فصل: قال البيضاوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{مَن كَفَرَ فَعَلَيْه كُفْرُهُ} أي وبال كفره {وَمَنْ عَملَ صالحا فَلأَنفُسهمْ يَمْهَدُونَ} أي يسوون لأنفسهم ما يسويه لنفسه الذي يمهد لنفسه فراشه ويوطئه لئلا يصيبه في مضجعه ما ينغص عليه مرقده من نتوء وغيره، والمعنى أنه يمهد لهم الجنة بسبب أعمالهم فأضيف إليهم.
وتقديم الظرف في الموضعين للدلالة على أن ضرر الكفر لا يعود إلا على الكافر، ومنفعة الإيمان والعمل الصالح ترجع إلى المؤمن لا تجاوزه.
ليجزى متعلق ب {يمهدون} تعليل له وتكرير {الذين ءامَنُوا وَعَملُوا الصالحات} وترك الضمير إلى الصريح لتقرير أنه لا يفلح عنده إلا المؤمن {من فَضْله} أي عطائه.
وقوله: {إنَّهُ لاَ يُحبُّ الكافرين} تقرير بعد تقرير على الطرد والعكس {وَمنْ ءاياته} أي ومن آيات قدرته {أَن يُرْسلَ الرياح} هي الجنوب والشمال والصبا وهي رياح الرحمة، وأما الدبور فريح العذاب ومنه قوله عليه السلام: «اللهم اجعلها رياحًا ولا تجعلها ريحًا» وقد عدد الفوائد في إرسالها فقال: {مبشرات} أي أرسلها للبشارة بالغيث {وَليُذيقَكُمْ مّن رَّحْمَته} ولإذاقة الرحمة وهي نزول المطر وحصول الخصب الذي يتبعه والروح الذي مع هبوب الريح وزكاء الأرض وغير ذلك.
{وليذيقكم} معطوف على {مبشرات} على المعنى كأنه قيل: ليبشركم وليذيقكم {وَلتَجْرىَ الفلك} في البحر عند هبوبها {بأَمْره} أي بتدبيره أو بتكوينه كقوله: {إنَّمَا أَمْرُهُ إذَا أَرَادَ شَيْئًا} [يس: 82] الآية.
{وَلتَبْتَغُوا من فَضْله} يريد تجارة البحر {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} ولتشكروا نعمة الله فيها.
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا من قَبْلكَ رُسُلًا إلى قَوْمهمْ فَجَاءوهُم بالبينات} أي فآمن بهم قوم وكفر بهم قوم، ويدل على هذا الإضمار قوله: {فانتقمنا منَ الذين أَجْرَمُوا} أي كفروا بالإهلاك في الدنيا {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ المؤمنين} أي وكان نصر المؤمنين حقًا علينا بإنجائهم مع الرسل.
وقد يوقف على {حقًا} ومعناه وكان الانتقام منهم حقًا ثم يبدأ {علينا نصر المؤمنين} والأول أصح {الله الذي يُرْسلُ الرياح} {الريح} مكي {فَتُثيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ} أي السحاب {فى السماء} أي في سمت السماء وشقها كقوله: {وَفَرْعُهَا في السماء} [إبراهيم: 24] {كَيْفَ يَشَاء} من ناحية الشمال أو الجنوب أو الدبور أو الصبا {وَيَجْعَلُهُ كسَفًا} قطعًا جمع كسفة أي يجعله منبسطًا يأخذ وجه السماء مرة ويجعله قطعًا متفرقة غير منبسطة مرة.
{كسفا} يزيد وابن ذكوان {فَتَرَى الودق} المطر {يَخْرُجُ} في التارتين جميعًا {منْ خلاَله} وسطه {فَإذَا أَصَابَ به} بالودق {مَن يَشَاء منْ عبَاده} يريد إصابة بلادهم وأراضيهم {إذَا هُمْ يَسْتَبْشرُونَ} يفرحون.
