فصل: قال الماوردي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الماوردي:

قوله: {وَمنْ ءَايَاته أَن يُرْسلَ الرّيَاحَ مُبَشّرَاتٍ}.
قال الضحاك: بالغيث.
ويحتمل وجهًا ثانيًا: بخصب الزمان وصحة الأبدان.
وقال أُبي بن كعب: كل شيء في القرآن من الرياح فهو رحمة، وكل شيء في القرآن من الريح فهو عذاب.
وقال عبد الله بن عمر: الريح ثمانية، أربعة منها رحمة وأربعة منها عذاب، فأما الرحمة فالناشرات والمبشرات والمرسلات والذاريات، وأما العذاب فالعقيم والصرصر وهما في البر، والعاصف والقاصف وهما في البحر.
{وَليُذيقَكُم مّن رَّحْمَته} فيه تأويلان:
أحدهما: بردها وطيبها، قاله الضحاك.
الثاني: المطر، قاله مجاهد وقتادة.
{وَلتَجْزي الْفُلْكُ} يعني السفن.
{بأمْره} يحتمل وجهين:
أحدهما: بقدرته في تسييرها.
الثاني: برحمته لمن فيها.
{وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} يعني ما عدّده من نعمه فتطيعوه لأن طاعة العبد لربه في شكره لنعمته إذ ليس مع المعصية شكر ولا مع كفر النعمة طاعة.
قوله: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمنينَ} فيه وجهان:
أحدهما: نصر الأنبياء بإجابة دعائهم على المكذبين لهم من قومهم، قاله يحيى بن سلام.
الثاني: نصر المؤمنين بإيجاب الذبّ عن أعراضهم، روت أم الدرداء، قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مَا من امْرىءٍ مُسْلمٍ يَرُدُّ عَنْ عرْض أَخيه إلاَّ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ أَن يَرُدَّ عَنْهُ نَارَ جَهَنَّمَ يَوْمَ القيَامة» ثم تلا هذه الآية: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمنينَ}. اهـ.

.قال ابن عطية:

ثم ذكر تعالى من آياته أشياء يقضي كل عقل بأنها لا مشاركة للأوثان فيها وهو ما في الريح من المنافع وذلك أنها بشرى بالمطر، ويذيق الله بها المطر ويلقح بها الشجر وغير ذلك ويجري بها السفن في البحر ويبتغي الناس بها فضل الله في التجارات في البحر وفي ذرو الأطعمة وغير ذلك، ثم أنس محمدًا بأن ضرب له مثل من أرسل من الأنبياء، وتوعد قريشًا بأن ضرب لهم مثل من هلك من الأمم الذين أجرموا وكذبوا الأنبياء، ثم وعد محمدًا وأمته النصر إذ أخبر أنه جعله {حقًا} عليه تبارك وتعالى، و{حقًا} خبر {كان} قدمه اهتمامًا لأنه موضع فائدة الجملة، وبعض القراء في هذه الآية وقف على قوله: {حقًا} وجعله من الكلام المتقدم ثم استأنف جملة من قوله: {علينا نصر المؤمنين} وهذا قول ضعيف لأنه لم يدر قدمًا عرضه في نظم الآية. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَمنْ آيَاته أَن يُرْسلَ الرياح مُبَشّرَاتٍ} أي ومن أعلام كمال قدرته إرسال الرياح مبشّرات أي بالمطر لأنها تتقدّمه.
وقد مضى في الحجر بيانه.
{وَليُذيقَكُمْ مّن رَّحْمَته} يعني الغيث والخصب.
{وَلتَجْريَ الفلك} أي في البحر عند هبوبها.
وإنما زاد {بأَمْره} لأن الرياح قد تَهُبُّ ولا تكون مواتية، فلابد من إرساء السفن والاحتيال بحبسها، وربما عصفت فأغرقتها بأمره.
{وَلتَبْتَغُوا من فَضْله} يعني الرزق بالتجارة {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} هذه النعم بالتوحيد والطاعة.
وقد مضى هذا كلّه مبينًا.
قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا من قَبْلكَ رُسُلًا إلى قَوْمهمْ فَجَاءُوهُم بالبينات} أي المعجزات والحجج النيّرات {فانتقمنا} أي فكفروا فانتقمنا ممن كفر.
{وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ المؤمنين} {حقًّا} نصب على خبر كان، {ونصر} اسمها.
وكان أبو بكر يقف على {حَقًّا} أي وكان عقابنا حقا، ثم قال: {عَلَيْنَا نَصْرُ المؤمنين} ابتداء وخبر؛ أي أخبر بأنه لا يخلف الميعاد، ولا خُلْف في خبرنا.
وروي من حديث أبي الدَّرداء قال: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من مسلم يَذُبّ عن عرض أخيه إلا كان حقًّا على الله تعالى أن يردّ عنه نار جهنم يوم القيامة ثم تلا وكان حقًّا علينا نصر المؤمنين» ذكره النحاس والثعلبيّ والزّمخشريّ وغيرهم. اهـ.

.قال أبو السعود:

{وَمنْ ءاياته أَن يُرْسلَ الرياح} أي الشَّمالَ والصَّبَا والجَنوبَ فإنَّها رياحُ الرَّحمة وأما الدَّبُورُ فريحُ العذاب ومنه قولُه عليه الصَّلاة والسَّلام: «اللهمَّ اجعلْهَا رياحًا ولا تجعلْها ريحًا» وقُرئ الرّيحَ على إرادة الجنس {مبشرات} بالمطر {وَليُذيقَكُمْ مّن رَّحْمَته} وهي المنافعُ التَّابعةُ لها وقيل: الخصبُ التَّابعُ لنزول المطر المسبَّب عنها أو الرَّوح الذي هو مع هبُوبها. واللامُ متعلقةٌ بيرسل والجملةُ معطوفةٌ على مبشّراتٍ على المعنى كأنَّه قيل ليبشركم بها وليذيقَكم أو بمحذوفٍ يُفهم من ذكر الإرسال تقديرُه وليذيقكم وليكون كذا وكذا يُرسلها لا لأمرٍ آخرَ لا تعلق له بمنافعكم {وَلتَجْرىَ الفلك} بسوقها {بأَمْره وَلتَبْتَغُوا من فَضْله} بتجارة البحر {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} ولتشكروا نعمةَ الله فيما ذُكر من الغايات الجليلة.
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا من قَبْلكَ رُسُلًا إلى قَوْمهمْ} كما أرسلناك إلى قومك {فَجَاؤُهُم بالبينات} أي جاء كلُّ رسول قومَه بما يخصُّه من البيّنات كما جئتَ قومَك ببيّناتك. والفاءُ في قوله تعالى: {فانتقمنا منَ الذين أَجْرَمُوا} فصيحةٌ، أي فكذَّبُوهم فانتقمنَا منهم وإنَّما وضعَ موضعَ ضميرهم الموصولُ للتنبيه على مكان المحذوف والإشعار بكونه علَّةً للانتقام وفي قوله تعالى: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ المؤمنين} مزيدُ تشريفٍ وتكرمةٍ للمؤمنينَ حيثُ جُعلوا مستحقّين على الله تعالى أنْ ينصرَهم، وإشعارٌ بأنَّ الانتقامَ من الكفرة لأجله وقد يُوقف على حقًَّا على أنَّه متعلق بالانتقام، ولعلَّ توسيط الآية الكريمة بطريق الاعتراض بين ما سبقَ وما لحقَ من أحوال الرّياح وأحكامها لإنذار الكَفَرة وتحذيرهم عن الإخلال بمواجب الشُّكر المطلوب بقوله تعالى: {لعلَّكم تشكرُون} بمقابلة النعم المعدودة المنوطة بإرسالها كيلا يحلَّ بهم مثلُ ما حلَّ بأولئك الأمم من الانتقام. اهـ.

.قال الألوسي:

ولما ذكر سبحانه ظهور الفساد والهلاك بسبب المعاصي ذكر ظهور الصلاة ولم يذكر عز وجل أنه بسبب العمل الصالح لأن الكريم يذكر لعقابه سببًا لئلا يتوهم منه الظلم ولا يذكر ذلك لإحسانه فقال عز من قائل: {وَمنْ ءاياته أَن يُرْسلَ الرياح}.
