فصل: قال القرطبي في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقيل: المراد باختلاف الألسنة اختلاف النَّغَمات والأصوات، حتى إنه لا يشتبه صوت أخوين من أب وأم والمراد باختلاف الألوان: اختلاف الصُّوَر، فلا تشتبه صورتان مع التشاكل {إنَّ في ذلك لآيات للعالمين} قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: {للعالَمين} بفتح اللام.
وقرأ حفص عن عاصم: {للعالمين} بكسر اللام.
قوله تعالى: {ومن آياته منامُكم بالليل والنهار} أي: نومكم.
قال أبو عبيدة: المنام من مصادر النَّوم، بمنزلة قام يقوم قيامًا ومَقامًا، وقال يقول مَقالًا، قال المفسرون: وتقدير الآية: منامكم بالليل {وابتغاؤكم من فضله} وهو طلب الرزق بالنهار {إنَّ في ذلك لآيات لقوم يسمعون} سماع اعتبار وتذكُّر وتدبُّر.
{ومن آياته يُريكم البرق} قال اللغويون: إنَّما حذف أنْ لدلالة الكلام عليه، وأنشدوا:
وما الدَّهْرُ إلاَّ تارتان فتارةً ** أموتُ وأُخرى أبتغي العَيْش أكدحُ

ومعناه: فتارة أموت فيها، وقال طرفة:
ألا أيُّهَذَا الزَّاجري أَحْضُرَ الوَغَى ** وأن أَشهد اللَّذَّات هل أنتَ مُخْلدي

أراد: أن أحضر.
وقد شرحنا معنى الخوف والطمع في رؤية البَرْق في سورة [الرعد: 12].
قوله تعالى: {أن تقوم السماء والأرض} أي: تدوما قائمتين {بأمره} {ثم إذا دعاكم دعوةً} وهي نفحة إسرافيل الأخيرة في الصُّور بأمر الله عز وجل: {من الأرض} أي: من قبوركم {إذا أنتم تخرُجون} منها.
وما بعد هذا قد سبق بيانه [البقرة: 116، العنكبوت: 19] إلى قوله: {وهو أهونُ عليه} وفيه أربعة أقوال.
أحدها: أن الإعادة أهون عليه من البداية، وكُلُّ هيّنٌ عليه، قاله مجاهد، وأبو العالية.
والثاني: أن {أهون} بمعنى هيّن، فالمعنى: وهو هيّن عليه، وقد يوضع أفعل في موضع فاعل، ومثله قولهم في الأذان: الله أكبر، أي: الله كبير، قال الفرزدق:
إنَّ الَّذي سَمَكَ السَّماءَ بَنى لَنا ** بَيْتًا دعَائمُهُ أَعَزُّ وأَطْوَلُ

وقال معن بن أوس المزني:
لَعَمْرُكَ مَا أَدْري وإنّي لأَوْجَلُ ** على أيّنا تَغْدُوا المَنيَّةُ أَوَّلُ

أي: وإنّي لَوَجل، وقال غيره:
أصبحتُ أمنحُك الصُّدودَ وإنَّني ** قسمًا إليك مع الصُّدود لأَمْيَلُ

وأنشدوا أيضًا:
تَمَنَّى رجالٌ أنْ أموتَ وإنْ أمُتْ ** فَتلكَ سَبيلٌ لَسْتُ فيها بأَوْحَد

أي: بواحد، هذا قول أبي عبيدة، وهو مروي عن الحسن، وقتادة.
وقد قرأ أُبيُّ بن كعب، وأبو عمران الجوني، وجعفر بن محمد: {وهو هَيّن عليه}.
والثالث: أنه خاطب العباد بما يعقلون، فأعلمهم أنه يجب أن يكون عندهم البعث أسهل من الابتداء في تقديرهم وحُكمهم، فمن قَدَرَ على الإنشاء كان البعثُ أهونَ عليه، هذا اختيار الفراء، والمبرد، والزجاج، وهو قول مقاتل.
وعلى هذه الأقوال الثلاثة تكون الهاء في {عليه} عائدة إلى الله تعالى.
والرابع: أن الهاء تعود على المخلوق، لأنه خلَقه نطفة ثم علقة ثم مضغة، ويوم القيامة يقول له كن فيكون، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وهو اختيار قطرب.
قوله تعالى: {وله المَثَلُ الأعلى} قال المفسرون: أي: له الصّفة العُليا {في السماوات والأرض} وهي أنَّه لا إله غيره. اهـ.

