فصل: قال عبد الكريم الخطيب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال عبد الكريم الخطيب:

قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذي خَلَقَكُمْ منْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ منْ بَعْد ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ منْ بَعْد قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَليمُ الْقَديرُ}.
عادت الآيات مرة أخرى، لتصل العرض الذي تجلّى فيه آيات اللّه، وتعرض فيها دلائل قدرته على الناس، من مؤمنين وكافرين، فيجد فيها المؤمنون نظرا مجدّدا إلى قدرة اللّه، وإلى علمه، وحكمته، فيزداد إيمانهم تمكينا في قلوبهم، وإشراقا في نفوسهم، على حين تقوم على المشركين والضالين من هذه الآيات حجة أخرى، إلى جانب ما قام عليهم من حجج، بكفرهم وضلالهم.
وفي الآية الكريمة صورة من الصّور الحسّية التي يعيش فيها الناس، ويمرّ بها كل فرد من أفرادهم، على اختلاف أجناسهم، وألوانهم، وأوطانهم.
فبدء حياة الإنسان تكون صورة باهتة من صور الحياة، لا يكاد يرى ظلّها إلا البصر النافذ، حيث يبدأ خلق الإنسان من نطفة، لا تبدو في مرأى العين أكثر من سائل مختلط، أشبه بالمخلط. ثم يتدرج الإنسان من نطفة إلى علقة، إلى مضغة، إلى عظام، إلى لحم يكسو هذا العظام.
ثم إلى وليد ينشقّ عنه رحم الأم، وإذا هو إنسان يأخذ مكانه في المجتمع البشرى، وبتدرج في مدارج الحياة، من الطفولة إلى الصبا، إلى الشباب والكهولة، ثم ينحدر إلى الشيخوخة والهرم.
هذا هو بعض ما للّه في الإنسان. فلينظر الإنسان ممّ خلق؟ ثم لينظر كيف دار دورته في الحياة، كما يدور القمر في دورته من الهلال إلى المحاق!
قوله تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسمُ الْمُجْرمُونَ ما لَبثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ} وهذا الإنسان الذي خلق من ضعف، والذي تعهدته القدرة الإلهية، فأخرجت من هذا الضعف، قوة وعقلا، وبصرا، وسمعا- هذا الإنسان قد كفر بخالقه، وأبى أن يجعل ولاءه له وحده، فاتخذ من دونه شركاء، وإذا حشود كثيرة في جميع الأزمان والأمكنة، تجتمع على الكفر باللّه، وتعيش في هذا الضلال، لا تعمل ليوم الجزاء والحساب، ولا تؤمن به، حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة، وراجعوا حسابهم مع دنياهم التي أفنوا حياتهم فيها، وجدوا أنها لم تكن إلا لحظة عابرة، بل لقد بلغ بهم الأمر أن أيقنوا هذا، وتحققوا منه، فأقسموا أنهم لم يلبثوا غير ساعة. ولا شك أن هذا غير الواقع، وأن الوهم هو الذي يحيّل لهم قصر الزمن الذي مضى. فقد عاش كل منهم سنين في الدنيا، لا ساعة، ولا يوما، ولا شهرا. ولكن هكذا الدنيا، التي اتخذها الضالون المشركون، لهوا ولعبا، فلم يعمروها بالتقوى والأعمال الصالحة. ولهذا جاء قوله تعالى: {كَذلكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ} مكذّبا مقولتهم تلك، وإنها إفك من إفكهم، وضلال من ضلالهم، الذي كانوا عليه في الدنيا. ذلك أنهم وهم في الدنيا قد رأوا الحق باطلا، والهدى ضلالا، والخير شرّا. ووقع في وهمهم أنهم على الحق، وأن ما يمسكون به من ضلال هو الهدى. وقد صحبهم هذا الإفك في حياتهم الآخرة، فأقسموا هذا القسم الكاذب، أنهم ما لبثوا في دنياهم غير ساعة! وقوله تعالى: {وَقالَ الَّذينَ أُوتُوا الْعلْمَ وَالْإيمانَ لَقَدْ لَبثْتُمْ في كتاب اللَّه إلى يَوْم الْبَعْث فَهذا يَوْمُ الْبَعْث وَلكنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}.
