فصل: قال النسفي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قوله: {ولئن سألتهم} يعني كفار مكة {من خلق السموات والأرض وسخر الشمس والقمر} ذكر أمرين أحدهما: إشارة إلى اتحاد الذات والثاني إشارة إلى اتحاد الصفات وهي الحركة في الشمس والقمر {ليقولن الله فأنى يؤفكون} قيل معناه أنهم يعتقدون هذا فكيف يصرفون عن عبادة الله مع إقرارهم أنه خلق السموات والأرض {الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده} لما ذكر الخلق ذكر الرزق لأن كمال الخلق ببقائه وبقاء الخلق بالزرق والله تعالى هو المتفضل بالرزق على الخلق فله الفضل والإحسان والطول والامتنان {ويقدر له} أي يضيق عليه إذا شاء {إن الله بكل شيء عليم} أي يعلم مقادير الحاجات ومقادير الأرزاق {ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولن الله} ذكر سبب الرزق وموجد السبب موجد المسبب فالرزق من الله تعالى: {قل الحمد لله} أي على أن الفاعل لهذه الأشياء هو الله تعالى: وقيل قل الحمد لله على إقرارهم ولزوم الحجة عليهم بأنه خالق لهم {بل أكثرهم لا يعقلون} أي أنهم ينكرون التوحيد مع إقرارهم بأنه خالق هذه الأشياء.
قوله تعالى: {وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب} اللهو هو الاستمتاع بلذة الدنيا وقيل هو الاشتغال بما لا يعنيه وما لا يهمه واللعب هو العبث وفي هذا تصغير للدنيا وازدراء بها ومعنى الآية أن سرعة زوال الدنيا عن أهلها وتقلبهم فيها وموتهم عنها كما يلعب الصبيان ساعة ثم ينصرفون {وإن الدار الآخرة لهي الحيوان} أي الحياة الدائمة الخالدة التي لا موت فيها {لو كانوا يعلمون} فناء الدنيا وبقاء الآخرة لما آثروا الفاني على الباقي.
قوله: {فإذا ركبوا في الفلك} معناه هم على ما وصفوا به من الشرك والعناد فإذا ركبوا في الفلك وخافوا الغرق {دعوا الله مخلصين له الدين} أي تركوا الأصنام ولجأوا إلى الله تعالى بالدعاء {فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون} أي عادوا إلى ما كانوا عليه من الشرك والعناد.
وقيل: كان أهل الجاهلية إذا ركبوا البحر حملوا الأصنام فإذا اشتد الريح ألقوها في البحر وقالوا يا رب يا رب {ليكفروا بما آتيناهم} أي ليجحدوا نعمة الله في إجابته إياهم ومعناه التهديد والوعيد {وليتمتعوا} معناه لا فائدة لهم في الإشراك إلا التمتع بما يستمتعون به في العاجلة ولا نصيب لهم في الآخرة {فسوف يعلمون} يعني عاقبة أمرهم ففيه تهديد ووعيد: قوله: {أو لم يروا أنا جعلنا حرمًا آمنا ويتخطلف الناس من حولهم} يعني العرب يسبي بعضهم بعضًا وأهل مكة آمنون {أفبالباطل} يعني الشيطان والأصنام {يؤمنون وبنعمة الله يكفرون} أي بمحمد صلى الله عليه وسلم والإسلام يكفرون {ومن أظلم ممن افترى على الله كذبًا} أي فزعم أن له شريكًا فإنه منزه عن الشركاء {أو كذب بالحق} أي بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن {لما جاءه أليس في جهنم مثوى للكافرين} معناه أما لهذه الكافر المكذب مأوى في جهنم.
قوله: {والذين جاهدوا فينا} معناه جاهدوا المشركين لنصر ديننا {لنهدينهم سبلنا} لنثيبنهم ما قاتلوا عليه.
وقيل لنزيدنهم هدى وقيل لنوفينهم لإصابة الطرق المستقيمة وهي التي توصل إلى رضا الله تعالى.
