فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ثم يقول سبحانه: {وَيُحْي الأرض بَعْدَ مَوْتهَا} [الروم: 19] وفي موضع آخر: {وَتَرَى الأرض هَامدَةً فَإذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الماء اهتزت وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ من كُلّ زَوْجٍ بَهيجٍ} [الحج: 5].
فالأرض كانت ميتة هامدة جامدة جرداء، لا أثرَ فيها لحياة، فلما نزل عليها الماء وسقاها المطر تحركت وأنبتتْ من كل زوج بهيج، فهي نموذج حيٌّ مُشَاهد للخَلْق وللحياة.
وفي آية أخرى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أَنزَلَ منَ السماء مَاءً فَتُصْبحُ الأرض مُخْضَرَّةً} [الحج: 63] فهل أخضرتْ الأرضُ ساعةَ نزل عليها المطر؟ لا، إنما بعد فترة، كأنه سبحانه يقول لك: لاحظ الحدث ساعة يوجد، واستحضر صورته، فبعد نزول الماء ترى الأرض تخضرّ تدريجيًا، وإنْ لم تبذر فيها شيئًا، ففيها بذور شتَّى حملتْها الرياح، ثم استقرتْ في التربة ولو لسنوات طوال تظل صالحة للإنبات تنتظر الماء لتؤدي مهمتها.
والذي عاش في الصحراء يشاهد هذه الظاهرة، وقد رأيناها في عرفة بعد أنْ نزل عليها المطر، وعُدْنا بعد عدة أيام، فإذا الأرض تكتسي باللون الأخضر. لذلك إياك أن تظن أن كل زرع زرعه الإنسان، وإلاَّ فمنْ أين جاءت أول بذرة زرعها الإنسان. إذن: هناك زراعات لا دخلَ للإنسان بها.
ولنقرأ قصة مريم عليها السلام: {يامريم إنَّ الله اصطفاك وَطَهَّرَك واصطفاك على نسَاء العالمين} [آل عمران: 42] فالاصطفاء الأول لم يقُلْ على مَنْ. فالمعنى: اصطفاك على الخَلْق جميعًا، بأن طَهَّرك وجعلك صالحة تقية قوَّامة. إلخ.
أما الاصطفاء الآخر فليس على الخَلْق جميعًا، إنما على النساء؛ لأنها تفردتْ عن نساء العالمين بأنْ تلدَ بغير ذكورة.
والشاهد الذي نريده هنا أن يوسف النجار لما لاحظ على مريم علامات الحمل وهو يعلم مَنْ هي مريم، وأنها لم تفارق المحراب طوال عمرها، فلم يردْ على ذهْنه المعنى الثاني، ويريد أن يستفهم عَمَّا يراه، فسألها بأدب: يا مريم، أتوجد شجرة بدون بذرة؟ فقالت وقد لقَّنها الحق سبحانه: نعم، الشجرة التي أنبتت أول بذرة.
إذن: الحق سبحانه يمتنُّ علينا بالشيء، ثم يُذكّرنا بقدرته تعالى على سَلْبه، وعلى نقيضه حتى لا نغترَّ به، ليس في مسألة الموت والحياة فحسب، إنما في الزرع وفي الماء وفي النار، واقرأ قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَّا تُمْنُونَ أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَم نَحْنُ الخالقون نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الموت وَمَا نَحْنُ بمَسْبُوقينَ على أَن نُّبَدّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشئَكُمْ في مَا لاَ تَعْلَمُونَ وَلَقَدْ عَلمْتُمُ النشأة الأولى فَلَوْلاَ تَذَكَّرُونَ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزارعون لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ إنَّا لَمُغْرَمُونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ أَفَرَأَيْتُمُ الماء الذي تَشْرَبُونَ أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ منَ المزن أَمْ نَحْنُ المنزلون لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ أَفَرَأَيْتُمُ النار التي تُورُونَ أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَآ أَمْ نَحْنُ المنشئون} [الواقعة: 58-72].
ونلحظ في الأداء القرآني في هذه الآيات الدقة في استخدام لام التوكيد في {لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا} [الواقعة: 65] في الحديث عن الزرع؛ لأن للإنسان دورًا فيه، حيث يحرث ويغرس ويسقي، وربما ظَنَّ لنفسه قدرة عليه.
