فصل: التفسير المأثور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة}. قوة بكل تلك المعاني التي جاءت في الحديث عن الضعف. قوة في الكيان الجسدي، وفي البناء الإنساني، وفي التكوين النفسي والعقلي.
{ثم جعل من بعد قوة ضعفًا وشيبة}. ضعفًا في الكيان الإنساني كله. فالشيخوخة انحدار إلى الطفولة بكل ظواهرها. وقد يصاحبها انحدار نفسي ناشئ من ضعف الإرادة ليهفو الشيخ أحيانا كما يهفو الطفل، ولا يجد من إرادته عاصمًا. ومع الشيخوخة الشيب، يذكر تجسيمًا وتشخيصًا لهيئة الشيخوخة ومنظرها.
وإن هذه الأطوار التي لا يفلت منها أحد من أبناء الفناء، والتي لا تتخلف مرة فيمن يمد له في العمر، ولا تبطئ مرة فلا تجيء في موعدها المضروب. إن هذه الأطوار التي تتعاور تلك الخليقة البشرية لتشهد بأنها في قبضة مدبرة، تخلق ما تشاء، وتقدر ما تشاء، وترسم لكل مخلوق أجله وأحواله وأطواره، وفق علم وثيق وتقدير دقيق: {يخلق ما يشاء وهو العليم القدير}.
ولابد لهذه النشأة المحكمة المقدرة من نهاية كذلك مرسومة مقدرة. هذه النهاية يرسمها في مشهد من مشاهد القيامة، حافل بالحركة والحوار على طريقة القرآن:
{ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة}.
فهكذا يتضاءل في حسهم كل ما وراءهم قبل هذا اليوم، فيقسمون: ما لبثوا غير ساعة. ويحتمل أن يكون قسمهم منصبًا على مدة لبثهم في القبور، كما يحتمل أن يكون ذلك عن لبثهم في الأرض أحياء وأمواتًا. {كذلك كانوا يؤفكون} ويصرفون عن الحق والتقدير الصحيح حتى يردهم أولو العلم الصحيح إلى التقدير الصحيح:
{وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث ولكنكم كنتم لا تعلمون}.
وأولو العلم هؤلاء هم في الغالب المؤمنون، الذين آمنوا بالساعة، وأدركوا ما وراء ظاهر الحياة الدنيا، فهم أهل العلم الصحيح وأهل الإيمان البصير. وهم يردون الأمر هنا إلى تقدير الله وعلمه {لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث}. فهذا هو الأجل المقدور، ولا يهم طويلًا كان أم كان قصيرًا. فقد كان ذلك هو الموعد، وقد تحقق:
{فهذا يوم البعث ولكنكم كنتم لا تعلمون}.
ثم يختم المشهد بالنتيجة الكلية في إجمال يصور ما وراءه مما لحق بالظالمين الذين كانوا يكذبون بيوم الدين:
{فيومئذ لا ينفع الذين ظلموا معذرتهم ولا هم يستعتبون}.
فلا معذرة منهم تقبل ولا يعتب عليهم أحد فيما فعلوه، أو يطلب إليهم الاعتذار. فاليوم يوم العقاب لا يوم العتاب!
ومن هذا المشهد البائس اليائس يردهم إلى ما هم فيه من عناد وتكذيب، وتلك كانت عاقبة العناد والتكذيب:
{ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل ولئن جئتهم بآية ليقولن الذين كفروا إن أنتم إلا مبطلون كذلك يطبع الله على قلوب الذين لا يعلمون} وهي نقلة بعيدة في الزمان والمكان؛ ولكنها تجيء في السياق وكأنها قريب من قريب وينطوي الزمان والمكان فإذا هم مرة أخرى أمام القرآن وفيه من كل مثل؛ وفيه من كل نمط من أنماط الخطاب؛ وفيه من كل وسيلة لإيقاظ القلوب والعقول؛ وفيه من شتى اللمسات الموحية العميقة التأثير وهو يخاطب كل قلب وكل عقل في كل بيئة وكل محيط وهو يخاطب النفس البشرية في كل حالة من حالاتها وفي كل طور من أطوارها ولكنهم بعد هذا كله يكذبون بكل آية ولا يكتفون بالتكذيب بل يتطاولون على أهل العلم الصحيح فيقولون عنهم إنهم مبطلون ولئن جئتهم بآية ليقولن الذين كفروا إن أنتم إلا مبطلون ويعقب على هذا الكفر والتطاول كذلك يطبع الله على قلوب الذين لا يعلمون كذلك بمثل هذه الطريقة ولمثل هذا السبب فهؤلاء الذين لا يعلمون مطموسو القلوب لا تتفتح بصيرتهم لإدراك آيات الله متطاولون على أهل العلم والهدى ومن ثم يستحقون أن يطمس الله على بصيرتهم وأن يطبع على قلوبهم لما يعلمه سبحانه عن تلك البصائر وهذه القلوب الدرس التاسع توجيه إلى الصبر والإتزان ثم يأتي الإيقاع الأخير في السورة بعد تلك الجولات مع المشركين في الكون والتاريخ وفي ذوات أنفسهم وفي أطوار حياتهم ثم هم بعد ذلك كله يكفرون ويتطاولون يأتي الإيقاع الأخير في صورة توجيه لقلب الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون إنه الصبر وسيلة المؤمنين في الطريق الطويل الشائك الذي قد يبدو أحيانا بلا نهاية والثقة بوعد الله الحق والثبات بلا قلق ولا زعزعة ولا حيرة ولا شكوك الصبر والثقة والثبات على الرغم من اضطراب الآخرين ومن تكذيبهم للحق وشكهم في وعد الله ذلك أنهم محجوبون عن العلم محرومون من أسباب اليقين.