الجنوب ومهبها من مطلع سهيل إلى مطلع الثريا والصبا ومهبها من مطلع الثريا إلى بنات نعش، والشمال ومهبها من بنات نعش إلى مسقط النسر الطائر فإنها رياح الرحمة وأما الدبور ومهبها من مسقط النسر الطائر إلى مطلع سهيل فريح العذاب، وذكر أن الثلاثة الأول تلقح السحاب الماطر وتجمعه فلذا كانت رحمة، وعن أبي عبيدة الشمال عند العرب للروح والجنوب للإمطار والإنداء والصبا لإلقاح الأشجار والدبور للبلاء وأهونه أن تثير غبارًا عاصفًا يقذي العين وهي أقلهن هبوبًا، وروى الطبراني والبيهقي في سننه عن ابن عباس من حديث ذكر فيه ما كان يفعله ويقوله صلى الله عليه وسلم إذا هاجت ريح: «اللهم اجعلها رياحًا ولا تجعلها ريحًا» وهو مبني على أن الرياح للرحمة والريح للعذاب، وفي النهاية العرب تقول: لا تلقح السحاب إلا من رياح مختلفة فكأنه قال صلى الله عليه وسلم اللهم اجعلها لقاحًا للسحاب ولا تجعلها عذابًا ثم قال: وتحقيق ذلك مجىء الجمع في آيات الرحمة والواحد في قصص العذاب كالريح العقيم وريحًا صرصرًا، وقال بعضهم: أن ذاك لأن الريح إذا كانت واحدة جاءت من جهة واحدة فصدمت جسم الحيوان والنبات من جهة واحدة فتؤثر فيه أثرًا أكثر من حاجته فتضره ويتضرر الجانب المقابل لعكس ممرها ويفوته حظه من الهواء فيكون داعيًا إلى فساده بخلاف ما إذا كانت رياحًا فإنها تعم جوانب الجسم فيأخذ كل جانب حظه فيحدث الاعتدال، وأنت تعلم أنه قد تفرد الريح حيث لا عذاب كما في قوله تعالى: {وَجَرَيْنَ بهم بريحٍ طَيّبَةٍ} [يونس: 22] وقوله سبحانه: {ولسليمان الريح} [الأنبياء: 18] والحديث مختلف فيه فرمز السيوطي لحسنه، وقال الحافظ الهيثمي: في سنده حسين بن قيس وهو متروك وبقية رجاله رجال الصحيح، ورواه ابن عدي في الكامل من هذا الوجه وأعله بحسين المذكور، ونقل تضعيفه عن أحمد والنسائي.
نعم إن الحافظ عزاه في الفتح لأبي يعلى وحده عن أنس رفعه، وقال إسناده صحيح فليحفظ ذلك.
وقرأ ابن كثير والكسائي والأعمش {الريح} مفردًا على إرادة معنى الجمع ولذا قال سبحانه: {مبشرات} أي بالمطر {وَليُذيقَكُمْ مّن رَّحْمَته} يعني المنافع التابعة لها كتذرية الحبوب وتخفيف العفونة وسقي الأشجار إلى غير ذلك من اللطف والنعم، وقيل: الخصب التابع لنزول المطر المسبب عنها أو الروح الذي هو مع هبوبها، ولا وجه للتخصيص، والواو للعطف، والعطف على علة محذوفة دل عليها {مبشرات} أي ليبشركم وليذيقكم أو على {مبشرات} باعتبار المعنى فإن الحال قد يقصد بها التعليل نحو أهن زيدًا مسيئًا أي لإساءته فكأنه قيل: لتبشركم وليذيقكم، وكونه من عطف التوهم توهم أو على {يُرْسلُ} بإضمار فعل معلل والتقدير ويرسلها ليذيقكم، وكون التقدير ويجري الرياح ليذيقكم بعيد قيل: أو على جملة ومن آياته الخ بتقدير وليذيقكم أرسلها أو فعل ما فعل، ولم يعتبره بعضهم لأن المقصود اندراج الإذاقة في الآيات، وقيل: الواو زائدة {وَلتَجْرىَ الفلك} في البحر عند هبوبها {بأَمْره} عز وجل وإنما جىء بهذا القيد لأن الريح قد تهب ولا تكون مواتية فلابد من انضمام إرادته تعالى وأمره سبحانه للريح حتى يتأتى المطلوب، وقيل: للإشارة إلى أن هبوبها مواتية أمر من أموره تعالى التي لا يقدر عليها غيره عز وجل: {وَلتَبْتَغُوا من فَضْله} بتجارة البحر {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي ولتشكروا نعمة الله تعالى فيما ذكر.