{وَإن كَانُوا من قَبْل أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهمْ} المطر {من قَبْله} كرر للتأكيد كقوله: {فَكَانَ عاقبتهما أَنَّهُمَا في النار خالدين فيهَا} [الحشر: 17] ومعنى التوكيد فيها الدلالة على أن عهدهم بالمطر قد تطاول فاستحكم بأسهم فكان الاستبشار على قدر اغتمامهم بذلك {لَمُبْلسينَ} آيسين {فانظر إلى ءاثار} شامي وكوفي غير أبي بكر.
وغيرهم {أَثَر} {رَّحْمَة الله} أي المطر {كَيْفَ يُحْيى الأرض} بالنبات وأنواع الثمار {بَعْدَ مَوْتهَا إنَّ ذَلكَ} أي الله {لمحيي الموتى} يعني أن ذلك القادر الذي يحيي الأرض بعد موتها هو الذي يحيي الناس بعد موتهم، فهذا استدلال بإحياء الموات على إحياء الأموات {وَهُوَ على كُلّ شيء قَديرٌ} أي وهو على كل شيء من المقدورات قادر وهذا من جملة المقدورات بدليل الإنشاء.
{وَلَئنْ أَرْسَلْنَا ريحًا} أي الدبور {فَرَأَوْهُ} أي أثر رحمة الله لأن رحمة الله هي الغيث وأثرها النبات.
ومن قرأ بالجمع رجع الضمير إلى معناه لأن معنى آثار الرحمة النبات واسم النبات يقع على القليل والكثير لأنه مصدر سمي به ما ينبت {مُصْفَرًّا} بعد إخضراره.
وقال: {مصفرا} لأن تلك صفرة حادثة.
وقيل: فرأوا السحاب مصفرًا لأن السحاب الأصفر لا يمطر.
واللام في {لئن} موطئة للقسم دخلت على حرف الشرط، وسد مسد جوابي القسم والشرط {لَّظَلُّوا} ومعناه ليظلن {من بَعْده يَكْفُرُونَ} أي من بعد اصفراره أو من بعد الاستبشار، ذمهم الله تعالى بأنه إذا حبس عنهم المطر قنطوا من رحمته وضربوا أذقانهم على صدورهم مبلسين، فإذا أصابهم برحمته ورزقهم المطر استبشروا، فإذا أرسل ريحًا فضرب زروعهم بالصفار ضجوا وكفروا بنعمة الله فهم في جميع هذه الأحوال على الصفة المذمومة، وكان عليهم أن يتوكلوا على الله وفضله فقنطوا، وأن يشكروا نعمته ويحمدوه عليها ففرحوا، وأن يصبروا على بلائه فكفروا.
{فَإنَّكَ لاَ تُسْمعُ الموتى} أي موتى القلوب أو هؤلاء في حكم الموتى فلا تطمع أن يقبلوا منك {وَلاَ تُسْمعُ الصم الدعاء} {ولا يسمع الصم} مكي {إذَا وَلَّوْا مُدْبرينَ} فإن قلت: الأصم لا يسمع مقبلًا أو مدبرًا، فما فائدة هذا التخصيص؟ قلت: هو إذا كان مقبلًا يفهم بالرمز بالإشارة فإذا ولى لا يسمع ولا يفهم بالإشارة {وَمَا أَنتَ بهَاد العمى} أي عمى القلوب، {وما أنت تهدى العمي} حمزة {عَن ضلالتهم} أي لا يمكنك أن تهدي الأعمى إلى طريق قد ضل عنه بإشارة منك له إليه {إن تُسْمعُ} ما تسمع {إلاَّ مَنْ يُؤمن بآياتنا فهم مسلمون} منقادون لأوامر الله تعالى.
