فصل: قال سيد قطب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقال ابن كثير: وهذه صفته في الكتب المتقدمة. كما قال تعالى: {الَّذينَ يَتَّبعُونَ الرَّسُولَ النَّبيَّ الْأُمّيَّ الَّذي يَجدُونَهُ مَكْتُوبًا عنْدَهُمْ في التَّوْرَاة وَالْإنْجيل} [الأعراف: 157] ، وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم دائمًا لا يحسن الكتابة ولا يخط سطرًا ولا حرفًا بيده. بل كان له كتَّاب يكتبون بين يديه الوحي والرسائل إلى الأقاليم. ومن زعم، من متأخري الفقهاء، كالقاضي ابن الوليد الباجي ومن تابعه، أنه عليه السلام كتب يوم الحديبية: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله. فإنما حمله على ذلك رواية في صحيح البخاري: ثم أخذ فكتب وهذه محمولة على الرواية الأخرى: ثم أمر فكتب ولهذا اشتد النكير من فقهاء المشرق والمغرب على من قال بقول الباجي، وتبرأوا منه وأنشدوا في ذلك أقوالًا وخطبوا به في محافلهم. وإنما أراد الرجل أعني الباجي فيما يظهر عنه. أنه كتب ذلك على وجه المعجزة. لا أنه كان يحسن الكتابة. وما أورده بعضهم من الحديث؛ أنه لم يمت صلى الله عليه وسلم حتى تعلم الكتابة، فضعيف لا أصل له. انتهى.
وقال الشهاب: وممن ذهب إلى أنه كان يحسن الكتابة، أبو ذرّ الهروي وأبو الفتح النيسابوري وأبو الوليد الباجي من المغاربة. وصنف فيه كتابًا، سبقه إليه ابن منبه. ولما قال أبو الوليد ذلك، طعن فيه ورمي بالزندقة وسب على المنابر، ثم عقد له مجلس فأقام الحجة على مدعاه وكتب به إلى علماء الأطراف. فأجابوا بما يوافقه. وأن معرفة الكتابة بعد أميّته لا تنافي المعجزة. بل هي معجزة أخرى. لكونها من غير تعليم. ورد الإمام محمد بن مفوز كتاب الباجي لما في الحديث الصحيح: «إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب» وقال: كل ما ورد في الحديث من قوله: كتب فمعناه أمر بالكتابة. انتهى.
{بَلْ هُوَ} أي: القرآن: {آيَات بَيّنَات في صُدُور الَّذينَ أُوتُوا الْعلْمَ} أي: العلماء به وحفاظه. وهما من خصائص القرآن كون آياته بينات الإعجاز، وكونه محفوظًا في الصدور، يتلوه أكثر الأمة ظاهرًا. بخلاف سائر الكتب. فإنها لم تكن معجزات، وما كانت تقرأ إلا من المصاحف. ومنه ما جاء في صفة هذه الأمة صدورهم أناجيلهم. كذا في الكشاف {وَمَا يَجْحَدُ بآياتنَا إلَّا الظَّالمُونَ وَقَالُوا لَوْلا أُنْزلَ عَلَيْه آيَات منْ رَبّه} يعنون ما كانوا يقترحونه في تعنتهم: {قُلْ إنَّمَا الْآياتُ عنْدَ اللَّه} أي: هو يملك إنزالها، ولو شاء لفعل: {وَإنَّمَا أَنَا نَذير مُبين} أي: ليس من شأني إلا الإنذار وإبانته، لا الإتيان بما تقترحونه. ثم أشار إلى أن في آية تنزيل الكتاب، غنية عن كل آية مقترحة. لما أن الدور انقلب من الآيات الآفاقية، إلى الآيات العلمية، وفاقًا لسنة الترقي، بقوله سبحانه: {أَوَلَمْ يَكْفهمْ} أي: آية مغنية عما اقترحوه: {أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكتَابَ يُتْلَى عَلَيْهمْ} أي: وفيه نفسه من الآيات والمعجزات ما لا يرتاب معه إلا من سفه نفسه، وكابر حسه: {إنَّ في ذَلكَ} أي: الكتاب الذي هو آية مستمرة وحجة بالغة ظاهرة: {لَرَحْمَةً} أي: لنعمة عظيمة في هدايته إلى الحق وإلى صراط مستقيم: {وَذكْرَى لقَوْمٍ يُؤْمنُونَ} أي: تذكرة لقوم، همهم الإيمان دون التعنت: {قُلْ كَفَى باللَّه بَيْني وَبَيْنَكُمْ شَهيدًا} أي: إني قد بلغتكم ما أرسلت به إليكم وأنذرتكم، وإنكم قابلتموني بالجحد والتكذيب. يعني. كفى علمه بذلك. وجوز أن يكون المعنى شهيدًا بصدقي بالتأييد والحفظ، أي: هو شاهد على ما جئت به، مصدق له تصديق الشاهد لدعوى المدعي.
