فصل: قال الماوردي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الماوردي:

قوله تعالى: {الم غُلبَت الرُّومُ في أَدْنَى الأَرْض} الآية.
روى ابن جبير عن ابن عباس قال: كان المسلمون يحبون أن يظهر الروم على فارس لأنهم أهل كتاب، وكان المشركون يحبون أن تظهر فارس على الروم لأنهم أهل أوثان.
قال ابن شهاب: فغلبت فارس الروم فسر بذلك المشركون وقالوا للمسلمين إنكم تزعمون أنكم ستغلبوننا لأنكم أهل كتاب، وقد غلبت فارس الروم والروم أهل كتاب.
وقيل: إنه كان آخر فتوح كسرى أبرويز فتح فيه القسطنطينية حتى بنى فيها بيت النار فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فساءه فأنزل الله هاتين الآيتين فلما قال: {وَهُم مّن بَعْد غَلَبهمْ سَيْغْلبُونَ في بضْع سنينَ} سر بذلك المسلمون وبادر أبو بكر رضي الله عنه إلى مشركي قريش فأخبرهم بما أنزل عليهم وأن الروم ستغلب الفرس. قال قتادة: فاقتمر أبو بكر والمشركون على ذلك، وذلك قبل تحريم القمار مدة اختلف الناس فيها على ثلاثة أقاويل:
أحدها: مدة ثلاث سنين تظهر الروم فيها على فارس، قاله السدي.
الثاني: خمس سنين، قاله قتادة.
الثالث: سبع سنين، قاله الفراء.
وكان الذي تولى ذلك من المسلمين أبو بكر رضي الله عنه، واختلف في الذي تولاه من المشركين مع أبي بكر على قولين:
أحدهما: أنه أبو سفيان بن حرب، قاله السدي.
الثاني: أنه أُبي بن خلف، قاله قتادة. وحكى النقاش أن أبا بكر لما أراد الهجرة مع النبي صلى الله عليه وسلم عَلق به أبي بن خلف وقال: أعطني كفيلًا بالخطر إن غلبت فكفله ابنه عبد الرحمن.
واختلف في قدر العوض المبذول على قولين:
أحدهما: أربع قلائص، قاله عامر.
الثاني: خمس قلائص، قاله قتادة، فلما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أبا بكر لهم هذه المدة أنكرها وقال: «مَا حَمَلَكَ عَلَىَ مَا فَعَلْتَ؟» قال: ثقة بالله وبرسوله، قال: «فَكَم البضْعُ» قال: ما بلغ بين الثلاث والعشر فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «زدْهُم في الخَطَر في وَزدْ الأَجَل» فزادهم قلوصين وازداد منهم في الأجل سنتين فصارت القلائص ستًا على القول الأول، وسبعًا على الثاني، وصار الأجل خمسًا على القول الأول، وسبعًا على الثاني: وتسعًا على الثالث.
واختلف في الاستزادة والزيادة على قولين:
أحدهما: أنها كانت بعد انقضاء الأجل الأول قبل ظهور الغلبة، قاله عامر.
الثاني: أنها كانت قبل انقضاء الأجل الأول، قاله ابن شهاب، فأظفر الله الروم بفارس قبل انقضاء الأجل الثاني تصديقًا لخبره في التقدير ولرسوله صلى الله عليه وسلم في التنزيل.
واختلف في السنة التي غلبت الروم أهل فارس على ثلاثة أقاويل:
أحدها: أنها عام بدر ظهر الروم على فارس فيه وظهر المسلمون على قريش فيه، قاله أبو سعيد، قال: فكان يوم بدر.
الثاني: أن ظهور فارس على الروم كان قبل الهجرة بسنتين، وظهور المسلمين على قريش كان في عام بدر بعد الهجرة بسنتين، ولعله قول عكرمة.
الثالث: عام الحديبية ظهرت الروم على فارس وكان ظهور المسلمين على المشركين في الفتح بعد مدة الحديبية، قاله عبيد الله بن عبد الله.
فأما قوله تعالى: {في أَدْنَى الأَرْض} ففيه قولان:
أحدهما: في أدنى أرض فارس؛ حكاه النقاش.
الثاني: في أدنى أرض الروم، وهو قول الجمهور وفي أدنى أرض الروم أربعة أقاويل:
أحدها: أطراف الشام، قاله ابن عباس.
الثاني: الجزيرة وهي أقرب أرض الروم إلى فارس، قاله مجاهد.
الثالث: الأردن وفلسطين، قاله السدي.
الرابع: أذرعات الشام وكانت بها الوقعة، قاله يحيى بن سلام.
