فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الفخر:

{عَسَى} توهم الشك مثل {لَعَلَّ} وهي من الله تعالى يقين، ومنهم من قال إنها كلمة مطمعة، فهي لا تدل على حصول الشك للقائل إلا أنها تدل على حصول الشك للمستمع وعلى هذا التقدير لا يحتاج إلى التأويل، أما إن قلنا بأنها بمعنى {لَعَلَّ} فالتأويل فيه هو الوجوه المذكورة في قوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183] قال الخليل: {عَسَى} من الله واجب في القرآن قال: {فَعَسَى الله أَن يَأْتِىَ بالفتح} [المائدة: 52] وقد وجد {وَعَسَى الله أَن يَأْتِيَنِى بِهِمْ جَمِيعًا} [يوسف: 83] وقد حصل والله أعلم. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وعسى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا} قيل: {عسى} بمعنى قد، قاله الأصم. وقيل: هي واجبة. و{عسى} من الله واجبة في جميع القرآن إلا قوله تعالى: {عسى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ} [التحريم: 5]. وقال أبو عبيدة: {عسى} من الله إيجاب، والمعنى عسى أن تكرهوا ما في الجهاد من المشقَّة وهو خير لكم في أنكم تَغلبون وتَظفرون وتَغنَمون وتُؤجَرون، ومن مات مات شهيدًا، وعسى أن تحبّوا الدّعة وترك القتال وهو شرٌّ لكم في أنكم تُغلبون وتُذلُّون ويذهب أمركم.
قلت: وهذا صحيح لا غبار عليه؛ كما اتفق في بلاد الأندلس، تركوا الجهاد وجبنوا عن القتال وأكثروا من الفرار؛ فاستولى العدوّ على البلاد، وأيّ بلاد؟! وأَسَر وقتَل وسبَى واسترق، فإنا لله وإنا إليه راجعون! ذلك بما قدّمت أيدينا وكسبته! وقال الحسن في معنى الآية: لا تكرهوا المَلَمَّات الواقعة؛ فَلرُبّ أمرٍ تكرهه فيه نجاتك، ولَرُبّ أمر تحبّه فيه عَطَبك، وأنشد أبو سعيد الضَّرير:
رُبَّ أمرٍ تتّقِيهِ ** جرّ أمرًا تَرتَضِيهِ

خَفِيَ المحبوبُ منه ** وبَدَا المكروهُ فيهِ

اهـ.

.قال الألوسي:

{وعسى} الأولى: للإشفاق والثانية: للترجي على ما ذهب إليه البعض، وإنما ذكر عسى الدالة على عدم القطع لأن النفس إذا ارتاضت وصفت انعكس عليها الأمر الحاصل لها قبل ذلك فيكون محبوبها مكروهًا ومكروهها محبوبهًا فلما كانت قابلة بالارتياض لمثل هذا الانعكاس لم يقطع بأنها تكره ما هو خير لها وتحب ما هو شر لها فلا حاجة إلى أن يقال إنها هنا مستعملة في التحقيق كما في سائر القرآن ما عدا قوله تعالى: {عسى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ} [التحريم: 5]. اهـ.

.قال الفخر:

أما قوله تعالى: {والله يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} فالمقصود منه الترغيب العظيم في الجهاد وذلك لأن الإنسان إذا اعتقد قصور علم نفسه، وكمال علم الله تعالى، ثم علم أنه سبحانه لا يأمر العبد إلا بما فيه خيرته ومصلحته، علم قطعًا أن الذي أمره الله تعالى به وجب عليه امتثاله، سواء كان مكروهًا للطبع أو لم يكن فكأنه تعالى قال: يا أيها العبد اعلم أن علمي أكمل من علمك فكن مشتغلًا بطاعتي ولا تلتفت إلى مقتضى طبعك فهذه الآية في هذا المقام تجري مجرى قوله تعالى في جواب الملائكة {إِنّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}. اهـ.

.قال السعدي:

وهذه الآيات عامة مطردة، في أن أفعال الخير التي تكرهها النفوس لما فيها من المشقة أنها خير بلا شك، وأن أفعال الشر التي تحب النفوس لما تتوهمه فيها من الراحة واللذة فهي شر بلا شك.
وأما أحوال الدنيا، فليس الأمر مطردا، ولكن الغالب على العبد المؤمن، أنه إذا أحب أمرا من الأمور، فقيض الله له من الأسباب ما يصرفه عنه أنه خير له، فالأوفق له في ذلك، أن يشكر الله، ويجعل الخير في الواقع، لأنه يعلم أن الله تعالى أرحم بالعبد من نفسه، وأقدر على مصلحة عبده منه، وأعلم بمصلحته منه كما قال تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} فاللائق بكم أن تتمشوا مع أقداره، سواء سرتكم أو ساءتكم. اهـ.