قال سفيان بن عيينة: إذا اختلف الناس فانظروا ما عليه أهل الثغور فإن الله تعالى يقول: {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا} وقيل المجاهدة الصبر على الطاعات ومخالفة الهوى وقال الفضيل بن عياض والذين جاهدوا في طلب العلم لنهدينهم سبل العلم والعمل به وقال سهل بن عبد الله والذين جاهدوا فينا بإقامة السنة لنهدينهم سبل الجنة.
وقال ابن عباس: والذين جاهدوا في طاعتنا لنهدينهم سبل ثوابنا {وإن الله لمع المحسنين} أي بالنصرة والمعونة في دنياهم والمغفرة في عقباهم في الآخرة وثوابهم الجنة والله أعلم. اهـ.

.قال النسفي:

{وَلاَ تجادلوا أَهْلَ الكتاب إلاَّ بالتى هي أَحْسَنُ}.
بالخصلة التي هي أحسن للثواب وهي مقابلة الخشونة باللين والغضب بالكظم كما قال: {ادفع بالتى هي أَحْسَنُ} [المؤمنون: 96] {إلاَّ الذين ظَلَمُوا منْهُمْ} فأفرطوا في الاعتداء والعناد ولم يقبلوا النصح ولم ينفع فيهم الرفق فاستعملوا معهم الغلظة.
وقيل: إلا الذين آذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو إلا الذين أثبتوا الولد والشريك وقالوا {يد الله مغلولة} أو معناه ولا تجادلوا الداخلين في الذمة المؤدين للجزية إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا فنبذوا الذمة ومنعوا الجزية فمجادلتهم بالسيف.
والآية تدل على جواز المناظرة مع الكفرة في الدين، وعلى جواز تعلم علم الكلام الذي به تتحقق المجادلة، وقوله: {وَقُولُوا ءامَنَّا بالذى أُنزلَ إلَيْنَا وَأُنزلَ إلَيْكُمْ وإلهنا وإلهكم وَاحد وَنَحْنُ لَهُ مُسْلمُونَ} من جنس المجادلة بالأحسن.
وقال عليه السلام «ما حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله وكتبه ورسله فإن كان باطلًا لم تصدقوهم وإن كان حقًا لم تكذبوهم» {وكذلك} ومثل ذلك الإنزال {أَنزَلْنَا إلَيْكَ الكتاب} أي أنزلناه مصدقًا لسائر الكتب السماوية، أو كما أنزلنا الكتب إلى من قبلك أنزلنا إليك الكتاب {فالذين ءاتيناهم الكتاب يُؤْمنُونَ به} هم عبد الله بن سلام ومن معه {وَمنْ هَؤُلاء} أي من أهل مكة {مَن يُؤْمنُ} أو أراد بالذين أوتوا الكتاب الذين تقدموا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب ومن هؤلاء الذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَمَا يَجْحَدُ بآياتنا} مع ظهورها وزوال الشبهة عنها {إلاَّ الكافرون} إلا المتوغلون في الكفر المصممون عليه ككعب بن الأشرف وأضرابه {وَمَا كُنْتَ تَتْلُوا منْ قَبْله} من قبل القرآن {من كتاب وَلاَ تَخُطُّهُ بيَمينكَ} خص اليمين لأن الكتابة غالبًا تكون باليمين أي ما كنت قرأت كتابًا من الكتب ولا كنت كاتبًا {إذَا} أي لو كان شيء من ذلك أي من التلاوة ومن الخط {لارتاب المبطلون} من أهل الكتاب وقالوا: الذي نجد نعته في كتبنا أمي لا يكتب ولا يقرأ وليس به، أو لارتاب مشركو مكة وقالوا: لعله تعلمه أو كتبه بيده.
وسماهم مبطلين لإنكارهم نبوته.