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا من قَبْلكَ رُسُلًا إلى قَوْمهمْ} اعتراض لتسليته صلى الله عليه وسلم بمن قبله على وجه يتضمن الوعد له عليه الصلاة والسلام والوعيد لمن عصاه، وفي ذلك أيضًا تحذير عن الإخلال بمواجب الشكر.
والمراد بقومهم أقوامهم والإفراد للاختصار حيث لا لبس والمعنى ولقد أرسلنا من قبلك رسلًا إلى أقوامهم كما أرسلناك إلى قومك {فَجَاءوهُمْ بالبينات} أي جاء كل قوم رسولهم بما يخصه من البينات كما جئت قومك ببيناتك {فانتقمنا منَ الذين أَجْرَمُوا} الفاء فصيحة أي فآمن بعض وكذب بعض فانتقمنا، وقيل: أي فكذبوهم فانتقمنا منهم ووضع الموصول موضع ضميرهم للإشعار بالعلة والتنبيه على مكان المحذوف، وجوز أن تكون تفصيلًا للعموم بأن فيهم مجرمًا مقهورًا ومؤمنًا منصورًا {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ المؤمنين} فيه مزيد تشريف وتكرمة للمؤمنين حيث جعلوا مستحقين على الله تعالى أن ينصرهم وإشعار بأن الانتقام لأجلهم، والمراد بهم ما يشمل الرسل عليهم الصلاة والسلام، وجوز تحصيص ذلك بالرسل بجعل التعريف عهديًا، وظاهر الآية أن هذا النصر في الدنيا، وفي بعض الآثار ما يشعر بعدم اختصاصه بها وأنه عام لجميع المؤمنين فيشمل من بعد الرسل من الأمة.
أخرج ابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من امرىء مسلم يرد عن عرض أخيه إلا كان حقًا على الله تعالى أن يرد عنه نار جهنم يوم القيامة ثم تلا عليه الصلاة والسلام وكان حقًا علينا نصر المؤمنين» وفي هذا إشعار بأن {حَقًّا} خبر كان {وَبَشّر المؤمنين} الاسم كما هو الظاهر، وإنما أخر الاسم لكون ما تعلق به فاصلة وللاهتمام بالخبر إذ هو محط الفائدة على ما في البحر.
قال ابن عطية: ووقف بعض القراء على {حَقًّا} على أن اسم كان ضمير الانتقام أي وكان الانتقام حقًا وعدلًا لا ظلمًا، ورجوعه إليه على حد {اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ للتقوى} [المائدة: 8] و{عَلَيْنَا نَصْرُ المؤمنين} جملة مستأنفة وهو خلاف الظاهر المؤيد بالخبر وإن لم يكن فيه محذور من حيث المعنى. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَمنْ آيَاته أَنْ يُرْسلَ الرّيَاحَ مُبَشّرَاتٍ}.
عود إلى تعداد الآيات الدالة على تفرده بالإلهية فهو عطف على جملة {ومن ءاياته أن تقوم السماء والأرض بأمره} [الروم: 25] وما تخلل بينهما من أفانين الاستدلال على الوحدانية والبعث ومن طرائق الموعظة كان لتطرية نشاط السامعين لهذه الدلائل الموضّحة المبينة.
والإرسال مستعار لتقدير الوصول، أي يُقدر تكوين الرياح ونظامها الذي يوجهها إلى بلد محتاج إلى المطر.
والمبشرات: المؤذنة بالخير وهو المطر.
وأصل البشارة: الخبر السارّ.
شبهت الرياح برسل موجهة بأخبار المسرّة.
وتقدم ذكر البشارة عند قوله تعالى: {وبشر الذين ءامنوا وعملوا الصالحات} في سورة البقرة (25)، وقوله: {وإذا بُشّر أحدُهم بالأنثى} في سورة النحل (58)، وذلك أن الرياح تسوق سحاب المطر إلى حيث يمطر.
