فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

{ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا منْ أَنْفُسكُمْ} فيه مسألتان:
الأولى: قوله تعالى: {مّنْ أَنفُسكُمْ} ثم قال: {مّن شُرَكَاءَ} ثم قال: {مّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} ف {من} الأولى للابتداء؛ كأنه قال: أخذ مثلًا وانتزعه من أقرب شيء منكم وهي أنفسكم.
والثانية للتبعيض، والثالثة زائدة لتأكيد الاستفهام.
والآية نزلت في كفار قريش، كانوا يقولون في التلبية: لبيك لا شريك لك إلا شريكًا هو لك، تملكه وما ملك؛ قاله سعيد بن جبير.
وقال قتادة: هذا مثل ضربه الله للمشركين؛ والمعنى: هل يرضى أحدكم أن يكون مملوكه في ماله ونفسه مثله، فإذا لم ترضوا بهذا لأنفسكم فكيف جعلتم لله شركاء.
الثانية: قال بعض العلماء: هذه الآية أصل في الشركة بين المخلوقين لافتقار بعضهم إلى بعض ونفيها عن الله سبحانه، وذلك أنه لما قال جل وعز: {ضَرَبَ لَكُمْ مَّثَلًا مّنْ أَنفُسكُمْ هَلْ لَّكُمْ مّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} الآية، فيجب أن يقولوا: ليس عبيدنا شركاءنا فيما رزقتنا! فيقال لهم: فكيف يتصوّر أن تنزهوا نفوسكم عن مشاركة عبيدكم وتجعلوا عبيدي شركائي في خلقي؛ فهذا حكم فاسد وقلة نظر وعَمَى قلب! فإذا بطلت الشركة بين العبيد وساداتهم فيما يملكه السادة والخلق كلهم عبيد لله تعالى فيبطل أن يكون شيء من العالَم شريكًا لله تعالى في شيء من أفعاله؛ فلم يبق إلا أنه واحد يستحيل أن يكون له شريك، إذ الشركة تقتضي المعاونة، ونحن مفتقرون إلى معاونة بعضنا بعضًا بالمال والعمل؛ والقديمُ الأزليّ منزّه عن ذلك جلّ وعز.
وهذه المسألة أفضل للطالب من حفظ ديوان كامل في الفقه؛ لأن جميع العبادات البدنية لا تصح إلا بتصحيح هذه المسألة في القلب، فافهم ذلك.
قوله تعالى: {بَل اتبع الذين ظلموا أَهْوَاءَهُمْ بغَيْر علْمٍ} لما قامت عليهم الحجة ذكر أنهم يعبدون الأصنام باتباع أهوائهم في عبادتها وتقليد الأسلاف في ذلك.
{فَمَن يَهْدي مَنْ أَضَلَّ الله} أي لا هادي لمن أضله الله تعالى.
وفي هذا ردّ على القدرية.
{وَمَا لَهُمْ مّن نَّاصرينَ}.
قوله تعالى: {فَأَقمْ وَجْهَكَ للدّين حَنيفًا فطْرَةَ الله} فيه ثلاث مسائل:
الأولى: قال الزجاج: {فطْرَةَ} منصوب بمعنى اتبع فطرة الله.
قال: لأن معنى {فَأَقمْ وَجْهَكَ للدّين} اتبع الدّين الحنيف واتبع فطرة الله.
وقال الطبري: {فطْرَةَ اللَّه} مصدر من معنى: {فَأَقمْ وَجْهَكَ} لأن معنى ذلك: فطر الله الناس على ذلك فطرة.
وقيل: معنى ذلك اتبعوا دين الله الذي خلق الناسَ له؛ وعلى هذا القول يكون الوقف على {حَنيفًا} تامًا.
وعلى القولين الأوّلين يكون متصلًا، فلا يوقف على {حَنيفًا}.
وسميت الفطْرة دينًا لأن الناس يُخلقون له، قال جلّ وعز: {وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إلاَّ ليَعْبُدُون} [الذاريات: 56].
ويقال: {عَلَيْهَا} بمعنى لها؛ كقوله تعالى: {وَإنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: 7].