هو ردّ على هؤلاء المجرمين، الذين أقسموا هذا القسم، وأنهم ما لبثوا غير ساعة، وفي هذا الرد تصحيح لما وهموه من لبثهم في الدنيا. وهذا التصحيح إنما يجيئهم من أهل العلم والإيمان الذين يقولون لهم: {لَقَدْ لَبثْتُمْ في كتاب اللَّه إلى يَوْم الْبَعْث}. وكتاب اللّه، هو علمه الذي حدّد به آجال الناس، وأزمانهم، وأودع فيه أعمالهم، وما هو كائن في هذا الوجود.
وقوله تعالى: {فَهذا يَوْمُ الْبَعْث} هو خبر يراد به التقريع والنّخس لهؤلاء المجرمين، فهم يعرفون أن هذا اليوم الذي هم فيه هو يوم البعث، وإخبارهم به هو تذكير لهم بما كان منهم من إنكار له، وسخرية واستهزاء بمن كانوا يحدّثونهم به، والذين كانوا يغرسون في الدنيا ليجنوا ثمار ما غرسوا في الآخرة، وفي ذلك ما يزيد في آلام المكذبين ويضاعف حسرتهم.
وفي قوله تعالى: {وَلكنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} تقريع بعد تقريع، ونخسة بعد نخسة! وفي قرن العلم بالإيمان، إشارة إلى أن العلم الذي لا يثمر عملا لا قيمة له، وكثير من الذين أوتوا العلم لا يؤمنون باللّه، بل تغلب عليهم شقوتهم، ويصبح العلم الذي علموه حجّة عليهم، يضاعف لهم به العقاب، وفي هذا يقول اللّه تعالى في علماء بنى إسرائيل: {يا أَهْلَ الْكتاب لمَ تَلْبسُونَ الْحَقَّ بالْباطل وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (71: آل عمران) ويقول سبحانه: {وَإنَّ الَّذينَ أُوتُوا الْكتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ منْ رَبّهمْ} (144: البقرة) ويقول جل شأنه: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَريقٌ منْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّه ثُمَّ يُحَرّفُونَهُ منْ بَعْد ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (75: البقرة). فالعلم الذي لا يعمل صاحبه بمقتضى ما علم، هو شؤم على صاحبه، لأنه لا يهتدى معه إلى خير أبدا. على خلاف الذي لا علم عنده، فإنه قد يطلب العلم، وقد يجد الهدى مما علم.
قوله تعالى: {فَيَوْمَئذٍ لا يَنْفَعُ الَّذينَ ظَلَمُوا مَعْذرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ}.
أي أنه في يوم القيامة، لا يقبل من معتذرين عذر، ولا يطلب منهم أن يقيموا عذرا لما كان منهم من ضلال وكفر. لقد جلّ الأمر عن العتاب. إذ أنه إنما يعاتب من يرجى منه إصلاح ما أفسد. وأما وأنه لا عمل بعد اليوم، فإنه لا عتاب، وإنما حساب وجزاء. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{اللَّهُ الَّذي خَلَقَكُمْ منْ ضَعْفٍ}.
هذا رابع استئناف من الأربعة المتقدمة رجوع إلى الاستدلال على عظيم القدرة في مختلف المصنوعات من العوالم لتقرير إمكانية البعث وتقريب حصوله إلى عقول منكريه لأن تعدد صور إيجاد المخلوقات وكيفياته من ابتدائها عن عدم أو من إعادتها بعد انعدامها وبتطور وبدونه مما يزيد إمكان البعث وضوحًا عند منكريه، فموقع هذه الآية كموقع قوله: {الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابًا} [الروم: 48] ونظائرها كما تقدم؛ ولذلك جاءت فاتحتها على أسلوب فواتح نظائرها وهذا ما يؤذن به تعقيبها بقوله: {ويَوم تقوم الساعة يقسم المجرمون} [الروم: 55] الآية.
