فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{فَسُبْحَانَ اللَّه حينَ تُمْسُونَ وَحينَ تُصْبحُونَ (17)}.
الفاء تقتضي اتصال ما بعدها بما قبلها وهي فاء فصيحة، أو عطف تفريع على ما قبلها وقد كان أول الكلام قوله: {أولم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق} [الروم: 8]، والضمير عائد إلى أكثر الناس في قوله: {ولكن أكثر الناس لا يعلمون} [الروم: 6] والمراد بهم الكفار فالتفريع أو الإفصاح ناشىء عن ذلك فيكون المقصود من {سبحان الله} إنشاء تنزيه الله تعالى عما نسبوه إليه من العجز عن إحياء الناس بعد موتهم وإنشاء ثناء عليه.
والخطاب في {تُمْسُونَ} و{تُصْبحُونَ} تابع للخطاب الذي قبله في قوله: {ثُمَّ إليه تُرْجعون} [الروم: 11]، وهو موجه إلى المشركين على طريقة الالتفات من ضمائر الغيبة المبتدئة من قوله: {أو لم يتفكروا في أنفسهم} [الروم: 8] إلى آخرها كما علمت آنفًا.
وهذا هو الأنسب باستعمال مصدر سبحان في مواقع استعماله في الكلام وفي القرآن مثل قوله تعالى: {سبحانه وتعالى عما يشركون} [الزمر: 67] وهو الغالب في استعمال مصدر سبحان في الكلام إن لم يكن هو المتعين كما تقتضيه أقوال أئمة اللغة.
وهذا غير استعمال نحو قوله تعالى: {فسبّح بحَمْد ربّك حينَ تقُوم} [الطور: 48] وقول الأعشى في داليته:
وسبّح على حين العشيات والضحى.
وقوله: {حين تمْسُون} و{حين تَصبحون} و{عشيًا وحين تظْهرون} ظروف متعلقة بما في إنشاء التنزيه من معنى الفعل، أي يُنْشأ تنزيه الله في هذه الأوقات وهي الأجزاء التي يتجزأ الزمان إليها، والمقصود التأبيد كما تقول: سبحان الله دَوْمًا.
وسلك به مسلك الإطناب لأنه مناسب لمقام الثناء.
وجوّز بعض المفسرين أن يكون {سبحان} هنا مصدرًا واقعًا بدلًا عن فعل أمر بالتسبيح كأنه قيل: فسبحوا الله سبحانًا.
وعليه يخرج ما روي أن نافع بن الأزرق سأل ابن عباس: هل تجد الصلوات الخمس في القرآن؟ قال: نعم.
وتلا قوله تعالى: {فسُبْحان الله حينَ تمْسُون وحين تُصْبحون} إلى قوله: {وحينَ تظهرون} فإذا صح ما روي عنه فتأويله: أن {سبحان} أمر بأن يقولوا: سبحان الله، وهو كناية عن الصلاة لأن الصلاة تشتمل على قول: سبحان ربي الأعلى وبحمده.
وقوله: {حين تمسون} إلى آخره إشارة إلى أوقات الصلوات وهو يقتضي أن يكون الخطاب موجهًا إلى المؤمنين.
والمناسبة مع سابقه أنه لما وعدهم بحسن مصيرهم لقّنهم شكر نعمة الله بإقامة الصلاة في أجزاء اليوم والليلة.
وهذا التفريع يؤذن بأن التسبيح والتحميد الواقعين إنشاءً ثناء على الله كناية عن الشكر عن النعمة لأن التصدي لإنشاء الثناء عقب حصول الإنعام أو الوعد به يدل على أن المادح ما بعثه على المدح في ذلك المقام إلا قصد الجزاء على النعمة بما في طوقه، كما ورد فإن لم تقدروا على مكافأته فادعوا له.
وليست الصلوات الخمس وأوقاتها هي المراد من الآية ولكن نسجت على نسج صالح لشموله الصلوات الخمس وأوقاتها وذلك من إعجاز القرآن، لأن الصلاة وإن كان فيها تسبيح ويطلق عليها السُبحة فلا يطلق عليها: سبحان الله.
وأضيف الحين إلى جملتي {تمسون وتصبحون}.
وقدم فعل الإمساء على فعل الإصباح: إما لأن الاستعمال العربي يعتبرون فيه الليالي مبدأ عدد الأيام كثيرًا قال تعالى: {سيروا فيها ليَاليَ وأيامًا آمنين} [سبأ: 18]، وإما لأن الكلام لما وقع عقب ذكر الحشر من قوله: {الله يبدأ الخلق ثم يعيده ثم إليه تُرجعون} [الروم: 11] وذكر قيام الساعة ناسب أن يكون الإمساء وهو آخر اليوم خاطرًا في الذهن فقُدم لهم ذكره.
و{عَشيًّا} عطف على {حينَ تمْسُون} وقوله: {وله الحمد في السماوات والأرض} جملة معترضة بين الظروف تفيد أن تسبيح المؤمنين لله ليس لمنفعة الله تعالى بل لمنفعة المسبحين لأن الله محمود في السماوات والأرض فهو غني عن حمدنا.
