فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو السعود:

{الله الذي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُميتُكُمْ ثُمَّ يُحْييكُمْ هَلْ من شُرَكَائكُمْ مَّن يَفْعَلُ من ذَلكُمْ مّن شَىْء}.
أثبت له تعالى لوازمَ الأُلوهيَّة وخواصَّها ونفاها رأسًا عَّما اتخذوه شركاء له تعالى من الأصنام وغيرها مؤكّدًا بالإنكار على ما دلَّ عليه البرهانُ والعيانُ ووقع عليه الوفاقُ ثم استنتج منه تنزهه عن الشُّركاء بقوله تعالى: {سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْركُونَ} وقد جُوّز أن يكونَ الموصولُ صفةً والخبرُ هل من شركائكم والرابطُ قوله تعالى: {من ذلكم} لأنه بمعنى من أفعاله ومن الأولى والثانية تفيدان شيوعَ الحُكم في جنس الشُّركاء والأفعال والثَّالثة مزيدةٌ لتعميم المنفيّ وكل منها مستقلة بالتأكيد وقُرئ تُشركون بصيغة الخطاب {ظَهَرَ الفساد في البر والبحر} كالجدب والمَوَتان وكثرة الحَرَق والغَرَق وإخفاق الغاصة ومحق البركات وكثرة المضارّ أو الضَّلالة والظُّلم، وقيل المرادُ بالبحر قُرى السَّواحل وقُرى البحور {بمَا كَسَبَتْ أَيْدى الناس} بشؤم مَعَاصيهم أو بكسبهم إيَّاها. وقيل ظهر الفسادُ في البرَّ بقتل قابيلَ أخاهُ هابيلَ وفي البحر بأنَّ جَلَندى كانَ يأخذُ كلَّ سفينةٍ غَصْبًا {ليُذيقَهُمْ بَعْضَ الذي عَملُوا} أي بعضَ جزائه فإنَّ تمامَه في الآخرة واللامُ للعلَّة أو للعاقبة وقُرئ لنُذيقهم بالنَّون. {لَعَلَّهُمْ يَرْجعُونَ} عمَّا كانُوا عليه.
{قُلْ سيرُوا في الأرض فانظروا كَيْفَ كَانَ عاقبة الذين من قَبْلُ} ليشاهدُوا آثارَهم {كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّشْركينَ} استئنافٌ للدَّلالة على أنَّ ما أصابَهم لفشوّ الشرك فيما بينَهم أو كان الشركُ في أكثرهم وما دونه من المَعاصي في قليلٍ منهم {فَأَقمْ وَجْهَكَ للدّينَ القيم} أي البليغ الاستقامة {من قَبْل أَن يَأْتىَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ} لا يقدرُ أحدٌ على ردّه {منَ الله} متعلق بيأتى أو بمردّ لأنه مصدرٌ والمعنى لا يردُّه الله تعالى لتعلُّق إرادته القديمة بمجيئه {يَوْمَئذٍ يَصَّدَّعُونَ} أصله يتصدَّعون أي يتفرَّقُون فريقٌ في الجَّنة وفريقٌ في السَّعير.
{مَن كَفَرَ فَعَلَيْه كُفْرُهُ} أي وبالُ كفره وهو النَّارُ المؤبَّدة {وَمَنْ عَملَ صالحا فَلأَنفُسهمْ يَمْهَدُونَ} أي يسوون منزلًا في الجنَّة وتقديمُ الظَّرف في الموضعين للدّلالة على الاختصاص {ليَجْزىَ الذين ءامَنُوا وَعَملُوا الصالحات من فَضْله} متلق بيصدَّعُون وقيل: بيمهدون أي يتفرَّقون بتفريق الله تعالى فريقين ليُجزي كلًا منهما بحسب أعمالهم، وحيث كان جزاءُ المؤمنين هو المقصودَ بالذَّات أُبرز ذلك في معرض الغاية وعبر عنه بالفضل لما أَنَّ الإثابةَ بطريق التفضيل لا الوجوب وأُشير إلى جزاء الفريق الآخر بقوله تعالى: {إنَّهُ لاَ يُحبُّ الكافرين} فإنَّ عدمَ محبته تعالى كنايةٌ عن بُغضه الموجب لغضبه المستتبع للعقوبة لا محالةَ. اهـ.

