فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{وَمنْ آيَاته أَنْ يُرْسلَ الرّيَاحَ مُبَشّرَاتٍ}.
يرسل رياحَ الرجاء على قلوب العباد فتكنس عن قلوبهم غبارَ الخوف وغُثَاء اليأس، ثم يرسل عليها أمطار التوفيق فتحملهم إلى بساط الجُهْد، وتكرمهم بقوى النشاط. ويرسل رياحَ البسط على أرواح الأولياء فيطهرها من وحشة القبض، وينشر فيها إرادة الوصال. ويرسل رياحَ التوحيد فتهب على أسرار الأصفياء فيطهرها من آثار العناء، ويبشرها بدوام الوصال، فذلك ارتياحٌ به ولكن بعد اجتياحٍ عنك.
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا منْ قَبْلكَ رُسُلًا إلَى قَوْمهمْ فَجَاءُوهُمْ بالْبَيّنَات فَانْتَقَمْنَا منَ الَّذينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمنينَ (47)}.
أرسلنا من قبلك رسلًا إلى عبادنا، فَمَنْ قابلهم بالتصديق وصل إلى خلاصة التحقيق، ومَنْ عارضَهم بالجحود أذقناهم عذابَ الخلود، فانتقمنا من الذين أجرموا، وأخذناهم من حيث لم يحتسبوا، وشَوَّشْنا عليهم ما أَمَّلوا، ونقضنا عليهم ما استطابوا وتَنَعَّموا، وأخذنا بخناقهم فحاق بهم ما مكروا.
{وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمنينَ} بتوطئتهم بأعقاب أعدائهم، ولم يلبثوا إلا يسيرًا حتى رقيناهم فوق رقابهم، وخرَّبنا أوطانَ أعدائهم، وهدَّمنا بنيانهم، وأخمدنا نيرانَهم، وعَطَّلْنا عنهم ديارهم، ومَحَوْنا بقَهْر التدمير آثارَهم، فظَلَّتْ شموسهُم كاسفة، ومكيدةُ قَهْرنا لهم بأجمعهم خاسفة. اهـ.

.تفسير الآيات (48- 53):

قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذي يُرْسلُ الرّيَاحَ فَتُثيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ في السَّمَاء كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ منْ خلَاله فَإذَا أَصَابَ به مَنْ يَشَاءُ منْ عبَاده إذَا هُمْ يَسْتَبْشرُونَ (48) وَإنْ كَانُوا منْ قَبْل أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهمْ منْ قَبْله لَمُبْلسينَ (49) فَانْظُرْ إلَى آثَار رَحْمَت اللَّه كَيْفَ يُحْيي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتهَا إنَّ ذَلكَ لَمُحْيي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلّ شَيْءٍ قَديرٌ (50) وَلَئنْ أَرْسَلْنَا ريحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا منْ بَعْده يَكْفُرُونَ (51) فَإنَّكَ لَا تُسْمعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إذَا وَلَّوْا مُدْبرينَ (52) وَمَا أَنْتَ بهَاد الْعُمْي عَنْ ضَلَالَتهمْ إنْ تُسْمعُ إلَّا مَنْ يُؤْمنُ بآيَاتنَا فَهُمْ مُسْلمُونَ (53)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما أقام سبحانه الدليل على البعث وإقامة الوجود بتصريفه الرياح كيف يشاء وأتبعه آية التسلية والتهديد، وكان عذاب المذكورين فيها بالريح أو ما هي سببه أو لها مدخل فيه، أتبع ذلك الإعلام بأنه مختص بذلك سبحانه تنبيهًا على عظيم آية الرياح للخص على تدبرها، مؤكدًا لأمر البعث ومصرحًا به، فقال ثانيًا الكلام عن مقام العظمة الذي اقتضته النقمة إلى الاسم الأعظم الجامع الذي نظره إلى النعمة أكثر من نظره إلى النقمة: {الله} أي وحده {الذي يرسل} مرة بعد أخرى لأنه المتفرد بالكمال فلا كفوء له: {الرياح} مضطربة هائجة بعد أن كانت ساكنة، وفي قراءة الجمهور بالجمع خلافًا لابن كثير وحمزة والكسائي تنبيه على عظيم الصنع في كونه يفعل ما ذكره بأي ريح أراد {فتثير سحابًا} لم يكن له وجود.