ثم قوله: {الله الذي خلقكم} مبتدأ وصفة، وقوله: {يخلق ما يشاء} هو الخبر، أي يخلق ما يشاء مما أخبر به وأنتم تنكرون.
والضعف بضم الضاد في الآية وهو أفصح وهو لغة قريش.
ويجوز في ضاده الفتح وهو لغة تميم.
وروى أبو داود والترمذي عن عبد الله ابن عمر قال: قرأتها على رسول الله {الذي خلقكم من ضَعف} يعني بفتح الضاد فأقرأني: {من ضُعف} يعني بضم الضاد.
وقرأ الجمهور ألفاظ {ضعف} الثلاثة بضم الضاد في الثلاثة.
وقرأها عاصم وحمزة بفتح الضاد، فلهما سند لا محالة يعارض حديثَ ابن عمر.
والجمع بين هذه القراءة وبين حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم نطق بلغة الضم لأنها لغة قومه، وأن الفتح رخصة لمن يقرأ بلغة قبيلة أخرى، ومن لم يكن له لغة تخصه فهو مخيَّر بين القراءتين.
والضعف: الوهن واللين.
و{من} ابتدائية، أي: مبتدَأ خلقه من ضعف، أي: من حالة ضعف، وهي حالة كونه جنينًا ثم صبيًا إلى أن يبلغ أشده، وهذا كقوله: {خلق الإنسان من عجل} [الأنبياء: 37] يدل على تمكن الوصف من الموصوف حتى كأنه منتزع منه، قال تعالى: {وخلق الإنسان ضعيفًا} [النساء: 28].
والمعنى: أنه كما أنشأكم أطوارًا تبتدىء من الوهن وتنتهي إليه فكذلك ينشئكم بعد الموت إذ ليس ذلك بأعجب من الإنشاء الأول وما لحقه من الأطوار، ولهذا أخبر عنه بقوله: {يخلق ما يشاء}.
وذكر وصف العلم والقدرة لأن التطور هو مقتضى الحكمة وهي من شؤون العلم، وإبرازُه على أحكم وجه هو من أثر القدرة.
وتنكير {ضعف وقوة} للنوعية؛ ف {ضُعف} المذكور ثانيًا هو عين {ضُعف} المذكور أولًا، و{قوة} المذكورة ثانيًا عين {قوة} المذكورة أولًا.
وقولهم: النكرة إذا أُعيدت نكرة كانت غير الأولى، يريدون به التنكير المقصود منه الفرد الشائع لا التنكير المراد به النوعية.
وعطف {وشيبة} للإيماء إلى أن هذا الضعف لا قوة بعده وأن بعده العدم بما شاع من أن الشيب نذير الموت.
والشيبة: اسم مصدر الشيب.
وقد تقدم في قوله تعالى: {واشتعل الرأس شيبًا} في سورة مريم (4).
{وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسمُ الْمُجْرمُونَ مَا لَبثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ}.