{الله الذي خَلَقَكُمْ مّن ضَعْفٍ} من النطف كقوله: {مّن مَّاء مَّهينٍ} [المرسلات: 20] {ثُمَّ جَعَلَ من بَعْد ضَعْفٍ قُوَّةٍ} يعني حال الشباب وبلوغ الأشد {ثُمَّ جَعَلَ من بَعْد قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً} يعني حال الشيخوخة والهرم {يَخْلُقُ مَا يَشَاء} من ضعف وقوة وشباب وشيبة {وَهُوَ العليم} بأحوالهم {القدير} على تغييرهم وهذا الترديد في الأحوال أبين دليل على الصانع العليم القدير.
فتح الضاد في الكل: عاصم وحمزة، وضم غيرهما وهو اختيار حفص، وهما لغتان والضم أقوى في القراءة لما روي عن ابن عمر قال: قرأتها على رسول الله صلى الله عليه وسلم {من ضَعف} فأقرأني {من ضُعفٍ} {وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة} أي القيامة سميت بذلك لأنها تقوم في آخر ساعة من ساعات الدنيا، أو لأنها تقع بغتة كما تقول في ساعة لمن تستعجله وجرت علمًا لها كالنجم للثريا {يُقْسمُ المجرمون} يحلف الكافرون، ولا وقف عليه لأن {مَا لَبثُوا} في القبور أو في الدنيا {غَيْرَ سَاعَةٍ} جواب القسم استقلوا مدة لبثهم في القبور أو في الدنيا لهول يوم القيامة وطول مقامهم في شدائدها أو ينسون أو يكذبون {كَذَلكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ} أي مثل ذلك الصرف كانوا يصرفون عن الصدق إلى الكذب في الدنيا ويقولون ما هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين.
{وَقَالَ الذين أُوتُوا العلم والإيمان} هم الأنبياء والملائكة والمؤمنون {لَقَدْ لَبثْتُمْ في كتاب الله} في علم الله المثبت في اللوح أو في حكم الله وقضائه {إلى يَوْم البعث} ردوا ما قالوه وحلفوا عليه وأطلعوهم على الحقيقة، ثم وصلوا ذلك بتقريعهم على إنكار البعث بقولهم {فهذا يَوْمُ البعث ولكنكم كُنتمْ} في الدنيا {لاَ تَعْلَمُونَ} أنه حق لتفريطكم في طلب الحق واتباعه.
والفاء لجواب شرط يدل عليه الكلام تقديره: إن كنتم منكرين البعث فهذا يوم البعث الذي أنكرتموه {فَيَوْمَئذٍ لاَّ ينفَعُ} بالياء: كوفي {الذين ظَلَمُوا} كفروا {مَعْذرَتُهُمْ} عذرهم {وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} أي لا يقال لهم أرضوا ربكم بتوبة من قولك استعتبني فلان فأعتبته أي استرضاني فأرضيته {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا للنَّاس في هذا القرءان من كُلّ مَثَلٍ وَلَئن جئْتَهُمْ بئَايَةٍ لَّيَقُولَنَّ الذين كَفَرُوا إنْ أَنتُمْ إلاَّ مُبْطلُونَ} أي ولقد وصفنا لهم كل صفة كأنها مثل في غرابتها وقصصنا عليهم كل قصة عجيبة الشأن كصفة المبعوثين يوم القيامة وقصتهم وما يقولون وما يقال لهم وما لا ينفع من اعتذارهم ولا يسمع من استعتابهم، ولكنهم لقسوة قلوبهم إذا جئتهم بآية من آيات القرآن قالوا جئتنا بزور باطل {كذلك يَطْبَعُ الله على قُلُوب الذين لاَ يَعْلَمُونَ} أي مثل ذلك الطبع وهو الختم يطبع الله على قلوب الجهلة الذين علم الله منهم اختيار الضلال حتى يسموا المحقين مبطلين وهم أعرق خلق الله في تلك الصفة {فاصبر} على أذاهم أو عداوتهم {إنَّ وَعْدَ الله} بنصرتك على أعدائك وإظهار دين الإسلام على كل دين {حَقّ} لابد من إنجازه والوفاء به {وَلاَ يَسْتَخفَّنَّكَ الذين لاَ يُوقنُونَ} أي لا يحملنك هؤلاء الذين لا يوقنون بالآخرة على الخفة والعجلة في الدعاء عليهم بالعذاب، أو لا يحملنك على الخفة والقلق جزعًا مما يقولون ويفعلون فإنهم ضلال شاكون لا يستبدع منهم ذلك {ولا يستخفنك} بسكون النون عن يعقوب، والله الموفق للصواب. اهـ.

