فصل: قال أبو حيان في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فإنْ قلتَ: فمن المصلحة أنْ تظل قلوبهم مفتوحة لعلها تستقبل شيئًا من الهداية والنور. نقول: الخَتْم على قلوب هؤلاء لا يكون إلا بعد استنفاد كل وسائل الدعوة، فلم يستجيبوا فلا أملَ في هدايتهم ولا جدوى من سماعهم.
والحق- سبحانه وتعالى- ربٌّ يعين عبده على ما يحب ويلبي له رغبته، حتى وإنْ كانت الكفر، وهؤلاء أرادوا الكفر وأحبوه، فأعانهم الله على ما أرادوا، وختم على قلوبهم حتى لا يدخلها إيمان، ولا يفارقها كفر.
لذلك سبق أنْ حذَّرنا أصحاب المصائب، أو الذين يفقدون عزيزًا، حذرناهم أنْ يستديموا الحزن، وأنْ يألفوه مخافة أنْ يوافقكم الله على هواكم في محبة الحزن وعشْقه، فتتوالى عليكم الأحزان وتتتابع المصائب، إياكم أن تدعوا باب الحزن مواربًا، بل أغلقوه بمسمار الرضا، فالحزن إنْ ظلَّ بك فلن يدعَ لك حبيبًا.
وكذلك نقول: إن شُغل عنك شخص فلا تُذكّره بنفسك، بل أَعنْهُ على هجرك، وساعده بألاَّ تذكره.
فإذا قلتَ: إذا كان الحق سبحانه قد وصفهم بأنهم لا يعلمون، فلماذا يختم على قلوبهم، ولماذا يحاسبهم؟ نقول: لأن عدم العلم نتيجة تقصيرهم، فالحق سبحانه أقام لهم الأدلة والآيات الكونية الدالة على وجوده تعالى، فلم ينظروا في هذه الآيات ولم يستدلوا بالأدلة على وجود الخالق القادر سبحانه، وضرورة البلاغ من الله، إذن: فعدم علمهم نتيجة غفلتهم وتقصيرهم.
لكن، ماذا بعد أنْ كذَّبوا الرسل وأنكروا الآيات، أتتوقف مسيرة الدعوة، لأنهم صَمُّوا آذانهم عنها؟ لقد خلق الله الكون ونثر فيه الآيات التي تدل على وجود الإله الواحد الأحد، وجعل فيه المعجزات التي تثبت صدْق الرسُل في البلاغ عن الله، والحق سبحانه لا ينتفع بهذه الآيات؛ لأن مُلْكه تعالى لا يزيد بطاعتنا، ولا ينقص بمعاصينا، فالمسألة تعود إلينا نحن أولًا وآخرًا، إذن: فالحسم في هذه المسألة: دَعْكَ من هؤلاء المكذَّبين يا محمد، واتبُتْ على ما أنت عليه.
ثم يقول الحق سبحانه: {فاصبر إنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ}.
اصبر على كرههم، واصبر على لَدَدهم وعنادهم، واصبر على إيذائهم لك ولمن يؤمن بك، اصبر على هذا كله؛ لأن العاقبة في صالحك {إنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ} [الروم: 60]. وقد وعد الله رسله بالنصرة والغَلَبة، ووَعْد الله حق، فتأكد أن النصر آتٍ.
لكن ما دام النصر آتيًا، فلماذا هذا الصراع بين المؤمنين والكافرين؟ ولماذا كل هذه المشقة والعناء في سبيل الدعوة؟ قالوا: لأن الله تعالى يريد أن يُمحّص أتباع محمد، وأن يُدرّبهم على مسئولية حمل أمانة الدعوة وشعلة النور من بعد رسول الله، لا إلى اهل الجزيرة العربية وحدها، إنما إلى الكون كله.
فلابُدَّ أنْ يكونوا من أهل الثبات على المبدأ الذين لا تزعزعهم الشدائد، والدليل على ذلك أنهم يُؤذّوْن ويُضطهدون فيصبرون، وهذه أهم صفة فيمن يُعدُّ لتحمُّل الأمانة.