قال ابن كثير: أي: فلو كنت غير محقّ، لانتقم مني، كما قال تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاويل لَأَخَذْنَا منْهُ بالْيَمين ثُمَّ لَقَطَعْنَا منْهُ الْوَتينَ فَمَا منْكُمْ منْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجزينَ} [الحاقة: 44- 47] ، وإنما أنا صادق عليه فيما أخبرتكم به. ولهذا أيدني بالمعجزات الواضحات والدلائل القاطعات. انتهى {يَعْلَمُ مَا في السَّمَاوَات وَالْأَرْض} أي: فلا يخفى عليه حالي وحالكم: {وَالَّذينَ آمَنُوا بالْبَاطل وَكَفَرُوا باللَّه أُولَئكَ هُمُ الْخَاسرُونَ وَيَسْتَعْجلُونَكَ بالْعَذَاب} أي: استهزاء: {وَلَوْلا أَجَل مُسَمّىً} أي: لكل عذاب أو قوم، وهو وقته المعين له فيهما: {لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ} أي: عاجلًا: {وَلَيَأْتيَنَّهُمْ بَغْتَةً} أي: فجأة في الدنيا. كوقعة بدر. فقد كانوا لغرورهم لا يتوقعون غلبة المسلمين. أو في الآخرة عند نزول الموت بهم: {يَسْتَعْجلُونَكَ بالْعَذَاب وَإنَّ جَهَنَّمَ لَمُحيطَة بالْكَافرينَ} أي: ستحيط بهم. أي: يستعجلونك بالعذاب وهو واقع بهم لا محالة. أو هي كالمحيطة بهم. لأن كل آت قريب.
{يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ منْ فَوْقهمْ وَمنْ تَحْت أَرْجُلهمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أي: جزاءه: {يَا عبَاديَ الَّذينَ آمَنُوا إنَّ أَرْضي وَاسعَة فَإيَّايَ فَاعْبُدُون} وهذا خطاب لمن لم تمكنه عبادته تعالى وحده في أرضه، لإيذائه في الله واضطهاده في جانبه، أن يهاجر عنها إلى بلد ما، يقدّر أنه فيه أسلم قلبًا، وأصح دينًا، وآمن نفسًا. وأن يتجنب المقام في بلده على تلك الحالة، كيلا يفتنه الكافرون. أو يعرض نفسه للتهلكة، وقد جعل له منها مخرج. وكون أرض الله واسعة، مذكور للدلالة على المقدر. وهو كالتوطئة لما بعده. لأنها مع سعتها، وإمكان التفسح فيها، لا ينبغي بأرض لا يتيسر بها للمرء ما يريده. كما قيل:
وكل مكان ينبت العز طيب

وقال آخر:
إذا كان أصلي من ترابٍ فكلُّها ** بلادي وكلُّ العالمين أقاربي

وقد روى الإمام أحمد عن الزبير: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «البلاد بلاد الله والعباد عَبَّاد الله. فحيثما أصبت خيرًا فأقم». ولهذا لما ضاق على المستضعفين بمكة مقامهم، خرجوا مهاجرين إلى أرض الحبشة ليأمنوا على دينهم هناك فوجدوا خير نزل بها، عند ملكها النجاشيّ رحمه الله. ثم بعد ذلك هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الباقون إلى المدينة المنورة، عملًا بالآية الكريمة. وقوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائقَةُ الْمَوْت ثُمَّ إلَيْنَا تُرْجَعُونَ} تحريض على العبادة وإخلاص الدين بتذكير الموت والرجعى. أو تسلية للمهاجر إلى الله، وتشجيع له، بأن لا يثبطه عن هجرته خوف الموت بسببها. فلا المقام بأرضه يدفعه، ولا هجرته عنه تمنعه. وفيه استعارة بديعة لتشبيه الموت بأمر كريه الطعم، مُرّه: {وَالَّذينَ آمَنُوا وَعَملُوا