فصل: قال الشنقيطي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشنقيطي:

{وَعْدَ اللَّه لَا يُخْلفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكنَّ أَكْثَرَ النَّاس لَا يَعْلَمُونَ (6)}.
قوله تعالى: وعد الله، مصدر مؤكد لنفسه، لأن قوله قبله: {وَهُم مّن بَعْد غَلَبهمْ سَيَغْلبُونَ} [الروم: 3] إلى قوله: {وَيَوْمَئذٍ يَفْرَحُ المؤمنون بنَصْر الله} [الروم: 45] هو نفس الوعد كما لا يخفى، أي وعد الله ذلك وعدًا.
وقد ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أربعة أمور:
الأول: أنه لا يخلف وعده.
والثاني: أن أكثر الناس وهم الكفار لا يعلمون.
والثالث: أنهم يعلمون ظاهرًا من الحياة الدنيا.
والرابع: أنهم غافلون عن الآخرة. وهذه الأمور الأربعة جاءت موضحة في غير هذا الموضع.
أما الأول منها: وهو كونه لا يخلف وعده، فقد جاء في آيات كثيرة كقوله تعالى: {إنَّ الله لاَ يُخْلفُ الميعاد} [الرعد: 31] وقد بين تعالى أن وعيده للكفار لا يخلف أيضًا في آيات من كتابه كقوله تعالى: {قَالَ لاَ تَخْتَصمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إلَيْكُم بالوعيد مَا يُبَدَّلُ القول لَدَيَّ} [ق: 28- 29] الآية.
والتحقيق: أن القول الذي لا يبدل لديه في هذه الآية الكريمة، هو وعيده للكفار.
وكقوله تعالى: {كُلٌّ كَذَّبَ الرسل فَحَقَّ وَعيد} [ق: 14] وقوله: {إن كُلٌّ إلاَّ كَذَّبَ الرسل فَحَقَّ عقَاب} [ص: 14]، فقوله: حق هاتين الآيتين. أي وجب وثبت، فلا يمكن تخلفه بحال.
وأما الثاني منها: وهو أن أكثر الناس وهم الكفار لا يعملون، فقد جاء موضحًا في آيات كثيرة، فقد بين تعالى أن أكثر الناس هم الكافرون كقوله تعالى: {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يُؤْمنُونَ} [هود: 17]. وقوله تعالى: {وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأولين} [الصافات: 71]، وقوله تعالى: {إنَّ في ذَلكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمنينَ}. وقوله تعالى: {وَإن تُطعْ أَكْثَرَ مَن في الأرض يُضلُّوكَ عَن سَبيل الله إن يَتَّبعُونَ إلاَّ الظن وَإنْ هُمْ إلاَّ يَخْرُصُونَ} [الأنعام: 116]، وقوله تعالى: {وَمَآ أَكْثَرُ الناس وَلَوْ حَرَصْتَ بمُؤْمنينَ} [يوسف: 103] إلى غير ذلك من الآيات.
وقد بين جل وعلا أيضًا في آيات من كتابه أن الكفار لا يعلمون كقوله تعالى: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقلُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ} [البقرة: 170]. وقوله تعالى: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ} [المائدة: 104]، وقوله تعالى: {وَمَثَلُ الذين كَفَرُوا كَمَثَل الذي يَنْعقُ بمَا لاَ يَسْمَعُ إلاَّ دُعَاءً وَندَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقلُونَ} [البقرة: 171]، وقوله تعالى: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقلُونَ إنْ هُمْ إلاَّ كالأنعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبيلًا} [الفرقان: 44] وقوله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لجَهَنَّمَ كَثيرًا مّنَ الجن والإنس لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصرُونَ بهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بهَآ أولئك كالأنعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ أولئك هُمُ الغافلون} [الأعراف: 179]، وقوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقلُ مَا كُنَّا في أَصْحَاب السعير} [الملك: 10] إلى غير ذلك من الآيات.