وعن مجاهد والشعبي: ما مات النبي صلى الله عليه وسلم حتى كتب وقرأ: {بَلْ هُوَ} أي القرآن {بينات في صُدُور الذين أُوتُوا العلم وَمَا} أي في صدور العلماء به وحفاظه وهما من خصائص القرآن كون آياته بينات الإعجاز وكونه محفوظًا في الصدور بخلاف سائر الكتب فإنها لم تكن معجزات ولا كانت تقرأ إلا من المصاحف {وَمَا يَجْحَدُ بآياتنا} الواضحة {إلاَّ الظالمون} أي المتوغلون في الظلم.
{وَقَالُوا لَوْلاَ أُنزلَ عَلَيْه ءايات من رَّبه} {آية} بغير ألف: مكي وكوفي غير حفص.
أرادوا هلا أنزل عليه آيات مثل الناقة والعصا ومائدة عيسى عليهم السلام ونحو ذلك {قُلْ إنَّمَا الآيات عندَ الله} ينزل أيتها شاء ولست أملك شيئًا منها {وَإنَّمَا أَنَا نَذير مُّبين} كلفت الإنذار وإبانته بما أعطيت من الآيات وليس لي أن أقول أنزل على آية كذا دون آية كذا مع علمي أن المراد من الآيات ثبوت الدلالة والآيات كلها في حكم آية واحدة في ذلك {أَوَلَمْ يَكْفهمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب يتلى عَلَيْهمْ} أي أولم يكفهم آية مغنية عن سائر الآيات إن كانوا طالبين للحق غير متعنتين هذا القرآن الذي تدوم تلاوته عليهم في كل مكان وزمان، فلا يزال معهم آية ثابتة لا تزول كما تزول كل آية بعد كونها، أو تكون في مكان دون مكان {إنَّ في ذَلكَ} أي في مثل هذه الآية الموجودة في كل مكان وزمان إلى آخر الدهر {لَرَحْمَةً} لنعمة عظيمة {وذكرى} وتذكرة {لّقَوْمٍ يُؤْمنُونَ} دون المتعنتين {قُلْ كفى بالله بَيْنى وَبَيْنَكُمْ شَهيدًا} أي شاهدًا بصدق ما أدعيه من الرسالة وأنزل القرآن علي وبتكذيبكم {يَعْلَمُ مَا في السماوات والأرض} فهو مطلع على أمري وأمركم وعالم بحقي وباطلكم {والذين ءامَنُوا بالباطل} باليهودية أو بالشرك إو بإبليس {وَكَفَرُوا بالله} وآياته {أولئك هُمُ الخاسرون} المغبونون في صفقتهم حيث اشتروا الكفر بالإيمان إلا أن الكلام ورد مورد الإنصاف كقوله: {وَإنَّا أَوْ إيَّاكُمْ لعلى هُدًى أَوْ في ضلال مُّبينٍ} [سبأ: 24] وروي أن كعب بن الأشرف وأصحابه قالوا: يا محمد من يشهد لك بأنك رسول الله فنزلت: {وَيَسْتَعْجلُونَكَ بالعذاب} بقولهم {فَأَمْطرْ عَلَيْنَا حجَارَةً مّنَ السماء} [الأنفال: 32] الآية.
{وَلَوْلاَ أَجَل مُّسَمًّى} وهو يوم القيامة أو يوم بدر أو وقت فنائهم بآجالهم، والمعنى ولولا أجل قد سماه الله وبينه في اللوح لعذبهم والحكمة تقتضي تأخيره إلى ذلك الأجل المسمى {لَّجَاءهُمُ العذاب} عاجلًا {وَلَيَأْتيَنَّهُمْ} العذاب عاجلًا أو ليأتينهم العذاب في الأجل المسمى {بَغْتَةً} فجأة {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} بوقت مجيئه.