الصَّالحَات لَنُبَوّئَنَّهُمْ منَ الْجَنَّة غُرَفًا تَجْري منْ تَحْتهَا الْأَنْهَارُ خَالدينَ فيهَا نعْمَ أَجْرُ الْعَاملينَ الَّذينَ صَبَرُوا} أي: على مفارقة الأوطان والهجرة لأجل الدين. وعلى أذى المشركين وعلى المحن والمصائب: {وَعَلَى رَبّهمْ يَتَوَكَّلُونَ} ثم أشار تعالى إلى كفالته لمن هاجر إليه، من الفقر والضيعة، بقوله سبحانه: {وَكَأَيّنْ} أي: وكم: {منْ دَابَّةٍ لا تَحْملُ رزْقَهَا} أي: لا تطيق أن تحمله لضعفها عن حمله: {اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإيَّاكُمْ} أي: يقيّض لها رزقها على ضعفها، ويرزقكم مع قوتكم واجتهادكم. فهو الميسّر والمسهّل لكل مخلوق من رزقه ما يصلحه. فلا يختص رزقه ببقعة دون أخرى، بل خيره عامّ وفضله شامل لخلقه، حيث كانوا وأنَّى وجدوا. وقد ظهر مصداق كفالته تعالى لأولئك المهاجرين، بما وسع عليهم وبسط لهم من طيب الرزق ورغد العيش وسيادة البلاد في سائر الأمصار. وهذا معنى ما ورد مرفوعًا: «سافروا تصحوا وتغنموا» رواه البيهقيّ: {وَهُوَ السَّميعُ الْعَليمُ وَلَئنْ سَأَلْتَهُمْ} يعني هؤلاء المشركين الذين يعبدون معه غيره: {مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} أي: اعترافًا بأنه المنفرد بخلقها: {فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} أي: فكيف مع هذا الاعتراف يصرفون عن عبادته وحدَه، ويشركون به ما لا يضر ولا ينفع. وكثيرًا ما يقرر تعالى مقام الإلهية بالاعتراف بتوحيد الربوبية. وقد كان المشركون يعرفون بذلك.
{اللَّهُ يَبْسُطُ الرّزْقَ لمَنْ يَشَاءُ منْ عبَاده وَيَقْدرُ لَهُ إنَّ اللَّهَ بكُلّ شَيْءٍ عَليم} أي: فيفعل بعلمه، ما تقتضيه حكمته {وَلَئنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ منَ السَّمَاء مَاءً فَأَحْيَا به الْأَرْضَ منْ بَعْد مَوْتهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُل الْحَمْدُ للَّه} أي: على أن جعل الحق بحيث لا يجترئ المبطلون على جحوده. وأنه أظهر حجتك عليهم. والمعنى: احمد الله عن جوابهم المذكور على إلزامهم وظهور نعَمٍ لا تحصى: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقلُون} أي: فلذلك يتناقضون حيث ينسبون النعمة إليهم، ويعبدون غيره. وقوله: {وَمَا هَذه الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إلَّا لَهْو وَلَعب} إشارة إلى ازدراء الدنيا وتحقير شأنها، وكونها في سرعة زوالها، وتقضّي أمرها، كما يلهّى ويلعب به الصبيان، ثم يتفرقون عنه. ولا ثمرة إلا التعب. ففي الحصر تشبيه بليغ: {وَإنَّ الدَّارَ الْآخرَةَ لَهيَ الْحَيَوَانُ} أي: دار الحياة الخالدة. ففيه مضاف مقدر. والحيوان مصدر سميّ به ذو الحياة، في غير هذا المحل. وإيثاره على الحياة لما فيه من البالغة. لأن فعلان بالفتح في المصادر الدالة على الحركة: {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} أي: لم يؤثروا عليها الدنيا التي حياتها عارضة. وهذا جواب الشرط المقدر. لعلمه من السياق. وكونُها للتمني بعيد.
