فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



على أنه يحتمل قوله: «يولد مؤمنًا» أي يولد ليكون مؤمنًا، ويولد ليكون كافرًا على سابق علم الله فيه، وليس في قوله في الحديث: «خلقت هؤلاء للجنة وخلقت هؤلاء للنار» أكثر من مراعاة ما يختم به لهم؛ لا أنهم في حين طفولتهم ممن يستحق جنة أو نارًا، أو يعقل كفرًا أو إيمانًا.
قلت: وإلى ما اختاره أبو عمر واحتج له، ذهب غير واحد من المحققين منهم ابن عطية في تفسيره في معنى الفطرة، وشيخنا أبو العباس.
قال ابن عطية: والذي يعتمد عليه في تفسير هذه اللفظة أنها الخلقة والهيئة التي في نفس الطفل التي هي معدّة ومهيّأة لأن يميّز بها مصنوعات الله تعالى، ويستدل بها على ربّه ويعرف شرائعه ويؤمن به؛ فكأنه تعالى قال: أقم وجهك للدّين الذي هو الحنيف، وهو فطْرة الله الذي على الإعداد له فطر البشر، لكن تَعرضهم العوارض؛ ومنه قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهوّدانه أو يُنَصّرانه» فذكر الأبوين إنما هو مثال للعوارض التي هي كثيرة.
وقال شيخنا في عبارته: إن الله تعالى خلق قلوب بني آدم مؤهلة لقبول الحق، كما خلق أعينهم وأسماعهم قابلة للمرئيات والمسموعات، فما دامت باقية على ذلك القبول وعلى تلك الأهلية أدركت الحق ودينَ الإسلام وهو الدّين الحق.
وقد دلّ على صحة هذا المعنى قوله: «كما تُنْتَجُ البهيمةُ بهيمةً جَمْعاء هل تُحسّون فيها من جَدْعاء» يعني أن البهيمة تلد ولدها كامل الخلقة سليمًا من الآفات، فلو تُرك على أصل تلك الخلقة لبقي كاملًا بريئًا من العيوب، لكن يُتصرّف فيه فيُجدع أذنه ويُوسم وجهه فتطرأ عليه الآفات والنقائص فيخرج عن الأصل؛ وكذلك الإنسان، وهو تشبيه واقع ووجهه واضح.
قلت: وهذا القول مع القول الأوّل موافق له في المعنى، وأن ذلك بعد الإدراك حين عقلوا أمر الدنيا، وتأكدت حجة الله عليهم بما نصب من الآيات الظاهرة: من خلق السموات والأرض، والشمس والقمر، والبر والبحر، واختلاف الليل والنهار؛ فلما عملت أهواؤهم فيهم أتتهم الشياطين فدعتهم إلى اليهودية والنصرانية فذهبت بأهوائهم يمينًا وشمالًا، وأنهم إن ماتوا صغارًا فهم في الجنة، أعني جميع الأطفال، لأن الله تعالى لما أخرج ذرية آدم من صلبه في صورة الذَّرّ أقرّوا له بالربوبية وهو قوله تعالى: {وَإذْ أَخَذَ رَبُّكَ من بني آدَمَ من ظُهُورهمْ ذُرّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ على أَنفُسهمْ أَلَسْتُ برَبّكُمْ قَالُوا بلى شَهدْنَآ} [الأعراف: 172].
ثم أعادهم في صلب آدم بعد أن أقروا له بالرُّبوبية، وأنه الله لا إله غيره، ثم يُكتب العبد في بطن أمّه شقيًّا أو سعيدًا على الكتاب الأوّل؛ فمن كان في الكتاب الأوّل شقيًّا عُمّر حتى يجري عليه القلم فينقض الميثاق الذي أخذ عليه في صلب آدم بالشرك، ومن كان في الكتاب الأوّل سعيدًا عُمّر حتى يجري عليه القلم فيصير سعيدًا، ومن مات صغيرًا من أولاد المسلمين قبل أن يجري عليه القلم فهم مع آبائهم في الجنة، ومن كان من أولاد المشركين فمات قبل أن يجري عليه القلم فليس يكونون مع آبائهم؛ لأنهم ماتوا على الميثاق الأوّل الذي أخذ عليهم في صلب آدم ولم ينقض الميثاق.