{يَسْتَعْجلُونَكَ بالعذاب وَإنَّ جَهَنَّمَ لَمُحيطَة بالكافرين} أي ستحيط بهم {يَوْمَ يغشاهم العذاب من فَوْقهمْ وَمن تَحْت أَرْجُلهمْ} لقوله تعالى: {مّن فَوْقهمْ ظُلَل مّنَ النار وَمن تَحْتهمْ ظُلَل} [الزمر: 16] ولا وقف على {بالكافرين} لأن {يوم} ظرف إحاطة النار بهم {وَيَقُولُ} بالياء: كوفي ونافع، وقوله: {ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أي جزاء أعمالكم {ياعبادى} وبسكون الياء: بصري وكوفي غير عاصم {الذين ءامَنُوا إنَّ أَرْضى وَاسعَة} وبفتح الياء: شامي يعني أن المؤمن إذا لم يتسهل له العبادة في بلد هو فيه ولم يتمش له أمر دينه فليهاجر عنه إلى بلد يقدر أنه فيه أسلم قلبًا وأصبح دينًا وأكثر عبادة، والبقاع تتفاوت في ذلك تفاوتًا كثيرًا.
وقالوا: لم نجد أعون على قهر النفس وأجمع للقلب وأحث على القناعة وأطرد للشيطان وأبعد من الفتن وأربط للأمر الديني من مكة حرسها الله تعالى.
وعن سهل: إذا ظهرت المعاصي والبدع في أرض فاخرجوا منها إلى أرض المطيعين.
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من فر بدينه من أرض إلى أرض وإن كان شبرًا من الأرض استوجب الجنة» {فَإيَّاىَ فاعبدون} وبالياء: يعقوب وتقديره فإياي اعبدوا فاعبدوني.
وجيء بالفاء في {فاعبدون} لأنه جواب شرط محذوف لأن المعنى إن أرضي واسعة فإن لم تخلصوا العبادة لي في أرض فأخلصوها في غيرها، ثم حذف الشرط وعوض عن حذفه تقديم المفعول مع إفادة تقديمه معنى الاختصاص والإخلاص، ثم شجع المهاجر بقوله: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائقَةُ الموت} أي واجدة مرارته وكربه كما يجد، الذائق طعم المذوق لأنها إذا تيقنت بالموت سهل عليها مفارق وطنها {ثُمَّ إلَيْنَا تُرْجَعُونَ} بعد الموت للثواب والعقاب {يرجعون} يحيى {ترجعون} يعقوب.
{والذين ءامَنُوا وَعَملُوا الصالحات لَنُبَوّئَنَّهُمْ مّنَ الجنة غُرَفًَا} لننزلنهم من الجنة علالي.
{لنثوينهم} كوفي غير عاصم من الثواء وهو النزول للإقامة، وثوى غير متعد فإذا تعدى بزيادة الهمزة لم يجاوز مفعولًا واحدًا.
والوجه في تعديته إلى ضمير المؤمنين وإلى الغرف، أما إجراؤه مجرى لننزلنهم أو لنؤينهم، أو حذف الجار وإيصال الفعل، أو تشبيه الظرف المؤقت بالمبهم {تَجْرى من تَحْتهَا الأنهار خالدين فيهَا نعْمَ أَجْرُ العاملين} ويوقف على {العاملين} على أن {الذين صَبَرُوا} خبر مبتدأ محذوف أي هم الذين صبروا على مفارقة الأوطان وعلى أذى المشركين وعلى المحن والمصائب وعلى الطاعات وعن المعاصي، والوصل أجود ليكون {الذين} نعتا ل {العاملين} {وعلى رَبّهمْ يَتَوَكَّلُونَ} ولم يتوكلوا في جميع ذلك إلا على الله، ولما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من أسلم من مكة بالهجرة خافوا الفقر والضيعة فنزلت {وَكَأَيّن مّن دَابَّةٍ} أي وكم من دابة {وكائن} بالمد والهمز: مكي والدابة كل نفس دبت على وجه الأرض عقلت أم لم تعقل {لاَّ تَحْملُ رزْقَهَا} لا تطيق أن تحمله لضعفها عن حمله {الله يَرْزُقُهَا وَإيَّاكُمْ} أي لا يرزق تلك الدّواب الضعاف إلا الله، ولا يرزقكم أيضًا أيها الأقوياء إلا هو، وإن كنتم مطيقين لحمل أرزاقكم وكسبها لأنه لو لم يقدركم ولم يقدر لكم أسباب الكسب لكنتم أعجز من الدواب التي لا تحمل.
