فصل: قال الشوكاني في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فإنْ كُنَّا صدَّقنا ما وقع للمكذّبين في الدنيا وشاهدناه بأعيننا، فينبغي أن نُصدّق ما أخبر به الله عن الآخرة؛ لأنك إنْ أردتَ أنْ تعلم ما تجهل فخُذْ له وسيلة مما تعلم. إذن: سيروا في الأرض، وانظروا بعين الاعتبار لمصير الذين كذَّبوا، وماذا فعل الله بهم؟
والسَّيْر: قَطْع المسافات من مكان إلى مكان {أَوَلَمْ يَسيرُوا في الأرض} [الروم: 9] لكن أنسير في الأرض أم على الأرض؟ هذا من دقة الأداء القرآني، ومظهر من مظاهر إعجازه، فالظاهر أننا نسير على الأرض، لكن التحقيق أننا نسير في الأرض؛ لأن الذي خلقنا وخلق الأرض قال: {سيرُوا فيهَا لَيَاليَ وَأَيَّامًا آمنينَ} [سبأ: 18].
ذلك لأن الأرض ليست هي مجرد اليابسة التي تحمل الماء، والتي نعيش عليها، إنما الأرض تشمل كل ما يحيط بها من الغلاف الجوي؛ لأنها بدونه لا تصلح للعيش عليها، إذن: فغلاف الأرض من الأرض، فحين نسير لا نسير على الأرض إنما في الأرض.
والسير في الأرض نظر له الدين من ناحيتين: سير يُعَدُّ سياحة للاعتبار، وسيْر يُعَدُّ سياحة للاستثمار، فالسير للاعتبار أن تتأمل الآيات في الأرض التي تمر بها، فالجزيرة العربية مثلًا صحراء وجبال يندر فيها الزرع، فإنْ ذهبتَ إلى أسبانيا مثلًا تجدها بلادًا خضراء لا تكاد ترى سطح الأرض من كثرة النباتات بها.
وفي كل منها خيرات؛ لأن الخالق سبحانه وزَّع أسباب الفضل على الكون كله، وترى أن هذه الأرض الجرداء القاحلة والتي كانت يشقُّ على الناس العيش بها لما صبر عليها أهلها أعطاهم الله خيرها من باطن الأرض، فأصبحت تمد أعظم الدول وأرقاها بالوقود الذي لا يُسْتغنى عنه يومًا واحدًا في هذه البلاد، وحينما قطعناه عنهم في عام 1973ضجُّوا وكاد البرد يقتلهم.
حين تسير في الأرض وتنظر بعين الاعتبار تجد أنها مثل البطيخة، لو أخذتَ منها قطاعًا طوليًا فإنه يتساوى مع باقي القطاعات، كذلك الأرض وزَّع الله بها الخيرات على اختلاف ألوانها، فمجموع الخير في كل قطاع من الأرض يساوي مجموع الخيرات في القطاعات الأخرى.
الجبال التي هجرناها في الماضي وقُلْنا إنها جَدْب وقفر لا حياةَ فيها، هي الآن مخازن للثروات وللخيرات قد اتجهت إليها الأنظار لإعمارها والاستفادة منها، وانظر مثلًا إلى ما يحدث من نهضة عمرانية في سيناء.
إذن: فالخالق سبحانه وزَّع الخيرات على الأرض، كما وزَّع المواهب على الخَلْق ليظل الجميع مرتبطًا بعضه ببعض برباط الحاجة لا يستغني الناس بعضهم عن بعض، ولا البلاد بعضها عن بعض، وهنا لفتة إيمانية: أن الخلق كلهم عباد الله وصنعته، والبلاد كلها أرض الله وملكه، وليس لله ولد، وليس بينه وبين أحد من عباده قرابة، فالجميع عنده سواء، لذلك سبق أن قلنا: لا ينبغي لك أنْ تحقد على صاحب الخير أو تحسده؛ لأن خيره سيعود عليك حتمًا.