وتقدم الكلام على الرياح في آيات كثيرة منها قوله تعالى: {وتصريف الرياح} في سورة البقرة (164) وعلى {كونها لواقح} في سورة الحجر (22).
وقوله: {وليذيقكم} عطف على {مُبشرات} لأن {مبشرات} في معنى التعليل للإرسال.
وتقدم الكلام على الإذاقة آنفًا.
و{من رحمته} صفة لموصوف محذوف دل عليه فعل {ليذيقكم} أي: مذوقًا.
و{من} ابتدائية، ورحمة الله: هي المطر.
وجريان الفلك بالرياح من حكمة خلق الرياح ومن نعمه، وتقدم في آية سورة البقرة (164).
والتقييد بقوله: {بأمره} تعليم للمؤمنين وتحقيق للمنة، أي: لولا تقدير الله ذلك وجعله أسباب حصوله لما جرت الفلك، وتحت هذا معان كثيرة يجمعها إلهام الله البشر لصنع الفلك وتهذيب أسباب سيرها.
وخلق نظام الريح والبحر لتسخير سيرها كما دل على ذلك قوله: {ولعلكم تشكرون} وقد تقدم ذلك في سورة الحج (36)، وتقدم هنالك معنى {لتبتغوا من فضله}.
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا منْ قَبْلكَ رُسُلًا إلَى قَوْمهمْ فَجَاءُوهُمْ بالْبَيّنَات}.
هذه جملة معترضة مستطرَدة أثارها ذكر سير الفلك في عداد النعم فعُقب ذلك بما كان سير الفلك فيه تذكير بنقمة الطوفان لقوم نوح، وبجعل الله الفلكَ لنجاة نوح وصالحي قومه من نقمة الطوفان، فأريد تحذير المكذبين من قريش أن يصيبهم ما أصاب المكذبين قبلهم، وكان في تلك النقمة نصر المؤمنين، أي نصر الرسل وأتباعهم؛ ألا ترى إلى حكاية قول نوح: {ربّ انصرني بما كذبون} في سورة المؤمنين (26)، وقوله تعالى هنا: {وكان حقًّا علينا نصر المؤمنين} والواو اعتراضية وليست للعطف.
والانتقام: افتعال من النَّقْم وهو الكراهية والغضب، وفعله كضرب وعلم قال تعالى: {وما تنقم منا} [الأعراف: 126].
وفي المثل: مثَله كمثل الأرقم إن يُقتل يَنقَم بفتح القاف وإن يترك يَلْقم.
والانتقام: العقوبة لمن يفعل ما لا يرضي كأنه صيغ منه الافتعال للدلالة على حصول أثر النقم، وقد تقدم عند قوله تعالى: {وما تنقم منا} وقوله: {فانتقمنا منهم} في سورة الأعراف (136).
وكلمة {حقًا علينا} من صيغ الالتزام، قال تعالى حكاية عن موسى عليه السلام: {حقيقٌ عليّ أن لا أقول على الله إلاَّ الحق} [الأعراف: 105]، وهو محقوق بكذا، أي: لازم له، قال الأعشى:
لمحقوقة أن تستجيبي لصوته

فإن وعد الصادق حق.
قال تعالى: {وعدًا علينا إنّا كُنّا فاعلين} [الأنبياء: 104].
وقد اختصر طريق الإفصاح عن هذا الغرض أعني غرض الوعد بالنصر والوعيد له فأُدرج تحت ذكر النصر معنَى الانتصار، وأدرج ذكر الفريقين: فريق المصدقين الموعود، وفريق المكذبين المتوعَّد، وقد أُخلي الكلام أولًا عن ذكرهما.
وعن أبي بكر شعبة راوي عاصم أنه كان يقف على قوله: {حَقًّا} فيكون في {كان} ضمير يعود على الانتقام، أي وكان الانتقامُ من المجرمين حقًا، أي: عدلًا، ثم يستأنف بقوله: {علينا نصرُ المؤمنين} وكأنه أراد التخلص من إيهام أن يكون للعباد حق على الله إيجابًا فرارًا من مذهب الاعتزال وهو غير لازم كما علمت.
قال ابن عطية: وهو وقف ضعيف، وكذلك قال الكواشي عن أبي حاتم. اهـ.