.قال الألوسي:

{الله الذي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُحْييكُمْ هَلْ من شُرَكَائكُمْ مَّن يَفْعَلُ من ذَلكُمْ مّن شَىْء}.
الظاهر أن الاسم الجليل مبتدأ و{الذى} خبره والاستفهام إنكاري و{من شُرَكَائكُمْ} خبر مقدم و{منْ} مبتدأ مؤخر و{منْ} فيه للتبعيض و{مّن ذلكم} صفة {شَىْء} قدمت عليه فاعربت حالًا و{منْ} فيه للتبعيض أيضًا و{شَىْء} مفعول يفعل و{منْ} الداخلة عليه مزيدة لتأكيد الاستغراق، وجوز الزمخشري أن يكون الاسم الجليل مبتدأ و{الذى} صفته والخبر {هَلْ من شُرَكَائكُمْ} الخ والرابط اسم الإشارة المشاربة إلى أفعاله تعالى السابقة فمن ذلكم بمعنى من أفعاله، ووقعت الجملة المذكورة خبرًا لأنها خبر منفي معنى وان كانت استفهامية ظاهرًا فكأنه قيل: الله الخالق الرازق المميت المحيى لا يشاركه شيء ممن لا يفعل أفعاله هذه، وبعضهم جعلها خبرًا بتقدير القول فكأنه قيل: الله الموصوف بكونه خالقًا ورازقًا ومميتًا ومحييا مقول في حقه هل من شركائكم من هو موصوف بما هو موصوف به.
وتعقب ذلك أبو حيان بأن اسم الإشارة لا يكون رابطًا إلا إذا أشير به إلى المبتدأ وهو هنا ليس إشارة إليه لكنه شبيه بما أجازه الفراء من الربط بالمعنى وخالفه الناس وذلك في قوله تعالى: {والذين يُتَوَفَّوْنَ منكُمْ وَيَذَرُونَ أزواجا يَتَرَبَّصْنَ} [البقرة: 4 23] فإن التقدير يتربصن أزواجهم فقدر الضمير بمضاف إلى ضمير {الذين} فحصل به الربط.
وكذلك قدر الزمخشري من ذلكم بمن أفعاله المضاف إلى ضمير المبتدأ لكن لا يخفى أن الإضافة غير معتبرة وعلى تقدير اعتبارها يلزم تقدير مضاف آخر، وجوز أن تكون {منْ} الأولى لبيان من بفعل ومتعلقها محذوف و{مَن يَفْعَلُ} فاعل لفعل محذوف أي هل حصل واستقر من يفعل كائنًا من شركائكم، وكذا جوز في {منْ} الثانية أن تكون لبيان المستغرق، وقيل: إن من الأولى ومن الثانية زائدتان كالثالثة وهو كما ترى، والآية على ما قلناه أولًا متضمنة جملتين دلت الأولى على إثبات ما هو من اللوازم المساوية للألوهية من الخلق والرزق والأمانة والإحياء له عز وجل وأفادت الثانية بواسطة عكس السالبة الكلية نفيها رأسًا عن شركائهم الذين اتخذوهم شركاء له سبحانه من الأصنام وغيرها مؤكدًا بالإنكار، والعقل حاكم بأن ما يتخذ شريكًا كالذي اتخذ في الحكم المذكور أعني نفي تأتي تلك الأفعال منه، وإن شئت جعلت {شُرَكَائكُمْ} شاملًا للصنفين ويفهم من ذلك عدم صحة الشركة إذ لا يعقل شركة ما ليس باله لعدم وجود لازم الألوهية فيه لمن هو إله في الألوهية ولتأكيد ذلك قال سبحانه وتعالى: {سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْركُونَ} أي عن شركهم، والتعبير بالمضارع لما في الشرك من الغرابة أو للأشعار باستمراره وتجدده منهم، وأشار بعضهم إلى أن تينك الجملتين يؤخذ منهما مقدمتان موجبة وسالبة كلية مرتبتان على هيئة قياس من الشكل الثاني وإن قوله تعالى: {سبحانه} الخ يؤخذ منه سالبة كلية هي نتيجة ذلك القياس فتكون الجملتان المذكورتان في حكم قياس من الشكل الثاني، وقوله تعالى: {سبحانه} الخ في حكم النتيجة له، ولا يخفى احتياج ذلك إلى تكلف فتأمل جدًا.