ومعنى {الذين من قَبْلهمْ} [الروم: 9] أي: الأمم التي كذَّبَتْ الرسل، وفي آية أخرى يوضح سبحانه عاقبة هؤلاء المكذبين: {فَكُلًا أَخَذْنَا بذَنبه فَمنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْه حَاصبًا وَمنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ الصيحة وَمنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا به الأرض وَمنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ الله ليَظْلمَهُمْ ولكن كانوا أَنفُسَهُمْ يَظْلمُونَ} [العنكبوت: 40].
ويخاطب سبحانه كفار قريش: {وَإنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهمْ مُّصْبحينَ وباليل أَفَلاَ تَعْقلُونَ} [الصافات: 137-138].
أي: في أسفاركم ورحلات تجارتكم تروْنَ مدائن صالح وغيرها من القرى التي أصابها العذاب مازالت شاخصة لكل ذي عينين.
ويقول سبحانه: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بعَادٍ إرَمَ ذَات العماد التي لَمْ يُخْلَقْ مثْلُهَا في البلاد} [الفجر: 6-8] وكانوا في رمال الأحقاف {وَثَمُودَ الذين جَابُوا الصخر بالواد وَفرْعَوْنَ ذى الأوتاد الذين طَغَوْا في البلاد فَأَكْثَرُوا فيهَا الفساد فَصَبَّ عَلَيْهمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ} [الفجر: 9-13].
لقد كان لكل هؤلاء حضارات ما زالت حتى الآن تبهر أرقى حضارات اليوم، فيأتون إليها ليتأملوا ما فيها من أسرار وعجائب، ومع ذلك لم تستطع هذه الحضارات أنْ تحمي نفسها من الدمار والزوال، وما استطاعت أنْ تمنع نفسها من عذاب الله حين حَلَّ بها، إذن: لكم في هؤلاء عبْرة.
وكأن الحق سبحانه في قوله: {أَوَلَمْ يَسيرُوا في الأرض فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقبَةُ الذين من قَبْلهمْ} [الروم: 9] يقول لكفار قريش: أنتم يا مشركي قريش أقلّ الأمم، لا قوةَ لكم، ولا مال ولا حضارة ولا عمارة، فمن اليسير علينا أن نأخذكم كما أخذنا مَنْ هم أقوى منكم، إنما سبق أنْ أخذتم العهد في قوله سبحانه: {وَمَا كَانَ الله ليُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فيهمْ وَمَا كَانَ الله مُعَذّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفرُونَ} [الأنفال: 33].
لذلك يقول بعدها: {كانوا أَشَدَّ منْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأرض وَعَمَرُوهَآ أَكْثَرَ ممَّا عَمَرُوهَا} [الروم: 9] فالأمم المكذّبة التي أخذها الله وجعلها لكم عبرة كانت أقوى منكم، وأخصب أرضًا، لذلك أثاروا الأرض. أي: حرثوها للزراعة وللإعمار، وأنتم بواد ذي ذرع، والحرث يُطلَق على الزرع كما في قوله سبحانه: {وَيُهْلكَ الحرث والنسل} [البقرة: 205].
ذلك لأن الأرض لا تنبت النبات الجيد إلا إذا أثارها الفلاح، وقلَّبها ليتخلل الهواء تربتها، فتجود عليه وتؤدي مهمتها كما ينبغي، أما إنْ تركتها هامدة متماسكة التربة والذرات، فإنها تمسك النبات ولا تعطي فرصة للجذور البسيطة لأنْ تمتد في التربة، خاصة في بداية الإنبات.
وفي موضع آخر يقول- سبحانه وتعالى- عن النبات: {أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزارعون} [الواقعة: 63-64].
وفي قصة البقرة مع بني إسرائيل لما تلكئوا في ذبحها وطلبوا أوصافها، قال لهم الحق سبحانه: {إنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثيرُ الأرض وَلاَ تَسْقي الحرث} [البقرة: 71].
يعني: بقرة مُرفهة غير سهلة الانقياد، فلا تُستخدم، لا في حَرْث الأرض وإثارتها، ولا في سَقْيها بعد أنْ تُحرَث؛ لذلك تجد أن الفلاح الواعي لابد أن يثير الأرض ويُقلّب تربتها قبل الزراعة، ويتركها فترة ليتخللها الهواء والشمس، ففي هذا إحياء للتربة وتجديد لنشاطها، كما يقولون أيضًا: قبل أن تزرع ما تحتاج إليه انزع ما لا تحتاج إليه.