ولما أسند الإثارة إلى الرياح، نزع الإسناد إليها في البسط والتقطيع فإنه لم يجعل فيه قوة شيء من ذلك ليعلم أن الكل فعله فقال: {فيبسطه} بعد اجتماعه {في السماء} أي جهة العلو.
ولما كان أمر السحاب في غاية الإعجاب في وجوده بعد أن لم يكن وأشكاله وألوانه وجميع أحواله في اجتماعه وافتراقه وكثافته وما فيه من مطر ورعد وبرق وغير ذلك مما لا يعلمه حق علمه إلا الله تعالى، أشار سبحانه إلى ذلك بأداة الاستفهام وإن كانوا قد عدوها هنا شرطية فقال: {كيف} أي كما {يشاء} أي في ناحية شاء قليلًا تارة كمسيرة ساعة أو يوم، وكثيرًا أخرى كمسيرة أيام على أوضاع مختلفة تدلك قطعًا على أنه فعله وحده باختياره لا مدخل فيه لطبيعة ولا غيرها.
ولما كان المراد بذلك كونه على هيئة الاتصال، دل عليه بقوله: {ويجعله} أي إذا أراد {كسفًا} أي قطعًا غير متصل بعضها ببعض اتصالًا يمنع نزول الماء {فترى} أي بسبب إرسال الله له أو بسبب جعله ذا مسامٌ وفرج يا من أهلية الرؤية، أو يا أشرف خلقنا الذي لا يعرف هذا حق معرفته سواه {الودق} أي المطر المتقاطر القريب الواسع {يخرج من خلاله} أي السحاب الذي هو اسم جنس في حالتي الاتصال والانفصال.
ولما كان سبحانه قد سبب عن ذلك سرور عباده لما يرجون من أثره وإن كانوا كثيرًا ما يشاهدون تخلف الأثر لعوارض ينتجها سبحانه، قال مسببًا عن ذلك مشيرًا بأداة التحقق إلى عظيم فضله وتحقق إنعامه: {فإذا أصاب} أي الله {به من} أي أرض من {يشاء} ونبه على أن ذلك فضل منه لا يجب عليه لأحد أصلًا شيء بقوله: {من عباده} أي الذين لم تزل عبادته واجبة عليهم، وهم جديرون بملازمة شكره، والخضوع لأمره، خاصًا لهم بقدرته واختياره، وبين خفتهم بإسراعهم إلى الاستبشار مع احتمال العاهات، جامعًا ردًا على معنى {من} أو على العباد لأن الخفة من الجماعة أفحش فقال: {إذا هم يستبشرون} أي يظهر عليهم البشر، وهو السرور الذي تشرق له البشرة حال الإصابة ظهورًا بالغًا عظيمًا بما يرجونه مما يحدث عنه من الأثر النافع من الخصب والرطوبة واللين؛ ثم بين طيشهم وعجزهم بقوله: {وإن} أي والحال أنهم {كانوا} في الزمن الماضي كونًا متمكنًا في نفوسهم، وبين رب يأسهم من استبشارهم دلالة على سرعة انفعالهم وكثرة تقلبهم بالجار، فقال: {من قبل أن ينزل} أي المطر بأيسر ما يكون عليه سبحانه {عليهم} ثم أكد عظم خفتهم وعدم قدرتهم بقوله: {من قبله} أي الاستبشار سواه من غير تخلل زمان يمكن أن يدعي لهم فيه تسبب في المطر {لمبلسين} أي ساكتين على ما في أنفسهم تحيرًا ويأسًا وانقطاعًا، فلم يكن لهم على الإتيان بشيء من ذلك حيلة، ولا لمعبوداتهم صلاحية له باستقلال ولا وسيلة.