لكن لما تحدَّث عن الماء ذكر في نقضه {لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا} [الواقعة: 70] بدون توكيد، لماذا؟ لأن الماء لا دخلَ لأحد فيه، ولا يدعيه أحد، فلا أنت بخرتَ الماء، ولا أنت أنزلتَ المطر، لذلك قال: {جَعَلْنَاه} [الواقعة: 70] بدون توكيد.
أما عند ذكْر النار كنعمة من نعَم الله لم يذكر ما ينقضها، فقال: {أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَآ أَمْ نَحْنُ المنشئون} [الواقعة: 72] ولم يقُلْ مثلًا: لو نشاء لأطفأناها، تُرى لماذا؟ قالوا: لتظل النارُ ماثلة أمامنا على حال اشتعالها لا تخمد أبدًا، وكأن الحق- سبحانه وتعالى- يُلوّح بها لكل عَاصٍ علَّه يعود إلى الجادّة.
ثم يقول سبحانه: {وَكَذَلكَ تُخْرَجُونَ} [الروم: 19] كذلك: إشارة إلى ما سبق ذكْره من إحياء الأرض بعد موتها، كمثْل ذلك تُخرجون وتُبعثون، فمَنْ أنكر البعث فلينظر عملية إحياء الأرض الجامدة بالنبات بعد نزول المطر عليها.
{وَمنْ آيَاته أَنْ خَلَقَكُمْ منْ تُرَابٍ ثُمَّ إذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشرُونَ (20)}.
الكلام هنا عن بَدْء الخلق، قال تعالى: {وَمنْ آيَاته أَنْ خَلَقَكُمْ} [الروم: 20] بصيغة الجمع، والمراد آدم ثم حواء، ثم بثَّ الله منهما رجالًا كثيرًا ونساء، فالعالم اليوم الذي يُعَدُّ بالمليارات حين تعود به إلى الماضي لابد أنْ تعود إلى اثنين هما آدم وحواء، فلما التقيا نشأ منهما النسل، لكن هل نشأ النسل من أبعاض ميتة خرجتْ من آدم، أم من أبعاض حيّة هي الحيوانات المنوية؟
لو أن الحيوان المنويَّ كان ميتًا لما حدث الإنجاب. إذن: جاء أولاد آدم من ميكروب أبيهم آدم، وانتشروا في الأرض وأنجبوا، وكل منهم يحمل ذرة من أبيه الأول آدم عليه السلام. وبالتالي فكُلٌّ منّا فيه ذرة حية من عهد آدم، وحتى الآن لم يطرأ عليها فناء أبدًا، وهذا هو عَالَم الذَّرّ الذي شهد خَلْق الله لآدم، إنها أبعاضنا التي شهدتْ هذا العهد الأول بين الخَلْق والخالق سبحانه: {وَإذْ أَخَذَ رَبُّكَ من بني ءَادَمَ من ظُهُورهمْ ذُرّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ على أَنفُسهمْ أَلَسْتُ برَبّكُمْ قَالُوا بلى شَهدْنَآ أَن تَقُولُوا يَوْمَ القيامة إنَّا كُنَّا عَنْ هذا غَافلينَ} [الأعراف: 172].
إذن: في كل منّا الآن وحتى قيام الساعة ذرةٌ حيَّة من أبيه آدم، هذه الذرة الحية هي التي شهدتْ هذا العهد، وهي التي تمثل الفطرة الإيمانية في كل نفس بشرية، لكن هذه الفطرة قد تُطمس أو تُغلَّف بالغفلة والمعاصي. إلخ.
والحق- سبحانه وتعالى- أخبرنا أنه يخلق الأشياء ويُوجدها بكُنْ {إنَّمَآ أَمْرُهُ إذَآ أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [يس: 82] إلا الإنسان، فقد بلغ من تكريمه أنْ سوَّاه ربه بيده، وجعله خليفة له في الأرض، وتجلَّى عليه بصفات من صفاته، فأعطاه من قدرته قدرةً، ومن علْمه علْمًا، ومن حكمته حكمة، ومن غنَاه غنىً.
وربنا سبحانه حينما يخلقنا هذا الخَلْق يريد منَّا أنْ نستعمل هذه الصفات التي وهبها لنا، كما يستعملها هو سبحانه، فالله تعالى بقدرته خلق لنا ما ينفعنا، فعليك أنت بما وهبك الله من القدرة أنْ تعمل ما ينفع، والله بحكمته رتَّبَ الأشياء، فعليك بما لديْك من حكمة أنْ تُرتَّب الأشياء. وهكذا.