.إشكال وجوابه:

قال الفخر:
قوله: {وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ} فيه إشكال وهو أن الظاهر من قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ} أن هذا الخطاب مع المؤمنين، والعقل يدل عليه أيضًا لأن الكافر لا يؤمر بقتال الكافر، وإذا كان كذلك فكيف قال: {وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ} فإن هذا يشعر بكون المؤمن كارهًا لحكم الله وتكليفه وذلك غير جائز، لأن المؤمن لا يكون ساخطًا لأوامر الله تعالى وتكاليفه، بل يرضى بذلك ويحبه ويتمسك به ويعلم أنه صلاحه وفي تركه فساده.
والجواب من وجهين:
الأول: أن المراد من الكره، كونه شاقًا على النفس، والمكلف وإن علم أن ما أمره الله به فهو صلاحه، لكن لا يخرج بذلك عن كونه ثقيلًا شاقًا على النفس، لأن التكليف عبارة عن إلزام ما في فعله كلفة ومشقة، ومن المعلوم أن أعظم ما يميل إليه الطبع الحياة، فلذلك أشق الأشياء على النفس القتال.
الثاني: أن يكون المراد كراهتهم للقتال قبل أن يفرض لما فيه من الخوف، ولكثرة الأعداء فبين الله تعالى أن الذي تكرهونه من القتال خير لكم من تركه لئلا تكرهونه بعد أن فرض عليكم. اهـ.
وقال عِكرمة في هذه الآية: إنهم كَرِهوه ثم أحبّوه وقالوا: سمعنا وأطعنا؛ وهذا لأن امتثال الأمر يتضمن مشقة، لكن إذا عُرف الثواب هان في جنبه مُقاساة المشقات. اهـ.

.أسئلة وأجوبة:

.سؤال: لم تكررت {عسى} في الآية؟

الجواب: وتكرار عسى في الآية لكون المؤمنين كارهين للحرب، محبين للسلم، فأرشدهم الله سبحانه على خطأهم في الأمرين جميعا، بيان ذلك: أنه لو قيل: عسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم أو تحبوا شيئا وهو شر لكم، كان معناه أنه لا عبرة بكرهكم وحبكم فإنهما ربما يخطئان الواقع، ومثل هذا الكلام إنما يلقى إلى من أخطأ خطأ واحدا كمن يكره لقاء زيد فقط، وأما من أخطأ خطائين كان يكره المعاشرة والمخالطة ويحب الاعتزال، فالذي تقتضيه البلاغة أن يشار إلى خطأه في الأمرين جميعا، فيقال له: لا في كرهك أصبت، ولا في حبك اهتديت، عسى أن تكره شيئا وهو خير لك وعسى أن تحب شيئا وهو شر لك لأنك جاهل لا تقدر أن تهتدي بنفسك إلى حقيقة الأمر، ولما كان المؤمنون مع كرههم للقتال محبين للسلم كما يشعر به أيضا قوله تعالى سابقا: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم} نبههم الله بالخطأين بالجملتين المستقلتين وهما: عسى أن تكرهوا، وعسى أن تحبوا. اهـ.

.سؤال في جعل أشياء كثيرةٍ نافعةٍ مكروهةً وأشياء كثيرةٍ ضارةٍ محبوبةً:

فإن قلت: ما الحكمة في جعل أشياء كثيرةٍ نافعةٍ مكروهةً، وأشياء كثيرةٍ ضارةٍ محبوبةً، وهلا جعل الله تعالى النَّافعَ كلَّه محبوبًا والضار كلَّه مكروهًا فتنساقَ النفوسُ للنافع باختيارها وتجتنب الضار كذلك فنُكفى كلفة مسألة الصلاح والأصلح التي تناظر فيها الأشعري مع شيخه الجبائي وفارق الأشعري من أجلها نحلة الاعتزال؟.
قلت: إن حكمة الله تعالى بنت نظام العالم على وجود النافع والضار والطيب والخبيث من الذوات والصفات والأحداث، وأوكل للإنسان سلطة هذا العالم بحكم خِلْقِه الإنسانَ صالحًا للأمرين وأَراه طريقي الخير والشر كما قدمناه عند قوله تعالى: {كان الناس أمة واحدة} [البقرة: 213]، وقد اقتضت الحكمة أن يكون النافع أكثر من الضار ولعل وجود الأشياء الضارة كَوَّنه الله لتكون آلة لحمل ناس على اتباع النافع كما قال تعالى: {فيه بأس شديد ومنافع للناس} [الحديد: 25]، وقد أقام نظام هذا العالم على وجود المتضادات، وجعل الكمال الإنساني حاصلًا عند حصول جميع الصفات النافعة فيه، بحيث إذا اختلت بعض الصفات النافعة منه انتقصت بقيةُ الصفات النافعة منه أو اضمحلت، وجعل الله الكمال أقل من النقص لتظهر مراتِبُ النفوس في هذا العالم ومبالغ العقول البشرية فيه، فاكتسب الناس وضيعوا وضروا ونفعوا فكثر الضار وقل النافع بما كسَب الناسُ وفعلوا قال تعالى: {قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث} [100].
وكما صارت الذوات الكاملة الفاضلة أقل من ضدها صارت صفات الكمال عزيزة المنال، وأُحيطت عزتها ونفاستها بصعوبة منالها على البشر وبما يحف بها من الخطر والمتاعب، لأنها لو كانت مما تنساق لها النفوس بسهولة لاستوى فيها الناس فلم تظهر مراتِبُ الكمال ولم يقع التنافس بين الناس في تحصيل الفضائل واقتحام المصاعب لتحصيلها قال أبو الطيب:
ولا فضل فيها للشجاعة والندى ** وصبرِ الفتى لولا لقاء شَعُوب

