فصل: التفسير المأثور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال ابن عطية: وقف بعض القراء على حقًا وجعله من الكلام المتقدم، ثم استأنف جملة من قوله: {علينا نصر المؤمنين} وهذا قول ضعيف، لأنه لم يدر قدر ما عرضه في نظم الآية.
وقال الزمخشري: وقد يوقف على {حقًا} ومعناه: وكان الانتقام منهم حقًا، ثم يبتدأ علينا {نصر المؤمنين}. انتهى.
وفي الوقف على {وكان حقًا} بيان أنه لم يكن الانتقام ظلمًا، بل عدلًا، لأنه لم يكن إلا بعد كون بقائهم غير مفيد إلاّ زيادة الإثم وولادة الفاجر الكافر، فكان عدمهم خيرًا من وجودهم الخبيث.
{الله الذي يرسل الرياح} هذا متعلق بقوله: {ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات} والجملة التي بينهما اعتراض، جاءت تأنيسًا للرسول وتسلية ووعدًا بالنصر ووعيدًا لأهل الكفر، وفي إرسالها قدرة وحكمة.
أما القدرة، فإن الهواء اللطيف الذي يسبقه البرق بحيث يقلع الشجر ويهدم البناء، وهو ليس بذاته يفعل ذلك، بل بفاعل مختار.
وأما الحكمة، ففيما يفضي إليه نفس الهبوب من إثارة السحب، وإخراج الماء منه، وإنبات الزرع، ودر الضرع، واختصاصه بناس دون ناس؛ وهذه حكمة بالغة معروفة بالمشيئة والإثارة، تحريكها وتسييرها.
والبسط: نشرها في الآفاق، والكسف: القطع.
وتقدم الكلام على قوله: {فترى الودق يخرج من خلاله} وذكر الخلاف في {كسفًا} وحاله من جهة القراء.
والضمير في: {من خلاله} الظاهر أنه عائد على السحاب، إذ هو المحدث عنه، وذكر الضمير لأن السحاب اسم جنس يجوز تذكيره وتأنيثه.
قيل: ويحتمل أن يعود على {كسفًا} في قراءة من سكن العين، والمراد بالسماء: سمت السماء، كقوله: {وفرعها في السماء} {فإذا أصاب به من يشاء} أي أرض من يشاء إصابتها، فاجأهم الاستبشار، ولم يتأخر سرورهم.
وقال الأخفش: {من قبله} تأكيد لقوله: {من قبل أن ينزل عليهم}.
قال ابن عطية: أفاد الإعلام بسرعة تقلب قلوب البشر من الإبلاس إلى الاستبشار، وذلك أن قوله: {من قبل أن ينزل عليهم} يحتمل الفسحة في الزمان، أي من قبل أن ينزل بكثير، كالأيام ونحوه، فجاء قوله: {من قبل} بمعنى: أن ذلك متصل بالمطر، فهو تأكيد مقيد.
وقال الزمخشري: وبمعنى التوكيد، فيه الدلالة على أن عهدهم بالمطر قد تطاول وبعد، فاستحكم يأسهم وتمادى إبلاسهم، فكان الاستبشار على قدر اهتمامهم بذلك. انتهى.
وما ذكره ابن عطية والزمخشري من فائدة التأكيد في قوله: {من قبله} غير ظاهر، وإنما هو عند ذكره لمجرد التوكيد، ويفيد رفع المجاز فقط.
وقال قطرب: التقدير: وإن كانوا من قبل التنزيل، من قبل المطر. انتهى.
وصار من قبل إنزال المطر: من قبل المطر، وهذا تركيب لا يسوغ في كلام فصيح، فضلًا عن القرآن.
وقيل: التقدير: من قبل تنزيل الغيث: من قبل أن يزرعوا، ودل المطر على الزرع، لأنه يخرج بسبب المطر؛ ودل على ذلك قوله: {فرأوه مصفرًا} يعني الزرع. انتهى.
وهذا لا يستقيم، لأن {من قبل أن ينزل عليهم} متعلق بقوله: {لمبلسين}.
ولا يمكن من قبل الرزع أن يتعلق بمبلسين، لأن حرفي جر لا يتعلقان بعامل واحد إلا إن كان بواسطة حرف العطف، أو على جهة البدل.
وليس التركيب هنا ومن قبله بحرف العطف، ولا يصح فيه البدل، إذا إنزال الغيث ليس هو الزرع، ولا الزرع بعضه.
وقد يتخيل فيه بدل الاشتمال بتكلف.