.قال البيضاوي:

{مُّنيبينَ إلَيْه}.
راجعين إليه من أناب إذا رجع مرة بعد أخرى، وقيل منقطعين إليه من الناب وهو حال من الضمير في الناصب المقدر لفطرة الله أو في أقم لأن الآية خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم والأمة لقوله: {واتقوه وَأَقيمُوا الصلاة وَلاَ تَكُونُوا منَ المشركين} غير أنها صدرت بخطاب الرسول صلى الله عليه وسلم تعظيمًا له.
{منَ الذين فَرَّقُوا دينَهُمْ} بدل من المشركين وتفريقهم اختلافهم فيما يعبدونه على اختلاف أهوائهم، وقرأ حمزة والكسائي {فارقوا} بمعنى تركوا دينهم الذي أمروا به. {وَكَانُوا شيَعًا} فرقًا تشايع كل إمامها الذي أضل دينها. {كُلُّ حزْبٍ بمَا لَدَيْهمْ فَرحُونَ} مسرورون ظنًا بأنه الحق، ويجوز أن يجعل فرحون صفة كل على أن الخبر {منَ الذين فَرَّقُوا}.
{وَإذَا مَسَّ الناس ضُرٌّ} شدة. {دَعَوْا رَبَّهُمْ مُّنيبينَ إلَيْه} راجعين من دعاء غيره. {ثُمَّ إذَا أَذَاقَهُمْ مّنْهُ رَحْمَةً} خلاصًا من تلك الشدة. {إذَا فَريقٌ مّنْهُمْ برَبّهمْ يُشْركُونَ} فاجأ فريق منهم بالإشراك بربهم الذي عافاهم.
{ليَكْفُرُوا بمَآ ءاتيناهم} اللام فيه للعاقبة وقيل للأمر بمعنى التهديد لقوله: {فَتَمَتَّعُوا} غير أنه التفت فيه مبالغة وقرىء و{ليتمتعوا}. {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} عاقبة تمتعكم، وقرىء بالياء التحتية على أن تمتعوا ماض.
{أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهمْ سلطانا} حجة وقيل ذا سلطان أي ملكًا معه برهان. {فَهُوَ يَتَكَلَّمُ} تكلم دلالة كقوله: {كتابنا يَنطقُ عَلَيْكُم بالحق} أو نطق. {بمَا كَانُوا به يُشْركُونَ} بإشراكهم وصحته، أو بالأمر الذي بسببه يشركون به في ألوهيته.
{وَإذَا أَذَقْنَا الناس رَحْمَةً} نعمة من صحة وسعة. {فَرحُوا بهَا} بطروا بسببها. {وَإن تُصبْهُمْ سَيّئَةٌ} شدة. {بمَا قَدَّمَتْ أَيْديهمْ} بشؤم معاصيهم. {إذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} فاجؤوا القنوط من رحمته وقرأ الكسائي وأبو عمرو بكسر النون.
{أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ الله يَبْسُطُ الرزق لمَن يَشَاء وَيَقْدرُ} فما لهم يشكروا ولم يحتسبوا في السراء والضراء كالمؤمنين. {إنَّ في ذلك لآيات لّقَوْمٍ يُؤْمنُونَ} فيستدلون بها على كمال القدرة والحكمة.