وأما الثالث منها: وهو كونهم يعلمون ظاهرًا من الحياة الدنيا، فقد جاء أيضًا في غير هذا الموضع كقوله تعالى: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَن السبيل وَكَانُوا مُسْتَبْصرينَ} [العنكبوت: 38]: أي في الدنيا. وقوله تعالى: {فَأَعْرضْ عَن مَّن تولى عَن ذكْرنَا وَلَمْ يُردْ إلاَّ الحياة الدنيا ذَلكَ مَبْلَغُهُمْ مّنَ العلم إنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بمَن ضَلَّ عَن سَبيله وَهُوَ أَعْلَمُ بمَن اهتدى}.
[النجم: 29- 30] الآية.
وأما الرابع منها: وهو كونهم غافلين عن الآخرة فقد جاء في آيات كثيرة كقوله تعالى عنهم: {هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لمَا تُوعَدُونَ إنْ هيَ إلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا} [المؤمنون: 36- 37] الآية.
وقوله تعالى عنهم: {وَمَا نَحْنُ بمُنشَرينَ} [الدخان: 35]، {وَمَا نَحْنُ بمَبْعُوثينَ} [الأنعام: 29] و[المؤمنون: 37]، {مَن يُحيي العظام وَهيَ رَميمٌ} [يس: 78] والآيات في ذلك كثيرة معلومة.
تنبيه:
اعلم أنه يجب على كل مسلم في هذا القرآن: أن يتدبر آية الروم تدبرًا كثيرًا، ويبين ما دلت عليه لكل من استطاع بيانه له من الناس.
وإيضاح ذلك أن من أعظم فتن آخر الزمان التي ابتلى ضعاف العقول من المسلمين شدة إتقان الإفرنج، لأعمال الحياة الدنيا ومهارتهم فيها على كثرتها، واختلاف أنواعها مع عجز المسلمين عن ذلك، فظنوا أن من قدر على تلك الأعمال أنه على الحق، وأن من عجز عنها متخلف وليس على الحق، وهذا جهل فاحش، وغلط فادح. وفي هذه الآية الكريمة إيضاح لهذه الفتنة وتخفيف لشأنها أنزله الله في كتابه قبل وقوعها بأزمان كثيرلة، فسبحان الحكيم الخبير ما أعلمه، وما أعظمه، وما أحسن تعليمه.
فقد أوضح جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن أكثر الناس لا يعلمون، ويدخل فيهم أصحاب هذه العلوم الدنيوية دخولًا أوليًا، فقد نفى عنهم جل وعلا اسم العلم بمعناه الصحيح الكامل، لأنهم لا يعلمون شيئًا عمن خلقهم، فأبرزهم من العدم إلى الوجود، وزرقهم، وسوف يميتهم، ثم يحييهم، ثم يجازيهم على أعمالهم، ولم يعلموا شيئًا عن مصيرهم الأخير الذي يقيمون فيه إقامة أبدية في عذاب فظيع دائم: ومن غفل عن جميع هذا فليس معدودًا من جنس من يعلم كما دلت عليه الآيات القرآنية المذكورة، ثم لما نفى عنهم جل وعلا اسم العلم بمعناه الصحيح الكامل أثبت لهم نوعًا من العلم في غاية الحقارة بالنسبة إلى غيره.
وعاب ذلك النوع من العلم بعيبين عظيمين:
أحدهما: قلته وضيق مجاله، لأنه لا يجاوز ظاهرًا من الحياة الدنيا، والعلم المقصور على ظاهر من الحياة الدنيا في غاية الحقارة، وضيق المجال بالنسبة إلى العلم بخالق السماوات والأرض جل وعلا، والعلم بأوامره ونواهيه، وبما يقرب عبده منه، وما يبعده منه، وما يخلد في النعيم الأبدي من أعمال الخير والشر.
والثاني منهما: هو دناءة هدف ذلك العلم، وعدم نيل غايته، لأنه لا يتجاوز الحياة الدنيا، وهي سريعة الانقطاع والزوال ويكفيك من تحقير هذا العلم الدنيوي أن أجود أوجه الإعراب في قوله: {يَعْلَمُونَ ظَاهرًا} أنه بدل من قوله قبله لا يعلمون، فهذا العلم كلا علم لحقارته.