أما لاشتمال الإنزال على الزرع، بمعنى أن الزرع يكون ناشئًا عن الإنزال، فكأن الإنزال مشتمل عليه، وهذا على مذهب من يقول: الأول يشتمل على الثاني.
وقال المبرد: الثاني السحاب، ويحتاج أيضًا إلى حرف عطف حتى يمكن تعلق الحرفين بمبلسين.
وقال علي بن عيسى: من قبل الإرسال.
وقال الكرماني: ومن قبل الاستبشار، لأنه قرنه بالإبلاس، ولأنه منّ عليهم بالاستبشار.
انتهى.
ويحتاج قوله وقول ابن عيسى إلى حرف العطف، فإن ادعى في قوله من جعل الضمير في من قبله عائد إلى غير إنزال الغيث أن حرف العطف محذوف، أمكن، لكن في حذف حرف العطف خلاف، أينقاس أم لا ينقاس؟ أما حذفه مع الجمل فجائز، وأما وحده فهو الذي فيه الخلاف.
وقرأ الحرميان، وأبو عمرو، وأبو بكر: إلى أثر، بالإفراد؛ وباقي السبعة: بالجمع؛ وسلام: بكسر الهمزة وإسكان الثاء.
وقرأ الجحدري، وابن السميفع، وأبو حيوة: تحيي، بالتاء للتأنيث، والضمير عائد على الرحمة.
وقال صاحب اللوامح: وإنما أنث الأثر لاتصاله بالرحمة إضافة إليها، فاكتسب التأنيث منها، ومثل ذلك لا يجوز إلا إذا كان المضاف بمعنى المضاف إليه، أو من سببه.
وأما إذا كان أجنبيًا، فلا يجوز بحال. انتهى.
وقرأ زيد بن علي: نحيي، بنون العظمة؛ والجمهور: {يحيي} بياء الغيبة، والضمير لله، ويدل عليه قراءة {آثار} بالجمع، وقيل: يعود على أثر في قراءة من أفرد.
وقال ابن جني: {كيف يحيي} جملة منصوبة الموضع على الحال حملًا على المعنى، كأنه قال: محييًا، وهذا فيه نظر.
{إن ذلك} أي القادر على إحياء الأرض بعد موتها، هو الذي يحيي الناس بعد موتهم.
وهذا الإخبار على جهة القياس في البعث، والبعث من الأشياء التي هو قادر عليها تعالى.
{ولئن أرسلنا ريحًا} أخبر تعالى عن حال تقلب ابن آدم، أنه بعد الاستبشار بالمطر، بعث الله ريحًا، فاصفر بها النبات.
لظلوا يكفرون قلقًا منهم، والريح التي تصفر النبات صر حرور، وهما مما يصبح به النبات هشيمًا، والحرور جنب الشمال إذا عصفت.
والضمير في {فرأوه} عائد على ما يفهم من سياق الكلام، وهو النبات.
وقيل: إلى الأثر، لأن الرحمة هي الغيث، وأثرها هو النبات.
ومن قرأ: آثار، بالجمع، رجع الضمير إلى آثار الرحمة، وهو النبات، واسم النبات يقع على القليل والكثير، لأنه مصدر سمى به ما ينبت.
وقال ابن عيسى: الضمير في {فرأوه} عائد على السحاب، لأن السحاب إذا اصفر لم يمطر؛ وقيل: على الريح، وهذان قولان ضعيفان.
وقرأ صباح بن حبيش: مصفارًا، بألف بعد الفاء.
واللام في {ولئن} مؤذنة بقسم محذوف وجوابه لظلوا، وهو مما وضع فيه الماضي موضع المستقبل اتساعًا تقديره: ليظلن، ونظيره قوله تعالى: {ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك} أي ما يتبعون ذمهم تعالى في جميع أحوالهم، كان عليهم أن يتوكلوا على فضل الله فقنطوا، وإن شكروا نعمته فلم يزيدوا على الفرح والاستبشار، وإن تصبروا على بلائه كفروا.
والضمير في {من بعده} عائد على الاصفرار، أي من بعد اصفرار النبات تجحدون نعمته.
وتقدم الكلام على قوله: {فإنك لا تسمع الموتى} إلى قوله: {فهم مسلمون} في أواخر النمل، إلا أن هنا الربط بالفاء في قوله: {فإنك}. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{اللَّهُ الَّذي يُرْسلُ الرّيَاحَ فَتُثيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ في السَّمَاء كَيْفَ يَشَاءُ}.