لما ذكر عدم انتفاع المشركين بآيات القرآن وشبهوا بالأموات والصم والعمي فظهرت فظاعة حالهم في العاجلة أتبع ذلك بوصف حالهم حين تقوم الساعة في استصحاب مكابرتهم التي عاشوا عليها في الدنيا، بأن الله حين يعيد خلقهم وينشىء لهم أجسامًا كأجسامهم ويعيد إليهم عقولهم يكون تفكيرهم يومئذ على وفاق ما كانوا عليه في الدنيا من السفسطة والمغالطة والغرور، فإذا نُشروا من القبور وشعروا بصحة أجسامهم وعقولهم وكانوا قد علموا في آخر أوقات حياتهم أنهم ميتون خامرتهم حينئذ عقيدة إنكار البعث وحجتُهم السفسطائية من قولهم {هل نَدُلُّكم عَلى رَجُل يُنْبئكُم إذَا مُزقْتم كُلَّ مُمزق إنكُّم لَفي خَلْقٍ جَديد} [سبأ: 7]، هنالك يريدون أن يقنعوا أنفسهم بصحة دليلهم القديم ويلتمسون اعتلالًا لتخلف المدلول بعلة أن بعثهم ما كان إلا بعد ساعة قليلة من وقت الدفن قبل أن تنعدم أجزاء أجسامهم فيخيل إليهم أنهم مُحقُّون في إنكاره في الدنيا إذ كانوا قد أخبروا أن البعث يكون بعد فناء الأجسام، فهم أرادوا الاعتذار عن إنكارهم البعث حين تحققوه بما حاصله: أنهم لو علموا أن البعث يكون بعد ساعة من الحُلول في القبر لأقروا به.
وقد أنبأ عن هذا تسمية كلامهم هذا معذرة بقوله عقبه: {فيومئذ لا ينفع الذين ظلموا معذرتهم} [الروم: 57].
وهذه فتنة أصيبوا بها حين البعث جعلها الله لهم ليكونوا هُزأة لأهل النشور.
ويتضح غلطهم وسوء فهمهم كما دل عليه قوله تعالى بعد ذلك: {وقال الذين أوتوا العلم والإيمان} الآية [الروم: 56] وقد أومأ إلى أن هذا هو المراد من الآية أنه قال عقب ذلك: {كذلك كانوا يؤفكون} أي كهذا الخطأ كانوا في الدنيا يُصرفون عن الحق بمثل هذه الترهات.
وتقدم شيء من هذا في المعنى عند قوله تعالى: {يَتَخافتون بَيْنهُم إنْ لَبثْتُم إلاَّ عَشرًا نَحْنُ أعْلَم بمَا يَقُولون إذْ يَقُول أمْثَلهم طَريقَة إنْ لَبثْتُم إلاَّ يومًا} في سورة طه (103، 104).
وبلغ من ضلالهم في ذلك أنهم يُقسمون عليه، وهذا بعدَ ما يجري بينهم من الجدال من قول بعضهم: {إنْ لَبثْتُم إلاَّ عَشْرًا} وقول بعضهم: {إنْ لَبثْتُم إلاَّ يَوْمًا} وقول آخرين: {لَبثْنَا يَوْمًا أوْ بَعْض يَوْم} [الكهف: 19] وبعض اليوم يصدق بالساعة، كما حكي عنهم في هذه الآية.
والظاهر أن هذا القسم يتخاطبون به فيما بينهم كما اقتضته آية سورة طه، أو هو حديث آخر أعلنوا به حين اشتد الخلاف بينهم لأن المصير إلى الحلف يؤذن بمشادة ولجاج في الخلاف.
وفي قوله: {السَّاعَة} و{ساعة} الجناس التام.
وجملة {كذلك كانوا يؤفكون} استئناف بياني لأن غرابة حالهم من فساد تقدير المدة والقسم عليه مع كونه توهمًا يثير سؤال سائل عن مثار هذا الوهَم في نفوسهم فكان قوله: {كذلك كَانُوا يُؤْفَكُون} بيانًا لذلك.
ومعناه: أنهم لا عجب في صدور ذلك منهم فإنهم كانوا يجيئون بمثل تلك الأوهام مدة كونهم في الدنيا، فتصرفهم أوهامهم عن اليقين، وكانوا يقسمون على عقائدهم كما في قوله: {وأقْسَموا بالله جَهْدَ أيْمَانهم لاَ يَبْعَث الله مَنْ يَمُوت} [النحل: 38] استخفافًا بالأيمان، وكذلك إشارة إلى انصرافهم عن الحق يوم البعث.
والمشار إليه هو المشبه به والمشبه محذوف دل عليه كاف التشبيه، والتقدير: إفكًا مثل إفكهم هذا كانوا يُؤفكون به في حياتهم الدنيا.