ذهب إلى هذا جماعة من أهل التأويل، وهو يجمع بين الأحاديث، ويكون معنى قوله عليه السلام لما سئل عن أولاد المشركين فقال: «الله أعلم بما كانوا عاملين» يعني لو بلغوا.
ودلّ على هذا التأويل أيضًا حديث البخاريّ عن سَمُرة بن جُنْدُب عن النبيّ صلى الله عليه وسلم الحديثُ الطويل حديثُ الرؤيا، وفيه قوله عليه السلام: «وأما الرجل الطويل الذي في الروضة فإبراهيم عليه السلام، وأما الولدان حوله فكل مولود يولد على الفطرة» قال فقيل: يا رسول الله، وأولاد المشركين؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وأولاد المشركين» وهذا نصّ يرفع الخلاف، وهو أصح شيء رُوي في هذا الباب، وغيره من الأحاديث فيها علل وليست من أحاديث الأئمة الفقهاء؛ قاله أبو عمر بن عبد البر.
وقد روي من حديث أنس قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين فقال: «لم تكن لهم حسنات فيجزَوْا بها فيكونوا من ملوك الجنة، ولم تكن لهم سيئات فيعاقبوا عليها فيكونوا من أهل النار، فهم خدم لأهل الجنة» ذكره يحيى بن سلام في التفسير له.
وقد زدنا هذه المسألة بيانًا في كتاب التذكرة، وذكرنا في كتاب المقتبس في شرح موطأ مالك بن أنس ما ذكره أبو عمر من ذلك، والحمد لله.
وذكر إسحاق ابن راهْوَيه قال: حدّثنا يحيى بن آدم قال: أخبرنا جرير بن حازم عن أبي رجاء العُطَارديّ قال: سمعت ابن عباس يقول: لا يزال أمر هذه الأمة مواتيًا أو متقاربًا أو كلمة تشبه هاتين حتى يتكلموا أو ينظروا في الأطفال والقَدَر.
قال يحيى بن آدم: فذكرته لابن المبارك فقال: أيسكت الإنسان على الجهل؟ قلت: فتأمر بالكلام؟ قال فسكت.
وقال أبو بكر الوراق: {فطْرَةَ اللَّه الَّتي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} هي الفقر والفاقة؛ وهذا حسن؛ فإنه منذ ولد إلى حين يموت فقير محتاج، نعم! وفي الآخرة.
قوله تعالى: {لاَ تَبْديلَ لخَلْق الله} أي هذه الفطرة لا تبديل لها من جهة الخالق.
ولا يجيء الأمر على خلاف هذا بوجه؛ أي لا يشقى من خَلَقه سعيدًا.
ولا يسعد من خلقه شقيًّا.
وقال مجاهد: المعنى لا تبديل لدين الله؛ وقاله قتادة وابن جُبير والضحاك وابن زيد والنَّخَعيّ، قالوا: هذا معناه في المعتقدات.
وقال عكرمة: وروي عن ابن عباس وعمر بن الخطاب أن المعنى: لا تغيير لخلق الله من البهائم أن تخصى فحولها؛ فيكون معناه النهي عن خصاء الفحول من الحيوان.
وقد مضى هذا في النساء.
{ذَلكَ الدين القيم} أي ذلك القضاء المستقيم؛ قاله ابن عباس.
وقال مقاتل: ذلك الحساب البَيّن.
وقيل: {ذَلكَ الدّينُ الْقَيّمُ} أي دين الإسلام هو الدين القيم المستقيم.
{ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} أي لا يتفكرون فيعلمون أن لهم خالقًا معبودًا، وإلهًا قديمًا سبق قضاؤه ونَفَذ حكمه. اهـ.