قال الزمخشري في الكشاف، وقوله: {يعلمون} بدل من قوله: لا يعلمون، وفي هذا الإبدال من النكته أنه أبدله منه وجعله بحيث يقوم مقامه، ويسد مسده ليعلمك أنه لا فرق بين عدم العلم الذي هو الجهل، وبين وجود العلم الذي لا يتجاوز الدنيا.
وقوله: {ظَاهرا مّنَ الحياة الدنيا} يفيد أن الدنيا ظاهرًا وباطنًا فظاهرها ما يعرفه الجهال من التمتع بزخارفها، والتنعيم بملاذها وباطنها، وحقيتها أنها مجاز إلى الآخرة، يتزود منها إليها بالطاعة والأعمال الصالحة، وفي تنكير الظاهر أنه ملا يعلمون إلا ظاهرًا واحدًا من ظواهرها. وهم الثانية يجوز أن يكون مبتدأ، وغافلون خبره، والجملة خبر، هم الأولى، وأن يكون تكريرًا للأولى، وغافلون: خبر الأولى، وأية كانت فذكرها مناد على أنهم معدن الغفلة عن الآخرة، ومقرها، ومحلها وأنها منهم تنبع وإليهم ترجع. انتهى كلام صاحب الكشاف.
وقال غيره: وفي تنكير قوله: {ظاهرًا} تقليل لمعلومهم، وتقليله يقربه من النفي، حتى يطابق المبدل منه. اهـ. ووجهه ظاهر.
واعلم أن المسلمين يجب عليهم تعلم هذه العلوم الدنيوية، كما أوضحنا ذلك غاية الإيضاح في سورة مريم في الكلام على قوله تعالى: {أَطَّلَعَ الغيب أَم اتخذ عندَ الرحمن عَهْدًا} [مريم: 78] وهذه العلوم الدنيوية التي بينا حقارتها بالنسبة إلى ما غفل عنه أصحابها الكفار، إذا تعلمها المسلمون، وكان كل من تعليمها واستعمالها مطابقًا لما أمر الله به، على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم: كانت من أشرف العلوم وأنفعها، لأنها يستعان بها على إعلاء كلمة الله ومرضاته جل وعلا، وإصلاح الدنيا والآخرة، فلا عيب فيها إذن كما قال تعالى: {وَأَعدُّوا لَهُمْ مَّا استطعتم مّن قُوَّةٍ} [الأنفال: 60] فالعمل في إعداد المستطاع من القوة امتثالًا لأمر الله تعالى وسعيًا في مرضاته، وإعلاء كلمته ليس من جنس علم الكفار الغافلين عن الآخرة، كما ترى الآيات بمثل ذلك كثيرة. والعلم عند الله تعالى. اهـ.

.قال الشعراوي:

{الم} [الروم: 1] سبق أن تكلمنا كثيرًا عن الحروف المقطعة في بدايات السور، ولا أريد إعادة ما قُلْته، لكن أريد من العلماء أنْ يلتفتوا إلى هذه المسألة لفتة إشراقية تُرينا جميعًا، وتكشف لنا الحكمة والأسرار في هذه الحروف.
وقلنا: إن هذه الحروف {الم} بنيت على الوقف، كل حرف منها على حدَة، مع أن القرآن في مجملة مبني على الوصل في آياته وفي سوره، فآخر حرف في السورة موصول بأول حرف في التي تليها- فهنا نقول: {وَإنَّ اللهَ لَمعَ المحْسنينَ بسْم الله الرحْمن الرحيم}.
بل أعجب من هذا، نجد أن آخر سورة الناس مبنيٌّ على الوصل بأول الفاتحة، فنقول: {منَ الجنَّة والنَّاس بسْم الله الرحْمَن الرَّحيم الْحَمدُ لله رَبّ العَالمين}.