.قال القرطبي في الآيات السابقة:

ومعنى: {خَلَقَ لَكُم مّنْ أَنفُسكُمْ أَزْوَاجًا} أي نساء تسكنون إليها.
{مّنْ أَنفُسكُمْ} أي من نطف الرجال ومن جنسكم.
وقيل: المراد حوّاء، خلقها من ضلع آدم؛ قاله قتادة.
{وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً} قال ابن عباس ومجاهد: المودّة الجماع، والرحمة الولد؛ وقاله الحسن.
وقيل: المودّة والرحمة عطفُ قلوبهم بعضهم على بعض.
وقال السدي: المودةُ: المحبةُ، والرحمةُ: الشفقةُ؛ ورُوي معناه عن ابن عباس قال: المودّة حبُّ الرجل امرأته، والرحمة رحمته إياها أن يصيبها بسوء.
ويقال: إن الرجل أصله من الأرض، وفيه قوّة الأرض، وفيه الفرج الذي منه بُدىء خلقه فيحتاج إلى سَكَن، وخُلقت المرأة سكنًا للرجل؛ قال الله تعالى: {وَمنْ آيَاته أَنْ خَلَقَكُمْ مّن تُرَابٍ} [الروم: 20] الآية.
وقال: {وَمنْ آيَاته أَنْ خَلَقَ لَكُم مّنْ أَنفُسكُمْ أَزْوَاجًا لتسكنوا إلَيْهَا} فأوّل ارتفاق الرجل بالمرأة سكونه إليها مما فيه من غليان القوّة، وذلك أن الفرج إذا تحمل فيه هيَّج ماء الصلب إليه، فإليها يسكن وبها يتخلص من الهياج، وللرجال خُلق البُضع منهنّ، قال الله تعالى: {وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مّنْ أَزْوَاجكُمْ} [الشعراء: 166] فأعلم الله عز وجل الرجال أن ذلك الموضع خلق منهن للرجال، فعليها بذله في كل وقت يدعوها الزوج، فإن منعته فهي ظالمة وفي حرج عظيم؛ ويكفيك من ذلك ما ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده ما من رجل يدعو امرأته إلى فراشها فتأبى عليه إلا كان الذي في السماء ساخطًا عليها حتى يرضى عنها» وفي لفظ آخر: «إذا باتت المرأة هاجرة فراش زوجها لعنتها الملائكة حتى تُصبح» {وَمنْ آيَاته خَلْقُ السماوات والأرض} تقدّم في البقرة وكانوا يعترفون بأن الله تعالى هو الخالق.
{واختلاف أَلْسنَتكُمْ وَأَلْوَانكُمْ} اللّسان في الفم؛ وفيه اختلاف اللغات: من العربيّة والعجمية والتركية والرومية.
واختلاف الألوان في الصور: من البياض والسواد والحمرة؛ فلا تكاد ترى أحدًا إلا وأنت تفرّق بينه وبين الآخر.
وليس هذه الأشياء من فعل النطفة ولا من فعل الأبوين؛ فلابد من فاعل، فعُلم أن الفاعل هو الله تعالى؛ فهذا من أدلّ دليل على المدبر البارىء.
{إنَّ في ذلك لآيَاتٍ لّلْعَالَمينَ} أي للبَرّ والفاجر.
وقرأ حفص: {للعَالمينَ} بكسر اللام جمع عالم.
{وَمنْ آيَاته مَنَامُكُم بالليل والنهار} قيل: في هذه الآية تقديم وتأخير، والمعنى: ومن آياته منامكم بالليل وابتغاؤكم من فضله بالنهار؛ فحذف حرف الجر لاتصاله بالليل وعطفه عليه، والواو تقوم مقام حرف الجر إذا اتصلت بالمعطوف عليه في الاسم الظاهر خاصة؛ فجعل النوم بالليل دليلًا على الموت، والتصرفُ بالنهار دليلًا على البعث.
{إنَّ في ذَلكَ لآيَاتٍ لّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} يريد سماع تفهّم وتدبّر.
وقيل: يسمعون الحق فيتبعونه.
وقيل: يسمعون الوعظ فيخافونه.
وقيل: يسمعون القرآن فيصدّقونه؛ والمعنى متقارب.
وقيل: كان منهم من إذا تُلي القرآن وهو حاضر سدّ أذنيه حتى لا يسمع؛ فبيّن الله عز وجل هذه الدلائل عليه.
{وَمنْ آيَاته يُريكُمُ البرق خَوْفًا وَطَمَعًا} قيل: المعنى أن يريكم، فحذف أن لدلالة الكلام عليه؛ قال طرفة:
ألاَ أيّهذا اللائمي أحْضُرُ الوَغَى ** وأنْ أشْهَدَ اللَّذات هل أنت مُخْلدي