ونشير إلى أن القدرة تختلف، فقدرة تفعل لك، وقدرة عُلْيا تجعلك تفعل بنفسك، هَبْ أنك قابلتَ رجلًا ضعيفًا لا يَقْوَى على حَمْل متاعه مثلًا، فتحمله أنت له، فأنت إذن عدَّيْتَ إليه أثرَ قوتك، إنما ظلَّ هو ضعيفًا.
أما الحق- تبارك وتعالى- فلا يُعدّي أثر قوته إلى عبده فحسب، إنما يُعدّي له القدرة ذاتها، فيُقوّي الضعيف؛ فيحمل متاعه بنفسه.
إذن: أعظم تكريم للإنسان أنْ يقول الخالق سبحانه: إنني خلقتُه بيدي في قوله سبحانه لإبليس: {قَالَ ياإبليس مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لمَا خَلَقْتُ بيَدَيَّ}.
[ص: 75].
ثم لك أيها الإنسان بعد هذا التكريم أنْ تكون كريمًا على نفسك كما كرَّمك الله، ولك أنْ تنزل بها إلى الحضيض، فنفسك حيث تجعلها أنت.
يقول تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان في أَحْسَن تَقْويمٍ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافلينَ إلاَّ الذين آمَنُوا وَعَملُوا الصالحات} [التين: 4-5] فانظر لنفسك منزلة من المنزلتين.
وكلمة {مّن تُرَابٍ} [الروم: 20] أي: الأصل الذي خُلق منه آدم، والتراب مع الماء يصير طينًا، فإنْ تعطَّن وتغيَّرَتْ رائحته فهو حمأ مسنون، فإنْ جَفَّ فهو صلصال كالفخار، إذن: هذه هي العناصر التي وردت ومراحل خَلْق الإنسان، وكلها مُسمَّيات للتراب، وحالات طرأتْ عليه.
فإنْ جاء مَنْ يقول في مسألة الخَلْق بغير هذا فلا نُصدّقه؛ لأن الذي خلق الإنسان أخبرنا كيف خلقه، أما هؤلاء فلم يشهدوا من خَلْق الإنسان شيئًا، وهم في نظر الدين مُضللون، يجب الحذر من أفكارهم؛ لأن الله تعالى يقول في شأنهم:
{وَمَا كُنتُ مُتَّخذَ المضلين عَضُدًا} [الكهف: 51].
والله لو لم يَخُضْ العلماء في مسألة الخلق خلق الإنسان وخلق الشمس والقمر والأرض. الخ. لو لم نسمع بنظرية داروين أكانت تصدُق هذه الآية؟ وإلا لقالوا: أين المضللون الذين تكلَّم القرآن عنهم؟ فهم إذن قالوا وطلعوا علينا بنظرياتهم، يريدون أنْ يُكذّبوا دين الله، وأنْ يُشكّكوا فيه، وإذا بهم يقومون جميعًا دليلًا على صدْقه من حيث لا يشعرون.
وعلى شاكلة هؤلاء الذين نسمعهم الآن ينكرون أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ويُشككون في صحتها، هذه في الحقيقة ظاهرة طبيعية جاءت لتثبت صدق رسول الله؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يغفل هذه المسألة، إنما أخبر عنها ونبهنا إليها، وأعطانا المناعة اللازمة- الثلاثي الذي نسمع عنه من رجال الصحة.
يقول صلى الله عليه وسلم: «يوشك رجل من أمتي يتكيء على أريكته يُحدَّث بالحديث عني فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه من حلال حللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه، أَلاَ وإنَّ ما حرم رسول الله مثل ما حرم الله».
لماذا؟ لأن الله تعالى أعطاه تفويضًا في أنْ يُشرّع لأمته، فقال تعالى: {وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا} [الحشر: 7] فللرسول إيتاء، وللرسول أمر ونهي يجب أنْ يُطاع بطاعتنا لله.
وتعالَ لمن ينكر السنة ويقول: علينا بالقرآن- عندما يصلي المغرب مثلًا واسأله: كم ركعة صليتَ المغرب؟ سيقول: ثلاث ركعات، فمن أين علم أن المغرب ثلاث ركعات؟ أمن القرآن الذي يتعصَّب له، أم من السنة التي يُنكرها. إذن: كيف يتعبد على قول رسول الله ثم ينكره؟
إذن: فالحق- سبحانه وتعالى- بيَّن مراحل خَلْق الإنسان من تراب، صار طينًا، ثم صار حمأ مسنونًا، ثم صلصالًا كالفخار، ثم نفخ فيه الله من روحه، ونحن لم نشاهد هذه المسألة، إنما أخبرنا بها، ومن رحمته تعالى بخَلْقه، ولكي لا تحار عقولهم حينما تبحث هذه العملية يعطينا في الكون المشَاهد لنا شواهد تُوضّح لنا الغيب الذي لم نشاهده.