أخرج أبو الشيخ في العظمة عن السدي رضي الله عنه قال: يرسل الله الريح فتأتي بالسحاب من بين الخافقين- طرف السماء حين يلتقيان- فتخرجه ثم تنشره فيبسطه في السماء كيف يشاء، فيسيل الماء على السحاب، ثم يمطر السحاب بعد ذلك.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: يرسل الله الريح، فتحمل الماء من السحاب، فتمر به السحاب، فتدر كما تدر الناقة، وثجاج مثل العزالي غير أنه متفرق.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة رضي الله عنه في قوله: {فيبسطه في السماء} قال: يجمعه ويجعله {كسفا} قال: قطعًا.
وأخرج أبو يعلى وابن المنذر عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {ويجعله كسفًا} قال: قطعًا يجعل بعضها فوق بعض {فترى الودق} قال: المطر {يخرج من خلاله} قال: من بينه.
وأخرج الفريابي عن مجاهد رضي الله عنه في قوله: {فترى الودق} قال: القطر.
وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك رضي الله عنه في قوله: {ويجعله كسفًا} قال: سماء دون سماء وفي قوله: {لمبلسين} قال: القنطين.
{فَإنَّكَ لَا تُسْمعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إذَا وَلَّوْا مُدْبرينَ (52)}.
أخرج مسلم وابن مردويه عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك قتلى بدر أيامًا حتى جيفوا، ثم أتاهم فقام يناديهم، فقال: «يا أمية بن خلف، يا أبا جهل بن هشام، يا عتبة بن ربيعة؛ هل وجدتم ما وعد ربكم حقًا؟ فسمع عمر رضي الله عنه صوته فجاء فقال: يا رسول الله تناديهم بعد ثلاث وهل يسمعون؟ يقول الله: {إنك لا تسمع الموتى} فقال: والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع منهم، ولكنهم لا يطيقون أن يجيبوا».
وأخرج البخاري ومسلم والنسائي وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: وقف النبي صلى الله عليه وسلم على قليب بدر فقال: «هل وجدتم ما وعد ربكم حقًا؟ ثم قال: إنهم الآن يسمعون ما أقول» فذكر لعائشة رضي الله عنها فقالت: إنما قال النبي صلى الله عليه وسلم: إنهم الآن ليعلمون أن الذي كنت أقول لهم هو الحق، ثم قرأت {إنك لا تسمع الموتى} حتى قرأت الآية.
وأخرج أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي من طريق قتادة قال: ذكر لنا أنس بن مالك عن أبي طلحة رضي الله عنهما أن نبي الله صلى الله عليه وسلم أمر يوم بدر بأربعة وعشرين رجلًا من صناديد قريش، فقذفوا في طوى من أطواء بدر خبيث مخبث، وكان إذا ظهر على قوم أقام بالْعَرَصَة ثلاث ليال، فلما كان ببدر اليوم الثالث أمر براحلته فشد عليها رحلها، ثم مشى واتبعه أصحابه قالوا: ما ترى ينطلق إلا لبعض حاجته حتى قام على شفة الركى فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم. يا فلان بن فلان، ويا فلان ابن فلان، «أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله؟ فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقًا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقًا؟» فقال عمر رضي الله عنه: يا رسول الله ما تكلم من أجساد لا أرواح فيها: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنهم لأسمع لما أقول منكم» قال قتادة: أحياهم الله حتى أسمعهم قوله، توبيخًا وتصغيرًا ونقمة وحسرة وندمًا.
وأخرج ابن مردويه من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: نزلت هذه الآية في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لأهل بدر {إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين}. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
{وَمنْ آيَاته أَنْ يُرْسلَ الرّيَاحَ مُبَشّرَاتٍ}.
قوله: {الرياح} قرأ العامَّةُ {الرياحَ} جمعًا لأجل مبشّراتٍ. والأعمش بالإفراد، وأراد الجنسَ لأجل {مبشّرات}.
قوله: {وليُذيْقَكم} إمَّا عطفٌ على معنى {مُبَشّرات} لأنَّ الحالَ والصفةَ يُفْهمان العلةَ، فكأنَّ التقديرَ: ليبشّرَ وليذيقَكم، وإمَّا أَن يتعلَّقَ بمحذوفٍ، أو وليذيقَكم أرسلَها، وإمَّا أَنْ تكون الواوُ مزيدةً على رأيٍ، فتتعلَّقَ اللامُ ب {أَنْ يُرْسلَ}.