وقيل: هو على التقديم والتأخير؛ أي ويريكم البرق من آياته.
وقيل: أي ومن آياته آيةٌ يريكم بها البرق؛ كما قال الشاعر:
وما الدّهر إلا تارتان فمنهما ** أموتُ وأخْرَى أبتغي العيش أكْدَحُ

وقيل: أي من آياته أنه يريكم البرق خوفًا وطمعًا من آياته؛ قاله الزجاج، فيكون عطف جملة على جملة.
{خَوْفًا} أي للمسافر.
{وَطَمَعًا} للمقيم؛ قاله قتادة.
الضحاك: {خَوْفًا} من الصواعق، {وَطَمَعًا} في الغيث.
يحيى بن سلام: {خَوْفًا} من البرد أن يهلك الزرع، {وَطَمَعًا} في المطر أن يحيي الزرع.
ابن بحر: {خَوْفًا} أن يكون البرق بَرْقًا خُلَّبًا لا يمطر، {وَطَمَعًا} أن يكون ممطرًا؛ وأنشد قول الشاعر:
لا يكن بَرْقُك برقًا خُلّبا ** إن خير البرق ما الغيث معه

وقال آخر:
فقد أرد المياه بغير زاد ** سوى عدّى لها برق الغمام

والبرق الخُلّب: الذي لا غيث فيه كأنه خادع؛ ومنه قيل لمن يَعد ولا يُنْجز: إنما أنت كبرقٍ خُلّب.
والخُلّب أيضًا: السحاب الذي لا مطر فيه، ويقال: بَرْقُ خُلّب، بالإضافة.
{وَيُنَزّلُ منَ السماء مَاءً فَيُحْيي به الأرض بَعْدَ مَوْتهَا إنَّ في ذَلكَ لآيَاتٍ لّقَوْمٍ يَعْقلُونَ} تقدم.
{وَمنْ آيَاته أَن تَقُومَ السماء والأرض بأَمْره} {أَنْ} في محل رفع كما تقدم؛ أي قيامها واستمساكها بقدرته بلا عمد.
وقيل: بتدبيره وحكمته؛ أي يمسكها بغير عمد لمنافع الخلق.
وقيل: {بأمره} بإذنه؛ والمعنى واحد.
{ثُمَّ إذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مّنَ الأرض إذَآ أَنتُمْ تَخْرُجُونَ} أي الذي فعل هذه الأشياء قادر على أن يبعثكم من قبوركم؛ والمراد سرعة وجود ذلك من غير توقف ولا تلّبث؛ كما يجيب الداعي المطاعَ مَدْعوُّه؛ كما قال القائل:
دَعَوْتُ كُلَيبًا باسمه فكأنما ** دعوت برأس الطَّود أو هو أسرع