ولما انكشف بذلك الغطاء، وزاحت الشبه، أعرض سبحانه عنهم على تقدير أن يكون ترى لمن فيه أهلية الرؤية إيذانًا بأنه لا فهم لهم ملتفتًا إلى خلاصة الخلق الصالح للتلقي عنه قائلًا مسببًا عن ذلك: {فانظر} ولما كان المراد تعظيم النعمة، وأن الرزق أكثر من الخلق، عبر بحرف الغاية إشارة إلى تأمل الأقصى بعد تأمل الأدنى فقال: {إلى آثار} ولما لم يكن لذلك سبب سوى سبق رحمته لغضبه قال: {رحمت الله} للجامع لمجامع العظة، وأظهر ولم يضمر تنبيهًا على ما في ذلك من تناهي العظمة في تنوع الزروع بعد سقيا الأرض واهتزازها بالنبات واخضرار الأشجار واختلاف الثمار، وتكون الكل من ذلك الماء.
ولما كان هذا من الخوارق العظيمة، ولكنه قد تكرر حتى صار مألوفًا، نبه على عظمته بأنه أهل لأن يسأل عنه فقال: {كيف يحيي} أي هذا الأثر أو الله مرة بعد أخرى {الأرض} بإخراج ما ذكر منها.
ولما كانت قدرته على تجديد إحيائها دائة- على ما أشار إليه المضارع ودعا إليه مقصود السورة، أشار إلى ذلك أيضًا بترك الجار فقال: {بعد موتها} بانعدام ذلك.
ولما كان هذا دالًا على القدرة على إعادة الموتى ولابد لأنه مثله سواء، فإن جميع ما لا ينبته الآدميون يتفرق في الأرض بعد كونه هشيمًا تذروه الرياح، ويتفتت بحيث يصير ترابًا، فإذا نزل عليه الماء عاد كما كان أو أحسن قال: {إن ذلك} أي العظيم الشأن الذي قدر على هذا {لمحيي الموتى} كلها من الحيوانات والنباتات، أي ما زال قادرًا على ذلك ثابتًا له هذا الوصف ولا يزال {وهو} مع ذلك {على كل شيء} من ذلك وغيره {قدير} لأن نسبة القدرة منه سبحانه إلى كل ممكن على حد سواء.
ولما كان تكرار مشاهدتهم لمثل هذا الاقتدار لا يفيدهم علمًا بالله تعالى، دل على ذلك بقوله، لافتًا الكلام إلى سياق العظمة تنبيهًا على عظيم عفوه سبحانه مع تمام القدرة، مؤكدًا له غاية التأكيد، تنبيهًا على أنه ليس من شأن العقلاء عدم الاستفادة بالمواعظ، معبرًا بأداة الشك، تنبيهًا على أن إنعامه أكثر من انتقامه، مؤكدًا بالقسم لإنكارهم الكفر: {ولئن أرسلنا} بعد وجود هذا الأثر الحسن {ريحًا} عقيمًا {فرأوه} أي الأثر، ويجوز أن يكون الضمير للريح من التعبير بالسبب عن المسبب {مصفرًا} قد ذبل وأخذ في التلف من شدة يبس الريح إما بالحر أو البرد {لظلوا} أي لداموا وعزتنا لها يجددون الكفر أبدًا وإن كان ظل معناه: دام نهارًا، وعبر بالماضي موضع المستقبل نحو ليظللن والله تأكيدًا لتحقيقه، ولعله عبر بالظلول لأن مدة النوم لا تجديد فيها للكفر، ولذلك أتى فيها بحرف التبعيض حيث قال: {من بعده} أي بعد اصفراره {يكفرون} بيأسهم من روح الله وجحودهم لما أسلف إليهم من النعم بعد ما تكرر من تعرفه سبحانه إليهم بالإحسان، بعد ما التقت حلقتا البطان، وكان وكان فلا هم عند السراء بالرحمة شكروا، ولاعند الضراء بالنقمة صبروا، بل لم يزيدوا هناك على الاستبشار، ولا نقصوا هنا شيئًا من تجديد الكفر والإصرار، فلم يزالوا لعدم استبصارهم على الحالة المذمومة، ولم يسبقوا في إزاله النقم، ولا إنالة النعم، فكانوا أضل من النعم.