إذن: فهؤلاء القوم كانت لهم زروع وثمار تمتعوا بها وجمعوا خيراتها.
ومعنى {عَمَرُوهَا} [الروم: 9] أي: بما يسَّر الله لهم من الطاقات والإمكانات، وأعملوا فيها الموهبة التي جعلها الله فيهم، فاستخرجوا من الأرض خيراتها، كما قال سبحانه: {هُوَ أَنشَأَكُمْ مّنَ الأرض واستعمركم فيهَا} [هود: 61].
وإعمار الأرض يكون بكل مظهر من مظاهر الرقي والحياة، إما بالزرع أو الغًرْس، وإما بالبناء، وإما بشقّ الأنهار والمصارف وإقامة الطرق وغير ذلك مما ينفع الناس، ونُفرّق هنا بين الزرع والغَرْس: فالزرع ما تزرعه ثم تحصده مرة واحدة كالقمح مثلًا، أما الغرس فما تغرسُه، ويظل فترة طويلة يُدر عليك، فمحصوله مُتجدّد كحدائق الفاكهة، والزرع يكون ببذْر الحبّ، أما الغرس فنبتة سبق إعدادها تُغرس.
ثم يقول سبحانه: {وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات} [الروم: 9] فبعد أنْ أعطاهم مقوّمات الحياة وإمكانات المادة وطاقاتها، وبعد أنْ جَنَوْا ثمارها لم يتركهم للمادة إنما أعطاهم إمكانات القيم والدين، فأرسل لهم الرسل {بالبينات} [الروم: 9] أي: الآيات الواضحات الدالة على صدْق الرسول في البلاغ عن ربه وهذه التي نسميها المعجزات.
وسبق أنْ ذكرنا أن كلمة الآيات تُطلَق على معانٍ ثلاثة: آيات كونية دالة على قدرة الصانع سبحانه كالشمس والقمر، وآيات تُؤيّد الرسل وتُثبت صدْقهم في البلاغ عن الله وهي المعجزات، وآيات القرآن التي تحمل الأحكام والمنهج، وكلها أمور واضحة بينة.
وقوله تعالى: {فَمَا كَانَ الله ليَظْلمَهُمْ ولكن كانوا أَنفُسَهُمْ يَظْلمُونَ} [الروم: 9] نعم، ما ظلمهم الله؛ لأنه سبحانه أمدهم بمقوّمات الحياة وإمكانات المادة، ثم أمدهم بمقومات الروح والقيم، فإنْ حادوا بعد ذلك عن منهجه سبحانه فما ظلموا إلا أنفسهم.
ثم نقول: كيف يتأتَّى الظلم من الله تعالى؟ الظلم يقع نعم من الإنسان لأخيه الإنسان؛ لأنه يحقد عليه، ويريد أنْ يتمتع بما في يده، فالظالم يأخذ حقَّ المظلوم الذي لا قدرةَ له على حماية حقه. فكيف إذن نتصور الظلم من الله- عز وجل- وهو سبحانه مالك كل شيء، وغني عن كل شيء؟ إذن: ما ظلمهم الله، ولكن ظلموا أنفسهم حينما حادوا عن طريق الله ومنهجه.
{ثُمَّ كَانَ عَاقبَةَ الَّذينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بآيَات اللَّه وَكَانُوا بهَا يَسْتَهْزئُونَ (10)}.
الإساءة ضدها الإحسان، وسبق أن قلنا: إن الإحسان: أن تترك الصالح على صلاحه، أو أن تزيده صلاحًا، ومثَّلْنا لذلك ببئر الماء الذي يشرب منه الناس، فواحد يأتي إليه فيردمه أو يُلوث ماءه، وآخر يبني حوله سياجًا يحميه أو يجعل له آلة تُخرج الماء وتُريح الناس، فهذا أحسن وذاك أساء، فإذا لم تكُنْ محسنًا فلا أقلَّ من أنْ تكفَّ إساءتك، وتدع الحال على ما هو عليه.