.قال أبو السعود:

{ضَرَبَ لَكُمْ مَّثَلًا} يتبيَّن به بطلانُ الشّرك {مّنْ أَنفُسكُمْ} أي مُنتزعًا من أحوالها التي هي أقربُ الأمور إليكم وأعرفُها عندكم وأظهرُها دلالةً على ما ذُكر من بطلان الشّرك لكونها بطريق الأولوية. وقولُه تعالى: {هَلْ لَّكُمْ} الخ تصوير للمثل أي هل لكم {ممَّا مَلَكَتْ أيمانكم} من العبيد والإماء {مّن شُرَكَاء فيمَا رزقناكم} من الأموال وما يجري مجراها مَّما تتصرَّفون فيها. فمن الأُولى ابتدائيةٌ، والثَّانيةُ تبعيضيةٌ، والثَّالثةُ مزيدةٌ لتأكيد النَّفي المُستفاد من الاستفهام. فقوله تعالى: {فَأَنتُمْ فيه سَوَاء} تحقيقٌ لمعنى الشركة وبيانٌ لكونهم وشركانهم متساوين في التَّصرف فيما ذُكر من غير مزيَّة لهم عليها على أنَّ هناك محذوفًا معطوفًا على أنتُم لا أنَّه عامٌّ للفريقين بطريق التَّغليب أي هل ترضَون لأنفسكم والحالُ أنَّ عبيدَكم أمثالُكم في البشرية وأحكامها أنْ يشاركوكم فيما رزقناكم وهو مستعارٌ لكم فأنتم وهم فيه سواءٌ يتصرَّفون فيه كتصرُّفكم من غير فرقٍ بينكم وبينهم.
{تَخَافُونَهُمْ} خبرٌ آخرُ لأنتم أو حالٌ من ضمير الفاعل في سواءٌ أي تهابون أنْ تستبدُّوا بالتَّصرُّف فيه بدون رأيهم {كَخيفَتكُمْ أَنفُسَكُمْ} أي خيفةً كائنةً مثلَ خيفتكم من الأحرار المساهيمنَ لكم فيما ذُكر والمعنى نفيُ مضمونٍ ما فصَّل من الجملة الاستفهامَّية أي لا ترضَون بأنْ يشاركَكم فيما هو معارٌ لكم مماليكُكم وهم أمثالُكم في البشرية غيرُ مخلوقين لكُم بل لله تعالى فكيف تُشركون به سبحانه في المعبودية التي هي من خصائصه الذاتية مخلوقَه بل مصنوعَ مخلوقه حيثُ تصنعونَه بأيديكم ثم تعبدونَه.
{كذلك} أي مثلَ ذلك التَّفصيل الواضح {نُفَصّلُ الآيات} أي نبيّنها ونوضّحها لا تفصيلًا أدنى منه فإنَّ التَّمثيل تصويرٌ للمعاني المعقولة بصورة المحسوس وإبراز لأوابد المُدركات على هيئة المأنوس فيكون في غاية الإيضاح والبيان {لّقَوْمٍ يَعْقلُونَ} أي يستعملون عقولَهم في تدبُّر الأمور، وتخصيصُهم بالذّكر مع عموم تفصيل الآيات للكلّ لأنَّهم المتنفعون بها {بَل اتبع الذين ظَلَمُوا} إعراضٌ عن مخاطبتهم ومحاولةُ إرشادهم إلى الحقّ بضرب المثل وتفصيل الآيات واستعمال المقدّمات الحقَّة المعقولة وبيانٌ لاستحالة تبعيتهم للحقّ كأنَّه قيل لم يعقلوا شيئًا من الأيات المُفصَّلة با اتَّبعوا {أَهْوَاءهُمْ} الزائغةَ. ووضعُ الموصول موضعَ ضميرهم للتَّسجيل عليهم بأنَّهم في ذلك الاتباع ظالمون واضعون للشيء في غير موضعه أو ظالمون لأنفسهم بتعريضها للعذاب الخالد {بغَيْر علْمٍ} أي جاهلين ببطلان ما أتَوَا مكبّين عليه لا يلويهم عنه صارفٌ حسبما يصرّف العالم إذا اتبع الباطل علمه ببطلانه {فَمَن يَهْدى مَنْ أَضَلَّ الله} أي خلقَ فيه الضَّلالَ بصرف اختياره إلى كسبه أي لا يقدرُ على هدايته أحدٌ {وَمَا لَهُمْ} أي لمن أضلَّه الله تعالى والجمعُ باعتبار المعنى {مّن ناصرين} يُخلَّصونهم من الضَّلال ويحفظونهم من تبعاته وآفاته على معنى ليس لواحدٍ منهم ناصرٌ واحدٌ على ما هو قاعدةُ مقابلة الجمع بالجمع.