وقرأ الأعمش وابن وثاب {تُشْركُونَ} بتاء الخطاب.
{ظَهَرَ الفساد في البر والبحر} كالجدب والموتان وكثرة الحرق والغرق واخفاق الصيادين والغاصة ومحق البركات من كل شيء وقلة المنافع في الجملة وكثرة المضار، وعن ابن عباس أجدبت الأرض وانقطعت مادة البحر وقالوا: إذا انقطع القطر عميت دواب البحر، وقال مجاهد: ظهر الفساد في البر بقتل ابن آدم أخاه وفي البحر بأخذ السفن غصبًا، وفي رواية عن ابن عباس بأخذ جلندي كل سفينة غصبا، ولعل المراد التمثيل، وكذا يقال في قتل ابن آدم آخاه وكان أول معصية ظهرت في البر؛ قال الضحاك: كانت الأرض خضرة مونقة يأتي ابن آدم شجرة إلا وجد عليها ثمرة وكان ماء البحر عذبًا وكان لا يفترس الأسد البقرة ولا الذئب الغنم فلما قتل قابيل هابيل أقشعر ما في الأرض وشاكت الأشجار وصار ماء البحر ملحًا زعافًا وقصد الحيوان بعضه بعضًا.
وذكر أن أول معصية في البحر غصب جلندي كل سفينة تمر عليه فكأن تخصيص الأمرين بالذكر لذلك، وأيًا ما كان فالبر والبحر على ظاهرهما، وعن مجاهد البر البلاد البعيدة من البحر والبحر السواحل والمدن التي عند البحر والأنهار، وقال قتادة: البر الفيافي ومواضع القبائل وأهل الصحاري والعمود والبحر المدن، والعرب تسمى الأمصار بحارًا لسعتها، ومنه قول سعد بن عبادة في عبد الله بن أبي بن سلول، ولقد أجمع أهل هذه البحيرة يعني المدينة ليتوجوه.
قال أبو حيان: ويؤيد هذا قراءة عكرمة {والبحور} بالجمع ورويت عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وجوز النحاس أن يكون البحر على ظاهره إلا أن الكلام على حذف مضاف أي مدن البحر فهو مثل {واسئل القرية} [يوسف: 82] وجوز أيضًا أن يراد بالفساد المعاصي من قطع الطريق والظلم وغيرهما، وال في {البر والبحر} للجنس وكذا في {الفساد} أي ظهر جنس الفساد من الجدب والموتان ونحوهما في جنس البر وجنس البحر {بمَا كَسَبَتْ أَيْدى الناس} أي بسبب ما فعله الناس من المعاصي والذنوب وشؤمه وهذا كقوله تعالى: {وَمَا أصابكم مّن مُّصيبَةٍ فَبمَا كَسَبَتْ أَيْديكُمْ} [الشورى: 0 3] وهو على التفسير الأول للفساد ظاهر وأما على تفسيره بالمعاصي فالمعنى ظهرت المعاصي في البر والبحر بكسب الناس إياها وفعلهم لها، ومعنى قوله تعالى: {ليُذيقَهُمْ بَعْضَ الذي عَملُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجعُونَ} على الأول ظاهر وهو أن الله تعالى قد أفسد أسباب دنياهم ومحقها وبال بعض أعمالهم في الدنيا قبل أن يعاقبهم بجميعها في الآخرة لعلهم يرجعون عما هم عليه وأما على الثاني فاللام مجاز على معنى أن ظهور المعاصي بسببهم مما استوجبوا به أن يذيقهم الله تعالى وبال أعمالهم إرادة الرجوع فكأنهم إنما فسدوا وتسببوا لفشو المعاصي في الأرض لأجل ذلك.
