فصل: قال الخطيب الشربيني:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ثم بتشبث ذلك الغذاء بالمغتذي بتوسط قوى أودعها فيها وهيأها لذلك. {وإياكم} بمثل ما قلنا وبزيادة الاهتداء إلى وجوه المكاسب والمعايش وترتيب الملبس والمسكن وتهيئة الأقوات وادخار الأموال وتملكها اختيارًا وقهرًا، ومنه يعلم أن الاشتغال بترتيب بعض الوسائط وتدبيرها لا ينافي التوكل فقد يكون الزارع الحاصد متوكلًا والراكع الساجد غير متوكل. عن ابن عيينة: ليس شيء يخبأ إلا الإنسان والنملة والفأرة وللعقعق مخابئ إلا أنه ينساها. وحكي أن البلبل يحتكر في حضنيه أي يجمع. وإذا كان أكثر الحيوان على صورة المتوكلين فالإنسان العاقل العارف بالمبدأ والمعاد، العالم بوجوه المكاسب الذي يأتيه الرزق من جهات الإرث والعمارة والهدية ونحوها، كيف يظاهر على الحطام الزائل أشد حرص؟! {وهو السميع} لدعاء طلبة الرزق {العليم} بطوياتهم ومقادير حاجاتهم. ثم عجب أهل العجب من حال المشركين من أهل مكة وغيرهم لم يعبدوا الله مخلصين مع علمهم بأنه خالقهم ورازقهم، فكيف يصرفون عن توحيد الله؟ فإن من علمت عظمته وجبت خدمته، ولا عظمة فوق عظمة خالق الذرات وإليه اشار بخلق الأرض والسموات موجد الصفات وإليه الإشارة بتسخير الشمس والقمر ولا حقارة فوق حقارة الجماد لأنه دون النبات وهو دون الحيوان وهو دون الإنسان وهو دون سكان السموات، فكيف يتركون عبادة أشرف الموجودات ويشتغلون بعبادة أخس المخلوقات، وحين ذكر الخلق أتبعه ذكر الرزق وحكمة البسط والقبض في ذلك الباب. ومعنى {يقدر} يضيق فالضمير في {له} إما للشخص المعين المبسوط له والمراد أن تعاقب الأمرين عليه بمشيئة الله وإما لمبهم غير معين كأن الضمير وضع موضع من يشاء. وفي قوله: {إن الله بكل شيء عليم} إشارة إلى أنه عالم بمقادير الحاجات فإذا علم احتياج العبد إلى الرزق أوصله إليه من غير تأخير إن شاء.
ثم احتج على المشركين بوجه آخر وهو اعترافهم بأن إحياء الأرض الميتة بواسطة تنزيل ماء السماء هو من الله. ثم قال: {قل الحمد لله} وهو كلام مستقل على سبيل الاعتراض أو هو متصل بما قبله كأنه استحمد رسوله على البراءة من التناقض والتهافت خلاف أهل الشرك المعترفين بأن النعمة من الله ثم يتركون عبادته إلى عبادة الصنم الذي لا يملك نفعًا ولا ضرًا. وفيه أن العالم إذا لم يعمل بعلمه انخرط في سلك من لا عقل له ولهذا عقبه بقوله: {بل أكثرهم لا يعقلون} وقال جار الله: اراد لا يعقلون ما يقولون وما فيه من الدلالة على بطلان الشرك وصحة التوحيد، أو لا يعقلون ما تريد بقولك: الحمد لله ولا يفطنون لم حمدت الله عند مقالتهم. واعلم أن المشركين معترفون بأن الخلق والرزق من الله، ولكن حب الدنيا وزينتها حملتهم على موافقة أهل الشرك والمداومة على الدين الباطل، فصغر الله تعالى أمر الدنيا وعظم أمر الاخرة ليعلم أن رعاية جانب الآخرة أهم من رعاية صلاح الدنيا.