لذلك نقول: إذا رأيتَ منهجًا أو مبدأ يغدق على أصحابه أولًا، فاعلم أنه مبدأ باطل؛ لأن المبدأ الحق يضحي أهله من أجله بأنفسهم وبأموالهم، يعطونه قبل أنْ يأخذوا منه، لماذا؟ لأن صاحب المبدأ الباطل لن يجد مَنْ يناصره على باطله إلا إذا أغراهم بالمال أولًا واشترى ذممهم، وإلا فماذا يلجئه إلى مبدأ باطل، ويحمله على اتباعه؟ إذن: لابد أن يقبض الثمن أولًا.
أما المبدأ الحق فيعلم صاحبه أن الثمن مُؤجَّل للآخرة، فهو ممنَّى بأشياء فوق هذه الدنيا يؤمن بها ويعمل من أجلها، فتهون عليه نفسه، ويهون عليه ماله في سبيل هذا المبدأ.
وفي رحلة الدعوة، رأينا الكثيرين يتساقطون بالردة عندما تَحْدثُ لرسول الله آية أو هزة تهزُّ الناس، وكأن الشدة غربال يميز هؤلاء وهؤلاء، حتى لا يبقى تحت راية لا إله إلا الله إلا الصناديد الأقوياء القادرون على حمل هذا اللواء إلى العالم كله.
فالله يقول لنبيه: اصبر على تكذيبهم وعلى إنكارهم وعلى ائتمارهم عليك، فنحن مُؤيدوك، ولن نتخلى عنك، وقد وضح لك هذا التأييد حين جاهروك فانتصرت على جهرهم وبيَّتوا لك في الخفاء فانتصرتَ على تبييتهم، واستعانوا حتى بالجن ليفسدوا عليك أمرك، ففضح الله تدبيرهم ونجاك منهم.
إذن: فاطمئن، فنحن لهم بالمرصاد، ولن نُسْلمك أبدًا، بل وسوف نريك فيهم ما يستحقون من العقاب في الدنيا، وتراه بعينك، أو في الآخرة بعد موتك: {فَإمَّا نُريَنَّكَ بَعْضَ الذي نَعدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإلَيْنَا يُرْجَعُونَ} [غافر: 77].
ومن هذا العقاب الذي نزل بهم في الدنيا ورآه سيدنا رسول الله ما حاق بهم يوم بدر من قَتْل وأسْر وتشريد، وقلنا: إن عمر رضي الله عنه وما أدراك ما عمر، فقد كان القرآن ينزل على وَفْق رأيه، ومع ذلك لما نزلت:
{سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر} [القمر: 45] تعجب وقال: أيُّ جمع هذا الذي سيُهزم، ونحن عاجزون حتى حماية أنفسنا، فلما كانت بدر، ورأى ما رأى قال: صدق الله {سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر} [القمر: 45].
وقوله تعالى: {إنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ} [الروم: 60] الوعد: هو البشارة بخير لم يأت زمنه الآن، وفَرْق بين الوعد بالخير من إنسان، والوعد من الله تعالى، فوَعْدكَ قد يختلف لأنك ابن أغيار، ولا تملك كل عناصر الوفاء بالوعد، وربما جاء وقت الوفاء فلم تقدر عليه أو تتغير نفسك من ناحيته فتبخل عليه، أو تراه لا يستحق. إلخ.
إذن: الأغيار التي تنتابك أو تنتابه أو تنتاب قيمة ما تؤديه من الخير موجودة، وقد تحول بينك وبين الوفاء بما وعدتَ.
لذلك يعلمنا الحق سبحانه أنْ نحتاط لهذا الأمر، فيقول سبحانه: {وَلاَ تَقْولَنَّ لشَيْءٍ إنّي فَاعلٌ ذلك غَدًا إلاَّ أَن يَشَاءَ الله} [الكهف: 23-24] فاربط فعْلك بمشيئة الله التي تُيسّر لك الفعل، ولا ينبغي أنْ تجزم بشيء أنتَ لا تملك شيئًا من أسبابه.
قلنا: هَبْ أنك قلتَ: سألقاك غدًا في المكان الفلاني، وسأعطيك كذا وكذا، فأنت قلتَ هذه المقولة ووعدتَ هذا الوعد وأنت لا تضمن أن تعيش لغد، ولا تضمن أنْ يعيش صاحبك، وإنْ عشْتُما لغد فقد يتغير رأيك، أو يصيبك شيء يعوقك عن الوفاء، إذَن: فقولك إنْ شاء الله يحميك أنْ تُوصف بالكذب في حالة عدم الوفاء؛ لأنك وعدتَ ولم يشأ الله، فلا دخلَ لك في الأمر.