وقرأ السلمي والأعرج وأبو حيوة وسلام وسهل وروح وابن حسان وقنبل من طريق ابن مجاهد وابن الصباح وأبي الفضل الواسطي عنه ومحبوب عن أبي عمرو لنذيقهم بالنون، وظهور الفساد المذكور على ما أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة كان قبل أن يبعث النبي صلى الله عليه وسلم فلما بعث عليه الصلاة والسلام رجع من رجع من الناس عن الضلال والظلم، وقيل: كان أوائل البعثة وذلك أن كفار قريش فعلوا ما فعلوا من المعاصي والاصرار على الشرك وإيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم فدعا صلى الله عليه وسلم فاقحطوا وحل بهم من البلاء ما حل فأخبر الله سبحانه أن ذلك بسبب معاصيهم ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون.
وفسر هذا القائل: {الناس} بكفار قريش، وقيل: كان في زامن سابق على زمان النزول أعم من أن يكون الزمان الذي قبيل البعثة أو بعيدها أو غير ذلك، وحكم الآية عام في كل فساد يظهر إلى يوم القيامة، ومن هنا قيل: من أذنب ذنبًا يكون جميع الخلائق من الأنس والدواب والوحوش والطيور والذر خصماءه يوم القيامة لأنه تعالى يمنع المطر بشؤم المعصية فيتضرر بذلك أهل البر والبحر جميعًا، وروي عن شقيق الزاهد أنه قال: من أكل الحرام فقد خان جميع الناس، ووجه تعلق الآية بما قبلها أن فيها نعى ما يعم الشرك وغيره من المعاصي وفيما قبل نعى الشرك وفيها من تخويف المشركين ما فيها.
وقال الإمام: في وجه التعلق هو أن الشرك سبب الفساد كما قال تعالى: {لَوْ كَانَ فيهمَا الهَةٌ إلاَّ الله لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] وإذا كان الشرك سببه جعل الله تعالى إظهارهم الشرك مورثًا لظهور الفساد ولو فعل بهم ما يقتضيه قولهم لفسدت السموات والأرض كما قال سبحانه: {تَكَادُ السموات يَتَفَطَّرْنَ منْهُ وَتَنشَقُّ الأرض وَتَخرُّ الجبال هَدًّا} [مريم: 0 9] وإلى هذا أشار عز وجل بقوله سبحانه: {ليُذيقَهُمْ بَعْضَ الذي عَملُوا} انتهى، فتأمل وأنصف.
وقوله تعالى: {قُلْ سيرُوا في الأرض فانظروا كَيْفَ كَانَ عاقبة الذين من قَبْلُ} مسوق لتأكيد تسبب المعاصي لغضب الله تعالى ونكاله حيث أمروا بأن يسيروا فينظروا كيف أهلك الله تعالى الأمم وأذاقهم سوء العاقبة بمعاصيهم ويتحققوا صدق ما تقدم، وقوله تعالى: {كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّشْركينَ} استئناف للدلالة على أن الشرك وحده لم يكن سبب تدمير جميعهم بل هو سبب للتدمير في أكثرهم وما دونه من المعاصي سبب له في قليل منهم.
وجوز أن يكون للدلالة على أن سوء عاقبتهم لفشو الشرك وغلبته فيهم ففيه تهويل لأمر الشرك بأنه فتنة لا تصيب الذين ظلموا خاصة.
{فَأَقمْ وَجْهَكَ للدّينَ القيم} أي إذا كان الأمر كذلك فأقم وتمام الكلام فيما هنا يعلم مما تقدم في هذه السورة الكريمة {من قَبْل أَن يَأْتىَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ منَ الله} جوز أن يتعلق بمرد وهو مصدر بمعنى الرد، والمعنى لا يرده سبحانه بعد أن يجىء به ولا رد له من جهته عز وجل فيفيد انتفاء رد غيره تعالى له بطريق برهاني، واعترض بأنه لو كان كذلك للزم تنوين {يَوْمٍ} لمشابهته للمضاف.