قال أهل العلم: الإقبال على الباطل لعب، والإعراض عن الحق لهو، والمشتغل بالدنيا كذلك. ويمكن أن يقال: المشتغل بها لا على وجه الاستغراق بل على وجه يفرغ لبعض أمور الآخرة لاعب، والمشغول بها بحيث ينسى الآخرة بالكلية لاهٍ وحين كان الكلام في الأنعام بعد ذكر الآخرة وما يجري فيها من الحيرة والحسرة قدم اللعب هناك لأن الاستغراق الكلي بالنسبة إلى أهل الآخرة أبعد فأخر الأبعد. ولما كان المذكور هاهنا من قبيل الدنيا ولهذا أشار إليها بقوله: {وما هذه الحياة الدينا} وقال في الأنعام {وما الحياة الدنيا} [الآية: 32] وهي خداعة تدعو النفوس إلى الإقبال عليها بالكلية، فلا جرم قدم اللهو. ويحتمل أن يقال: إنه تعالى قدم اللعب على اللهو في موضعين من الأنعام وكذلك في القتال ويقال لها سورة محمد صلى الله عليه وسلم وفي الحديد. وقدم اللهو على اللعب في الأعراف والعنكبوت. فاللعب مقدم في الأكثر لأن اللعب زمانه الصبا، واللهو زمانه الشباب، وزمان الصبا مقدم على زمان الشباب.
تنبيه: ما ذكر في الحديد {اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب} [الحديد: 20] كلعب الصبيان {ولهو} [الحديد: 20] كلهو الشبان و{زينة} [الحديد: 20] كزينة السنوان {وتفاخر} [الحديد: 20] كتفاخر الإخوان {وتكاثر} [الآية: 20] كتكاثر السلطان وقدم اللهو في الأعراف لأن ذلك في القيامة فذكر على ترتيب ما انقضى وبدأ بما بدأ به الإنسان وانتهى من الجانبين. وأما هذه السورة فأراد فيها ذكر سرعة زمان الآخرة، فبدأ بذكر ما هو أكثر ليكون غلى المقصود اقرب. ثم إن الحال في سورة الأنعام لما كانت حال إظهار الحسرة لم يحتج المكلف إلى وازع قوي فاقتصر على قوله: {وللدار الآخرة خير} [الأنعام: 32] ولما كان هاهنا حال الاشتغال بالدنيا احتاج إلى وازع أقوى فقال: {وإن الدار الآخرة لهي الحيوان} أي لا حياة إلا حياة الآخرة وليس فيها إلا حياة مستمرة دائمة بلا موت فكأنها في ذاتها حياة. ولا يخفى ما في التركيب من أنواع المبالغة من جهة إن ومن جهة صيغة الفصل، ولام التأكيد، وبناء الفعلان بتحريك العين وهو مصدر حيي بياءين لفقد ما عينه ياء ولامه واو. ولو كانا واوين لقيل: حوى مثل قوى وقياسه حييان بياءين قلبت الثانية واوًا على منوال حيوة في اسم رجل. ولأن المبالغة هاهنا أزيد مما في الأنعام قال هاهنا {لو كانوا يعلمون} وهنالك {أفلا تعقلون} [الأنعام: 32] لأن المعلوم أكثر مقمدة من المعقول وقد مر في السورة ثم أشار بقوله: {فإذا ركبوا في الفلك} إلى أن المانع من التوحيد والإخلاص هو الحياة الدنيا لأنهم إذا انقطع رجاؤهم رجعوا إلى الفطرة الشاهدة بالتوحيد والإخلاص، فإذا نجاهم إلى البر عادوا إلى ما كانوا عليه من حب الدنيا وأشركوا لأجلها.
ثم بين أن نعمة الأمن يجب أن تقابل بالشكر لا بالكفر فقال: {أولم يروا} الآية. وقد مر مثله في القصص. ثم ذكر أن الذين سمعوا البيانات المذكورة ولم يؤمنوا فلا أظلم منهم لأن من وضع شيئًا في غير موضعه فهو ظالم. فمن وضع شيئًا في موضع لا يمكن أن يكون ذلك موضعه يكون أظلم، وإنهم جعلوا الله شريكًا مع عدم إمكان الشريك له، فلا أظلم منهم. وأيضًا من كذب صادقًا يجوز عليه الكذب كان ظالمًا، فمن كذب صادقًا لا يجوز عليه الكذب يكون حاله وإنهم كذبوا النبي والقرآن؟ وفي قوله: {لما جاءه} إشارة إلى أنهم لم يتلعثموا في التكذيب وقت أن سمعوه ولم يستعملوا التدبر التفكر فيما يجب أن يستعمل فيه التأني والتثبت، وهذا أيضًا نوع من الظلم بل ظلم مضموم إلى ظلم. وفي قوله: {اليس} معنيان بعد كون الاستفهام للتقرير. فإن أريد نفي الحال فمعناه ألم يصح عندهم أن في جهنم مثوى للكافرين حتى اجترؤا على مثل هذه الجرأة؟ وإن اريد نفي الاستقبال فالمراد ألا يثوون في جهنم وقد افتروا على الله وكذبوا بالحق؟ وقيل: هو من الكلام المنصف لأنه قدم مقدمة هي أنه لا أظلم من المفتري وهو المتنبئ ومن الذي كذب النبي. ثم ذكر أن جهنم مقام الكافر سواء كان هو المتنبئ أو المكذب للنبي فهو كقوله: {وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين} [سبأ: 24] ثم ختم السورة بآية جامعة فيها تسلية قلوب المؤمنين والمراد أن من جاهد النفس أو الشيطان الجني والإنسي {فينا} أي في حقنا ومن أجل رضانا خالصًا {لنهدينهم} سبيل الجنة أو سبيل الخير بإعطاء ميزد اللطاف والتوفيق. وقيل: والذين جاهدوا فيما علموا ولم يقصروا في العمل به لنهدينهم إلى ما لم يعلموا وهو قريب من قول الحكيم: إن النظر في المقدمات يعد النفس لقبول الفيض وهو النتيجة من واهب الصور الجسمانية والعقلية. وقوله: {وإن الله لمع المحسنين} أي بالنصر والإعانة إشارة إلى مرتبة أعلى من الاستدلال وهو الذي يسمى العلم اللدني، فكأنه تعالى أشار في خاتمة السورة إلى الفرق الثلاث. فأشار إلى الناقصين بقوله: {ومن أظلم} وذلك أنهم صرفوا الاستعداد في غير ما خلق لأجله، وإلى المتوسطين الذين يحصلون العلم بالكد بقوله: {والذين جاهدوا} وإلى أصحاب الحدس وصفاء الضمير بقوله: {وإن الله لمع المحسنين} والله أعلم بمراده. اهـ.

.قال الخطيب الشربيني:

ولما بين تعالى طريقة إرشاد المشركين بين طريقة إرشاد أهل الكتاب بقوله تعالى: {ولا تجادلوا أهل الكتاب} أي: اليهود والنصارى ظنًا منكم أنّ الجدال ينفع أو يزيد في اليقين أو يردّ واحدًا عن ضلال مبين {إلا بالتي} أي: بالمجادلة التي {هي أحسن} كمعارضة الخشونة باللين، والغضب بالكظم والدعاء إلى الله تعالى بآياته والتنبيه على حججه كما قال تعالى: {ادفع بالتي هي أحسن} (المؤمنون: 96) {إلا الذين ظلموا منهم} بأن حاربوا وأبوا أن يقروا بالجزية فجادلوهم بالسيف إلى أن يسلموا أو يعطوا الجزية، وقيل: إلا الذين آذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل إلا الذين أثبتوا الولد والشريك وقالوا يد الله مغلولة، وعن قتادة: الآية منسوخة بقوله تعالى: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر}.
ولا مجادلة أشدّ من السيف، ولما بين تعالى عن موجب الخلاف أمر بالاستعطاف بقوله تعالى: {وقولوا} أي: لمن قبل الإقرار بالجزية إذا أخبروكم بشيء مما في كتبهم {آمنا بالذي أنزل إلينا} أي: من هذا الكتاب المعجز {وأنزل إليكم} من كتبكم أي: لأنه في أصله حق وإن كان قد نسخ، منه ما نسخ وإن حدثوكم بشيء منه وليس عندكم ما يصدقه ولا ما يكذبه فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم، لما روى أبو داوود أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله وكتبه ورسله فإن قالوا باطلًا لم تصدقوهم وإن قالوا حقًا لم تكذبوهم» أي: فإن هذا أدعى إلى الإنصاف وأنفى للخلاف، ولما لم يكن هذا جامعًا للفريقين أتبعه بما يجمعه بقوله تعالى: {وإلهنا وإلهكم واحد} أي: لا إله لنا غيره، وإن ادّعى بعضكم عزيرًا والمسيح {ونحن له} خاصة {مسلمون} أي: خاضعون منقادون أتم انقياد فيما يأمرنا به بعد الأصول من الفروع سواء كانت موافقة لفروعكم كالتوجه بالصلاة إلى بيت المقدس، أو ناسخة كالتوجه إلى الكعبة ولا نتخذ الأحبار والرهبان أربابًا من دون الله لنأخذ ما يشرعونه لنا مخالفًا لكتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
{وكذلك} أي: ومثل ذلك الإنزال الذي أنزلناه إلى أنبيائهم من التوراة وغيرها {أنزلنا إليك الكتاب} أي: القرآن مصدّقًا لسائر الكتب الإلهية وهو تحقيق لقوله تعالى: {فالذين آتيناهم الكتاب} أي: التوراة كعبد الله بن سلام وغيره {يؤمنون به} أي: بالقرآن {ومن هؤلاء} أي: أهل مكة أو ممن في عهده صلى الله عليه وسلم من أهل الكتابين {من يؤمن به} وهم مؤمنو أهل مكة وأهل الكتابين {وما يجحد} أي: ينكر، قال قتادة: والجحود: إنما يكون بعد المعرفة {بآياتنا} أي: التي جاوزت أقصى غايات العظمة حتى إنها استحقت الإضافة إلينا {إلا الكافرون} أي: اليهود ظهر لهم أنّ القرآن حق والجائي به محق وجحدوا ذلك وهذا تنفير لهم عما هم عليه يعني أنكم آمنتم بكل شيء وامتزتم عن المشركين بكل فضيلة إلا هذه المسألة الواحدة وبإنكارها تلحقون بهم وتعطلون مزاياكم فإنّ الجاحد بآية يصير كافرًا.