وقرأ أبو عمرو وحده: {غَلَبَت} بالفتح أي ظهرت فقيل له علام غلبت؟ فقال: في أدنى ريف الشام.
قوله تعالى: {في بضْع سنينَ} وهو ما بين الثلاث إلى العشر وهذا نص عن الرسول صلى الله عليه وسلم. وقال بعض أهل اللغة هو ما بين العقدين من الواحد إلى العشرة فيكون من الثاني إلى التاسع.
وأما النيف ففيه قولان:
أحدهما: ما بين الواحد والتسعة، قاله ابن زيد.
الثاني: ما بين الواحد والثلاثة، وهو قول الجمهور.
{للَّه الأَمْرُ من قَبْلُ وَمنْ بَعْدُ} فيه وجهان:
أحدهما: من قبل أن تغلب الروم ومن بعد ما غلبت.
الثاني: من قبل غلبة دولة فارس على الروم ومن بعد غلبة دولة الروم على فارس.
{وَيَوْمَئذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمنُونَ بنَصْر اللَّه} فيه قولان:
أحدهما: أنه الخبر الذي ورد على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية بهلاك كسرى ففرح ومن معه فكان هذا يوم فرحهم بنصر الله لضعف الفرس وقوة العرب.
الثاني: يعني به نصر الروم على فارس.
وفي فرحهم بذلك ثلاثة أوجه:
أحدها: تصديق خبر الله وخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الثاني: لأنهم أهل كتاب مثلهم.
الثالث: لأنه مقدمة لنصرهم على المشركين.
{بنَصْر اللَّه} يعني من أوليائه لأن نصره مختص بغلبة أوليائه لأعدائه فأما غلبة أعدائه لأوليائه فليس بنصر وإنما هو ابتلاء.
{وَهُوَ الْعَزيزُ} في نقمته {الرَّحيمُ} لأهل طاعته.
قوله تعالى: {يَعْلَمُونَ ظَاهرًا مّنَ الْحَيَاة الدُّنْيَا} فيه وجهان:
أحدهما: يعلمون أمر معايشهم متى يزرعون ومتى يحصدون وكيف يغرسون وكيف يبنون، قاله ابن عباس وعكرمة وقتادة. وقال الضحاك: هو بنيان قصورها وتشقيق أنهارها وغرس أشجارها فهذا ظاهر الحياة الدنيا.
الثاني: يعلمون ما ألقته الشياطين لهم من أمور الدنيا عند استراقهم السمع من سماء الدنيا، قاله ابن جبير.
ويحتمل ثالثًا: أن ظاهر الحياة الدنيا العمل لها، وباطنها عمل الآخرة.
{وَهُمْ عَن الآخرَة هُمْ غَافلُونَ} يحتمل وجهين:
أحدهما: عما أعده الله في الآخرة من ثواب عن طاعته وعقاب على معصيته.
الثاني: عما أمرهم الله به من طاعة وألزمهم إياه. اهـ.

.قال ابن عطية:

{الم (1) غُلبَت الرُّومُ (2)}.
تقدم القول في الحروف التي في أوائل السور بما فيه كفاية، وقرأ الجمهور {غُلبت} بضم الغين وقالوا معنى الآية أنه طرأ بمكة أن الملك كسرى هزم جيش ملك الروم قال مجاهد: في الجزيرة وهو موضع بين العراق والشام، وقال عكرمة: وهي بين بلاد العرب والشام، وقال مقاتل: بالأردن وفلسطين، فلما طرأ ذلك سر الكفار فبشر الله عباده بأن الروم {سيغلبون في بضع سنين} وتكون الدولة لهم في الحرب، وقرأ أبو سعيد الخدري وعلي بن أبي طالب ومعاوية بن قرة وعبد الله بن عمر {غَلَبت} الروم بفتح الغين واللام، وتأويل ذلك أن الذي طرأ يوم بدر إنما كان أن الروم غلبت فعز ذلك على كفار قريش وسر المسلمون فبشر الله تعالى عباده بأنهم {سيغلبون} أيضًا {في بضع سنين} ذكر هذا التأويل أبو حاتم، والرواية الأولى والقراءة بضم الغين أصح، وأجمع الناس على {سيَغلبون} أنه بفتح الياء يريد به الروم، وروي عن ابن عمرو أنه قرأ أيضًا {سيُغلبون} بضم الياء، وفي هذه القراءة قلب للمعنى الذي تظاهرت الروايات به، و{أدنى الأرض} معناه أقرب الأرض، فإن كانت الوقعة في أذرعات فهي من {أدنى الأرض} بالقياس إلى مكة وهي التي ذكر امرؤ القيس في قوله: الطويل:
تنورتها من أذرعات وأهلها ** بيثرب أدنى دارها نظر عال

وإن كانت الوقعة بالجزيرة فهي {أدنى} بالقياس إلى أرض كسرى، وإن كانت بالأردن فهي {أدنى} إلى أرض الروم، قال أبو حاتم: وقرىء {أداني الأرض} وقرأ جمهور الناس {غلَبهم} بفتح اللام كما يقال أحلب حلبًا لك شطره، وقرأ ابن عمر بسكونها وهما مصدران بمعنى واحد وأضيف إلى المفعول، وروي في قصص هذه الآية عن ابن عباس وغيره أن الكفار لما فرحوا بمكة بغلب الروم بشر الله نبيه والمؤمنين بأن الروم {سيغلبون في بضع سنين} أي من الثلاثة إلى التسعة على مشهور قول اللغويين. كأنه تبضيع العشرة أي تقطيعها وقال أبو عبيدة: من الثلاث إلى الخمس، وقوله مردود، فلما بشرهم بذلك خرج أبو بكر الصديق إلى المسجد فقال لهم: أسركم إن غلبت الروم فإن نبينا أخبرنا عن الله تعالى أنهم {سيغلبون في بضع سنين} فقال له أبي بن خلف وأمية أخوه وقيل أبو سفيان بن حرب تعال يا أبا فصيل يعرضون بكنيته بالبكر فلنتناحب، أي نتراهن، في ذلك فراهنهم أبو بكر قال قتادة: وذلك قبل أن يحرم القمار وجعل الرهن خمس قلائص، والأجل ثلاث سنين، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقال له «إن البضع إلى التسعة ولكن زدهم في الرهن واستزدهم في الأجل» ففعل أبو بكر فجعلوا القلائص مائة والأجل تسعة أعوام، فغلبت الروم في أثناء الأجل، فروي عن أبي سعيد الخدري أن إيقاع الروم بالفرس كان يوم بدر، وروي أن ذلك كان يوم الحديبية وأن الخبر بذلك وصل يوم بيعة الرضوان، روي نحوه عن قتادة، وفي كلا اليومين كان نصر من الله تعالى للمؤمنين، وذكر الناس أن سبب سرور المسلمين بغلبة الروم وهمهم أن تغلب وكون المشركين من قريش على ضد ذلك إنما هو أن الروم أهل كتاب كالمسلمين، والفرس أهل الأوثان أو نحوه من عبادة النار ككفار قريش والعرب.
قال القاضي أبو محمد: ويشبه أن يعلل ذلك بما تقتضيه الفطر من محبة أن يغلب العدو الأصغر لأنه أيسر مؤنة ومتى غلب الأكبر كثر الخوف منه، فتأمل هذا المعنى مع ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ترجاه من ظهور دينه وشرع الله الذي بعثه به وغلبته على الأمم وإرادة كفار مكة أن يرميه الله بملك يستأصله ويريحهم منه. و{سنين} يجمع كجمع من يعقل عوضًا من النقص الذي في واحده لأن أصل سنة سنهة أو سنوة، وكسرت السين منه دلالة على جمعه خارج عن قياسة ونمطه ثم أخبر تعالى بانفراده بالقدرة وأن ما في العالم من غلبة وغيرها إنما هي منه وبإرادته وقدره، فقال: {لله الأمر} أي إنفاذ الأحكام {من قبل ومن بعد} أي من بعد هذه الغلبة التي بين هؤلاء القوم، و{قبل} و{بعد} ظرفان بنيا على الضم لأنهما تعرفا بحذف ما أضيفا إليه وصارا متضمنين ما حذف فخالفا معرب الأسماء وأشبها الحروف في التضمين فبينا وخصا بالضم لشبههما بالمنادى المفرد في أنه إذا نكر أو أَضيف زال بناؤه، وكذلك هما فضما كما المنادى مبني على الضم، وقيل في ذلك أيضًا أن الفتح تعذر فيهما لأنه حالهما في إظهار ما أضيفا إليه، وتعذر الكسر لأنه حالهما عند إضافتهما إلى المتكلم، وتعذر السكون لأن ما قبل أحدهما ساكن، فلم يبق إلا الضم فبنيا عليه، ومن العرب من يقول {من قبلٍ ومن بعدٍ} بالخفض والتنوين.