فالقرآن إذن موصول، لا انقطاعَ فيه. فلماذا بُنيت الحروف المقطعة في أوائل السور على الوقْف، لماذا لا نقول: ألفٌ لامٌ ميمٌ؟ قالوا: لأن الله تعالى لم يشأ أنْ يجعلها كلمة واحدة، فجاءت على القطع، ويؤنسنا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا أقول الم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف» فنريد وننتظر من يدركه الله ليكون من المحسنين، ويدلُّنا على ما في هذه الحروف من سرٍّ يُوقف عنده، ولا يُوصل بغيره.
قال الحق سبحانه: {غُلبَت}.
كلمة {غُلبَت} [الروم: 2] تدل على وجود معركة غلب فريقٌ، وغُلب فريق، فالذي غُلب هنا الروم، وكانوا أهل كتاب ومقرهم الشام وعراق العرب، فالعراق منها قسم ناحية العرب، وقسم ناحية فارس، والروم نسبة إلى روم بن عيصو بن إسحاق بن إبراهيم.
{في أَدْنَى الْأَرْض وَهُمْ منْ بَعْد غَلَبهمْ سَيَغْلبُونَ (3)}.
قوله: {أَدْنَى} [الروم: 3] يعني: أقرب لأرض العرب، كما في {إذْ أَنتُمْ بالْعُدْوَة الدنيا وَهُم بالعدوة القصوى} [الأنفال: 42] فالعُدْوة الدنيا أي: القريبة من المدينة، والقُصْوى البعيدة عنها. فالمعنى {في أَدْنَى الأرض} [الروم: 3] أقرب أرض للجزيرة العربية.
وفي قوله سبحانه: {وَهُم مّن بَعْد غَلَبهمْ سَيَغْلبُونَ} [الروم: 3] بشرى للمسلمين، فالفرس قوم كانوا يعبدون النار، أما الروم فأهل كتاب، إذن: فالخلاف بيننا وبين الفرس في القمة الإلهية، أمَّا الخلاف بيننا وبين الروم ففي القمة الرسالية، فَهُم أقرب إلينا؛ لأنهم يؤمنون بإلهنا، وإنْ كانوا لا يؤمنون برسولنا.
وهذا من عظمة الإسلام، فالذي يؤمن بالإله أقرب إلى نفوسنا من الذي لا يؤمن بالإله؛ لأنه على الأقل موصول بالسماء؛ لذلك لما غُلبت الروم فرح كفار قريش وحزن المؤمنون، وفرح كفار قريش لأن في هزيمة الروم دليلًا على أن محمدًا وأصحابه سينهزمون كأصحابهم.
وكلمة {غَلَبهمْ} [الروم: 3] مصدر يُضاف للفاعل مرة، ويُضاف للمفعول مرة أخرى، تقول أعجبني ضَرْبُ الأمير مذنبًا، فأضفت المصدر للفاعل. وتقول: أعجبني ضَرْب المذنب فأضفتَ المصدر للمفعول، وكذلك هنا {غَلَبهمْ} [الروم: 3] مصدر أضيف إلى المفعول.
لكن لماذا قال سبحانه: {سَيَغْلبُونَ} [الروم: 3] وجاء بالسين الدالة على الاستقبال، ثم قال بعدها {في بضْع سنينَ} [الروم: 4] وهي أيضًا دالة على الاستقبال؟ قالوا: لأن الغلبة لا تأتي فجأة، إنما لابد لها من إعداد طويل وأَخْذ بأسباب النصر، وتجهيز القوة اللازمة له، فكأنهم في مدة البضع سنين يُعدون للنصر، فكلما أعدوا عُدَّة أخذوا جزءًا من النصر، فالنصر إذن لا يأتي في بضع سنين، إنما من عمل دائم على مدى بضع سنين.
فهتلر مثلًا لما انهزم في الحرب العالمية، وتألَّبتْ عليه كل الدول، جاء في عام 1939 وهدد العالم كله بالحرب، فهل سقطت عليه القوة التي يهدد بها فجأة؟ لا، بل ظل عدة سنوات يُعد العدة ويُجهّز الجيش والأسلحة والطرق إلى أنْ توفرتْ له القوة التي يهدد بها.
{في بضْع سنينَ للَّه الْأَمْرُ منْ قَبْلُ وَمنْ بَعْدُ وَيَوْمَئذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمنُونَ (4) بنَصْر اللَّه يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزيزُ الرَّحيمُ (5)}.