{وما} أي: وأنزلنا إليك الكتاب والحال أنك ما {كنت تتلو} أي: تقرأ أصلًا {من قبله} أي: هذا الكتاب الذي أنزلناه إليك، وأكد استغراق الكتب بقوله تعالى: {من كتاب} أصلًا {ولا تخطه} أي: تجدّد وتلازم خطه وصور الخط، وأكده بقوله: {بيمينك} فإن قيل ما فائدة قوله بيمينك؟
أجيب: بأنه ذكر اليمين التي هي أقوى الجارحتين وهي التي يزاول بها الخط زيادة تصوير لما نفى عنه من كونه كاتبًا، ألا ترى أنك إذا قلت في الإثبات رأيت الأمير يخط هذا الكتاب بيمينه كان أشّذ لإثباتك أنه تولى كتبه فكذلك النفي، وفي ذلك إشارة إلى أنه لا تحدث الريبة في أمره لعاقل إلا بالمواظبة القوية التي ينشأ عنها ملكه فكيف إذا لم يحصل أصل الفعل ولذلك قال تعالى: {إذًا} أي: لو كنت ممن يخط ويقرأ: {لارتاب} أي: شك {المبطلون} أي: اليهود فيك وقالوا: الذي في التوراة أنه أمّيّ لا يقرأ ولا يكتب، أو لارتاب مشركو مكة وقالوا لعله تعلمه أو التقطه من كتب الأوّلين وكتبه بيده.
فإن قيل: لم سماهم مبطلين ولو لم يكن أميًا وقالوا ليس بالذي نجده في كتبنا لكانوا صادقين محقين ولكان أهل مكة أيضًا على حق في قولهم لعله تعلمه أو كتبه بيده فإنه رجل كاتب قارئ؟
أجيب: بأنه سماهم مبطلين لأنهم كفروا به وهو أمي بعيد من الريب فكأنه قال: هؤلاء المبطلون في كفرهم به لو لم يكن أميًا لارتابوا أشدّ الريب فحينئذٍ ليس بقارئ ولا كاتب فلا وجه لارتيابهم، وأيضًا سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لم يكونوا أميين ووجب الإيمان بهم وما جاؤوا به لكونهم مصدقين من جهة الحكيم بالمعجزات، فهب أنه قارئ كاتب فما لهم لم يؤمنوا به من الوجه الذي آمنوا منه بموسى وعيسى على أنّ المنزل إليهم معجز وهذا المنزل معجز فإذًا هم مبطلون حيث لم يؤمنوا وهو أمي ومبطلون حيث لم يؤمنوا وهو غير أمي، ولما كان التقدير ولكنه لا ريب لهم أصلًا ولا شبهة لقولهم أنه باطل قال تعالى: {بل هو} أي: القرآن الذي جئت به وارتابوا فيه فكانوا مبطلين لذلك على كل تقدير {آيات} أي: دلالات {بينات} أي: واضحات جدًّا في الدلالة على صدقك {في صدور الذين أوتوا العلم} أي: المؤمنين يحفظونه فلا يقدر أحد على تحريف شيء منه لبيان الحق لديهم، وفي ذلك إشارة إلى أن خفاءه عن غيرهم، وقال ابن عباس وقتادة: بل هو يعني محمدًا صلى الله عليه وسلم ذو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم من أهل الكتاب لأنهم يجدونه بنعته ووصفه في كتبهم {وما يجحد} وكان الأصل به ولكنه أشار إلى عظمته بقوله تعالى: {بآياتنا} أي: ينكرها بعد المعرفة على ما لها من العظمة بإضافتها إلينا والبيان الذي لا يجهله أحد {إلا الظالمون} أي: المتوغلون في الظلم المكابرون.
