فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{اللَّهُ الَّذي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ}.
هذا الاستئناف الثاني من الأربعة التي أقيمت عليها دلائل انفراد الله تعالى بالتصرف في الناس وإبطال ما زعموه من الإشراك في الإلهية كما أنبأ عنه قوله: {هل من شركائكم مَن يفعل منْ ذَلكم منْ شيء} وإدماجًا للاستدلال على وقوع البعث.
وقد جاء هذا الاستئناف على طريقة قوله: {الله يبدأ الخلق ثم يعيده} [يونس: 34] واطَّرد الافتتاح بمثله في الآيات التي أريد بها إثبات البعث كما تقدم عند قوله تعالى: {الله يبدأ الخلق ثم يعيده} وسيأتي في الآيتين بعد هذه.
و{ثم} مستعمل في معنيي التراخي الزمني والرتبي.
و{هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء} استفهام إنكاري في معنى النفي ولذلك زيدت {من} الدالة على تحقيق نفي الجنس كله في قوله: {من شيء} والمعنى: ما من شركائكم من يفعل شيئًا من ذلكم.
ف {من} الأولى بيانية هي بيان للإبهام الذي في {من يفعل} فيكون {من يفعل} مبتدأ وخبره محذوف دل عليه الاستفهام، تقديره: حصل، أو وجد، أو هي تبعيضية صفة لمقدر، أي هل أحد من شركائكم.
و{من} الثانية في قوله: {من ذلكم} تبعيضية في موضع الحال {من شيء}.
و{من} الثالثة زائدة لاستغراق النفي.
وإضافة شركاء إلى ضمير المخاطبين من المشركين لأن المخاطبين هم الذين خلعوا على الأصنام وصف الشركاء لله فكانوا شركاء بزعم المخاطبين وليسوا شركاء في نفس الأمر، وهذا جار مجرى التهكم، كقول خالد بن الصعق لعمرو بن معديكرب في مجمع من مجامع العرب بظاهر الكوفة فجعل عمرو يحدثهم عن غاراته فزعم أنه أغار على نهد فخرجوا إليه يقدمهم خالد بن الصَعق وأنه قتله، فقال له خالد بن الصعق: مهلًا أبا ثور قتيلُك يسمع أي القتيل بزعمك.
والقرينة قوله: يسمع كما أن القرينة في هذه الآية هي جملة التنزيه عن الشريك.
والإشارة ب {ذلكم} إلى الخلق، والرزق، والإماتة، والإحياء، وهي مصادر الأفعال المذكورة.
وأفرد اسم الإشارة بتأويل المذكور.
وجملة {سبحانه وتعالى عما يشركون} مستأنفة لإنشاء تنزيه الله تعالى عن الشريك في الإلهية.
وموقعها بعد الجملتين السابقتين موقع النتيجة بعد القياس، فإن حاصل معنى الجملة الأولى أن الإله الحق وهو مسمى اسم الجلالة هو الذي خَلَق ورزق ويُميت ويُحيي، فهذا في قوة مقدمة هي صغرى قياس، وحاصل الجملة الثانية أن لا أحد من الأصنام بفاعل ذلك، وهذه في قوة مقدمة هي كبرَى قياسسٍ وهو من الشكل الثاني، وحاصل معنى تنزيه الله عن الشريك أن لا شيء من الأصنام بإله.
وهذه نتيجة قياس من الشكل الثاني.
ودليل المقدمة الصغرى إقرار الخصم، ودليل المقدمة الكبرى العقل.
وقرأ الجمهور {تشركون} بفوقية على الخطاب تبعًا للخطاب في {ءاتيتم} [الروم: 39].
وقرأه حمزة والكسائي وخلف بتحتية على الالتفات من الخطاب إلى الغيبة.
{ظَهَرَ الْفَسَادُ في الْبَرّ وَالْبَحْر بمَا كَسَبَتْ أَيْدي النَّاس ليُذيقَهُمْ بَعْضَ الَّذي عَملُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجعُونَ (41)}.
موقع هذه الآية ومعناها صالح لعدة وجوه من الموعظة، وهي من جوامع كلم القرآن.
والمقصد منها هو الموعظة بالحوادث ماضيها وحاضرها للإقلاع عن الإشراك وعن تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم فأما موقعها فيجوز أن تكون متصلة بقوله قبلها {أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم الآيات} [الروم: 9]، فلما طولبوا بالإقرار على مَا رأوه من آثار الأمم الخالية، أو أُنكرَ عليهم عدمُ النظر في تلك الآثار، أُتبع ذلك بما أدَّى إليه طريق الموعظة من قوله: {هو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده} [الروم: 27]، ومن ذكر الإنذار بعذاب الآخرة، والتذكير بدلائل الوحدانية ونعَم الله تعالى، وتفريع استحقاقه تعالى الشكر لذاته ولأجل إنعامه استحقاقًا مستقرًا إدراكه في الفطرة البشرية، وما تخلل ذلك من الإرشاد والموعظة، عاد الكلام إلى التذكير بأن ما حلّ بالأمم الماضية من المصائب ما كان إلا بما كسبت أيديهم، أي بأعمالهم، فيوشك أن يحلّ مثل ما حلّ بهم بالمخاطبين الذين كسبت أيديهم مثلَ ما كسبت أيدي أولئك.
