فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو السعود:

سورة الروم مكية إلا قوله: {فسبحان الله} الآية. وهي ستون آية.
بسْم الله الرَّحْمَن الرَّحيم.
{الم} الكلامُ فيه كالذي مرَّ في أمثاله من الفواتح الكريمة {غُلبَت الروم في أَدْنَى الأرض} أي أدنى أرض العرب منهم إذ هيَ الأرضُ المعهودةُ عندهم وهي أطراف الشَّام أو في أدنى أرضهم من العرب على أنَّ اللامَ عوض عن المضاف إليه. قال مجاهد: هي أرضُ الجزيرة وهي أدْنى أرض الرُّوم إلى فارسَ. وعن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما: الأردنُّ وفلسطينُ. وقُرئ أداني الأرض {وَهُمْ} أي الرُّوم {مّن بَعْد غَلَبهمْ} أي بعد مغلوبيَّتهم. وقُرئ بسكون اللام وهي لغة كالجَلَب والجَلْب {سَيَغْلبُونَ} أي سيَغلبون فارسَ {في بضْع سنينَ} رُوي أنَّ فارسَ غَزَوا الرُّومَ فوافَوهم بأَذْرعَاتٍ وبُصرَى وقيل: بالجزيرة كما مرَّ فغلبوا عليهم، وبلغ الخبرُ مكَّة ففرح المشركون وشمتُوا بالمسلمينَ وقالُوا: أنتُم والنَّصارى أهلُ كتابٍ ونحن وفارسُ أميُّون وقد ظهر إخوانُنا على إخوانكم فلنظهرنَّ عليكم، فقال أبُو بكرٍ رضي الله عنه: لا يقْرر الله أعينَكم فوالله ليظهرنَّ الرومُ على فارسَ بعد بضع سنين، فقال له أُبيُّ بنُ خَلَف اللَّعينُ: كذبتَ اجعل بيننا أجلًا أناحبُك عليه فناحبَه على عشر قلائصَ من كلَ منهُما وجعلا الأجلَ ثلاثَ سنينَ فأخبر به أبُو بكرٍ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقالَ: «البضعُ ما بين الثَّلاث إلى التّسع فزيدُوه في الخطر ومادّه في الأجل» فجعلاها مائةَ قلوصٍ إلى تسع سنينَ ومات أبيُّ من جرح رسول الله صلى الله عليه وسلم وظهرت الرُّوم على فارسَ عند رأس سبع سنينَ وذلك يومَ الحديبية، وقيل: كانَ النَّصرُ للفريقين يومَ بدرٍ فأخذَ أبُو بكر الخَطَر من ذريَّة أبيَ فجاء به رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقالَ: «تصدَّق به» وكانَ ذلك قبلَ تحريم القمار. وهذه الآياتُ من البيّنات الباهرة الشَّاهدة بصحَّة النُّبوة وكون القُرآن من عند الله عزَّ وجلَّ حيثُ أخبرتْ عن الغيب الذي لا يعلمُه إلا العليمُ الخبيرُ. وقُرئ غَلَبت على البناء للفاعل وسيُغلبون على البناء للمفعول والمعنى أنَّ الرُّوم غلبتْ على ريف الشام وسيغلبُهم المسلمونَ وقد غَزَاهُم المسلمون في السَّنة التَّاسعة من نزولها ففتحُوا بعضَ بلادهم، فإضافةُ الغَلَب حينئذٍ إلى الفاعل.
{للَّه الأمر من قَبْلُ وَمن بَعْدُ} أي في أول الوقتين وفي آخرهما حين غُلبوا وحين يغلبون، كأنَّه قيل: من قبل كونهم غالبينَ وهو وقتُ كونهم مغلوبينَ ومن بعد كونهم مغلوبينَ وهو وقتُ كونهم غالبينَ والمعنى أنَّ كلًا من كونهم مغلوبينَ أولًا وغالبين آخرًا ليس إلا بأمر الله تعالى وقضائه {وَتلْكَ الأيام نُدَاولُهَا بَيْنَ الناس} وقُرئ من قبل ومن بعد بالجرّ من غير تقدير مُضافٍ إليه واقتطاعه كأنَّه قيل: قبلًا وبَعْدًا، بمعنى أولًا وآخرًا {وَيَوْمَئذٍ} أي يومَ إذْ يغلبُ الرُّومُ على فارسَ ويحلُّ ما وعدَه الله تعالى من غلبتهم {يَفْرَحُ المؤمنون}.