وتقديم المجرور في {ولَهُ الحَمْد} لإفادة القصر الادعائي لجنس الحمد على الله تعالى لأن حمده هو الحمد الكامل على نحو قولهم: فلان الشجاع، كما تقدم في طالعة سورة الفاتحة.
ولك أن تجعل التقديم للاهتمام بضمير الجلالة.
والإمساء: حلول المساء.
والإصباح: حلول الصباح.
وتقدم في قوله: {فالق الإصباح} في سورة الأنعام (96).
والإمساء: اقتراب غروب الشمس إلى العشاء، والصباح: أول النهار.
والإظهار: حلول وقت الظهر وهو نصف النهار.
وقد استعمل الإفعال الذي همزته للدخول في المكان مثل: أنجد، وأتهم، وأيْمَنَ، وأشأم في حلول الأوقات من المساء والصباح والظهر تشبيهًا لذلك الحلول بالكون في المكان، فيكثر أن يقال: أصبح وأضحى وأمسى وأعْتَمَ وأشرَق، قال تعالى: {فأتبعوهم مشرقين} [الشعراء: 60].
والعشي: ما بعد العصر، وقد تقدم عند قوله تعالى: {ولا تَطْرُد الذين يَدْعُون ربهم بالغداة والعشي} في سورة الأنعام (52).
{يُخْرجُ الْحَيَّ منَ الْمَيّت وَيُخْرجُ الْمَيّتَ منَ الْحَيّ}.
هذه الجملة بدل من جملة {الله يبدأ الخلق ثم يعيده} [الروم: 11].
ويجوز أيضًا أن تكون موقع العلة لجملة {فسبحان الله حين تمسون} [الروم: 17] وما عطف عليها، أي هو مستحق للتسبيح والحمد لتصرفه في المخلوقات بالإيجاد العجيب وبالإحياء بعد الموت.
واختير من تصرفاته العظيمة تصرف الإحياء والإماتة في الحيوان والنبات لأنه تخلص للغرض المقصود من إثبات البعث ردًا للكلام على ما تقدم من قوله: {الله يبدأ الخلق ثم يعيده ثم إليه ترجعون} [الروم: 11].
فتحصل من ذلك أن الأمر بتسبيحه وحمده معلول بأمرين: إيفاء حق شكره المفاد بفاء التفريع في قوله: {فسبحان الله} [الروم: 17]، وإيفاء حق التعظيم والإجلال، والمقصود هو إخراج الحي من الميت.
وأما عطف {ويخرج الميت من الحي} فللاحتراس من اقتصار قدرته على بعض التصرفات ولإظهار عجيب قدرته أنها تفعل الضدين.
وفي الآية الطباق.
وهذا الخطاب للمؤمنين تعريض بالرد على المشركين.
والإخراج: فصل شيء محوي عن حاويه.
يقال: أخرجه من الدار، وأخرج يده من جيبه، فهو هنا مستعمل لإنشاء شيء من شيء.
والإتيان بصيغة المضارع في {يخرج ويحيي} لاستحضار الحالة العجيبة مثل قوله: {الله الذي يرسل الرياح} [الروم: 48].
فهذا الإخراج والإحياء آية عظيمة على استحقاقه التعظيم والإفراد بالعبادة إذْ أودع هذا النظام العجيب في الموجودات فجعل في الشيء الذي لا حياة له قوة وخصائص تجعله ينتج الأشياء الحية الثابتة المتصرفة ويجعل في تراب الأرض قُوى تُخرج الزرع والنبات حيًا ناميًا.
وإخراج الحي من الميت يظهر في أحوال كثيرة منها: إنشاء الأجنة من النطف، وإنشاء الفراخ من البيض؛ وإخراج الميت من الحي يظهر في العكس وقد تقدم في سورة آل عمران.
وفي الآية إيماء إلى أن الله يخرج من غلاة المشركين أفاضل من المؤمنين مثل إخراج خالد بن الوليد من أبيه الوليد بن المغيرة، وإخراج هند بنت عتبة بن ربيعة من أبيها أحد أئمة الكفر وقد قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: «ما كان أهل خباء أحبّ إليّ أن يذلوا من أهل خبائك واليوم ما أهل خباء أحب إليّ أن يَعَزُّوا من أهل خبائك» فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: «وأيضًا» أي ستزيدين حبًا لنا بسبب نور الإسلام.
وإخراج أم كلثوم بنت عقبة بن أبي مُعيط من أبيها.
ولما كلمت أم كلثوم بنت عقبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن إسلامها وهجرتها إلى المدينة حين جاء أخواها يرومان ردها إلى مكة حسب شروط الهدنة فقالت: يا رسول الله أنا امرأة وحال النساء إلى الضعف فأخشى أن يفتنوني في ديني ولا صبر لي، فقرأ النبي صلى الله عليه وسلم {يخرج الحيّ من الميت} ونزلت آية الامتحان فلم يردها رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهما وكانت أول النساء المهاجرات إلى المدينة بعد صلح الحديبية.