أثارت فرحة الكفار حفيظة المؤمنين، إلى أنْ نزلت {وَهُم مّن بَعْد غَلَبهمْ سَيَغْلبُونَ في بضْع سنينَ للَّه الأمر من قَبْلُ وَمن بَعْدُ} [الروم: 3-4] ففرح المؤمنون حتى قال أبو بكر: والله لا يسرُّ الله هؤلاء، وسينصر الروم على فارس بعد ثلاث سنين.
لأن كلمة بضع تعني من الثلاثة إلى العشرة، فأخذها الصّدّيق على أدنى مدلولاتها، لماذا؟ لأنه الصّديق، والحق- سبحانه وتعالى- لا يُحمّل المؤمنين مشقة الصبر مدة التسع سنين، وهذه من الصديقية التي تميز بها أبو بكر رضي الله عنه لذلك قال أبو بكر لأُبيّ بن خلف: والله لا يقرّ الله عيونكم- يعني: بما فرحتم به من انتصار الكفار- وقد أخبرنا الله بذلك في مدة بضع سنين، فقال أُبيٌّ: أتراهنني؟ قال: أراهنك على كذا من القلائص- والقلوص هي الناقة التي تركب- في ثلاث سنين عشر قلائص إن انتصرت الروم، وأعطيك مثلها إن انتصرت فارس.
فلما ذهب أبو بكر إلى رسول الله، وأخبره بما كان قال: «يا أبا بكر زدْه في الخطر ومادّه»، يعني زدْ في عدد النوق من عشرة إلى مائة وزده في مدة من ثلاث سنين إلى تسع، وفعلًا ذهب الصّديق لأبيٍّ وعرض عليه الأمر، فوافق في الرهان على مائة ناقة.
فلما اشتدّ الأذى من المشركين، وخرج الصَّدّيق مهاجرًا رآه أُبيُّ بن خلف فقال: إلى أين أبا فصيل؟ وكانوا يغمزون الصّدّيق بهذه الكلمة، فبدل أن يقولوا: يا أبا بكر. والبَكْر هو الجمل القوي يقولون: يا أبا فصيل والفصيل هو الجمل الصغير- فقال الصّديق: مهاجر، فقال: وأين الرهان الذي بيننا؟ فقال: إن كان لك يكفلني فيه ولدي عبد الرحمن، فلما جاءت موقعة بدر رأى عبد الرحمن أُبيًا فقال له: إلى أين؟ فقال: إلى بدر، فقال: وأين الرهان إنْ قتلْتَ؟ فقال: يعطيك ولدي.
وفي بدر أصيب أُبيٌّ بجرح من رسول الله مات فيه، وقدَّم ولده الجُعْل لعبد الرحمن، فذهبوا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «تصدقوا به».
وهنا وقفة إعجازية إيمانية عقدية: سبق أنْ تكلمنا عن الغيب وعن المشهد. وقلنا: إن الغيب أنواع: غيب له مقدمات تُوصّل إليه، كما تعطي التلميذ تمرينًا هندسيًا، وكالأسرار الكونية التي يتوصَّل إليها العلماء ويكتشفونها من معطيات الكون، كالذي اكتشف الآلة البخارية، وأرشميدس لما اكتشف قانون الأجسام الطافية. إلخ ولا يقال لهؤلاء: إنهم علموا غيبًا، إنما أخذوا مقدمات موجودة واستنبطوا منها معدومًا.
أمّا الغيب المطلق فهو الذي ليس له مقدمات تُوصّل إليه، فهو غيب عن كل الناس، وفيه يقول تعالى: {عَالمُ الغيب فَلاَ يُظْهرُ على غَيْبه أَحَدًا إلاَّ مَن ارتضى من رَّسُولٍ}.
[الجن: 26-27].
ومن الغيب ما يغيب عنك، لكن لا يغيب عن غيرك، كالشيء الذي يُسرق منك، فهو غيب عنك لأنك لا تعرف مكانه، وليس غيبًا عَمَّنْ سرقه منك.