ولما كان هذا كله من حالهم في سرعة الحزن والفرح في حالتي الشدة والرخاء وإصرارهم على تجديد الكفر دليلًا على خفة أحلامهم، وسوء تدبرهم، فإنهم لا للآيات المرئية يعون، ولا للمتلوة عليهم يسمعون، سبب عن ذلك التعريف بأن أمرهم ليس لأحد غيره سبحانه وهو قد جعلهم أموات المعاني، فقال ممثلًا لهم بثلاثة أصناف من الناس، وأكده لأنهم ينكرون أن يكون حالهم كذلك والنبي صلى الله عليه وسلم شديد السعي في إسماعهم والجهد في ذلك: {فإنك} أي استدامتهم لكفرهم هذا تارة في الرخاء وتارة في الشدة وقوفًا مع الأثر من غير نظر ما إلى المؤثر وأنت تتلو عليهم آياته، وتنبههم على بدائع بيناته بسبب أنك {لا تسمع الموتى} أي ليس في قدرتك إسماع الذين لا حياة لهم، فلا نظر ولا سمع، أو موتى القلوب، إسماعًا ينفعهم، لأنه مما اختص به سبحانه، وهؤلاء منهم من هم مثل الأموات لأن الله تعالى قد ختم على مشاعرهم {ولا تسمع} أي أنت في قراءة الجماعة غير ابن كثير {الصم} أي الذين لا سمع لهم أصلًا، وذكر ابن كثير الفعل من سمع ورفع الصم على أنه فاعل، فكان التقدير: فإن من مات أو مات قلبه ولا يسمع ولا يسمع الصم {الدعاء} إذا دعوتهم، ثم لما كان الأصم قد يحس بدعائك إذا كان مقبلًا بحاسة بصره قال: {إذا ولوا} وذكر الفعل ولم يقل: ولت، إشارة إلى قوة التولي لئلا يظن أنه أطلق على المجانبة مثلًا، ولذا بنى من فاعله حالًا هي قوله: {مدبرين}.
ولما بدأ بفاقد حاسة السمع لأنها أنفع من حيث إن الإنسان إنما يفارق غيره من البهائم بالكلام، أتبعها حاسة البصر مشيرًا بتقديم الضمير إلى أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد في هدايتهم اجتهاد من كأنه يفعله بنفسه تدريبًا لغيره في الاقتصاد في الأمور فقال: {وما أنت بهاد العمي} أي بموجد لهم هداية وإن كانوا يسمعون، هذا في قراءة الجماعة غير حمزة، وجعله حمزة فعلًا مضارعًا مسندًا إلى المخاطب من هدى، فالتقدير: وما أنت تجدد هداية العمي {عن ضلالتهم} إذا ضلوا عن الطريق فأبعدوا وإن كان أدنى ضلال- بما أشار إليه التأنيث، وإن أتعبت نفسك في نصيحتهم، فإنهم لا يسلكون السبيل إلا وأيديهم في يدك ومتى غفلت عنهم وأنت لست بقيوم رجعوا إلى ضلالهم، فالمنفي في هذه الجملة في قراءة الجمهور ما تقتضيه الاسمية من دوام الهداية مؤكدًا، وقراءة حمزة ما يقتضيه المضارع من التجدد وفي التي قبلها ما تقتضيه الفعليه المضارعة من التجدد ما دام مشروطًا بالإدبار، وفي الأولى تجدد السماع مطلقًا فهي أبلغ ثم التي بعدها، فممثول الصنف الأول من لا يقبل الخير بوجه ما مثل أبي جهل وأبيّ بن خلف، والثاني من قد يقارب مقاربة ما مثل عتبة بن ربيعة حين كان يقول لهم: خلو بين هذا الرجل وبين الناس، فإن أصابوه فهو ما أردتم وإلا فعزه عزكم، والثالث المنافقون، وعبر في الكل بالجمع لأنه أنكأ- والله الموفق.