ففي أعرافنا أن هَدْم الشيء أو نَقْص البناء يأتي على عكس البناء، فما بُني أولًا يُهْدَم آخرًا، وما بُني آخرًا يُهدَم أولًا، وأنت لم تشاهد عملية الخَلْق، لكن شاهدتَ عملية الموت، والموت نَقْض للحياة.
ولك أنْ تتأملَ الإنسان حينما يموت، فأول نَقْض لبنيته أنْ تخرج منه الروح، وكانت آخر شيء في بنائه، ثم يتصلّب الجسد ويتجمد، كما كان في مرحلة الصلصالية، ثم يتعفَّن وتتغير رائحته، كما كان في مرحلة الحمأ المسنون، ثم تمتص الأرض ما فيه من مائية ليصير إلى التراب كما بدأه خالقه من تراب، إذن: صدق الله تعالى في المشهد حين بيَّن لنا الموت، فصدَّقنا ما قاله في الحياة.
وكما أن التراب والطين هما أصل الإنسان فهما أيضًا مصدر الخصْب والنماء، ومخازن للقوت وهما مُقوّم من مُقوّمات حياتنا: لذلك لما تكلم القرآن عن التراب قال سبحانه: {قُلْ أَإنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذي خَلَقَ الأرض في يَوْمَيْن وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلكَ رَبُّ العالمين وَجَعَلَ فيهَا رَوَاسيَ من فَوْقهَا وَبَارَكَ فيهَا} [فصلت: 9-10] يعني: في الجبال لأنها أقرب مذكور أو في الأرض عمومًا؛ لأن الرواسي في الأرض {وَقَدَّرَ فيهَآ أَقْوَاتَهَا} [فصلت: 10].
فالقوت يأتينا من طينة الأرض، ومن التراب الذي يتفتت من الجبال مُكوّنًا الطمي أو الغرْيَن الذي يحمله إلينا ماء المطر، فالأرض هي أمنا الحقيقية، منها خُلقْنا، ومنها مُقوّمات حياتنا.
وعجيب أن نرى من العلماء غير المؤمنين مَنْ يثبت صدْق القرآن في مسألة خَلْق الإنسان من طين حين حلَّلوا عناصر الأرض فوجدوها ستة عشر عنصرًا هي نفسها التي وجدوها في جسم الإنسان، وكأن الحق سبحانه يُجنّد مَنْ يثبت صدْق آياته ولو من الكفار.
وصدق الله العظيم حين قال: {سَنُريهمْ آيَاتنَا في الآفاق وفي أَنفُسهمْ حتى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحق} [فصلت: 53]. وفي القرآن آيات تدلّ على معادلات لو بحثها الكمبيوتر الآن لابد أن نؤمن بأن هذا الكلام من عند الله وأنه صدْق.
تأمل ظاهرة اللغة، وكيف نتكلم ونتفاهم، فأنت إذا لم تتعلم الإنجليزية مثلًا لا تفهمها؛ وكذلك هو لا يفهم العربية. لماذا؟ لأ ن اللغة وليدة المحاكاة، فما تسمعه الأذن يحكيه اللسان، وهي ظاهرة اجتماعية، فلو عاش الإنسان وحده لما احتاج للغة؛ لأنه سيفعل ما يطرأ على باله وفقط.
أمّا حين يعيش في جماعة فلابد له أن يتفاهم معهم، يأخذ منهم ويأخذون منه، يسمع منهم ويسمعون منه، حتى الأخرس لابد له من لغة يتفاهم بها مع مَنْ حوله، ويستخدم فعلًا لغة الإشارة، وقد أقدره الله على فهمها.
والله سبحانه يُبقي للإنسان المتكلم دلالات الإشارة في النفس الناطقة، فمثلًا لو اضطررت للكلام وفي فمك طعام، فإنك تشير لولدك أو لخادمك مثلًا ويفهم عنك ويفعل ما تريد.