وعن الحسن: لا تحمل رزقها لا تدخره إنما تصبح فيرزقها الله.
وقيل: لا يدخر شيء من الحيوان قوتًا إلا ابن آدم والفأرة والنملة {وَهُوَ السميع} لقولكم نخشى الفقر والعيلة {العليم} بما في ضمائركم.
{وَلَئن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض وَسَخَّرَ الشمس والقمر} أي ولئن سألت هؤلاء المشركين من خلق السماوات والأرض على كبرهما وسعتهما، ومن الذي سخر الشمس والقمر {لَيَقُولُنَّ الله فأنى يُؤْفَكُونَ} فكيف يصرفون عن توحيد الله مع إقرارهم بهذا كله! {الله يَبْسُطُ الرزق لمَن يَشَاء منْ عبَاده وَيَقْدرُ لَهُ} أي لمن يشاء فوضع الضمير موضع {من يشاء} لأن {من يشاء} مبهم غير معين فكان الضمير مبهمًا مثله.
قدر الرزق وقتره بمعنى إذا ضيقه {إنَّ الله بكُلّ شيء عَليم} يعلم ما يصلح العباد وما يفسدهم.
في الحديث: «إن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الغنى ولو أفقرته لأفسده ذلك وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الفقر ولو أغنيته لأفسده ذلك» {وَلَئن سَأَلْتَهُمْ مَّن نَّزَّلَ منَ السماء مَاءً فَأَحْيَا به الأرض من بَعْد مَوْتهَا لَيَقُولُنَّ الله} أي هم مقرون بذلك {قُل الحمد للَّه} على إنزاله الماء لإحياء الأرض أو على أنه ممن أقر بنحو ما أقروا به ثم نفعه ذلك في توحيد الله ونفى الشركاء عنه ولم يكن إقرارًا عاطلًا كإقرار المشركين {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقلُونَ} لا يتدبرون بما فيهم من العقول فيما نريهم من الآيات ونقيم عليهم من الدلالات، أو لا يعقلون ما تريد بقولك الحمد لله.
{وَمَا هذه الحياة الدنيا إلاَّ لَهْو وَلَعب} أي وما هي لسرعة زوالها عن أهلها وموتهم عنها إلا كما يلعب الصبيان ساعة ثم يتفرقون، وفيه ازدراء بالدنيا وتصغير لأمرها وكيف لا يصغرها وهي لاتزن عنده جناح بعوضة! واللهو ما يتلذذ به الإنسان فيلهيه ساعة ثم ينقضي {وَإنَّ الدار الآخرة لَهىَ الحيوان} أي الحياة أي ليس فيها إلا حياة مستمرة دائمة لا موت فيها فكأنها في ذاتها حياة.
والحيوان مصدر حي وقياسه حييان فقلبت الياء الثانية واوًا ولم يقل لهي الحياة لما في بناء فعلان من معنى الحركة والاضطراب، والحياة حركة والموت سكون، فمجيئه على بناء دال على معنى الحركة مبالغة في معنى الحياة، ويوقف على {الحيوان} لأن التقدير {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} حقيقة الدارين لما اختاروا اللهو الفاني على الحيوان الباقي، ولو وصل لصار وصف الحيوان معلقًا بشرط علمهم ذلك وليس كذلك.
{فَإذَا رَكبُوا في الفلك} هو متصل بمحذوف دل عليه ما وصفهم به وشرح من أمرهم معناه: هم على ما وصفوا به من الشرك والعناد فإذا ركبوا في الفلك {دَعَوُا الله مُخْلصينَ لَهُ الدين} كائنين في صورة من يخلص الدين لله من المؤمنين حيث لا يذكرون إلا الله ولا يدعون معه إلاهًا آخر {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إلَى البر} وأمنوا {إذَا هُمْ يُشْركُونَ} عادوا إلى حال الشرك {ليَكْفُرُوا بمَآ ءاتيناهم} من النعمة.