والحق- سبحانه وتعالى- خلق الكون على هيئة الصلاح، ولو تركناه كما خلقه ربه لَظلَّ على صلاحه، إذًا لا يأتي الفساد إلا من تدخُّل الإنسان؛ لذلك يقول سبحانه: {وَإذَا قيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسدُوا في الأرض قالوا إنَّمَا نَحْنُ مُصْلحُونَ ألا إنَّهُمْ هُمُ المفسدون ولكن لاَّ يَشْعُرُونَ} [البقرة: 11-12].
وينبغي على الإنسان أنْ يأخذ من ظواهر الكون ما يفيده، أذكر أننا حينما سافرنا إلى مكة سنة 1950 كنا ننتظر السَّقاء الذي يأتي لنا بقربة الماء، ويأخذ أجرة حملها، وكنا نضعها في البزان وهو مثل الزير عندنا، فإذا أراد أحدنا أن يتوضأ يأخذ من الماء كوزًا واحدًا ويقول: نويت نية الاغتراف، ولا يزيد في وضوئه عن هذا الكوز؛ لأننا نشتري الماء، أما الآن فالواحد منا لا تكفيه صفيحة لكي يتوضأ من حنفية الماء. وفي ترشيد استعمال الماء ترشيد أيضًا للصرف الصحي وللمياه الجوفية التي تضر بالمباني وبالتربة الزراعية.
لذلك يحذرنا النبي صلى الله عليه وسلم من الإسراف في استعمال الماء حتى لو كنَّا على نهر جارٍ.
فمعنى الذين أساءوا: أي الذي جاء إلى الصالح فأفسده أو أنشأ إفسادًا جديدًا، وطبيعي أن تكون عاقبته من جنس فعْله {عَاقبَةَ الذين أَسَاءُوا السواءى} [الروم: 10] والسُّوأى: مؤنث سيء مثل: حسن للمذكر، وحُسْنى للمؤنث. وأصغر وصُغْرى، فهي أفعل تفضيل من السُّوء.
ثم يقول سبحانه: {أَن كَذَّبُوا بآيَات الله وَكَانُوا بهَا يَسْتَهْزئُونَ} [الروم: 10] فالأمر لم يقف عند حَدٍّ التكذيب بالآيات، إنما تعدّى التكذيب إلى الاستهزاء، فما فلسفة أهل الاستهزاء حينما يستهزئون بالآخرين؟ كثيرًا ما نلاحظ أن التلميذ الفاشل يستهزيء بالمجتهد، والمنحرف يستهزيء بالمستقيم، لماذا؟
لأن حظ الفاشل أنْ يزهد المجتهد في اجتهاده، وحظ المنحرف أن يصير المستقيم منحرفًا مثله، ومن هنا نسمع عبارات السخرية من الآخرين كما حكاها القرآن: {إنَّ الذين أَجْرَمُوا كَانُوا منَ الذين آمَنُوا يَضْحَكُونَ وَإذَا مَرُّوا بهمْ يَتَغَامَزُونَ وَإذَا انقلبوا إلى أَهْلهمُ انقلبوا فَكهينَ وَإذَا رَأَوْهُمْ قالوا إنَّ هؤلاء لَضَالُّونَ} [المطففين: 29-32].
لكن لا تتعجل، وانتظر عاقبة ذلك حينما يأخذ هؤلاء المؤمنون أماكنهم في الجنة، ويجلسون على سُرُرها وأرائكها: {فاليوم الذين آمَنُوا منَ الكفار يَضْحَكُونَ عَلَى الأرآئك يَنظُرُونَ هَلْ ثُوّبَ الكفار مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المطففين: 34-36].
والخطاب هنا للمؤمنين الذين تحملوا السخرية والاستهزاء في الدنيا: أقدرنا أنْ نجازيهم على ما فعلوه بكم؟
إذن: فلسفة الاستهزاء أن الإنسان لم يقدر على نفسه ليحملها على الفضائل، فيغيظه كل صاحب فضيلة، ويؤلمه أنْ يرى مستقيمًا ينعم بعزّ الطاعة، وهو في حمئة المعصية؛ لذلك يسخر منه لعله ينصرف عما هو فيه من الطاعة والاستقامة. اهـ.

.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

{الم (1) غُلبَت الرُّومُ (2)}.