فالوعد الحق يأتي ممَّنْ؟ منَ الذي يملك كُلَّ أسباب الوفاء، ولا يمنعه عنه مانع.
وقوله تعالى: {وَلاَ يَسْتَخفَّنَّكَ الذين لاَ يُوقنُونَ} [الروم: 60] خف الشيء: لم يَعُدْ له ثقَل، واستخفّ غيره: طلب منه أنْ يكون خفيفًا، فمثلًا حين تقسو على شخص يأتي آخر فيقول لك: خف عنه. واستخفّه مثل استفزّه يعني: حرّكة وذبذبة من ثباته، فإنْ كان قاعدًا مثلًا هَبَّ واقفًا.
لذلك نقول في مثل هذه المواقف خليك ثقيل. فلان بيستفزك يعني: يريد أنْ يُخرجك عن حلمك وثباتك. متبقاش خفيف. إلخ ونقول للولد فز يعني قفْ انهض، ومنه قوله تعالى: {واستفزز مَن استطعت منْهُمْ بصَوْتكَ وَأَجْلبْ عَلَيْهم بخَيْلكَ وَرَجلكَ} [الإسراء: 64].
إذن: فالمعنى استخفه: حمله على الخفة وأن يتحول عن الثبات الذي هو عليه.
فالمعنى: إياك يا محمد أنْ يستقزّك القوم، أو يُخرجوك عن ثباتك، فتتصادم معهم، لكن ظلّ على ثباتك في دعوتك ولا تقلق؛ لأن الله وعدك بالنصرة ووَعْد الله حَقٌّ. والحق سبحانه ساعة يُرخى العنان لمن كفر به إنما يريد أنْ يُخرج كل ما عندهم حتى لا يبقى لهم عذر، ثم يقابلهم ببعض ما عنده مما يستحقون في الدنيا، والباقي سيرونه في الآخرة.
والله يقول: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلمَتُنَا لعبَادنَا المرسلين إنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون وَإنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون}.
[الصافات: 171-173].
ومن سيرة الإمام علي- رضي الله عنه وكرَّم الله وجهه- علمنا أنه ابتُلي بجماعتين: الخوارج الذين يُكفّرونه، والشيعة الذين يُؤلهونه ويصلون به إلى درجة النبوة، حتى صدق فيه قول رسول الله: «هلك فيك اثنان: مُحب غالٍ، ومبغض قَالٍ».
ويروى أنه- رضي الله عنه- كان يصلي يومًا الفجر بالناس، فلما قرأ: {ولا الضالين} اقترب منه أحد الخوارج وقرأ: {وَلَقَدْ أُوْحيَ إلَيْكَ وَإلَى الذين من قَبْلكَ لَئنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ منَ الخاسرين} [الزمر: 65] يريد أن يقول له: أنت كافر ولن يقبل منك عملك.
وسرعان ما فطن علي لما أراده الرجل، فقرأ بعدها مباشرة: {فاصبر إنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ وَلاَ يَسْتَخفَّنَّكَ الذين لاَ يُوقنُونَ} [الروم: 60]. يعني: لن تُخرجني عن ثباتي وحلْمي ولن تستفزني.
والعظمة في هذا الموقف أنْ يرد عليه لتوّه بالقول الشافي من كتاب الله دون سابق إعداد أو ترتيب، ولمَ لا، وهو علي بن أبي طالب الذي أُوتي باعًا طويلًا في البلاغة والفصاحة والحجة.
ومعنى: {الذين لاَ يُوقنُونَ} [الروم: 60] من اليقين، وهو الإيمان الثابت الذي لا يتزعزع، فيصير عقيدة في القلب لا تطفو إلى العقل لتناقش من جديد. اهـ.

.قال أبو حيان في الآيات السابقة:

{اللَّهُ الَّذي خَلَقَكُمْ منْ ضَعْفٍ}.