والمقصود من التشبيه المماثلة والمساواة.
والإفك بفتح الهمزة: الصرف وهو من باب ضرب، ويُعدى إلى الشيء المصروف عنه بحرف عن، وقد تقدم في تفسير قوله تعالى: {ليقولُنّ الله فأنَّى يُؤْفَكون} في سورة العنكبوت (60).
ولم يسند إفكهم إلى آفك معين لأن بعض صرفهم يكون من أوليائهم وأيمة دينهم، وبعضَه من طبع الله على قلوبهم.
وإقحام فعل {كانُوا} للدلالة على أن المراد في زمان قبلَ ذلك الزمن، أي في زمن الحياة الدنيا.
والمعنى: أن ذلك خلُق تخلقوا به وصار لهم كالسجية في حياتهم الدنيا حتى إذا أعاد الله إليهم أرواحهم صدر عنهم ما كانوا تخلقوا به وقال تعالى: {قَالَ رَبّ لمَ حَشَرْتَني أعماى وقَد كُنْت بَصيرًا قَال كذلك أتَتْكَ آياتُنا فنسيْتَها وكذلك اليَوْم تُنْسى وكذلك نَجْزي مَنْ أسْرَف} الآية [طه: 125 127] وفي هذا الخبر أدب عظيم للمسلمين أن يتَحامَوْا الرذائل والكبائر في الحياة الدنيا خشية أن تصير لهم خلقًا فيحشروا عليها.
{وَقَالَ الَّذينَ أُوتُوا الْعلْمَ وَالْإيمَانَ لَقَدْ لَبثْتُمْ في كتَاب اللَّه إلَى يَوْم الْبَعْث}.
جعل الله منكري البعث هدفًا لسهام التغليظ والافتضاح في وقت النشور، فلما سمع المؤمنون الذين أوتوا علم القرآن وأشرقت عقولهم في الحياة الدنيا بالعقائد الصحيحة وآثار الحكمة لم يتمالكوا أن لا يردوا عليهم غلطهم ردًا يكون عليهم حسرات أن لا يكونوا قبلوا دعوة الحق كما قبلها المؤمنون.
وهذه الجملة معترضة.
وعطف الإيمان على العلم للاهتمام به لأن العلم بدون إيمان لا يرشد إلى العقائد الحق التي بها الفوز في الحياة الآخرة.
والمعنى: وقال لهم المؤمنون إنكارًا عليهم وتحسيرًا لهم.
والظاهر أن المؤمنين يسمعون تَحَاجَّ المشركين بعضهم مع بعض فيبادرون بالإنكار عليهم لأن تغيير المنكر سجيتهم التي كانوا عليها.
وفي هذا أدب إسلامي وهو أن الذي يسمع الخطأ في الدين والإيمان لا يقره ولو لم يكن هو المخاطَب به.
وقولهم: {لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث} صرف لهم عن تلك المعذرة كأنهم يقولون: دَعُوا عنكم هذا فلا جدوى فيه واشتغلوا بالمقصود وما وُعدتم به من العذاب يوم البعث.
وفعل {لَبثْتُم} مستعمل في حقيقته، أي مكثْتم، أي استقررتم في القبور، والخبر مستعمل في التحزين والترويع باعتبار ما يرد بعده من الإفصاح عن حضور وقت عذابهم.
و{في} من قوله: {في كتَاب الله} للتعليل، أي لبثتم إلى هذا اليوم ولم يعذبوا من قبل لأجل ما جاء في كتاب الله من تهديدهم بهذا اليوم مثل قوله تعالى: {ومنْ وَرَائهم بَرْزَخ إلاى يَوْم يُبْعَثُون} [المؤمنون: 100]، أي: لقد بلغكم ذلك وسمعتموه فكان الشأن أن تؤمنوا به ولا تعتذروا بقولكم مَا لَبثْنا غيرَ سَاعة.