{فَأَقمْ وَجْهَكَ للدّين} تمثيلٌ لإقباله على الدّين واستقامته وثباته عليه واهتمامه بترتيب أسبابه فإنَّ من اهتمَّ بشيءٍ محسوسٍ بالبصر عقدَ عليه طرفَه وسدَّد إليه نظرَهُ وقوَّم له وحهَه مُقبلًا به عليه أي فقوّم وجهَك له وعُدْ له غيرَ ملتفتٍ يمينًا وشمالًا. وقولُه تعالى: {حَنيفًا} حالٌ من المأمور أو من الدّين {فطْرَةَ الله} الفطرةُ الخلقةُ. وانتصابُها على الإغراء أي الزمُوا أو عليكم فطرةَ الله فإنَّ الخطابَ لكلّ كما يُفصح عنه قوله تعالى: {منيبين} والإفراد في أقم لما أنَّ الرَّسولَ عليه الصَّلاة والسَّلام إمامُ الأمَّة فأمره عليه السَّلامُ مستتبع لأمرهم، والمرادُ بلزومها الجريانُ على موجبها وعدمُ الإخلال به باتباع الهَوَى وتسويل الشَّياطين، وقيل على المصدر أي فطرَ الله فطرةً. وقولُه تعالى: {التى فَطَرَ الناس عَلَيْهَا} صفةٌ لفطرةَ الله مؤكدةٌ لوجوب الامتثال بالأمر فإنَّ خلقَ الله النَّاسَ على فطرته التي هي عبارةٌ عن قبولهم للحقَّ وتمكُّنُهم من إدراكه أو عن ملَّة الإسلام من موجبات لزومها والتمسُّك بها قطعًا فإنَّهم لو خُلُّوا وما خُلقوا عليه أدَّى بهم إليها وما اختاروا عليها دينًا آخر ومن غَوى منهم فبإغواء شياطين الإنس والجنّ ومنه قولُه عليها الصَّلاة والسَّلام حكايةٌ عن ربَّ العزَّة: «كلَّ عبادي خلقتُ حنفاءَ فاجتالتْهُم الشياطينُ عن دينهم وأمرُوهم أنْ يُشركوا بي غيري» وقولُه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: «كلُّ مولودٍ يُولد على الفطرة حتَّى يكونَ أَبَواه هُما اللذان يهوّدانه ويُنصّرانه» وقولُه تعالى: {لاَ تَبْديلَ لخَلْق الله} تعليلٌ للأمر بلزوم فطرته تعالى أو لوجوب الامتثال به أي لا صَّحةَ ولا استقامةَ لتبديلة بالإخلال بموجبه وعدم ترتيب مقتضاهُ عليه باتّباع الهَوَى وقبول وسوسة الشَّيطان وقيل لا يقدرُ أحدٌ على أنْ يُغيره فلابد حينئذٍ من حمل التَّبديل على تبديل نفس الفطرة بإزالتها رأسًا ووضع فطرةٍ أُخرى مكانَها غير مصححةٍ لقبول الحقّ والتمكن من إدراكه ضرورةَ أنَّ التبديل بالمعنى الأول مقدور بل واقع قطعًا فالتعليل حينئذ من جهة أنَّ سلامة الفطرة متحققةٌ في كلّ أحدٍ فلابد من لزومها بترتيب مُقتضاها عليها وعدمُ الإخلال به بما ذُكر من اتّباع الهوى وخطوات الشَّيطان {ذلك} إشارةٌ إلى الدّين المأمور بإقامة الوجه له أو إلى لزوم فطرة الله المستفاد من الاغراء أو إلى الفطرة إنْ فسّرت بالملَّة. والتَّذكيرُ بتأويل المذكور أو باعتبار الخبر {الدين القيم} المُستوي الذي لا عوَجَ فيه {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} ذلكَ فيصدُّون عنه صُدودًا. اهـ.