قال الفراء: ويجوز ترك التنوين فيبقى كما هو في الإضافة وإن حذف المضاف، وقوله تعالى: {ويومئذ} يحتمل أن يكون عطفًا على القبل والبعد، كأنه حصر الأزمنة الثلاثة الماضي والمستقبل والحال، ثم ابتدأ الإخبار بفرح المؤمنين بالنصر، ويحتمل أن يكون الكلام تم في قوله: {بعد} ثم استأنف عطف جملة أخبر فيها أن يوم غلبت الروم الفرس {يفرح المؤمنون بنصر الله} وعلى هذا الاحتمال مشى المفسرون، والنصر الذي {يفرح} به {المؤمنون} يحتمل أن يشار فيه إلى نصر الروم على فارس وهي نصرة الإسلام بحكم السببين اللذين قد ذكرتهما، ويحتمل أن يشار فيه إلى نصر يخص المؤمنين على عدوهم وهذا أيضًا غيب أخبر به وأخرجه الوجود إما يوم بدر وإما يوم بيعة الرضوان، ويحتمل أن يشار به إلى فرح المسلمين بنصر الله إياهم في أن صدق ما قال نبيهم من أن الروم ستغلب فارس فإن هذا ضرب من النصر عظيم، وقوله تعالى: {وعدَ الله} نصب على المصدر المؤكد، وقوله: {ولكن أكثر الناس لا يعلمون} يريد الكفار من قريش والعرب، أي لا يعلمون أن الأمور من عند الله وأن وعده لا يخلف وأن ما يورده نبيه حق.
قال القاضي أبو محمد: هذا الذي ذكرناه هو عمدة ما قيل: وقد حكى الطبري وغيره روايات يردها النظر أو قول الجمهور، من ذلك أن بعضهم قال إنما نزلت {وعد الله لا يخلف الله وعده} بعد غلبة الروم لفارس ووصول الخبر بذلك، وهذا يقتضي أن الآية مدنية والسورة مكية بإجماع ونحو هذا من الأقوال.
{يَعْلَمُونَ ظَاهرًا منَ الْحَيَاة الدُّنْيَا وَهُمْ عَن الْآخرَة هُمْ غَافلُونَ (7)}.
وصف تعالى الكفرة الذين لا يعلمون أمر الله وصدق وعده بأنهم إنما {يعلمون ظاهرًا من الحياة الدنيا} واخلتف الناس في معنى {ظاهرًا} فقالت فرقة معناه بينًا أي ما أدته إليهم حواسهم فكأن علومهم إنما هي علوم البهائم، وقال ابن عباس والحسن والجمهور: معناه ما فيه الظهور والعلو في الدنيا من إتقان الصناعات والمباني ومظان كسب الأموال والفلاحات ونحو هذا، وقالت فرقة: معناه ذاهبًا زائلًا أي يعلمون أمور الدنيا التي لا بقاء لها ولا عاقبة ومثل هذه اللفظة قول الهذلي:
وعيرها الواشون أني أحبها ** وتلك شكاة ظاهر عنك عارها

وقال سعيد بن جبير: إن قوله: {ظاهرًا من الحياة الدنيا} إشارة إلى ما يعلم من قبل الكهنة مما يسترقه الشياطين، وقال الروماني: كل ما يعلم بأوائل العقول فهو الظاهر وما يعلم بدليل العقل فهو باطن.
قال القاضي أبو محمد: وفيه تقع الغفلة وتقصير الجهال، ثم وصفهم بالغفلة والإعراض عن أمر الآخرة وكرر الضمير تأكيدًا، وغفلة الكافر هي على الكمال والمؤمن المنهمك في أمور الدنيا التي هي أكبر همه يأخذ من هذه الآية بحظ، نوّر الله قلوبنا بهداه. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {غُلبَت الرُّومُ}.
ذكر أهل التفسير في سبب نزولها أنه كان بين فارس والروم حرب فغلبت فارس الرُّومَ، فبلغ ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابَه، فشقَّ ذلك عليهم، وفرح المشركون بذلك، لأنَّ فارس لم يكن لهم كتاب وكانوا يجحدون البعث ويعبُدون الأصنام، والرُّوم أصحاب كتاب، فقال المشركون لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنكم أهل كتاب، والنصارى أهل كتاب، ونحن أُمّيُونَ، وقد ظهر إخواننا من أهل فارس على إخوانكم من الرُّوم، فإن قاتلتمونا لَنَظْهَرَنَّ عليكم، فنزلت هذه الآية، فخرج بها أبو بكر الصديق إلى المشركين، فقالوا: هذا كلام صاحبك، فقال: اللّهُ أَنزل هذا، فقالوا لأبي بكر: نراهنك على أن الروم لا تغلب فارس، فقال أبو بكر: البضْع ما بين الثلاث إلى التسع، فقالوا: الوسط من ذلك ست، فوضعوا الرّهان، وذلك قبل أن يُحرَّم الرّهان، فرجع أبو بكر إلى أصحابه فأخبرهم، فلاموه وقالوا: هلاَّ أقررتَها كما أقرَّها الله؟! لو شاء أن يقول: ستًا، لقال! فلمَّا كانت سنة ست، لم تظهر الروم على فارس، فأخذوا الرهان، فلمَّا كانت سنة سبع ظهرت الرُّومُ على فارس.