ولما كان ذلك كناية عن إيغالهم في الكفر، بينه ببيان أن المراد موت القلب وصممه وعماه لا الحقيقي بقوله: {إن} أي ما {تسمع إلا من يؤمن} أي يجدد إيمانه مع الاستمرار مصدقًا {بآياتنا} أي فيه قابلية ذلك دائمًا، فهو يذعن للآيات المسموعة، ويعتبر بالآيات المصنوعة، وأشار بالإفراد في الشرط إلى أن لفت الواحد عن رأيه أقرب من لفته وهو مع غيره، وأشار بالجمع في الجزاء إلى أن هذه الطريقة إن سلكت كثر التابع فقال: {فهم} أي فتسبب عن قبولهم لذلك أنهم {مسلمون} أي منقادون للدليل غاية الانقياد غير جامدين مع التقليد. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{اللَّهُ الَّذي يُرْسلُ الرّيَاحَ فَتُثيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ في السَّمَاء كَيْفَ يَشَاءُ}.
بين دلائل الرياح على التفصيل الأول في إرسالها قدرة وحكمة.
أما القدرة فظاهرة فإن الهواء اللطيف الذي يشقه الودق يصير بحيث يقلع الشجر وهو ليس بذاته كذلك فهو بفعل فاعل مختار، وأما الحكمة ففي نفس الهبوب فيما يفضي إليه من إثارة السحب، ثم ذكر أنواع السحب فمنه ما يكون متصلًا ومنه ما يكون منقطعًا، ثم المطر يخرج منه والماء في الهواء أعجب علامة للقدرة، وما يفضي إليه من إنبات الزرع وإدرار الضرع حكمة بالغة، ثم إنه لا يعم بل يختص به قوم دون قوم وهو علامة المشيئة.
وقوله تعالى: {وَإن كَانُوا من قَبْل أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهمْ مّن قَبْله} اختلف المفسرون فيه، فقال بعضهم هو تأكيد كما في قوله تعالى: {فَكَانَ عاقبتهما أَنَّهُمَا في النار خالدين فيهَا} [الحشر: 17] وقال بعضهم من قبل التنزيل من قبل المطر، والأولى أن يقال من قبل أن ينزل عليهم من قبله، أي من قبل إرسال الرياح، وذلك لأن بعد الإرسال يعرف الخبير أن الريح فيها مطر أو ليس، فقبل المطر إذا هبت الريح لا يكون مبلسًا، فلما قال من قبل أن ينزل عليهم لم يقل إنهم كانوا مبلسين، لأن من قبله قد يكون راجبًا غالبًا على ظنه المطر برؤية السحب وهبوب الرياح فقال من قبله، أي من قبل ما ذكرنا من إرسال الريح وبسط السحاب، ثم لما فصل قال: {فانظر إلى ءاثار رَحْمَة الله كَيْفَ يُحْى الأرض بَعْدَ مَوْتهَا إنَّ ذَلكَ لَمُحْى الموتى} لما ذكر الدلائل قال لمحيي باللام المؤكدة وباسم الفاعل، فإن الإنسان إذا قال إن الملك يعطيك لا يفيد ما يفيد قوله إنه معطيك، لأن الثاني يفيد أنه أعطاك فكان وهو معط متصفًا بالعطاء، والأول يفيد أنه سيتصف به ويتبين هذا بقوله إنك ميت فإنه آكد من قوله إنك تموت {وَهُوَ على كُلّ شيء قَديرٌ} تأكيد لما يفيد الاعتراف.
{وَلَئنْ أَرْسَلْنَا ريحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا منْ بَعْده يَكْفُرُونَ (51)}.
لما بين أنهم عند توقف الخير يكونون مبلسين آيسين، وعند ظهوره يكونون مستبشرين، بين أن تلك الحالة أيضًا لا يدومون عليها، بل لو أصاب زرعهم ريح مصفر لكفروا فهم منقلبون غير ثابتين لنظرهم إلى الحال لا إلى المآل، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى:
قال في الآية الأولى {يُرْسلُ الرياح} على طريقة الإخبار عن الإرسال، وقال هاهنا {وَلَئنْ أَرْسَلْنَا} لا على طريقة الإخبار عن الإرسال، لأن الرياح من رحمته وهي متواترة، والريح من عذابه وهو تعالى رؤوف بالعباد يمسكها، ولذلك نرى الرياح النافعة تهب في الليالي والأيام في البراري والآكام، وريح السموم لا تهب إلا في بعض الأزمنة وفي بعض الأمكنة.