والتشبيه في قوله: {وكذلك تخرجون} راجع إلى ما يصلح له من المذكور قبله وهو ما فيه إنشاء حياة شيء بعد موته بناء على ما قدمناه من أن قوله: {ويخرج الميت من الحي} ليس مقصودًا من الاستدلال ولكنه احتراس وتكملة.
ويجوز أن يكون التشبيه راجعًا إلى أقرب مذكور وهو إحياء الأرض بعد موتها، أي وكإخراج النبات من الأرض بعد موته فيها يكون إخراجكم من الأرض بعد أن كنتم أمواتًا فيها، كما قال تعالى: {والله أنبتكم من الأرض نباتًا ثم يُعيدكم فيها ويُخرجكم إخراجًا} [نوح: 17، 18].
ولا وجه لاقتصار التشبيه على الثاني دون الأول.
والمعنى: أن الإبداء والإعادة متساويان فليس البعث بعد الموت بأعجب من ابتداء الخلق ولكن المشركين حكَّموا الإلف في موضع تحكيم العقل.
وقرأ نافع وحفص وحمزة {الميّت} بتشديد الياء.
وقرأه الباقون بالتخفيف.
وقرأ الجمهور {تُخرجون} بضم التاء الفوقية.
وقرأه حمزة والكسائي بفتحها.
{وَمنْ آيَاته أَنْ خَلَقَكُمْ منْ تُرَابٍ ثُمَّ إذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشرُونَ (20)}.
لما كان الاستدلال على البعث متضمنًا آيات على تفرده تعالى بالتصرف ودلالته على الوحدانية انتقل من ذلك الاستدلال إلى آيات على ذلك التصرف العظيم غير ما فيه إثبات البعث تثبيتًا للمؤمنين وإعذارًا لمن أشركوا في الإلهية.
وقد سبقت ست آيات على الوحدانية، وابتدئت بكلمة {ومن آياته} تنبيهًا على اتحاد غرضها، فهذه هي الآية الأولى ولها شبه بالاستدلال على البعث لأن خلق الناس من تراب وبث الحياة والانتشار فيهم هو ضرب من ضروب إخراج الحي من الميت، فلذلك كانت هي الأولى في الذكر لمناسبتها لما قبلها فجعلت تخلصًا من دلائل البعث إلى دلائل عظيم القدرة.
وهذه الآية كائنة في خلق جوهر الإنسان وتقويم بشريته.
وتقدم كيف كان الخلق من تراب عند قوله تعالى: {ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين} في سورة المؤمنين (12، 13).
فضمير النصب في {خَلَقَكم} عائد إلى جميع الناس وهذا في معنى قوله تعالى في سورة الحج (5) {فإنّا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة} الآية.
وهذا استدلال للناس بأنفسهم لأنهم أشعرُ بها مما سواها، والناس يعلمون أن النطف أصل الخلقة، وهم إذا تأملوا علموا أن النطفة تتكون من الغذاء، وأن الغذاء يتكون من نبات الأرض، وأن نبات الأرض مشتمل على الأجزاء الترابية التي أنبتته فعلموا أنهم مخلوقون من تراب، فبذلك استقام جعل التكوين من التراب آية للناس أي علامة على عظيم القدرة مع كونه أمرًا خفيًا.
على أنه يمكن أن يكون الاستدلال مبنيًا على ما هو شائع بين البشر أن أصل الإنسان تراب حسبما أنبأت به الأديان كلها.
وبهذا التأويل يصح أيضًا أن يكون معنى {خلقكم من تراب} خلق أصلكم وهو آدم، وأول الوجوه أظهرها.
فالتراب موات لا حياة فيه وطبعه مناففٍ لطبع الحياة لأن التراب بارد يابس وذلك طبع الموت، والحياةُ تقتضي حرارة ورطوبة فمن ذلك البارد اليابس ينشأ المخلوق الحي المدرك.
وقد أشير إلى الحياة والإدراك بقوله: {إذا أنتم بشر} وإلى التصرف والحركة بقوله: {تنتشرون} ولما كان تمام البشرية ينشأ عن تطور التراب إلى نبات ثم إلى نطفة ثم إلى أطوار التخلق في أزمنة متتالية عطفت الجملة بحرف المهلة الدال على تراخي الزمن مع تراخي الرتبة الذي هو الأصل في عطف الجمل بحرف {ثم}.
وصدرت الجملة بحرف المفاجأة لأن الكون بشرًا يظهر للناس فجأة بوضع الأجنة أو خروج الفراخ من البيض، وما بين ذلك من الأطوار التي اقتضاها حرف المهلة هي أطوار خفية غير مشاهدة؛ فكان الجمع بين حرف المهلة وحرف المفاجأة تنبيهًا على ذلك التطور العجيب.
وحصل من المقارنة بين حرف المهلة وحرف المفاجأة شبه الطباق وإن كان مرجع كل من الحرفين غير مرجع الآخر.
والانتشار: الظهور على الأرض والتباعد بين الناس في الأعمال قال تعالى: {فانتشروا في الأرض} [الجمعة: 10]. اهـ.