{فَإذَا رَكبُوا في الْفُلْك دَعَوُا اللَّهَ مُخْلصينَ لَهُ الدّينَ} أي: الدعاء. لعلمهم أنه لا ينجيهم من الغرق سواه: {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إلَى الْبَرّ إذَا هُمْ يُشْركُونَ ليَكْفُرُوا بمَا آتَيْنَاهُمْ} أي: من نعمة النجاة وربح التجارة: {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} أي: عاقبة ذلك حين يعاقبون: {أَوَلَمْ يَرَوْا} أي أهل مكة: {أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمنًا} أي: لا يُغْزى أهله، ولا يغار عليهم، مع قلتهم وكثرة العرب: {وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ منْ حَوْلهمْ} أي: يختلسون قتلًا ونهبًا وسبيًا: {أَفَبالْبَاطل يُؤْمنُونَ وَبنعْمَة اللَّه يَكْفُرُونَ} أي: أفبعد هذه النعمة الظاهرة وغيرها من النعم، التي لا يقدر عليها إلا الله تعالى، يكفرون خيره، ويشركون معه غيره.
{وَمَنْ أَظْلَمُ ممَّن افْتَرَى عَلَى اللَّه كَذبًا} بأن زعم أن له شريكًا: {أَوْ كَذَّبَ بالْحَقّ لَمَّا جَاءَهُ} يعني الرسول أو الكتاب: {أَلَيْسَ في جَهَنَّمَ مَثْوىً للْكَافرينَ} أي: موضع إقامة، جزاء افترائهم وكفرهم. بلى: {وَالَّذينَ جَاهَدُوا فينَا} أي: جاهدوا النفس والشيطان والهوى وأعداء الدين، من أجلنا ولوجهنا: {لَنَهْديَنَّهُمْ سُبُلَنَا} أي: سبل السير إلينا والوصول إلى جنابنا. وذلك بالطاعات والمجاهدات: {وَإنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسنينَ} أي: أعمالهم بالنصر والمعونة. اهـ.

.قال سيد قطب:

{وَلَا تُجَادلُوا أَهْلَ الْكتَاب إلَّا بالَّتي هيَ أَحْسَنُ إلَّا الَّذينَ ظَلَمُوا منْهُمْ}.
هذا هو الشوط الأخير في سورة العنكبوت. وقد مضى منها شوطان في الجزء العشرين. ومحور السورة كما أسلفنا هو الحديث عن الفتنة والابتلاء لمن يقول كلمة الإيمان، لتمحيص القلوب وتمييز الصادقين والمنافقين بمقياس الصبر على الفتنة والابتلاء. وذلك مع التهوين من شأن القوى الأرضية التي تقف في وجه الإيمان والمؤمنين؛ وتفتنهم بالأذى وتصدهم عن السبيل، وتوكيد أخذ الله للمسيئين ونصره للمؤمنين الذين يصبرون على الفتنة، ويثبتون للابتلاء. سنة الله التي مضت في الدعوات من لدن نوح عليه السلام. وهي السنة التي لا تتبدل، والتي ترتبط بالحق الكبير المتلبس بطبيعة هذا الكون، والذي يتمثل كذلك في دعوة الله الواحدة التي لا تتبدل طبيعتها.
وقد انتهى الشوط الثاني في نهاية الجزء السابق بدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به إلى تلاوة ما أوحي إليه من الكتاب، وإقامة الصلاة لذكر الله، ومراقبة الله العليم بما يصنعون.
وفي الشوط الأخير يستطرد في الحديث عن هذا الكتاب، والعلاقة بينه وبين الكتب قبله. ويأمر المسلمين ألا يجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم، فبدلوا في كتابهم، وانحرفوا إلى الشرك، والشرك ظلم عظيم وأن يعلنوا إيمانهم بالدعوات كلها وبالكتب جميعها. فهي حق من عند الله مصدق لما معهم.
ثم يتحدث عن إيمان بعض أهل الكتاب بهذا الكتاب الأخير على حين يكفر به المشركون الذين أنزل الله الكتاب على نبيهم، غير مقدرين لهذه المنة الضخمة، ولا مكتفين بهذا الفضل المتمثل في تنزيل الكتاب على رسول منهم، يخاطبهم به، ويحدثهم بكلام الله. ولم يكن يتلو من قبله كتابًا ولا يخطه بيمينه، فتكون هناك أدنى شبهة في أنه من عمله ومن تأليفه!.