وأجيب بأنه مبني على ما قال ابن مالك في التسهيل من أنه قد يعامل الشبيه بالمضاف معاملته فيترك تنوينه وحمل عليه قوله عليه الصلاة والسلام: «لا مانع لما أعطيت» وتفصيله في شرحه، وبعضهم جعله متعلقًا بمحذوف يدل عليه {مَرَدَّ} أي لا يرد من جهته تعالى أي لا يرده هو عز وجل؛ وقيل: هو خبر مبتدأ محذوف والتقدير هو أي الرد المنفي كائن من الله تعالى، والجملة استئناف جواب سؤال تقديره ممن ذلك الرد المنفي؟ وقيل: هو متعلق بمحذوف وقع حالًا من الضمير في الظرف الواقع خبرًا للا، وقيل: متعلق بالنفي أو بما دل عليه، وقيل: متعلق بمحذوف وقع صفة ليوم، وجوز كثير تعلقه بيأتي أي من قبل أي يأتي من الله تعالى يوم لا يقدر أحد أن يرده.
وتعقب بأن ذلك خلاف المتبادر من اللفظ والمعنى وهو مع ذلك قليل الفائدة وارتضاه الطيبي فقال: هذا الوجه أبلغ لإطلاق الرد وتفخيم اليوم وإن إتيانه من جهة عظيم قادر ذي سلطان قاهر ومنه يعلم أن ذلك ليس قليل الفائدة.
نعم إن فيه الفصل الملبس وحال سائر الأوجه لا يخفى على ذي تمييز {يَوْمَئذٍ} أي يوم إذ يأتي {يَصَّدَّعُونَ} أصله يتصدعون فقلبت تاؤه صادًا وأدغمت والتصدع في الأصل تفرق أجزاء الأواني ثم استعمل في مطلق التفرق أي يتفرقون فريق في الجنة وفريق في السعير، وقيل: يتفرقون تفرق الأشخاص على ما ورد في قوله تعالى: {يَوْمَ يَكُونُ الناس كالفراش المبثوث} [القارعة: 4] لا تفرق الفريقين فإن المبالغة في التفرق المستفادة من {يَصَّدَّعُونَ} إنما تناسب الأول، ورجح الثاني بأنه المناسب للسياق والسباق إذ الكلام في المؤمنين والكافرين فما ذكر بيان لتباينهم في الدارين ويكفي للمبالغة شدة بعد ما بين المنزلتين حسًا ومعنى وهو تفسير رواه عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة، وروي أيضًا عن ابن زيد.
{مَن كَفَرَ فَعَلَيْه كُفْرُهُ} أي وبال كفره وهي النار المؤبدة ففي الكلام مضاف مقدر أو الكفر مجاز عن جزائه بل عن جميع المضار التي لا ضرر وراءها، وإفراد الضمير باعتبار لفظ {منْ} وفيه إشارة إلى قلة قدرهم عند الله تعالى وحقارتهم مع ما علم من كثرة عددهم، وجمعه في قوله تعالى: {وَمَنْ عَملَ صالحا فَلانفُسهمْ يَمْهَدُونَ} باعتبار معناها، وفيه مع رعاية الفاصلة إشارة إلى كثرة قدرهم وعظمهم عند الله تعالى، و{يَمْهَدُونَ} من مهد فراشه وطأه أي يوطؤون لأنفسهم كما يوطىء الرجل لنفسه فراشه لئلا يصيبه في مضجعه ما ينبيه وينغص عليه مرقده من نتوء أو قضض أو بعض ما يؤذي الراقد فكأنه شبه حالة المكلف مع عمله الصالح وما يتحصل به من الثواب ويتخلص من العقاب بحالة من يمهد فراشه ويوطؤه ليستريح عليه ولا يصيبه في مضجعه ما ينغص عليه، وجوز أن يكون المعنى فعلى أنفسهم يشفقون على أن ذلك من قولهم في المثل للمشفق أم فرشت فأنامت فيكون الكلام كناية إيمائية عن الشفقة والمرحمة والأول أظهر، والظاهر أن هذه التوطئة لما بعد الموت من القبر وغيره، وأخرج جماعة عن مجاهد أنه قال؛ فلأنفسهم يمهدون أن يسوون المضاجع في القبر وليس بذاك.