{بنَصْر الله} وتغليبه من له كتاب على من لا كتابَ له وغيظ من شمت بهم من كفَّار مكَّةَ وكون ذلك من دلائل غلبة المؤمنينَ على الكفَّار، وقيل: نصرُ الله إظهارُ صدق المؤمنينَ فيما أخبرُوا به المشركينَ من غَلَبة الرُّوم على فارسَ، وقيل: نصرُه تعالى أنَّه ولَّى بعضَ الظَّالمين بعضًا وفرَّق بين كلمتهم حتَّى تناقصُوا وتفانوا وفلَّ كلّ منهما شوكةَ الآخر وفي ذلك قوَّة. وعن أبي سعيدٍ الخُدري رضي الله عنه أنه وافقَ ذلك يومَ بدرٍ. وفيه من نصر الله العزيز للمؤمنينَ وفرحهم بذلك ما لا يَخْفى، والأولُ هو الأنسبُ لقوله تعالى: {يَنصُرُ مَن يَشَاء} أنْ ينصرَهُ من عباده على عدوّه ويُغلّبه عليه فإنَّه استئناف مقرر لمضمون قوله تعالى: {للَّه الأمر من قَبْلُ وَمن بَعْدُ} {وَهُوَ العزيز} المبالغُ في العزَّة والغَلَبة فلا يُعجزه مَن يشاءُ أنْ ينصرَ عليه كائنًا مَن كان {الرحيم} المبالغ في الرَّحمة فينصرُ من يشاءُ أنْ ينصرَه أيَّ فريقٍ كان، والمرادُ بالرَّحمة هي الدُّنيوية، أمَّا على القراءة المشهُورة فظاهر لما أنَّ كلا الفريقين لا يستحقُّ الرَّحمةَ الأُخرويَّةَ. وأمَّا على القراءة الأخيرة فلأنَّ المُسلمينَ وإنْ كانُوا مستحقّين لها لكنْ المرادُ هاهنا نصرُهم الذي هُو من آثار الرَّحمة الدُّنيوية، وتقديمُ وصف العزَّة لتقدمه في الاعتبار {وَعَدَ الله} مصدر مؤكّد لنفسه لأنَّ ما قبله في مَعنى الوعد كأنَّه قيلَ: وَعَدَ الله وَعْدًا {لاَ يُخْلفُ الله وَعْدَهُ} أيَّ وعدٍ كانَ ممَّا يتعلَّقُ بالدُّنيا والآخرة لاستحالة الكذب عليه سبحانَه. وإظهارُ الاسم الجليل في موقع الإضمار لتعليل الحُكم وتفخيمه. والجملةُ استئناف مقرر لمعنى المصدر وقد جُوّز أنْ تكونَ حالًا منه فيكونَ كالمصدر الموصوف، كأنَّه قيل: وَعَدَ الله وَعْدًا غيرَ مُخلفٍ {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} أيْ ما سبقَ من شؤونه تعالى.
{يَعْلَمُونَ ظَاهرًا مّنَ الحياة الدنيا} وهو ما يُشاهدونَهُ من زخارفها وملاذّها وسائر أحوالها الموافقة لشهواتهم الملائمة لأهوائهم المستدعية لانهماكهم فيها وعكوفهم عليها لا تمتعهم بزخارفها وتنعمهم بملاذّها كما قيلَ فإنَّهما ليسا ممَّا علمُوه منها بل من أفعالهم المترتبة على علومهم، وتنكيرُ ظاهرًا للتَّحقير والتخَّسيس دونَ الوحدة كما تُوهّم أي يعلمون ظاهرًا حقيرًا خسيسًا من الدُّنيا {وَهُمْ عَن الآخرة} التي هي الغايةُ القُصوى والمطلبُ الأسنَى {هُمْ غافلون} لا يُخطرونَها بالبال ولا يُدركون من الدُّنيا ما يؤدي إلى معرفتها من أحوالها ولا يتفكَّرون فيها كما سيأتي. والجملةُ معطُوفة على يعلمونَ وإيرادُها اسمية للدلالة على استمرار غفلتهم ودوامها وهُم الثَّانية تكرير للأولى أو مبتدأ وغافلون خبرُه والجملةُ خبر للأولى وهو عَلَى الوجهين منادٍ على تمكُّن غفلتهم عن الآخرة المحققّة لمقتضَى الجملة المتقدمة تقريرًا لجهالتهم وتشبيهًا لهم بالبهائم المقصور إدراكاتُها من الدُّنيا على ظواهرها الخسيسة دونَ أحوالها التي هي مَبَادي العلم بأمور الآخرة وإشعارًا بأنَّ العلمَ المذكورَ وعدمَ العلم رأسًا سيَّان. اهـ.