ويحذر المشركين استعجالهم بعذاب الله، ويهددهم بمجيئه بغتة، ويصور لهم قربه منهم، وإحاطة جهنم بهم، وحالهم يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم.
ثم يلتفت إلى المؤمنين الذين يتلقون الفتنة والإيذاء في مكة؛ يحضهم على الهجرة بدينهم إلى الله ليعبدوه وحده. يلتفت إليهم في أسلوب عجيب، يعالج كل هاجسة تخطر في ضمائرهم، وكل معوق يقعد بهم، ويقلب قلوبهم بين أصابع الرحمن في لمسات تشهد بأن منزل هذا القرآن هو خالق هذه القلوب؛ فما يعرف مساربها ومداخلها الخفية، ويلمسها هكذا إلا خالقها اللطيف الخبير.
وينتقل من هذا إلى التعجيب من حال أولئك المشركين، وهم يتخبطون في تصوراتهم فيقرون لله سبحانه يخلق السماوات والأرض، وتسخير الشمس والقمر، وتنزيل الماء من السماء، وإحياء الأرض الموات؛ وإذا ركبوا في الفلك دعوا الله وحده مخلصين له الدين. ثم هم بعد ذلك يشركون بالله، ويكفرون بكتابه، ويؤذون رسوله، ويفتنون المؤمنين به.
ويذكر المشركين بنعمة الله عليهم بهذا الحرم الآمن الذي يعيشون فيه، والناس من حولهم في خوف وقلق. وهم يفترون على الله الكذب ويشركون به آلهة مفتراة. ويعدهم على هذا جهنم وفيها مثوى للكافرين.
وتختم السورة بوعد من الله أكيد بهداية المجاهدين في الله، يريدون أن يخلصوا إليه، مجتازين العوائق والفتن والمشاق وطول الطريق، وكثرة المعوقين.
{ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون}.
إن دعوة الله التي حملها نوح عليه السلام والرسل بعده حتى وصلت إلى خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم لهي دعوة واحدة من عند إله واحد، ذات هدف واحد، هو رد البشرية الضالة إلى ربها، وهدايتها إلى طريقه، وتربيتها بمنهاجه. وإن المؤمنين بكل رسالة لإخوة للمؤمنين بسائر الرسالات: كلها أمة واحدة، تعبد إلهًا واحدًا. وإن البشرية في جميع أجيالها لصنفان اثنان: صنف المؤمنين وهم حزب الله. وصنف المشاقين لله وهم حزب الشيطان، بغض النظر عن تطاول الزمان وتباعد المكان. وكل جيل من أجيال المؤمنين هو حلقة في تلك السلسلة الطويلة الممتدة على مدار القرون.
هذه هي الحقيقة الضخمة العظيمة الرفيعة التي يقوم عليها الإسلام؛ والتي تقررها هذه الآية من القرآن؛ هذه الحقيقة التي ترفع العلاقات بين البشر عن أن تكون مجرد علاقة دم أو نسب، أو جنس، أو وطن. أو تبادل أو تجارة. ترفعها عن هذا كله لتصلها بالله، ممثلة في عقيدة واحدة تذوب فيها الأجناس والألوان؛ وتختفي فيها القوميات والأوطان؛ ويتلاشى فيها الزمان والمكان. ولا تبقى إلا العروة الوثقى في الخالق الديان.
ومن ثم يكشف المسلمين عن مجادلة أهل الكتاب إلا بالحسنى؛ لبيان حكمة مجيء الرسالة الجديدة، والكشف عما بينها وبين الرسالات قبلها من صلة، والإقناع بضرورة الأخذ بالصورة الأخيرة من صور دعوة الله، الموافقة لما قبلها من الدعوات، المكملة لها وفق حكمة الله وعلمه بحاجة البشر. {إلا الذين ظلموا منهم} فانحرفوا عن التوحيد الذي هو قاعدة العقيدة الباقية؛ وأشركوا بالله وأخلوا بمنهجه في الحياة. فهؤلاء لا جدال معهم ولا محاسنة. وهؤلاء هم الذين حاربهم الإسلام عندما قامت له دولة في المدينة.