.قال الألوسي:

{ضَرَبَ لَكُمْ مَّثَلًا} يتبين به بطلان الشرك {مّنْ أَنفُسكُمْ} أي منتزعًا من أحوالها التي هي أقرب الأمور إليكم وأعرفها عندكم وأظهرها دلالة على ما ذكر من بطلان الشرك لكونها بطريق الأولوية، و{منْ} لابتداء الغاية وقوله تعالى: {هَلْ لَّكُمْ} إلى رخره تصوير للمثل، والاستفهام إنكاري بمعنى النفي و{لَكُمْ} خبر مقدم وقوله تعالى: {مّن مَّا مَلَكَتْ أيمانكم} في موضع الحال من {شُرَكَاء} بعد لأنه نعت نكرة تقدم عليها؛ والعامل فيها كما في البحر هو العامل في الجار والمجرور الواقع خبرًا و{منْ} للتبعيض و{مَا} واقعة على النوع، وقوله تعالى: {مّن شُرَكَاء} مبتدأ و{منْ} مزيدة لتأكيد النفي المستفادة من الاستفهام، وقوله تعالى: {فى مَا رزقناكم} متعلق بشركاء أي هل شركاء فيما رزقناكم من الأموال وما يجري مجراها مما تتصرفون فيه كائنون من النوع الذي ملكته أيمانكم من نوع العبيد والأماء كائنون لكم.
وجوز أن يكون {لَكُمْ} متعلقًا بشركاء ويكون {فيمَا رزقناكم} في موضع الخبر كما تقول لزيد في المدينة مبغض فلزيد متعلق بمبغض الذي هو مبتدأ وفي المدينة الخبر أي هل شركاء لكم كائنون مما ملكته أيمانكم كائنون فيما رزقناكم، وقوله تعالى: {فَأَنتُمْ فيه سَوَاء} جملة في موضع الجواب للاستفهام الإنكاري {وَفيه} متعلق بسواء، وفي الكلام محذوف معطوف على {أَنتُمْ} أي فانتم وهم أي المماليك مستوون فيه لا فرق بينكم وبينهم في التصرف فيه، وقيل: لا حذف {وَأَنتُمْ} شامل للمماليك بطريق التغليب، وقوله تعالى: {تَخَافُونَهُمْ} خبر آخر لأنتم، وقال أبو البقاء: حال من ضمير {أَنتُمْ} الفاعل في {سَوَاء} وقوله تعالى: {كَخيفَتكُمْ أَنفُسَكُمْ} في موضع الصفة لمصدر محذوف أي تخافونهم أن تستبدوا بالتصرف فيه بدون رأيهم خيفة كائنة مثل خيفتكم من هو من نوعكم يعني الأحرار المساهمين لكم، والمقصود نفي مضمون ما فصل من الجملة الاستفهامية أي لا ترضون بأن يشارككم فيما رزقناكم من الأموال ونحوها مماليككم وهم أمثالكم في البشرية غير مخلوقين لكم بل لله تعالى فكيف تشركون به سبحانه في المعبودية التي هي من خصائصه تعالى الذاتية مخلوقه سبحانه بل مصنوع مخلوقه جل وعلا حيث تصنعونه بأيدكم ثم تعبدونه.
وقرأ ابن أبي عبلة {أَنفُسَكُمْ} بالرفع على أن المصدر مضاف للمفعول {وأَنفُسَكُمْ} فاعله، قال أبو حيان: وهو وجه حسن ولا قبح في إضافة المصدر إلى المفعول مع وجود الفاعل {كذلك} أي مثل ذلك التفصيل الواضح {نُفَصّلُ الآيات} أي نبينها ونوضحها لا تفصيلًا أدنى منه فإن التمثيل تصوير للمعاني المعقولة بصورة المحصوص وإبراز لأوابد المدركات على هيئة المأنوس فيكون في غاية الإيضاح والبيان.
{لّقَوْمٍ يَعْقلُونَ} أي يستعملون عقولهم في تدبير الأمثال، وقيل: في تدبير الأمور مطلقًا ويدخل في ذلك الأمثال دخولًا أوليًا، وخصهم بالذكر مع عموم تفصيل الآيات للكل لأنهم المنتفعون بها، وذكر العلامة الطيبي أنه لما كان ضرب الأمثال لأدناء المتوهم إلى المعقول وإراءة المتخيل في صورة المحقق ناسب أن تكون الفاصلة {لّقَوْمٍ يَعْقلُونَ} وهذه النكتة هنا أظهر منها فيما تقدم فتذكر.