قيل: هي لام كي وكذا في {وَليَتَمَتَّعُوا} فيمن قرأها بالكسر أي لكي يكفروا وكي يتمتعوا، والمعنى يعودون إلى شركهم ليكونوا بالعود إلى شركهم كافرين بنعمة النجاة قاصدين التمتيع بها والتلذذ لا غير على خلاف عادة المؤمنين المخلصين على الحقيقة فإنهم يشكرون نعمة الله إذا أنجاهم، ويجعلون نعمة النجاة ذريعة إلى ازدياد الطاعة لا إلى التلذذ والتمتع، وعلى هذا لا وقف على {يشركون}.
ومن جعله لام الأمر متثبتًا بقراءة ابن كثير وحمزة وعلي {وليتمتعوا} بسكون اللام على وجه التهديد كقوله: {فَمَن شَاء فَلْيُؤْمن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29] وتحقيقه في أصول الفقه يقف عليه {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} سوء تدبيرهم عند تدميرهم.
{أَوَلَمْ يَرَوْا} أي أهل مكة {إنَّا جَعَلْنَا} بلدهم {حَرَمًا} ممنوعًا مصونًا {آمنًا} يأمن داخله {وَيُتَخَطَّفُ الناس منْ حَوْلهمْ} يستلبون قتلًا وسبيًا {أفبالباطل يُؤْمنُونَ} أي أبالشيطان والأصنام {وَبنعْمَة الله يَكْفُرُونَ} أي بمحمد عليه السلام والإسلام {وَمَنْ أَظْلَمُ ممَّن افترى عَلَى الله كَذبًا} بأن جعل له شريكًا {أَوْ كَذَّبَ بالحق} بنبوة محمد عليه السلام والكتاب {لَمَّا جَاءهُ} أي لم يتلعثموا في تكذيبه حين سمعوه {أَلَيْسَ في جَهَنَّمَ مَثْوًى للكافرين} هذا تقرير لثوائهم في جهنم لأن همزة الإنكار إذا أدخلت على النفي صار إيجابًا يعني ألا يثوون فيها وقد افتروا مثل هذا التكذيب على الله وكذبوا بالحق مثل هذا التكذيب؟ أو ألم يصح عندهم أن في جهنم مثوى للكافرين حين اجترؤوا مثل هذه الجراءة؟ وذكر المثوى في مقابلة {لنبوئنهم} يؤيد قراءة الثاني {والذين جاهدوا} أطلق المجاهدة ولم يقيدها بمفعول ليتناول كل ما تجب مجاهدته من النفس والشيطان وأعداء الدين {فينَا} في حقنا ومن أجلنا ولوجهنا خالصًا {لَنَهْديَنَّهُمْ سُبُلَنَا} {سبلنا} أبو عمرو أي لنزيدنهم هداية إلى سبل الخير وتوفيقًا.
وعن الداراني: والذين جاهدوا فيما علموا لنهدينهم إلى ما لم يعلموا فقد قيل: من عمل بما علم وفق لما لا يعلم.
وقيل: إن الذي نرى من جهلنا بما لا نعلم إنما هو لتقصيرنا فيما نعلم.
وعن فضيل: والذين جاهدوا في طلب العلم لنهدينهم سبل العمل به.
وعن سهل: والذين جاهدوا في إقامة السنة لنهدينهم سبل الجنة.
وعن ابن عطاء: جاهدوا في رضانا لنهدينهم الوصول إلى محل الرضوان.
وعن ابن عباس: جاهدوا في طاعتنا لنهدينهم سبل ثوابنا.
وعن الجنيد: جاهدوا في التوبة لنهدينهم سبل الإخلاص، أو جاهدوا في خدمتنا لنفتحن عليهم سبل المناجاة معنا والأنس بنا، أو جاهدوا في طلبنا تحريًا لرضانا لنهدينهم سبل الوصول إلينا.
{وَإنَّ الله لَمَعَ المحسنين} بالنصرة والمعونة في الدنيا وبالثواب والمغفرة في العقبى. اهـ.