قوله: {وَكَانَ حَقًّا} بعضُ الوَقَفَة يقف على {حقًا} ويَبْتدئ بما بعدَه، يجعل اسمَ كان مضمرًا فيها و{حقًا} خبرُها. أي: وكان الانتقامُ حقًا. قال ابن عطية: وهذا ضعيفٌ؛ لأنه لم يَدْر قَدْرَ ما عَرَضَه في نَظْم الآية يعني الوقفَ على {حَقًَّا}. وجعل بعضُهم {حَقًَّا} منصوبًا على المصدر، واسمُ كان ضميرُ الأمر والشأن، و{علينا} خبرٌ مقدمٌ، و{نَصْرُ} مبتدأ مؤخرٌ. وبعضُهم جَعَلَ {حقًا} منصوبًا على المصدر أيضًا، و{علينا} خبرٌ مقدم، و{نَصْرُ} اسمٌ مؤخر. والصحيحُ أنَّ {نَصْر} اسمها، و{حَقًَّا} خبرُها، و{علينا} متعلقٌ ب {حَقًا} أو بمحذوفٍ صفةً له.
{وَإنْ كَانُوا منْ قَبْل أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهمْ منْ قَبْله لَمُبْلسينَ (49)}.
قوله: {مّن قَبْله} فيه وجهان، أحدهما: أنه تكريرٌ ل {منْ قَبل} الأولى على سبيل التوكيد. والثاني: أَنْ يكونَ غيرَ مكررٍ. وذلك أن يُجعلَ الضميرُ في {قَبْله} للسحاب. وجاز ذلك لأنه اسمُ جنسٍ يجوز تذكيرُه وتأنيثُه، أو للريح، فتتعلَّقُ {منْ} الثانيةُ ب {يُنَزَّل}. وقيل: يجوزُ عَوْدُ الضمير على {كسَفا} كذا أطلق أبو البقاء. والشيخ قَيَّده بقراءة مَنْ سَكَّن السين. وقد تقدَّمَتْ قراءاتُ {كسَفًا} في سبحان. وللناس في هذا الموضع كلامٌ كثيرٌ رأيتُ ذكْرَه لتوضيح معناه.
وقد أبْدى كلٌّ من الشيخَيْن: الزمخشريّ وابن عطية فائدةَ التأكيد المذكور. فقال ابن عطية: أفادَ الإعلامَ بسرعة تَقَلُّب قلوب البشر من الإبلاس إلى الاستبشار؛ وذلك أن قوله: {من قَبْل أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهمْ} يحتملُ الفُسْحَةَ في الزمان، أي: من قبل أَنْ يُنَزّل بكثيرٍ كالأيَّام ونحوه فجاء {منْ قبله} بمعنى أنَّ ذلك متصلٌ بالمطر فهو تأكيدٌ مفيدٌ.
وقال الزمخشري: ومعنى التوكيد فيه الدلالةُ على أن عَهْدَهم بالمطر قد بَعُدَ فاسْتحكم يَأْسُهم وتمادَى إبْلاسُهم، فكان استبشارُهم على قَدْر اغتمامهم بذلك. وهو كلامٌ حسنٌ.
إلاَّ أنَّ الشيخَ لم يَرْتَضه منهما فقال: ما ذكراه من فائدة التأكيد غيرُ ظاهرٍ، وإنما هو لمجرَّد التوكيد ويُفيد رَفْعَ المجاز فقط. انتهى. ولا أدري عدمُ الظهور لماذا؟ وقال قطرب: وإن كانوا منْ قبل التنزيل منْ قبل المطَر. وقيل: التقديرُ منْ قبل إنزال المطر منْ قَبْل أَنْ يَزْرعوا. ودَلَّ المطرُ على الزرع؛ لأنه يَخْرج بسبب المطر. ودلَّ على ذلك قوله: {فَرَأَوْه مُصْفَرًَّا} يعني الزرعَ؛ قال الشيخ: وهذا لا يَسْتقيم؛ لأنَّ {من قَبْل أَن يُنَزَّلَ} متعلّقٌ ب {مُبْلسيْن} ولا يمكن منْ قَبْل الزَّرْع أَنْ يتعلَّقَ بمُبْلسين؛ لأنَّ حرفَيْ جرّ لا يتعلَّقان بعاملٍ واحدٍ إلاَّ بوساطة حرف العطف أو البدل، وليس هنا عطفٌ والبدلُ لا يَجوز؛ إذ إنزالُ الغيث ليس هو الزرعَ ولا الزرعُ بعضَه. وقد يُتَخَيَّلُ فيه بدلُ الاشتمال بتكلُّفٍ: إمَّا لاشتمال الإنزال على الزَّرْع، بمعنى: أنَّ الزرعَ يكون ناشئًا عن الإنزال، فكأن الإنزالَ مُشْتملٌ عليه. وهذا على مذهب مَنْ يقول: الأولُ مشتملٌ على الثاني.