والخطاب ب {أَقمْ وَجَهَكَ} للنبيّ صلى الله عليه وسلم، أمره بإقامة وجهه للدّين المستقيم؛ كما قال: {فَأَقمْ وَجْهَكَ للدّينَ القيم} [الروم: 43] وهو دين الإسلام.
وإقامة الوجه هو تقويم المقصد والقوّة على الجدّ في أعمال الدين؛ وخصّ الوجه بالذكر لأنه جامع حواس الإنسان وأشرفُه.
ودخل في هذا الخطاب أمّتُه باتفاق من أهل التأويل.
و{حَنيفًا} معناه معتدلًا مائلًا عن جميع الأديان المحرّفة المنسوخة.
الثانية: في الصحيح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من مولود إلا يولد على الفطرة» في رواية «على هذه الملة أبواه يُهَوّدانه ويُنَصّرانه ويُمَجّسَانه كما تُنْتَج البهيمةُ بهيمةً جمعاء هل تُحسّون فيها من جدعاء» ثم يقول أبو هريرة: واقرؤوا إن شئتم؛ {فطْرَةَ الله التي فَطَرَ الناس عَلَيْهَا لاَ تَبْديلَ لخَلْق الله} في رواية: «حتى تكونوا أنتم تجدعونها» قالوا: يا رسول الله؛ أفرأيتَ من يموت صغيرًا؟ قال: «الله أعلم بما كانوا عاملين» لفظ مسلم.
الثالثة: واختلف العلماء في معنى الفطرة المذكورة في الكتاب والسنة على أقوال متعدّدة؛ منها الإسلام؛ قاله أبو هريرة وابن شهاب وغيرهما؛ قالوا: وهو المعروف عند عامّة السلف من أهل التأويل؛ واحتجوا بالآية وحديث أبي هريرة، وعَضَدوا ذلك بحديث عياض بن حمار المُجَاشعيّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للناس يومًا: «ألاَ أحدّثكم بما حدّثني الله في كتابه، أن الله خلق آدم وبنيه حنفاء مسلمين، وأعطاهم المال حلالًا لا حرام فيه فجعلوا مما أعطاهم الله حلالًا وحرامًا» الحديث.
وبقوله صلى الله عليه وسلم: «خمس من الفطرة» فذكر منها قصّ الشارب، وهو من سنن الإسلام؛ وعلى هذا التأويل فيكون معنى الحديث: أن الطفل خلق سليمًا من الكفر على الميثاق الذي أخذه الله على ذرية آدم حين أخرجهم من صلبه، وأنهم إذا ماتوا قبل أن يُدركوا في الجنة؛ أولادَ مسلمين كانوا أو أولاد كفار.
وقال آخرون: الفطرة هي البداءة التي ابتدأهم الله عليها؛ أي على ما فطر الله عليه خلقه من أنه ابتدأهم للحياة والموت والسعادة والشقاء، وإلى ما يصيرون إليه عند البلوغ.
قالوا: والفطرة في كلام العرب البداءة.
والفاطر: المبتدىء؛ واحتجوا بما روي عن ابن عباس أنه قال: لم أكن أدري ما فاطر السموات والأرض حتى أتى أعرابيان يختصمان في بئر، فقال أحدهما: أنا فطرتها؛ أي ابتدأتها.
قال الْمَرْوَزيّ: كان أحمد بن حنبل يذهب إلى هذا القول ثم تركه.
قال أبو عمر في كتاب التمهيد له: ما رسمه مالك في موطّئه وذكر في باب القدر فيه من الآثار يَدلّ على أن مذهبه في ذلك نحو هذا، والله أعلم.
ومما احتجوا به ما روي عن كعب القُرَظي في قول الله تعالى: {فَريقًا هدى وَفَريقًا حَقَّ عَلَيْهمُ الضلالة} [الأعراف: 30] قال: من ابتدأ الله خلقه للضلالة صيَّره إلى الضلالة وإن عمل بأعمال الهدى، ومن ابتدأ الله خلقه على الهدى صيره إلى الهدى وإن عمل بأعمال الضلالة، ابتدأ الله خلق إبليس على الضلالة وعمل بأعمال السعادة مع الملائكة، ثم ردّه الله إلى ما ابتدأ عليه خلقه، قال: وكان من الكافرين.