وتقديم الظرف في الموضعين للدلالة على الاختصاص وقيل: للاهتمام، ومقابلة من {كُفرَ} بمن عمل صالحًا لا بمن آمن إما للتنويه بشأن الإيمان بناءً على أن المراد بالعمل الصالح وإما لمزيد الاعتناء بشأن المؤمن العامل بناءً على أن المراد بالعمل الصالح ما يشمل العمل القلبي والقالبي ويشعر بأن المراد بمن عمل صالحًا المؤمن العامل قوله تعالى: {ليَجْزىَ الذين ءامَنُوا وَعَملُوا الصالحات من فَضْله} فإنه علة ليمهدون وأقيم فيه الموصول مقام الضمير تعليلًا للجزاء لما أن الموصول في معنى المشتق والتعليق به يفيد علية مبدأ الاشتقاق، وذكر {من فَضْله} للدلالة على أن الإثابة تفضل محض؛ وتأويله بالعطاء أو الزيادة على ما يستحق من الثواب عدول عن الظاهر، وجوز أن يكون ذلك علة ليصدعون والاقتصار على جزاء المؤمنين للإشعار بأنه المقصود بالذات والاكتفاء بفحوى قوله تعالى: {إنَّهُ لاَ يُحبُّ الكافرين} فإن عدم المحبة كناية عن البغض في العرف وهو يقتضي الجزاء بموجبه فكأنه قيل: وليعاقب الكافرين.
وفي الكشاف أن تكرير الذين آمنوا وعملوا الصالحات وترك الضمير إلى الصريح لتقرير أنه لا يفلح عنده تعالى إلا المؤمن الصالح، وقوله تعالى: {أَنَّهُ} الخ تقرير بعد تقرير على الطرد والعكس ويعني بذلك كل كلامين يقرر الأول الثاني وبالعكس سواء كان صريحًا وإشارة أو مفهومًا ومنطوقًا وذلك كقول ابن هانىء:
فما جازه جود ولا حل دونه ** ولكن يصير الجود حيث يصير

وبيانه فيما نحن فيه أن قوله تعالى: {إلَيْه مَرْجعُكُمْ جَميعًا} يدل بمنطوقه على ما قرر على اختصاصهم بالجزاء التكريمي وبمفهومه على أنهم أهل الولاية والزلفى، وقوله سبحانه: {إنَّهُ لاَ يُحبُّ الكافرين} لتعليل الاختصاص يدل بمنطوقه على أن عدم المحبة يقتضي حرمانهم وبمفهومه على أن الجزاء لأضدادهم موفر فهو جل وعلا محب للمؤمنين، وذكر العلامة الطيبي الظاهر أن قوله تعالى: {فَأَقمْ وَجْهَكَ للدّينَ القيم} [الروم: 3 4] الآية بتمامها كالمورد للسؤال والخطاب لكل أحد من المكلفين وقوله تعالى: {مَن كَفَرَ فَعَلَيْه كُفْرُهُ} [الروم: 44] الآية وارد على الاستئناف منطو على الجواب فكأنه لما قيل: أقيموا على الدين القيم قبل مجىء يوم يتفرقون فيه فقيل: ما للمقيمين على الدين وما على المنحرفين عنه وكيف يتفرقون؟ فأجيب من كفر فعليه كفره الآية، وأما قوله سبحانه: {ليَجْزىَ الذين ءامَنُوا} الآية فينبغي أن يكون تعليلًا للكل ليفصل ما يترتب على ما لهم وعليهم لكن يتعلق بيمهدون وحده لشدة العناية بشأن الإيمان والعمل الصالح وعدم الإعباء بعمل الكافر ولذلك وضع موضعه {إنَّهُ لاَ يُحبُّ الكافرين} انتهى فلا تغفل، وفي الآية لطيفة نبه عليها الإمام قدس سره وهي أن الله عز وجل عندما أسند الكفر والإيمان إلى العبيد قدم الكافر وعندما أسند الجزاء إلى نفسه قدم المؤمن لأن قوله تعالى: {مَن كَفَرَ} وعيد للمكلف ليمتنع عما يضره لينقذه سبحانه من الشر وقوله تعالى: {وَمَنْ عَملَ صالحا} [الروم: 44] تحريض له وترغيب في الخير ليوصله إلى الثواب والإنقاذ مقدم عند الحكيم الرحيم وأما عند الجزاء فابتدأ جل شأنه بالإحسان إظهارًا للكرم والرحمة.
هذا. اهـ.