.قال الألوسي:

{الم} الكلام فيه كالذي مر في أمثاله من الفواتح الكريمة.
{غُلبَت الروم} هي قبيلة عظيمة من ولد رومي بن يونان بن علجان بن يافث نوح عليه السلام وقيل: من ولد يافان بن يافث، وقيل: من ولد روعويل بن عيص بن إسحاق بن إبراهيم عليه السلام، وقال الجوهري: من ولد روم بن عيص المذكور صارت لها وقعة مع فارس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فغلبتها وقهرتها فارس.
{في أَدْنَى الأرض} أي أقربها والمراد بالأرض أرض الروم على أن {ءالَ} نائبة مناب الضمير المضاف إليه والأقربية بالنظر إلى أهل مكة لأن الكلام معهم أو المراد بها أرض مكة ونواحيها لأنها الأرض المعهودة عندهم والأقربية بالنظر إلى الروم أو المراد بالأرض أرض الروم لذكرهم والأقربية بالنظر إلى عدوهم أعني فارس لحديث المغلوبية، وقد جاء من طريق عديدة أن الحرب وقع بين اذرعات وبصري، وقال ابن عباس والسدي: بالأردن وفلسطين، وقال مجاهد: بالجزيرة يعني الجزيرة العمرية لا جزيرة العرب، وجعل كل قول موافقًا لوجه من الأوجه الثلاثة على الترتيب، وصحح ابن حجر القول الأول.
وقرأ الكلبي {فى وَفى الأرض} {وَهُمْ} أي الروم {مّن بَعْد غَلَبهمْ} أي غلب فارس إياهم على أنه مصدر مضاف إلى مفعوله أو إلى نائب فاعله إن كان مصدرًا لمجهول ورجحه بعضهم بموافقته للنظم الجليل.
وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه وابن عمر رضي الله تعالى عنهما ومعاوية بن قرة {غَلَبهمْ} بسكون اللام، وعن أبي عمرو أنه قرأ {غلابهم} على وزن كتاب والكل مصادر غلب، والجار والمجرور متعلق بقوله تعالى: {غَلَبهمْ سَيَغْلبُونَ} وفي ذلك تأكيد لما يفهم من السين ولكون مغلوبهم من كان غالبهم، وفي بناء الجملة على الضمير تقوية للحكم أي سيغلبون فارس البتة، وقوله تعالى: {فى بضْع سنينَ} متعلق بسيغلبون أيضًا.
والبضع ما بين الثلاث إلى العشرة عن الأصمعي، وفي المجمل ما بين الواحد: إلى التسعة، وقيل هو ما فوق الخمس ودون العشر وقال المبرد: ما بين العقدين في جميع الأعداد.
روى أن فارس غزوا الروم فوافوهم بأذرعات وبصرى فغلبوا عليهم فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهم بمكة فشق ذلك عليهم وكان صلى الله عليه وسلم يكره أن يظهر الأميون من المجوس على أهل الكتاب من الروم وفرح الكفار يمكة وشمتوا فلقوا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: إنكم أهل كتاب والنصارى أهل كتاب وقد ظهر إخواننا من أهخل فارس على إخوانكم من أهل الكتاب وإنكم إن قاتلتمونا لنظهرن عليكم الله فأنزل الله تعالى: {الم غُلبَت الروم} [الروم: 1، 2] الآيات فخرج أبو بكر رضي الله تعالى عنه إلى الكفار فقال: أفرحتم بظهور إخوانكم على إخواننا فلا تفرحوا ولا يقرن الله تعالى عينكم فوالله تعالى ليظهرن الروم على فارس أخبرنا بذلك نبينا صلى الله عليه وسلم فقام إليه أبي بن خلف فقال: كذبت فقال له: أبو بكر رضي الله تعالى عنه: أنت أكذب يا عدو الله تعالى تعالى أناجيك عشر قلائص مني وعشر قلائص منك فإن ظهرت الروم على فارس غرمت وإن ظهرت فارس غرمت إلى ثلاث سنين فناحبه ثم جاء أبو بكر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال عليه الصلاة والسلام: ما هكذا ذكرت إنما البضع ما بين الثلاث إلى التسع فزايده في الخطر وماده في الأجل فخرج أبو بكر فلقي أبيًا فقال: لعلك ندمت؟ قال: لا تعال أزايدك في الخطر وأمادك في الأجل فاجعلها مائة قلوص إلى تسع سنين قال: قد فعلت فلما أراد أبو بكر الهجرة طلب منه أبي كفيلًا بالخطر إن غلب فكفل به ابنه عبد الرحمن فلما أراد أبي الخروج إلى أحد طلبه عبد الرحمن بالكفيل فأعطاه كفيلًا ومات أبي من جرح جرحه النبي صلى الله عليه وسلم وظهرت الروم على فارس لما دخلت السنة السابعة.