قلت: قد مضى قول كعب هذا في الأعراف وجاء معناه مرفوعًا من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: دُعي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنازة غلام من الأنصار فقلت: يا رسول الله، طُوبَى لهذا عصفور من عصافير الجنة، لم يعمل السوء ولم يدركه! قال: «أو غير ذلك يا عائشة! إن الله خلق للجنة أهلًا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم، وخلق للنار أهلًا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم» خرجه ابن ماجه في السنن.
وخرج أبو عيسى الترمذيّ عن عبد الله بن عمرو قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده كتابان فقال: «أتدرون ما هذان الكتابان؟» فقلنا: لا يا رسول الله، إلا أن تخبرنا؛ فقال للذي في يده اليمنى: «هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل الجنة وأسماء آبائهم وقبائلهم ثم أجمل على آخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبدًا ثم قال للذي في شماله هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل النار وأسماء آبائهم وقبائلهم ثم أجمل على آخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبدًا» وذكر الحديث، وقال فيه: حديث حسن.
وقالت فرقة: ليس المراد بقوله تعالى: {فَطَرَ الناس عَلَيْهَا} ولا قوله عليه السلام: «كل مولود يولد على الفطرة» العمومَ، وإنما المراد بالناس المؤمنون؛ إذ لو فُطر الجميع على الإسلام لما كفر أحد، وقد ثبت أنه خلق أقوامًا للنار؛ كما قال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لجَهَنَّمَ} [الأعراف: 179] وأخرج الذرّية من صلب آدم سوداء وبيضاء.
وقال في الغلام الذي قتله الخَضر؛ طبع يوم طبع كافرًا.
وروى أبو سعيد الخُدْري قال: صلّى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم العصر بنهار؛ وفيه: وكان فيما حفظْنا أن قال: «ألا إن بني آدم خُلقوا طبقات شتّى فمنهم من يولد مؤمنًا ويحيا مؤمنًا ويموت مؤمنًا، ومنهم من يولد كافرًا ويحيا كافرًا ويموت كافرًا، ومنهم من يولد مؤمنًا ويحيا مؤمنًا ويموت كافرًا، ومنهم من يولد كافرًا ويحيا كافرًا ويموت مؤمنًا، ومنهم حَسَن القضاء حَسَن الطلب» ذكره حماد بن سلمة في مسند الطيالسي قال: حدّثنا عليّ بن زيد عن أبي نضرة عن أبي سعيد.
قالوا: والعموم بمعنى الخصوص كثير في لسان العرب؛ ألا ترى إلى قوله عز وجل: {تُدَمّرُ كُلَّ شَيْءٍ} [الأحقاف: 25] ولم تدمر السموات والأرض.
وقوله: {فَتَحْنَا عَلَيْهمْ أَبْوَابَ كُلّ شَيْءٍ} [الأنعام: 44] ولم تفتح عليهم أبواب الرحمة.
وقال إسحاق بن رَاهْوَيه الحنظلي: تم الكلام عند قوله: {فَأَقمْ وَجْهَكَ للدّين حَنيفًا} ثم قال: {فطْرَةَ الله} أي فطر الله الخلق فطرة إمّا بجنة أو نار، وإليه أشار النبيّ صلى الله عليه وسلم في قوله: «كل مولود يولد على الفطرة» ولهذا قال: {لاَ تَبْديلَ لخَلْق الله} قال شيخُنا أبو العباس: من قال هي سابقة السعادة والشقاوة فهذا إنما يليق بالفطرة المذكورة في القرآن؛ لأن الله تعالى قال: {لاَ تَبْديلَ لخَلْق الله} وأما في الحديث فلا؛ لأنه قد أخبر في بقية الحديث بأنها تبدل وتغيّر.
وقالت طائفة من أهل الفقه والنظر: الفطرة هي الخلقة التي خلق عليها المولود في المعرفة بربه؛ فكأنه قال: كل مولود يولد على خلْقة يعرف بها ربّه إذا بلغ مبلغ المعرفة؛ يريد خلقة مخالفة لخلقة البهائم التي لا تصل بخلقتها إلى معرفته.