فموقع هذه الجملة على هذا الوجه موقع النتيجة من مجموع الاستدلال أو موقع الاستئناف البياني بتقدير سؤال عن سبب ما حلّ بأولئك الأمم.
ويجوز أن تقع هذه الآية موقع التكملة لقوله: {وإذا مسّ الناسَ ضُر دَعوا ربهم} [الروم: 33] الآية، فهي خبر مستعمل في التنديم على ما حلّ بالمكذبين المُخاطبين من ضرّ ليعلموا أن ذلك عقاب من الله تعالى فيقلعوا عنه خشية أن يحيط بهم ما هو أشد منه، كما يؤذن به قوله عقب ذلك {لعلهم يرجعون} فالإتيان بلفظ الناس في قوله: {بما كسبت أيدي الناس} إظهار في مقام الإضمار لزيادة إيضاح المقصود، ومقتضى الظاهر أن يقال بما كسبت أيديهم.
فالآية تشير إلى مصائب نزلت ببلاد المشركين وعطلت منافعها، ولعلها مما نشأ عن الحرب بين الروم وفارس، وكان العرب منقسمين بين أنصار هؤلاء وأنصار أولئك، فكان من جراء ذلك أن انقطعت سبل الأسفار في البر والبحر فتعطلت التجارة وقلّت الأقوات بمكة والحجاز كما يقتضيه سَوْق هذه الموعظة في هذه السورة المفتتحة ب {غُلبَتت الرومُ} [الروم: 2].
فموقع هذه الجملة على هذا الوجه موقع الاستئناف البياني لسبب مسّ الضر إياهم حتى لجأوا إلى الضراعة إلى الله، وما بينها وبين جملة {وإذا مسّ الناسَ ضرّ} [الروم: 33] إلى آخره اعتراض واستطراد تخلل في الاعتراض.
ويجوز أن يكون موقعها موقع الاعتراض بين ذكر ابتهال الناس إلى الله إذا أحاط بهم ضر ثم إعراضهم عن عبادته إذا أذاقهم منه رحمةً وبين ذكر ما حلّ بالأمم الماضية اعتراضًا ينبىء أن الفساد الذي يظهر في العالم ما هو إلا من جراء اكتساب الناس وأن لو استقاموا لكان حالهم على صلاح.
والفساد سوء الحال وهو ضد الصلاح ودل قوله في البر والبحر على أنه سوء الأحوال في ما ينتفع به الناس من خيرات الأرض برها وبحرها.
ثم التعريف في {الفساد} إما أن يكون تعريف العهد لفساد معهود لدى المخاطبين، وإما أن يكون تعريف الجنس الشامل لكل فساد ظهر في الأرض برّها وبحرها أنه فساد في أحوال البر والبحر، لا في أعمال الناس بدليل قوله: {ليذيقهم بعضَ الذي عملوا لعلهم يرجعون}.
وفساد البر يكون بفقدان منافعه وحدوث مضارّه، مثل حبس الأقوات من الزرع والثمار والكلأ، وفي مَوتان الحيوان المنتفع به، وفي انتقال الوحوش التي تصاد من جراء قحط الأرض إلى أرضين أخرى، وفي حدوث الجوائح من جراد وحشرات وأمراض.
وفساد البحر كذلك يظهر في تعطيل منافعه من قلّة الحيتان واللؤلؤ والمرجان فقد كانا من أعظم موارد بلاد العرب وكثرة الزوابع الحائلة عن الأسفار في البحر، ونضوب مياه الأنهار وانحباس فيضانها الذي به يستقي الناس.
وقيل: أريد بالبر البَوادي وأهل الغمور وبالبحر المدن والقرى، وهو عن مجاهد وعكرمة وقال: إن العرب تسمي الأمصار بحرًا.
قيل: ومنه قول سعد بن عبادة في شأن عبد الله بن أُبَيّ ابن سلول: ولقد أجمع أهل هذه البحرة على أن يتوّجوه.
يعني بالبحرة: مدينة يثرب وفيه بُعد.
وكأنَّ الذي دعا إلى سلوك هذا الوجه في إطلاق البحر أنه لم يعرف أنه حدث اختلال في سير الناس في البحر وقلة فيما يخرج منه.