فإن قيل: ما الحكمة في قوله تعالى هاهنا {إلا الظالمون} ومن قبل قال: {إلا الكافرون}؟
أجيب: بأن ما من حرف ولا حركة في القرآن إلا وفيه فائدة ثم إنّ العقول البشرية تدرك بعضها ولا تصل إلى أكثرها وما أوتي البشر من العلم إلا قليلًا ولكن الحكمة هنا أنهم قبل بيان المعجزة قيل لهم إن لكم المزايا فلا تبطلوها بإنكار محمد صلى الله عليه وسلم فتكونوا كافرين فلفظ الكافر هناك أبلغ فمنعهم عن ذلك استنكافهم عن الكفر، ثم بعد بيان المعجزة قال لهم: إن جحدتم هذه الآية لزمكم إنكار إرسال الرسل فتلتحقون في أوّل الأمر بالمشركين حكمًا وتلتحقون عند جحد هذه الآيات بالمشركين حقيقة فتكونوا ظالمين أي: مشركين كما قال تعالى: {إنّ الشرك لظلم عظيم}.
فهذا اللفظ هاهنا أبلغ، ولما كان التقدير جحدوها بما لهم من الرسوخ في الظلم ولم يعدوها آيات فضلًا عن كونها بينات عطف عليه قوله تعالى: {وقالوا} موهمين مكرًا إظهارًا للصفة بأدنى ما يدل على الصدق {لولا} أي: هلا {أنزل عليه} أي: محمد صلى الله عليه وسلم على أيّ وجه كان من وجوه الإنزال {آية} تكون بحيث تدل قطعًا على صدق الآتي بها {من ربه} أي: الذي يدعي إحسانه إليه كما أنزل على الأنبياء قبله كناقة صالح وعصا موسى ومائدة عيسى عليهم السلام ليستدل بها على صدق مقاله وصحة ما يدعيه من حاله، وقرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر وحفص آيات بالجمع لأنّ بعده {قل إنما الآيات} بالجمع إجماعًا، والباقون آية بالإفراد لأنّ غالب ما جاء في القرآن كذلك، ولما كان هذا إنكارًا للشمس بعد شروقها ومكابرة فيما تحدى به من المعجزات بعد حقوقها أشار إليه بقوله تعالى: {قل} أي: لهم إرخاء للعنان حتى كأنك ما أتيتهم بشيء {إنما الآيات عند الله} أي: الذي له الأمر كله ينزل أيتها شاء فلا يقدر على إنزال شيء منها غيره فإنما الإله هو لا سواه ولو شاء أن ينزل ما يقترحونه لفعل {وإنما أنا ندير مبين} أي: فليس من شأني إلا الإنذار وإبانته بما أعطيته من الآيات وليس لي أن أقترح عليه الآيات فأقول أنزل علي آية كذا دون آية كذا على أنّ المقصود من الآيات الدلالة على الصدق وهي كلها في حكم آية واحدة في ذلك، ولم يذكر البشارة لأنه ليس من أسلوبها وقوله تعالى: {أو لم يكفهم} جواب لقولهم لولا أنزل عليه آيات من ربه أي: إن كانوا طائعين للحق غير متيقنين آية مغنية عن كل آية {إنا أنزلنا} أي: بما لنا من العظمة {عليك الكتاب} أي: القرآن الجامع لسعادة الدارين بحيث صار خلقًا لك {يتلى عليهم} أي: تتجدّد متابعة قراءته عليهم شيئًا بعد شيء في كل مكان وفي كل زمان من كل مقال مصدقًا لما في الكتب القديمة من نعتك وغيره من الآيات الدالة على صدقك فأعظم به آية باقية لا تزول ولا تضمحل إذ كل آية سواه منقضية ماضية وتكون في مكان دون مكان، فالقرآن أتم من كل معجزة لوجوه:
الأوّل: أنّ تلك المعجزات وجدت وما دامت فإن قلب العصا ثعبان وإحياء الميت لم يبق لنا منه أثر فلو أنكره واحد لم يمكن إثباتها معه بدون الكتاب، وأما القرآن فهو باق لو أنكره واحد فيقال أئت بآية من مثله.