{فَئَات ذَا القربى حَقَّهُ} كصلة الرحم، واحتج به الحنفية على وجوب النفقة للمحارم وهو غير مشعر به. {والمساكين وابن السبيل} ما وظف لهما من الزكاة، والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لمن بسط له ولذلك رتب على ما قبله بالفاء. {ذَلكَ خَيْرٌ لّلَّذينَ يُريدُونَ وَجْهَ الله} ذاته أو جهته أي يقصدون بمعروفهم إياه خالصًا، أو جهة التقرب إليه لا جهة أخرى. {وأولئك هُمُ المفلحون} حيث حصلوا بما بسط لهم النعيم المقيم.
{وَمَا ءَاتَيْتُمْ مّن ربًا} زيادة محرمة في المعاملة أو عطية يتوقع بها مزيد مكافأة، وقرأ ابن كثير بالقصر بمعنى ما جئتم به من إعطاء ربا. {لّيَرْبُوَا في أَمْوَال الناس} ليزيد ويزكو في أموالهم. {فَلاَ يَرْبُوا عَندَ الله} فلا يزكو عنده ولا يبارك فيه، وقرأ نافع ويعقوب {لتربوا} أي لتزيدوا أو لتصيروا ذوي ربا. {وَمَآ ءَاتَيْتُمْ مّن زَكَاةٍ تُريدُونَ وَجْهَ الله} تبتغون به وجهه خالصًا {فَأُوْلَئكَ هُمُ المضعفون} ذوو الأضعاف من الثواب ونظير المضعف المقوي والموسر لذي القوة واليسار، أو الذين ضعفوا ثوابهم وأموالهم ببركة الزكاة، وقرىء بفتح العين وتغييره عن سنن المقابلة عبارة ونظمًا للمبالغة، والالتفات فيه للتعظيم كأنه خاطب به الملائكة وخواص الخلق تعريفًا لحالهم، أو للتعميم كأنه قال: فمن فعل ذلك {فَأُوْلَئكَ هُمُ المضعفون} والراجع منه محذوف إن جعلت ما موصولة تقديره المضعفون به، أو فَمُؤْتُوه أولئك هم المضعفون.
{الله الذي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُميتُكُمْ ثُمَّ يُحْييكُمْ هَلْ من شُرَكَائكُمْ مَّن يَفْعَلُ من ذَلكُمْ مّن شَىْء} أثبت له لوازم الألوهية ونفاها رأسًا عما اتخذوه شركاء له من الأصنام وغيرها مؤكدًا بالإنكار على ما دل عليه البرهان والعيان ووقع عليه الوفاق، ثم استنتج من ذلك تقدسه عن أن يكون له شركاء فقال: {سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْركُونَ} ويجوز أن تكون الكلمة الموصولة صفة والخبر {هَلْ من شُرَكَائكُمْ} والرابط {مّن ذلكم} لأنه بمعنى من أفعاله، و{منْ} الأولى والثانية تفيد أن شيوع الحكم في جنس الشركاء والأفعال والثالثة مزيدة لتعميم المنفي وكل منها مستقلة بتأكيد لتعجيز الشركاء، وقرأ حمزة والكسائي بالتاء.
{ظَهَرَ الفساد في البر والبحر} كالجدب والموتان وكثرة الحرق والغرق وإخفاق الغاصة ومحق البركات وكثرة المضار، أو الضلالة والظلم. وقيل المراد بالبحر قرى السواحل وقرىء {والبحور}. {بمَا كَسَبَتْ أَيْدى الناس} بشؤم معاصيهم أو بكسبهم إياه، وقيل ظهر الفساد في البر بقتل قابيل أخاه وفي البحر بأن جلندا ملك عمان كان يأخذ كل سفينة غصبًا. {ليُذيقَهُمْ بَعْضَ الذي عَملُوا} بعض جزائه فإن تمامه في الآخرة واللام للعلة أو العاقبة. وعن ابن كثير ويعقوب {لّنُذيقَهُمْ} بالنون.