إذن: فينا نحن الأسوياء بقايا خَرس نستعمله، حينما لا يسعفنا النطق إذن: التفاهم أمر ضروري، واللغة وليدة المحاكاة؛ لذلك نقول للولد الصغير: لا تخرج إلى الشارع، لماذا؟ حتى لا تسمع أذنه كلامًا قبيحًا فيحكيه هو.
إذن: كيف تعلمتُ اللغة؟ تعلمتها من أبي ومن المحيط بي، وتعلمها أبي من أبيه، ومن المحيطين به، وهكذا. ولك أن تسلسل هذه المسألة كما سلسلنا التكاثر في الإنسان، وسوف نعود بالتالي إلى أبينا آدم عليه السلام، وعندها نقول: ومَنْ علَّم آدم اللغة؟ يردُّ علينا القرآن: {وَعَلَّمَ ءَادَمَ الأسماء كُلَّهَا} [البقرة: 31] هذا كلام منطقي استقرائي يدلُّ دلالة قاطعة على صدْق آيات القرآن.
وقوله سبحانه: {ثُمَّ إذَآ أَنتُمْ بَشَرٌ تَنتَشرُونَ} [الروم: 20] ثم: أي بعد أنْ خلقنا الله من تراب تكاثر الخَلْق وتزايدوا بسرعة؛ لأن السياق استعمل هنا {إذا} الفجائية الدالة على الفجأة، والتي يُمثّلون لها بقولهم: خرجتُ فإذا أسدٌ بالباب، يعني: فاجأني، فالمعنى أنكم تتزايدون وتنتشرون في الأرض بسرعة. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{فَسُبْحَانَ اللَّه حينَ تُمْسُونَ وَحينَ تُصْبحُونَ (17)}.
مَنْ كان صباحُه لله بُوركَ له في يومه، ومن كان مساؤه بالله بورك له في ليله:
وإنَّ صَبَاحً نلتقي في مسائه ** صَبَاحٌ على قلب الغريب حبيبُ

شتّان بين عبدٍ صباحُه مُفْتَتَحٌ بعبادته ومساؤه مُخْتَتَمٌ بطاعته، وبين عبدٍ صباحه مفتتح بمشاهدته ورواحة مفتتح بعزيز قربته!
ويقال الآية تتضمن الأَمر بتسبيحه في هذه الأوقات، والآية تتضمن الصلوات الخمس، وإرادةَ الحقّ من أوليائه بأَنْ يجددوا العهدَ في اليوم والليلة خمْسَ مراتٍ؛ فتقف على بساط المناجاة، وتستدرك ما فاتك فيما بين الصلاتين من طوارق الزلات.
{يُخْرجُ الْحَيَّ منَ الْمَيّت وَيُخْرجُ الْمَيّتَ منَ الْحَيّ وَيُحْيي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتهَا وَكَذَلكَ تُخْرَجُونَ (19)}.
{يُخْرجُ الْحَىَّ منَ الْمَيّت} الطيرَ من البيض، والحيوان من النُّطفة.
{وَيُخْرجُ الْمَيّتَ منَ الْحَىّ} البيض من الطير، والنطفة من الحيوان.
والمؤمنَ من الكافرَ والكافرَ من المؤمن.
ويُظْهرُ أوقاتًا من بين أوقات؛ كالقبض من بين أوقات البسط، والبسط من بين أوقات القبض.
{وَيُحْى الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتَهَا} يحييها بالمطر، ويأتى بالربيع بعد وحشة الشتاء؛ كذلك يوم النشور يحيي الخلْقَ بعد الموت.
{وَمنْ آيَاته أَنْ خَلَقَكُمْ منْ تُرَابٍ ثُمَّ إذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشرُونَ (20)}.
خَلَقَ آدمَ من التراب، ثم من آدم الذُّرّيَة. فذَكَّرَهم نسْبَتَهم لئلا يُعْجَبُوا بأحوالهم.
ويقال الأصل تُرْبة ولكن العبْرَة بالتربية لا بالتربة، القيمةُ لما منْه لا لأعيان المخلوقات. اصطفى واختار الكعبة فهي أفضل من الجنة؛ الجنة جواهر ويواقيت، والبيت حجر! ولكن البيت مختارُه وهذا المختار حجر! واختار الإنسانَ، وهذا المختار مَدَرٌ! والغنىُّ غنىٌّ لذَاته، غنىٌّ عن كلّ غيرٍ من رَسْم وأثر. اهـ.