وجاء في بعض الروايات أنهم ظهروا عليهم يوم الحديبية، وأخرج الترمذي وحسنه أنه لما كان يوم بدر ظهرت الروم على فارس فأخذ أبو بكر رضي الله تعالى عنه الخطر من ورثة أبي وجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال عليه الصلاة والسلام: تصدق به، وفي رواية أبي يعلى وابن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر عن البراء بن عازب أنه عليه الصلاة والسلام قال: «هذا السحت تصدق به».
واستشكل بأنه إن كان ذلك قبل تحريم القمار كما أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم والبيهقي عن قتادة والترمذي وصححه عن نيار بن مكرم السلمي وهو الظاهر لأن السورة مكية وتحريم الخمر والميسر من آخر القرآن نزولًا فما وجه كونه سحتًا؟ وإن كان بعد التحريم فكيف يؤمر بالتصدق بالحرام الغير المختلط بغيره وصاحبه معلوم، وفي مثل ذلك يجب رد المال عليه، فإن قيل: إنه مال حربي والحادثة وقعت بمكة وهي قبل الفتح دار حرب والعقود الفاسدة تجوز فيها عند أبي حنيفة ومحمد عليهما الرحمة لم يظه ركونه سحتًا، وكأني بك تمنع صحة هذه الرواية وإذا لم تثبت صحتها يبقى الأمر بالتصدق، وحينئذ يجوز أن يكون لمصلحة رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو تصدق بحلال؛ أما إذا كان ذلك قبل تحريم القمار كما هو المعول عليه فظاهر، وأما إن كان بعد التحريم فلأن أبا حنيفة ومحمدًا قالا بجواز العقود الفاسدة في دار الحرب بين المسلمين والكفار واحتجا على صحة ذلك بما وقع من أبي بكر في هذه القصة، وقد تظافرت الروايات أنه صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليه المناحبة وإنما أنكر عليه التأجيل بثلاث سنين وأرشده إلى أن يزايدهم، وربما يقال على تقدير الصحة: إن السحت ليس بمعنى الحرام بل بمعنى ما يكون سببًا للعار والنقص في المروءة حتى كأنه يسحتها أي يستأصلها كما في قوله صلى الله عليه وسلم: «كسب الحجام سحت» فقد قال الراغب: إن هذا لكونه ساحتًا للمروءة لا للدين فكأنه صلى الله عليه وسلم رأى أن تمول ذلك وإن كان حلالًا مخل بمروءة أبي بكر رضي الله تعالى عنه فأطلق عليه السحت، ولا يأبى ذلك إذنه عليه الصلاة والسلام في المناحبة لما أنها لا تضرب بالمروءة أصلًا وفيها من إظهار اليقين بصدق ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم ما فيها وكان عليه الصلاة والسلام على ثقة من صلاح الصديق رضي الله تعالى عنه وأنه إذا أمره بالتصدق بما يأخذه ونهاه عن تموله لم يخالفه، وقيل: السحت هنا بمعنى ما لا شيء على من استهلكه وهو أحد إطلاقاته كما في النهاية، والمراد هذا الذي لا شيء عليك إذا استهلكته وتصرفت فيه حسبما تشاء تصدق به كأنه عليه الصلاة والسلام بعد أن أخبر الصديق رضي الله تعالى عنه بأنه لا مانع له من التصرف فيه حسبما يريد أرشده إلى ما هو الأولى والأحرى فقال: تصدق به، وهو كما ترى، وقيل: إن السحت كما في النهاية يرد في الكلام بمعنى الحرام مرة وبمعنى المكروه أخرى ويستدل على ذلك بالقرائن فيجوز أن يكون في الخبر إذا صح فيه بمعنى المكروه إذ الأمر بالتصديق يمنع أن يكون بمعنى الحرام فيتعين كونه بمعنى المكروه، وفيه نظر، وأما تفسير السحت بالحرام والتزام القول بجواز التصدق بالحرام لهذا الخبر فمما لا يلتفت إليه أصلًا فتأمل.