينا {وَإنَّ الله لَمَعَ المحسنين} بالنصر والمعونة في دنياهم، وبالثواب والمغفرة في عقباهم. اهـ.

.قال الزمخشري:

.[سورة العنكبوت: آية 46]:

{وَلا تُجادلُوا أَهْلَ الْكتاب إلاَّ بالَّتي هيَ أَحْسَنُ إلاَّ الَّذينَ ظَلَمُوا منْهُمْ}.
{بالَّتي هيَ أَحْسَنُ} بالخصلة التي هي أحسن: وهي مقابلة الخشونة باللين، والغضب بالكظم.
والسورة بالأناة، كما قال. {ادْفَعْ بالَّتي هيَ أَحْسَنُ إلَّا الَّذينَ ظَلَمُوا} فأفرطوا في الاعتداء والعناد ولم يقبلوا النصح ولم ينفع فيهم الرفق، فاستعملوا معهم الغلظة، وقيل: إلا الذين آذوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. وقيل: إلا الذين أثبتوا الولد والشريك وقالوا يد اللّه مغلولة.
وقيل: معناه ولا تجادلوا الداخلين في الذمّة المؤدّين للجزية إلا بالتي هي أحسن، إلا الذين ظلموا فنبذوا الذمّة ومنعوا الجزية، فإن أولئك مجادلتهم بالسيف. وعن قتادة: الآية منسوخة بقوله تعالى: {قاتلُوا الَّذينَ لا يُؤْمنُونَ باللَّه وَلا بالْيَوْم الْآخر} ولا مجادلة أشدّ من السيف: وقوله: {قُولُوا آمَنَّا بالَّذي أُنْزلَ إلَيْنا} من جنس المجادلة بالتي هي أحسن. وعن النبي صلى اللّه عليه وسلم:
ما حدّثكم أهل الكتاب فلا تصدّقوهم ولا تكذبوهم، وقولوا آمنا باللّه وكتبه ورسله، فإن كان باطلا لم تصدّقوهم، وإن كان حقا لم تكذبوهم.

.[سورة العنكبوت: آية 47]:

{وَكَذلكَ أَنْزَلْنا إلَيْكَ الْكتابَ فَالَّذينَ آتَيْناهُمُ الْكتابَ يُؤْمنُونَ به وَمنْ هؤُلاء مَنْ يُؤْمنُ به وَما يَجْحَدُ بآياتنا إلاَّ الْكافرُونَ (47)}.
ومثل ذلك الإنزال {أَنْزَلْنا إلَيْكَ الْكتابَ} أي: أنزلناه مصدّقا لسائر الكتب السماوية، تحقيقا لقوله: {آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم}. وقيل: كما أنزلنا الكتب إلى من كان قبلك أنزلنا إليك الكتاب {فَالَّذينَ آتَيْناهُمُ الْكتابَ} هم عبد اللّه بن سلام ومن آمن معه {وَمنْ هؤُلاء} من أهل مكة وقيل: أراد بالذين أوتوا الكتاب الذين تقدموا عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من أهل الكتاب، ومن هؤلاء ممن في عهده منهم {وَما يَجْحَدُ بآياتنا} مع ظهورها وزوال الشبهة عنها، إلا المتوغلون في الكفر المصممون عليه. وقيل: هم كعب بن الأشرف وأصحابه.

.[سورة العنكبوت: الآيات 48- 49]:

{وَما كُنْتَ تَتْلُوا منْ قَبْله منْ كتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بيَمينكَ إذًا لارْتابَ الْمُبْطلُونَ (48) بَلْ هُوَ آيات بَيّنات في صُدُور الَّذينَ أُوتُوا الْعلْمَ وَما يَجْحَدُ بآياتنا إلاَّ الظَّالمُونَ (49)}.
وأنت أمىّ ما عرفك أحد قط بتلاوة كتاب ولا خط إذًا لو كان شيء من ذلك، أى، من التلاوة والخط {لَارْتابَ الْمُبْطلُونَ} من أهل الكتاب وقالوا: الذي نجده في كتبنا أمى لا يكتب ولا يقرأ وليس به. أو لارتاب مشركو مكة وقالوا: لعله تعلمه أو كتبه بيده.
فإن قلت: لم سماهم مبطلين، ولو لم يكن أمّيا وقالوا: ليس بالذي نجده في كتبنا لكانوا صادقين محقين؟
ولكان أهل مكة أيضا على حق في قولهم لعله تعلمه أو كتبه فإنه رجل قارئ كاتب؟ قلت: سماهم مبطلين لأنهم كفروا به وهو أمىّ بعيد من الريب، فكأنه قال: هؤلاء المبطلون في كفرهم به لو لم يكن أمّيا لارتابوا أشدّ الريب، فحين ليس بقارئ كاتب فلا وجه لارتيابهم. وشيء آخر: وهو أن سائر الأنبياء عليهم السلام لم يكونوا أمّيين، ووجب الإيمان بهم وبما جاءوا به، لكونهم مصدقين من جهة الحكيم بالمعجزات، فهب أنه قارئ كاتب فما لهم لم يؤمنوا به من الوجه الذي آمنوا منه بموسى وعيسى عليهما السلام؟ على أن المنزلين ليسا بمعجزين، وهذا المنزل معجز، فإذا هم مبطلون حيث لم يؤمنوا به وهو أمى، ومبطلون لو لم يؤمنوا به وهو غير أمى.
فان قلت: ما فائدة قوله بيمينك؟ قلت ذكر اليمين وهي الجارحة التي يزاول بها الخط: زيادة تصوير لما نفى عنه من كونه كاتبا. ألا ترى أنك إذا قلت في الإثبات، رأيت الأمير يخط هذا الكتاب بيمينه، كان أشد لإثباتك أنه تولى كتبته، فكذلك النفي {بَلْ} القرآن {آيات بَيّنات في صُدُور} العلماء به وحفاظه، وهما من خصائص القرآن: كون آياته بينات الإعجاز، وكونه محفوظا في الصدور يتلوه أكثر الأمة ظاهرا: بخلاف سائر الكتب، فإنها لم تكن معجزات، وما كانت تقرأ إلا من المصاحف. ومنه ما جاء في صفة هذه الأمة صدورهم أناجيلهم {وَما يَجْحَدُ} بآيات اللّه الواضحة، إلا المتوغلون في الظلم المكابرون.