لما ذكر دلائل الآفاق، ذكر شيئًا من دلائل الأنفس، وجعل الخلق من ضعف، لكثرة ضعف الإنسان أول نشأته وطفوليته، كقوله: {خلق الإنسان من عجل} والقوة التي تلت الضعف، هي رعرعته ونماؤه وقوته إلى فصل الاكتهال.
والضعف الذي بعد القوة هو حال الشيخوخة والهرم.
وقيل: {من ضعف} من النطفة، كقوله: {من ماء مهين} والترداد في هذه الهيئات شاهد بقدرة الصانع وعلمه.
وقرأ الجمهور: بضم الضاد في ضعف معًا؛ وعاصم وحمزة: بفتحها فيهما، وهي قراءة عبد الله وأبي رجاء.
وروي عن أبي عبد الرحمن والجحدري والضحاك: الضم والفتح في الثاني.
وقرأ عيسى: بضمتين فيهما.
والظاهر أن الضعف والقوة هما بالنسبة إلى ما عدا البدن من ذلك، وإن الضم والفتح بمعنى واحد في ضعف.
وقال كثير من اللغويين: الضم في البدن، والفتح في العقل.
{ما لبثوا} هو جواب، وهو على المعنى، إذ لو حكى قولهم، كان يكون التركيب: ما لبثنا غير ساعة، أي ما أقاموا تحت التراب غير ساعة، وما لبثوا في الدنيا: استقلوها لما عاينوا من الآخرة، أو فيما بين فناء الدنيا إلى البعث، وإخبارهم بذلك هو على جهة التسور والتقول بغير علم، أو على جهة النسيان، أو الكذب.
{يؤفكون} أي يصرفون عن قول الحق والنطق بالصدق.
{الذين أوتوا العلم} هم الملائكة والأنبياء والمؤمنون.
{في كتاب الله} فيما وعد به في كتابه من الحشر والبعث والعلم يعم الإيمان وغيره، ولكن نص على هذا الخاص تشريفًا وتنبيهًا على محله من العلم.
وقيل: {في كتاب الله} اللوح المحفوظ، وقيل: في علمه، وقيل: في حكمه.
وقرأ الحسن: البعث، بفتح العين فيهما، وقرىء: بكسرها، وهو اسم، والمفتوح مصدر.
وقال قتادة: هو على التقديم والتأخير، تقديره: أوتوا العلم في كتاب الله والإيمان.
{لقد لبثتم} وعلى هذا تكون في بمعنى الباء، أي العلم بكتاب الله، ولعل هذا القول لا يصح عن قتادة، فإن فيه تفكيكًا للنظم لا يسوغ في كلام غير فصيح، فكيف يسوغ في كلام الله؟ وكان قتادة موصوفًا بعلم العربية، فلا يصدر عنه مثل هذا القول.
والفاء في: {فهذا يوم البعث} عاطفة لهذه الجملة المقولة على الجملة التي قبلها، وهي: {لقد لبثتم} اعتقبها في الذكر.
قال الزمخشري: فإن قلت: ما هذه الفاء، وما حقيقتها؟ قلت: هي التي في قوله:
فقد جئنا خراسانا.
وحقيقتها أنها جواب شرط يدل عليه الكلام، كأنه قال: إن صح ما قلتم من أن أقصى ما يراد بنا قلنا القفول: قد جئنا خراسانًا، وإذا أمكن جعل الفاء عاطفة، لم يتكلف إضمار شرط، وجعل الفاء جوابًا لذلك الشرط المحذوف، لا تعلمون لتفريطكم في طلب الحق واتباعه.
وقيل: لا تعلمون البعث ولا تعرفون به، فصار مصيركم إلى النار، فتطلبون التأخير.
{فيومئذ} أي يوم إذ، يقع ذلك من إقسام الكفار وقول أولي العلم لهم.
وقرأ الكوفيون: {لا ينفع} بالياء هنا وفي الطول، ووافقهم نافع في الطول؛ وباقي السبعة بتاء التأنيث.
{ولا هم يستعتبون} قال الزمخشري: من قولك: استعتبنى فلان فأعتبته: أي استرضاني فأرضيته، وذلك إذا كان جانيًا عليه، وحقيقته: أعتبته: أزلت عتبه.
ألا ترى إلى قوله:
غضبت تميم أن يقتل عامر ** يوم النثار فأعتبوا بالصيلم

كيف جعلهم غضابًا.