وقد ذكر أهل السير أنَّ قريشًا أصيبوا بقحط وأكلوا الميتة والعظام، ولم يذكروا أنهم تعطلت أسفارهم في البحر ولا انقطعت عنهم حيتان البحر، على أنهم ما كانوا يعرفون بالاقتيات من الحيتان.
وعلى هذه الوجوه الثلاثة يكون الباء في قوله: {بما كسبت أيدي الناس} للعوض، أي جزاء لهم بأعمالهم، كالباء في قوله تعالى: {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم} [الشورى: 30]، ويكون اللام في قوله: {ليذيقهم} على حقيقة معنى التعليل.
ويجوز أن يكون المراد بالفساد: الشرك قاله قتادة والسدّي فتكون هذه الآية متصلة بقوله: {الله الذي خلقكم ثم رزقكم} إلى قوله: {هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء} [الروم: 40]، فتكون الجملة إتمامًا للاستدلال على وحدانية الله تعالى تنبيهًا على أن الله خلق العالم سالمًا من الإشراك، وأن الإشراك ظهر بما كسبت أيدي الناس من صنيعهم.
وهذا معنى قوله في الحديث القدسي في صحيح مسلم: «إني خلقت عبادي حُنَفَاء كلَّهم، وأنهم أتتهم الشياطين فأجالتهم عن دينهم، وأمَرْتهم أن يشركوا بي» الحديث.
فذكر البر والبحر لتعميم الجهات بمعنى: ظهر الفساد في جميع الأقطار الواقعة في البر والواقعة في الجزائر والشطوط، ويكون الباء في قوله: {بما كسبت أيدي الناس} للسببية، ويكون اللام في قوله: {ليذيقهم بعض الذي عملوا} لامَ العاقبة، والمعنى: فأذقناهم بعض الذي عملوا، فجُعلت لام العاقبة في موضع الفاء كما في قوله تعالى: {فالتقطه ءال فرعون ليكون لهم عدوًّا وحزنًا} [القصص: 8]، أي فأذقنا الذين أشركوا بعض ما استحقوه من العذاب لشركهم.
ويجوز أن يكون المعنى أن الله تعالى خلق العالم على نظام مُحكم ملائم صالح للناس فأحدث الإنسان فيه أعمالًا سيئة مفسدة، فكانت وشائجَ لأمثالها:
وهل ينبت الخطيَّ إلا وشيجُه

فأخذ الاختلال يتطرق إلى نظام العالم قال تعالى: {لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين ءامنوا وعملوا الصالحات} [التين: 4 6]، وعلى هذا الوجه يكون محمل الباء ومحمل اللام مثل محملهما على الوجه الرابع.
وأطلق الظهور على حدوث حادث لم يكن، فشبه ذلك الحدوث بعد العدم بظهور الشيء الذي كان مختفيًا.
ومحمل صيغة فعل {ظهر} على حقيقتها من المضي يقتضي أن الفساد حصل وأنه ليس بمستقبل، فيكون إشارة إلى فساد مشاهَد أو محقق الوقوع بالأخبار المتواترة.
وقد تحمل صيغة الماضي على معنى توقع حصول الفساد والإنذار به فكأنه قد وقع على طريقة {أتى أمر الله} [النحل: 1].
وأيًَّا ما كان الفساد من معهود أو شامل، فالمقصود أن حلوله بالناس بقدرة الله كما دل عليه قوله: {ليذيقهم بعض الذي عملوا} وأن الله يقدر أسبابه تقديرًا خاصًا ليجازي من يغضب عليهم على سوء أفعالهم.
وهو المراد بما كسبت أيديهم لأن إسناد الكسب إلى الأيدي جرى مجرى المثل في فعل الشر والسوء من الأعمال كلها، دون خصوص ما يعمل منها بالأيدي لأن ما يكسبه الناس يكون بالجوارح الظاهرة كلها، وبالحواس الباطنة من العقائد الضالة والأدواء النفسية.
و{ما} موصولة، وحذف العائد من الصلة، وتقديره: بما كسبته أيدي الناس، أي بسبب أعمالهم.
وأعظم ما كسبته أيدي الناس من الأعمال السيئة الإشراك وهو المقصود هنا وإن كان الحكم عامًا.
ويعلم أن مراتب ظهور الفساد حاصلة على مقادير ما كسبت أيدي الناس، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وسُئلَ: أي الذنب أعظم؟ «أن تدعُو لله ندًّا وهو خلقك» وقال تعالى: {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم} [الشورى: 30] وقال: {وأنْ لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقًا} [الجن: 16].
ويجري حكمُ تعريف {الناس} على نحو ما يجري في تعريف {الفساد} من عهد أو عموم، فالمعهود هم المشركون وقد شاع في القرآن تغليب اسم {الناس} عليهم.