وقال المبردُ: الثاني السحابُ؛ لأنهم لَمَّا رَأَوْا السحابَ كانوا راجين المطرَ انتهى. يريد منْ قبل رؤية السحاب. ويحتاج أيضًا إلى حَرْف عطفٍ ليصحَّ تعلُّقُ الحرفين ب {مُبْلسين}. وقال الرمَّاني: من قبل الإرسال. والكرماني: من قَبْل الاستبشار؛ لأنه قَرَنه بالإبلاس، ولأنه مَنَّ عليهم بالاستبشار. ويحتاج قولُهما إلى حرف العطف لما تقدَّم، وادّعاءُ حرف العطف ليس بالسهل؛ فإنَّ فيه خلافًا: بعضُهم يَقيسُه، وبعضُهم لا يقيسه. هذا كلُّهُ في المفردات. أمَّا إذا كان في الجمل فلا خلافَ في اقتياسه.
{فَانْظُرْ إلَى آثَار رَحْمَت اللَّه كَيْفَ يُحْيي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتهَا إنَّ ذَلكَ لَمُحْيي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلّ شَيْءٍ قَديرٌ (50)}.
قوله: {إلى آثَار} قرأ ابن عامر والأخَوان وحفص بالجمع، والباقون بالإفراد. وسلام بكسر الهمزة وسكون الثاء، وهي لغةٌ فيه.
وقرأ العامَّةُ {كيف يُحْيي} بياء الغَيْبة أي: أثر الرحمة فيمَنْ قرأ بالإفراد، ومَنْ قرأ بالجمع فالفعلُ مسندٌ لله تعالى، وهو مُحْتَمَلٌ في الإفراد أيضًا. والجحدري وأبو حيوة وابن السَّمَيْفع {تُحْيي} بتاء التأنيث. وفيها تخريجان، أظهرهما: أنَّ الفاعلَ عائدٌ على الرحمة. والثاني قاله أبو الفضل: عائدٌ على أثر، وأنَّثَ {أثر} لاكتسابه بالإضافة التأنيثَ، كنظائرَ له تقدَّمَتْ. ورُدَّ عليه: بأن شرطَ ذلك كَوْنُ المضاف بمعنى المضاف إليه، أو منْ سببه لا أجنبيًا، وهذا أجنبيٌّ. و{كيف يُحْيي} مُعَلّقٌ ل {انظرْ} فهو في محلّ نصب على إسقاط الخافض. وقال أبو الفتح: الجملةُ منْ {كيف يُحْيي} في موضع نصبٍ على الحال حَمْلًا على المعنى. انتهى وكيف تقع جملةُ الطلب حالًا؟
{وَلَئنْ أَرْسَلْنَا ريحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا منْ بَعْده يَكْفُرُونَ (51)}.
قوله: {فَرَأَوْهُ} أي: فَرَأَوْا النباتَ، لدلالة السياق عليه، أو على الأثر؛ لأنَّ الرحمةَ هي الغيث، وأثرُها هو النبات. وهذا ظاهرٌ على قراءة الإفراد، وأمَّا على قراءة الجمع فيعودُ على المعنى. وقيل: الضمير للسَّحاب. وقيل: للريح. وقرأ جناح بن حبيش {مُصْفارًَّا} بألفٍ. و{لَظَلُّوا} جوابُ القسم الموطَّأ له ب {لَئنْ} وهو ماضٍ لفظًا مستقبلٌ معنى كقوله: {مَّا تَبعُوا قبْلَتَكَ} [البقرة: 145].
وتقدَّم الكلامُ على نحو {فَإنَّكَ لاَ تُسْمعُ} إلى آخره في الأنبياء وفي النمل، وكذلك في قراءَتَيْ {ضعف} وما الفرقُ بينهما في الأنفال؟.
والضميرُ في {منْ بعده} يعودُ على الاصفرار المدلول عليه بالصفة كقوله:
إذا نُهي السَّفيهُ جَرَى إليه

أي: إلى السَّفَه لدلالة السَّفيه عليه. اهـ.