{لَعَلَّهُمْ يَرْجعُونَ} عما هم عليه.
{قُلْ سيرُوا في الأرض فانظروا كَيْفَ كَانَ عاقبة الذين من قَبْلُ} لتشاهدوا مصداق ذلك وتحققوا صدقه. {كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّشْركينَ} استئناف للدلالة على أن سوء عاقبتهم كان لفشو الشرك وغلبته فيهم، أو كان الشرك في أكثرهم وما دونه من المعاصي في قليل منهم.
{فَأَقمْ وَجْهَكَ للدّينَ القيم} البليغ الاستقامة. {من قَبْل أَن يَأْتىَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ} لا يقدر أن يرده أحد، وقوله: {منَ الله} متعلق ب {يَأْتىَ} ويجوز أن يتعلق ب {مَرَدْ} لأنه مصدر على معنى لا يرده الله لتعلق إرادته القديمة بمجيئه. {يَوْمَئذٍ يَصَّدَّعُونَ} يتصدعون أي يتفرقون {فَريقٌ في الجنة وَفَريقٌ في السعير} كما قال: {مَن كَفَرَ فَعَلَيْه كُفْرُهُ} أي وباله وهو النار المؤبدة. {وَمَنْ عَملَ صالحا فَلأَنفُسهمْ يَمْهَدُونَ} يسوون منزلًا في الجنة، وتقديم الظرف في الموضعين للدلالة على الاختصاص.
{ليَجْزىَ الذين ءَامَنُوا وَعَملُوا الصالحات من فَضْله} علة ل {يَمْهَدُونَ} أو ل {يَصَّدَّعُونَ} والاقتصار على جزاء المؤمنين للإشعار بأنه المقصود بالذات والاكتفاء على فحوى قوله: {إنَّهُ لاَ يُحبُّ الكافرين} فإن فيه إثبات البغض لهم والمحبة للمؤمنين، وتأكيد اختصاص الصلاح المفهوم من ترك ضميرهم إلى التصريح بهم تعليل له ومن فضله دال على أن الإثابة تفضل محض، وتأويله بالعطاء أو الزيادة على الثواب عدول عن الظاهر.
{وَمنْ ءاياته أَن يُرْسلَ الرياح} الشمال والصبا والجنوب فإنها رياح الرحمة وأما الدبور فريح العذاب، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: «اللهم اجعلها رياحًا ولا تجعلها ريحًا» وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي {الريح} على إرادة الجنس. {مبشرات} بالمطر. {وَليُذيقَكُمْ مّن رَّحْمَته} يعني المنافع التابعة لها، وقيل الخصب التابع لنزول المطر المسبب عنها أو الروح الذي هو مع هبوبها والعطف على علة محذوفة دل عليها {مبشرات} أو عليها باعتبار المعنى، أو على {يُرْسلُ} بإضمار فعل معلل دل عليه. {وَلتَجْريَ الفلك بأَمْره وَلتَبْتَغُوا من فَضْله} يعني تجارة البحر. {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} ولتشكروا نعمة الله تعالى فيها.
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا من قَبْلكَ رُسُلًا إلى قَوْمهمْ فَجَاءُوهُم بالبينات فانتقمنا منَ الذين أَجْرَمُوا} بالتدمير. {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ المؤمنين} إشعار بأن الانتقام لهم وإظهار لكرامتهم حيث جعلهم مستحقين على الله أن ينصرهم، وعنه عليه الصلاة والسلام: «ما من امرىء مسلم يرد عن عرض أخيه إلا كان حقًا على الله أن يرد عنه نار جهنم ثم تلا ذلك» وقد يوقف على {حَقًّا} على أنه متعلق بالانتقام.