قد تقدّم الكلام على فاتحة هذه السورة في فاتحة سورة البقرة، وتقدّم الكلام على محلها من الإعراب، ومحلّ أمثالها في غير موضع من فواتح السور.
قرأ الجمهور: {غلبت الروم} بضم الغين المعجمة وكسر اللام مبنيًا للمفعول، وقرأ عليّ بن أبي طالب وأبو سعيد الخدري ومعاوية بن قرّة وابن عمر وأهل الشام بفتح الغين، واللام مبنيًا للفاعل.
قال النحاس: قراءة أكثر الناس: {غُلبَت} بضم الغين وكسر اللام.
قال أهل التفسير: غلبت فارس الروم ففرح بذلك كفار مكة وقالوا: الذين ليس لهم كتاب غلبوا الذين لهم كتاب، وافتخروا على المسلمين وقالوا: نحن أيضًا نغلبكم كما غلبت فارس الروم، وكان المسلمين يحبون أن تظهر الروم على فارس لأنهم أهل كتاب.
ومعنى {في أَدْنَى الأرض} في أقرب أرضهم من أرض العرب، أو في أقرب أرض العرب منهم.
قيل: هي أرض الجزيرة.
وقيل: أذرعات.
وقيل: كسكر: وقيل: الأدرن.
وقيل: فلسطين، وهذه المواضع هي أقرب إلى بلاد العرب من غيرها، وإنما حملت الأرض على أرض العرب لأنها المعهود في ألسنتهم إذا أطلقوا الأرض أرادوا بها جزيرة العرب.
وقيل: إن الألف واللام عوض عن المضاف إليه.
والتقدير: في أدنى أرضهم فيعود الضمير إلى الروم، ويكون المعنى: في أقرب أرض الروم من العرب.
قال ابن عطية: إن كانت الوقعة بأذرعات، فهي من أدنى الأرض بالقياس إلى مكة، وإن كانت الوقعة بالجزيرة، فهي أدنى بالقياس إلى أرض كسرى، وإن كانت بالأردن، فهي أدنى إلى أرض الروم {وَهُم مّن بَعْد غَلَبهمْ سَيَغْلبُونَ} أي والروم من بعد غلب فارس إياهم سيغلبون أهل فارس، والغلب والغلبة لغتان، والمصدر مضاف إلى المفعول على قراءة الجمهور، وإلى الفاعل على قراءة غيرهم.
قرأ الجمهور: {سيغلبون} مبنيًا للفاعل، وقرأ علي وأبو سعيد ومعاوية بن قرّة وابن عمر، وأهل الشام على البناء للمفعول، وسيأتي في آخر البحث ما يقوّي قراءة الجمهور في الموضعين.
وقرأ أبو حيوة الشامي وابن السميفع: {من بعد غلبهم} بسكون اللام.
{في بضْع سنينَ} متعلق بما قبله، وقد تقدّم تفسير البضع واشتقاقه في سورة يوسف، والمراد به هنا ما بين الثلاثة إلى العشرة {للَّه الأمر من قَبْلُ وَمن بَعْدُ} أي هو المنفرد بالقدرة وإنقاذ الأحكام وقت مغلوبيتهم ووقت غالبيتهم، فكلّ ذلك بأمر الله سبحانه وقضائه، قرأ الجمهور: {من قبل ومن بعد} بضمهما لكونهما مقطوعين عن الإضافة، والتقدير: من قبل الغلب ومن بعده، أو من قبل كل أمر ومن بعده.
وحكى الكسائي {من قبل ومن بعدُ} بكسر الأوّل منوّنًا وضم الثاني بلا تنوين.
وحكى الفراء {من قبل ومن بعد} بكسرهما من غير تنوين، وغلطه النحاس.
قال شهاب الدين: قد قرىء بكسرهما منوّنين.
قال الزجاج: ومعنى الآية: من متقدّم ومن متأخر {وَيَوْمَئذٍ يَفْرَحُ المؤمنون بنَصْر الله} أي يوم أن تغلب الروم على فارس في بضع سنين يفرح المؤمنون بنصر الله للروم لكونهم أهل كتاب كما أن المسلمين أهل كتاب، بخلاف فارس فإنه لا كتاب لهم، ولهذا سرّ المشركون بنصرهم على الروم.