واحتجوا على أن الفطرة الخلقة، والفاطر الخالق؛ لقول لله عز وجل: {الحمد للَّه فَاطر السماوات والأرض} [فاطر: 1] يعني خالقهن، وبقوله: {وَمَا ليَ لاَ أَعْبُدُ الذي فَطَرَني} [ياس: 24] يعني خلقني، وبقوله: {الذي فطَرَهُنَّ} [الأنبياء: 56] يعني خلقهن.
قالوا: فالفطرة الخلقة، والفاطر الخالق؛ وأنكروا أن يكون المولود يُفْطَر على كفر أو إيمان أو معرفة أو إنكار.
قالوا: وإنما المولود على السلامة في الأغلب خلْقةً وطبعًا وبنية ليس معها إيمان ولا كفر ولا إنكار ولا معرفة؛ ثم يعتقدون الكفر والإيمان بعد البلوغ إذا ميّزوا.
واحتجوا بقوله في الحديث: «كما تُنْتَج البَهيمةُ بهيمةً جَمعاءً يعني سالمة هل تُحسّون فيها من جَدْعاء» يعني مقطوعة الأذن.
فمثّل قلوبَ بني آدم بالبهائم لأنها تولد كاملة الخَلْق ليس فيها نقصان، ثم تقطع آذانها بعدُ وأنوفها؛ فيقال: هذه بحائر وهذه سوائب.
يقول: فكذلك قلوب الأطفال في حين ولادتهم ليس لهم كفر ولا إيمان، ولا معرفة ولا إنكار كالبهائم السائمة، فلما بلغوا استهوتهم الشياطين فكفر أكثرهم، وعصم الله أقلّهم.
قالوا: ولو كان الأطفال قد فطروا على شيء من الكفر والإيمان في أوليّة أمورهم ما انتقلوا عنه أبدًا، وقد نجدهم يؤمنون ثم يكفرون.
قالوا: ويستحيل في المعقول أن يكون الطفل في حين ولادته يعقل كفرًا أو إيمانًا، لأن الله أخرجهم في حال لا يفقهون معها شيئًا، قال الله تعالى: {والله أَخْرَجَكُم مّن بُطُون أُمَّهَاتكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا} [النحل: 78] فمن لا يعلم شيئًا استحال منه كفر أو إيمان، أو معرفة أو إنكار.
قال أبو عمر بن عبد البر: هذا أصح ما قيل في معنى الفطرة التي يولد الناس عليها.
ومن الحجة أيضًا في هذا قوله تعالى: {إنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الطور: 16] و{كُلُّ نَفْسٍ بمَا كَسَبَتْ رَهينَةٌ} [المدثر: 38] ومن لم يبلغ وقت العمل لم يرتهن بشيء.
وقال: {وَمَا كُنَّا مُعَذّبينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15] ولما أجمعوا على دفع القَوَد والقصاص والحدود والآثام عنهم في دار الدنيا كانت الآخرة أولى بذلك.
والله أعلم.
ويستحيل أن تكون الفطرة المذكورةُ الإسلامَ، كما قال ابن شهاب؛ لأن الإسلام والإيمان: قول باللسان واعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح، وهذا معدوم من الطفل، لا يجهل ذلك ذو عقل.
وأما قول الأوزاعي: سألت الزهريّ عن رجل عليه رَقَبة أيجزي عنه الصبيّ أن يعتقه وهو رضيع؟ قال: نعم؛ لأنه وُلد على الفطرة يعني الإسلام؛ فإنما أجزَى عتقه عند من أجازه؛ لأن حكمه حكمُ أبويه.
وخالفهم آخرون فقالوا: لا يجزي في الرقاب الواجبة إلا من صام وصلّى، وليس في قوله تعالى: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} [الأعراف: 29] ولا في أن يختم الله للعبد بما قضاه له وقدّره عليه دليل على أن الطفل يولد حين يولد مؤمنًا أو كافرًا؛ لما شهدت له العقول أنه في ذلك الوقت ليس ممن يعقل إيمانًا ولا كفرًا، والحديث الذي جاء فيه: «أن الناس خلقوا على طبقات» ليس من الأحاديث التي لا مطعن فيها؛ لأنه انفرد به عليّ بن زيد بن جُدْعان، وقد كان شعبة يتكلّم فيه.