ثم قال: فأعتبوا: أي أزيل غضبهم، والغضب في معنى العتب، والمعنى: لا يقال لهم أرضوا ربكم بتوبة وطاعة، ومثله قوله تعالى: {فاليوم لا يخرجون منها ولا هم يستعتبون} فإن قلت: كيف جعلوا غير مستعتبين في بعض الآيات، وغير معتبين في بعضها؟ وقوله: {وإن يستعتبوا فما هم من المعتبين} قلت: أما كونهم غير مستعتبين، فهذا معناه؛ وأما كونهم غير معتبين، فمعناه أنهم غير راضين بما هم فيه؛ فشبهت حالهم بحال قوم جنى عليهم، فهم عاتبون على الجاني، غير راضين منه.
فإن يستعتبوا الله: أي يسألوه إزالة ما هم فيه، فما هم من المجابين إلى إزالته.
قال ابن عطية: هذا إخبار عن هول يوم القيامة، وشدّة أحواله على الكفرة في أنهم لا ينفعهم الاعتذار، ولا يعطون عتبى، وهو الرضا.
ويستعتبون بمعنى: يعتبون، كما تقول: يملك ويستملك.
والباب في استفعل أنه طلب الشيء وليس هذا منه، لأن المعنى لا يفسد إذا كان المفهوم منه، ولا يطلب منهم عتبى. انتهى.
فيكون استفعل في هذا بمعنى الفعل المجرد، وهو عتب، أي هم من الإهمال وعدم الالتفات إليهم بمنزلة من لا يؤهل للعتب.
وقد قيل: لا يعاتبون على سيئاتهم، بل يعاقبون.
وقيل: لا يطلب لهم العتبى.
وقيل: لا يلتمس منهم عمل وطاعة، ولكن ضربنا إشارة إلى إزالة الأعذار والإتيان بما فوق الكفاية من الإنذار.
وقال الزمخشري: وصفنا لهم كل صفة كأنها مثل في غرابتها، وقصصنا عليهم كل قصة عجيبة الشأن، كصفة المبعوثين يوم القيامة، وما يقال لهم، وما لا يقع من اعتذارهم، ولا يسمع من استعتابهم، ولكنهم لقسوة قلوبهم ومج أسماعهم حديث الآخرة، إذا جئتهم بآية من آيات القرآن قالوا: أجئتنا بزور باطل؟ انتهى.
و{أنتم} خطاب للرسول والمؤمنين، أي: تبطلون في دعواكم الحشر والجزاء.
وقال أبو عبد الله الرازي: وفي توحيد الخطاب بقول: {ولئن جئتهم} والجمع في قوله: {إن أنتم} لطيفة، وهي: أن الله عز وجل قال: {ولئن جئتهم} بكل آية جاءت بها الرسل، فيمكن أن يجاوبوه بقوله: أنتم كلكم أيها المدعون الرسالة مبطلون.
{كذلك يطبع الله} أي مثل هذا الطبع يطبع الله، أي يحتم على قلوب الجهلة الذين قد حتم الله عليهم الكفر في الأزل، وأسند الطبع إلى ذاته تعالى، إذ هو فاعل ذلك ومقدره.
وقال الزمخشري: ومعنى طبع الله: صنع الألطاف التي يشرح لها الصدور حتى تقبل الحق، ثم قال: فكأنه كذلك تصدأ القلوب وتقسو قلوب الجهلة حتى يسموا المحقين مبطلين، وهم أعرف خلق الله في تلك الصفة.
انتهى، وهو على طريقة الاعتزال.
ثم أمره تعالى بالصبر على عداوتهم، وقوّاه بتحقق الوعد أنه لابد من إنجازه والوفاء به، ونهاه عن الاهتزاز بكلامهم والتحرك، فإنهم لا يقين لهم ولا بصيرة.
وقرأ ابن أبي إسحاق، ويعقوب: ولا يستحقنك: بحاء مهملة وقاف، من الاستحقاق؛ والجمهور: بخاء معجمة وفاء، من الاستخفاف؛ وسكن النون ابن أبي عبلة ويعقوب، والمعنى: لا يفتننك ويكونوا أحق بك من المؤمنين. اهـ.