وقرأ عباس عن أبي عمرو {يُفَصّلُ} بياء الغيبة رعيًا لضرب إذ هو مسند لما يعود للغائب.
وقراءة الجمهور بالنون للحمل على {رزقناكم} وذكر بعض العلماء أن في هذه الآية دليلًا على صحة أصل الشركة بين المخلوقين لافتقار بعضهم إلى بعض كأنه قيل: الممتنع المستقبح شركة العبيد لساداتهم أما شركة السادات بعضهم لبعض فلا تمتنع ولا تستقبح.
{بَل اتبع الذين ظَلَمُوا} إعراض عن مخاطبتهم ومحاولة إرشادهم إلى الحق بضرب المثل وتفصيل الآيات واستعمال المقدمات الحقة المعقولة وبيان لاستحالة تبعيتهم للحق كأنه قيل: لم يعقلوا شيئًا من الآيات المفصلة بل اتبعوا {أَهْوَاءهُمْ} الزائغة، ووضع الموصول موضع ضميرهم للتسجيل عليهم بأنهم في ذلك الاتباع ظالمون واضعون للشيء في غير موضعه أو ظالمون لأنفسهم بتعريضها للعذاب الخالد {بغَيْر علْمٍ} أي جاهلين يبطلان ما أتوا منكبين عليه لا يصرفهم عنه صارف حسبما يصرف العالم إذا اتبع الباطل علمه ببطلانه {فَمَن يَهْدى مَنْ أَضَلَّ الله} أي خلق فيه الضلال وجعله كاسبًا له باختياره {وَمَا لَهُمْ} أي لمن أضله الله تعالى، والجمع باعتبار المعنى {مّن ناصرين} يخلصونهم من الضلال ويحفظونهم من تبعاته وآفاته على معنى ليس لواحد منهم ناصر واحد على ما هو المشهور في مقابلة الجمع بالجمع، {وَمنْ} مزيدة لتأكيد النفي، والكلام مسوق لتسلية رسوله صلى الله عليه وسلم وتوطئة لأمره عليه الصلاة والسلام بقوله سبحانه: {فَأَقمْ وَجْهَكَ للدّين حَنيفًا} قال العلامة الطيبي: إنه تعالى عقيب ما عدد الآيات البينات والشواهد الدالة على الوحدانية ونفي الشرك وإثبات القول بالمعاد وضرب سبحانه المثل وقال سبحانه: {كَذَلكَ نُفَصّلُ الآيات لقَوْمٍ يَعْقلُونَ} [الروم: 8 2] أراد جل شأنه أن يسلي حبيبه صلوات الله تعالى وسلامه عليه ويوطنه على اليأس من إيمانهم فأضرب تعالى عن ذلك وقال سبحانه: {بَل اتبع الذين ظَلَمُوا أَهْوَاءهُمْ} وجعل السبب في ذلك أنه عز وجل ما أراد هدايتهم وأنه مختوم على قلوبهم ولذلك رتب عليه قوله تعالى: {فَمَن يَهْدى مَنْ أَضَلَّ الله} على التقريع والإنكار ثم ذيل سبحانه الكل بقوله تعالى: {وَمَا لَهُم مّن ناصرين} [الروم: 9 2] يعني إذا أراد الله تعالى منهم ذلك فلا مخلص لهم منه ولا أحد ينقذهم لا أنت ولا غيرك فلا تذهب نفسك عليهم حسرات فاهتم بخاصة نفسك ومن تبعك وأقم وجهك الخ اه، ومنه يعلم حال الفاء في قوله تعالى: {فَمَنْ} وكذا في قوله سبحانه: {فَأَقمْ} وقدر النيسابوري للثانية إذا تبين الحق وظهرت الوحدانية فأقم الخ، ولعل ما أشار إليه الطيبي أولى، ثم إنه يلوح من كلامه احتمال أن يكون الموصول قائمًا مقام ضمير {الذين ظَلَمُوا} فتدبر.