وروى ابن عباس، قال: لمَّا نزلت: {آلم غُلبَت الرُّومُ} ناحب أبو بكر قريشًا، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا احتطتَ، فانَّ البضْع ما بين السبع والتسع» وذكر بعضهم أنهم ضربوا الأجَل خمس سنين، وقال بعضهم: ثلاث سنين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما البضْع ما بين الثلاث إلى التسع»، فخرج أبو بكر فقال لهم: أُزايدُكم في الخطر وأَمُدُّ في الأجَل إلى تسع سنين، ففعلوا، فقهرهم أبو بكر، وأخذ رهانهم وفي الذي تولَّى وضع الرهان من المشركين قولان:
أحدهما: أُبيُّ بن خلف، قاله قتادة.
والثاني: أبو سفيان بن حرب، قاله السدي.
قوله تعالى: {في أدنى الأرض} وقرأ أُبيُّ بن كعب، والضحاك، وأبو رجاء، وابن السميفع: {في أَداني الأرض} بألف مفتوحة الدال، أي: أقرب الأرض أرض الروم إلى فارس.
قال ابن عباس: وهي طرف الشام.
وفي اسم هذا المكان ثلاثة أقوال.
أحدها: أنه الجزيرة، وهي أقرب أرض الروم إلى فارس، قاله مجاهد.
والثاني؛ أذْرعات وكَسْكَر، قاله عكرمة.
والثالث: الأردنُّ وفلسطين، قاله السدي.
قوله تعالى: {وهم} يعني الروم {منْ بَعْد غَلَبهم} وقرأ أبو الدرداء، وأبو رجاء، وعكرمة، والأعمش: {غَلْبهم} بتسكين اللام؛ أي: من بعد غلبة فارس إيَّاهم.
والغَلَب والغَلَبة لغتان، {سيَغْلبون} فارس في {بضْع سنينَ} في البضْع تسعة أقوال قد ذكرناها في [يوسف: 42] قال المفسرون: وهي هاهنا سبع سنين، وهذا من علم الغيب الذي يدل على أن القرآن حق، {لله الأمر منْ قَبْلُ ومن بعدُ} أي: من قبل أن تُغلَب الروم ومنْ بَعْد ما غَلبت؛ والمعنى: أن غَلَبة الغالب وخذْلان المغلوب، بأمر الله وقضائه {ويومَئذ} يعني يوم غلبت الرومُ فارس {يَفرح المؤمنون بنصر الله} للروم.
وكان التقاء الفريقين في السنة السابعة من غَلَبة فارس إيَّاهم، فغلبتْهم الرُّوم، وجاء جبريلُ يخبر بنصر الروم على فارس، فوافق ذلك يوم بدر، وقيل: يوم الحديبية.
قوله تعالى: {وَعْدَ الله} أي: وَعَدَ اللّهُ وَعْدًا {لا يُخْلفُ اللّهُ وَعْدَهُ} أنَّ الرُّوم يَظهرون على فارس {ولكنَّ أكثر النَّاس} يعني كفار مكة {لا يَعلمون} إن الله لا يُخْلف وعده في ذلك.
ثم وصف كفار مكة، فقال: {يَعْلَمون ظاهرًا منَ الحياة الدُّنيا} قال عكرمة: هي المعايش.
وقال الضحاك: يعلمون بنيان قصورها وتشقيق أنهارها.
وقال الحسن: يعلمون متى زرعهم ومتى حصادهم، ولقد بلغ واللّه منْ علْم أحدهم بالدنيا أنه ينقُر الدرهم بظُفره فيُخبرك بوزنه ولا يُحسن يصلّي.
قوله تعالى: {وهم عن الآخرة هم غافلون} لأنهم لا يؤمنون بها.
قال الزجاج: وذكْرهم ثانية يجري مجرى التوكيد، كما تقول: زيد هو عالم، وهو أوكد من قولك: زيد عالم. اهـ.