يريد برأس الطود: الصَّدى أو الحجر إذا تَدَهْده.
وإنما عطف هذا على قيام السموات والأرض ب {ثم} لعظم ما يكون من ذلك الأمر واقتداره على مثله، وهو أن يقول: يا أهل القبور قوموا؛ فلا تبقى نسمة من الأوّلين والآخرين إلا قامت تنظر؛ كما قال تعالى: {ثُمَّ نُفخَ فيه أخرى فَإذَا هُمْ قيَامٌ يَنظُرُونَ} [الزمر: 68].
وإذا الأولى في قوله تعالى: {إذَا دَعَاكُمْ} للشرط، والثانية في قوله تعالى: {إذَآ أَنتُمْ} للمفاجأة، وهي تنوب مناب الفاء في جواب الشرط.
وأجمع القراء على فتح التاء هنا في {تَخْرُجُونَ}.
واختلفوا في التي في الأعراف فقرأ أهل المدينة: {وَمنْهَا تُخْرَجُونَ} [الأعراف: 25] بضم التاء، وقرأ أهل العراق: بالفتح، وإليه يميل أبو عبيد.
والمعنيان متقاربان، إلا أن أهل المدينة فرّقوا بينهما لنسق الكلام، فنسقُ الكلام في التي في الأعراف بالضم أشبه؛ إذ كان الموت ليس من فعلهم، وكذا الإخراج.
والفتح في سورة الروم أشبه بنسق الكلام؛ أي إذا دعاكم خرجتم أي أطعتم؛ فالفعل بهم أشبه.
وهذا الخروج إنما هو عند نفخة إسرافيل الآخرة؛ على ما تقدّم ويأتي.
وقرىء: {تخرجون} بضم التاء وفتحها، ذكره الزَّمَخْشَريّ ولم يزد على هذا شيئًا، ولم يذكر ما ذكرناه من الفرق، والله أعلم.
{وَلَهُ مَن في السماوات والأرض} خلقًا وملكًا وعبدًا.
{كُلٌّ لَّهُ قَانتُونَ} رُوي عن أبي سعيد الخدريّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «كلّ قنوت في القرآن فهو طاعة» قال النحاس: مطيعون طاعة انقياد.
وقيل: {قَانتُونَ} مقرّون بالعبودية، إما قالة وإما دلالة؛ قاله عكرمة وأبو مالك والسدّي.
وقال ابن عباس: {قَانتُونَ} مصلون.
الربيع بن أنس: {كُلٌّ لَهُ قَانتُونَ} أي قائم يوم القيامة؛ كما قال: {يَوْمَ يَقُومُ الناس لرَبّ العالمين} [المطففين: 6] أي للحساب.
الحسن: كل له قائم بالشهادة أنه عبد له.
سعيد بن جبير: {قَانتُونَ} مخلصون.
قوله تعالى: {وَهُوَ الذي يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعيدُهُ} أمّا بدْء خلقه فبعلوقه في الرّحم قبل ولادته، وأمّا إعادته فإحياؤه بعد الموت بالنفخة الثانية للبعث؛ فجعل ما علم من ابتداء خلقه دليلًا على ما يخفى من إعادته؛ استدلالًا بالشاهد على الغائب، ثم أكد ذلك بقوله: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْه} وقرأ ابن مسعود وابن عمر: {يُبْدىءُ الْخَلْقَ} من أبدأ يبدىء؛ دليله قوله تعالى: {إنَّهُ هُوَ يُبْدىءُ وَيُعيدُ} [البروج: 13].
ودليل قراءة العامة قوله سبحانه: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} [الأعراف: 29].
و{أَهْوَنُ} بمعنى هيّن؛ أي الإعادة هيّن عليه؛ قاله الرَّبيع بن خُثيم والحسن.
فأهون بمعنى هيّن؛ لأنه ليس شيء أهونَ على الله من شيء.
قال أبو عبيدة: ومن جعل أهون يعبر عن تفضيل شيء على شيء فقوله مردود بقوله تعالى: {وَكَانَ ذلك عَلَى الله يَسيرًا} [النساء: 30] وبقوله: {وَلاَ يَؤُودُهُ حفْظُهُمَا} [البقرة: 255].
والعرب تحمل أفعل على فاعل، ومنه قول الفرزدق:
إن الذي سَمَك السماء بنى لنا ** بيتًا دعائمه أعزّ وأطول

أي دعائمه عزيزة طويلة.
وقال آخر:
لَعَمْرُكَ ما أدري وإني لأوْجَل ** على أيّنا تَعْدُو المنيّة أوّل

أراد: إني لوجل.
وأنشد أبو عبيدة أيضًا:
إني لأمنْحُكُ الصّدود وإنني ** قَسَمًا إليك مع الصُّدود لأمْيَلُ

أراد لمائل: وأنشد أحمد بن يحيى:
تَمنّى رجال أن أموت وإن أمُتْ ** فتلك سبيلٌ لست فيها بأوْحَد

أراد بواحد.
وقال آخر:
لعمرك إن الزّبرقان لباذل ** لمعروفه عند السنينَ وأفضل

أي وفاضل.