فهذا سبب صعوبة الكمالات على النفوس.
ثم إن الله تعالى جعل نظام الوجود في هذا العالم بتولد الشيء من بين شيئين وهو المعبر عنه بالازدواج، غير أن هذا التولد يحصل في الذوات بطريقة التولد المعروفة قال تعالى: {ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين} [الرعد: 3] وأما حصوله في المعاني، فإنما يكون بحصول الصفة من بين معنيي صفتين أخريين متضادتين تتعادلان في نفس فينشأ عن تعادلهما صفة ثالثة.
والفضائل جعلت متولدة من النقائص؛ فالشجاعةُ من التهور والجبننِ، والكرمُ من السرف والشح، ولا شك أن الشيء المتولد من شيئين يكون أقل مما تولد منه، لأنه يكون أقل من الثلث، إذ ليس كلَّما وجد الصفتان حصل منهما تولد صفة ثالثة، بل حتى يحصل التعادل والتكافؤ بين تينك الصفتين المتضادتين وذلك عزيز الحصول ولا شك أن هاته الندرة قضت بقلة اعتياد النفوس هاته الصفات، فكانت صعبة عليها لقلة اعتيادها إياها.
ووراء ذلك فالله حدد للناس نظامًا لاستعمال الأشياء النافعة والضارة فيما خلقت لأجله، فالتبعة في صورة استعمالها على الإنسان وهذا النظام كله تهيئة لمراتب المخلوقات في العالم الأبدي عالم الخلود وهو الدار الآخرة كما يقال: الدنيا مزرعة الآخرة وبهذا تكمل نظرية النقض الذي نقض به الشيخ الأشعري على شيخه الجبائي أصلهم في وجوب الصلاح والأصلح فيكون بحث الأشعري نقضًا وكلامنا هذا سَنَدًا وانقلابًا إلى استدلال.
وجملة: {والله يعلم وأنتم لا تعلمون} تذييل للجميع، ومفعولا {يعلم} و{تعلمون} محذوفان دل عليهما ما قبله أي والله يعلم الخير والشر وأنتم لا تعلمونهما، لأن الله يعلم الأشياء على ما هي عليه والناس يشتبه عليهم العلم فيظنون الملائم نافعًا والمنافر ضارًا. والمقصود من هذا تعليم المسلمين تلقي أمر الله تعالى باعتقاد أنه الصلاح والخير، وأن ما لم تتبين لنا صفته من الأفعال المكلف بها نوقن بأن فيه صفة مناسبة لحكم الشرع فيه فتطلبها بقدر الإمكان عسى أن ندركها، لنفرع عليها ونقيس ويدخل تحت هذا مسائل مسالك العلة، لأن الله تعالى لا يجري أمره ونهيه إلا على وفق علمه. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.قال في الكشف والبيان:

قال الحسن: لا تكره الملمات الواقعة والبلايا الحادثة فلربَّ أمر تكرهه فيه نجاتك، ولربّ أمر ترجوه فيه عطبك، وأنشد أبو سعيد الضرير:
ربَّ أمر تتقيه جرَّ أمرًا ترتضيه ** خفي المحبوب منه وبدا المكروه فيه

وأنشد محمد بن عرفة لعبد الله بن المعتز:
لا تكره المكروه عند نزوله ** إن الحوادث لم تزل متباينه

كم نعمة لا تستقل بشكرها ** لله في درج الحوادث كامنه

عبد الرحمن بن أبي حاتم عن أبيه قال: بعث المتوكل إلى محمد بن الليث رسولًا وقد كان بقي مدة في منزله فلمّا أتاه الرسول امتثل فركب بلا روح خوفًا فمرّ به رجل وهو يقول:
كم مرّة حفّت بك المكاره ** خارَ لك الله وأنت كاره

فلمّا دخل على المتوكل ولاّه مصر وأمر له بمائة ألف وجميع ما يحتاج إليه من الآلات والدواب والغلمان.
قال الثعلبي: أنشدني الحسن بن محمد قال: أنشدني أبو سعيد أحمد بن محمد بن رميح قال: أنشدني محمد بن الفرحان:
كم فرحة مطوية ** لك بين أثناء النوائب

ومضرّة قد أقبلت ** من حيث تنتظر المصائب

قال: وأنشدنا أبو القاسم الحبيبي قال: أنشدنا أبو عبد الله الوضاحي:
ربّما خُيّر الفتى وهو للخير كاره ** ثم يأتي السرور من حيث تأتي المكاره

اهـ.