فأما المؤمنون الواصلون الممسكون بحبل الله فطريقهم هو طريق الصبر والثقة واليقين مهما يطل هذا الطريق ومهما تحتجب نهايته وراء الضباب والغيوم وهكذا تختم السورة التي بدأت بوعد الله في نصر الروم بعد بضع سنين ونصر المؤمنين تختم بالصبر حتى يأتي وعد الله؛ والصبر كذلك على محاولات الاستخفاف والزعزعة من الذين لا يوقنون فيتناسق البدء والختام وتنتهي السورة وفي القلب منا إيقاع التثبيت القوي بالوعد الصادق الذي لا يكذب واليقين الثابت الذي لا يخون. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{اللَّهُ الَّذي خَلَقَكُمْ منْ ضَعْفٍ}.
أخرج سعيد بن منصور وأحمد وأبو داود والترمذي وحسنه وابن المنذر والطبراني والشيرازي في الألقاب والدارقطني في الافراد وابن عدي والحاكم وأبو نعيم في الحلية وابن مردويه والخطيب في تالي التلخيص عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قرأت على النبي صلى الله عليه وسلم {الله الذي خلقكم من ضعف} فقال: «{من ضعف} يا بني».
وأخرج الخطيب عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ {الله الذي خلقكم من ضعف} بالضم.
وأخرج ابن مردويه عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ هذا الحرف في الروم {خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوّة ثم جعل من بعد قوة ضعفًا}.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة رضي الله عنه في قوله: {الله الذي خلقكم من ضعف} قال: من نطفة {ثم جعل من بعد قوة ضعفًا} قال: الهرم {وشيبة} قال: الشمط.
{وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسمُ الْمُجْرمُونَ مَا لَبثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (55)}.
أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة رضي الله عنه في قوله: {ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة} قال: يعنون في الدنيا، استقل القوم أجل الدنيا لما عاينوا الآخرة {كذلك كانوا يؤفكون} قال: كذلك كانوا يكذبون في الدنيا {وقال الذين أوتوا العلم} الآية. قال: هذا من تقاديم الكلام وتأويلها: وقال الذين أوتوا الإيمان والعلم في كتاب الله لقد لبثتم إلى يوم البعث.
وأخرج ابن أبي حاتم عن الربيع بن أنس رضي الله عنه في قوله: {لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث} قال: لبثوا في علم الله في البرزخ إلى يوم القيامة، لا يعلم متى علم وقت الساعة إلا الله، وفي ذلك أنزل الله: {وأجل مسمى عنده} [طه: 129].
وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم والبيهقي في سننه عن علي رضي الله عنه أن رجلًا من الخوارج ناداه وهو في صلاة الفجر فقال: {ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين} فأجابه علي رضي الله عنه وهو في الصلاة {فاصبر إن وعد الله حق ولا يَسْتَخفَّنَّكَ الذين لا يوقنون}. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
{وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسمُ الْمُجْرمُونَ مَا لَبثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ}.
قوله: {مَا لَبثُوا} جوابُ قوله: {يُقْسم} وهو على المعنى، إذ لو حُكي قولُهم بعينه لقيل: ما لَبثْنا. و{كذلك} أي: مثْلَ ذلك الإفك كانوا يُؤْفَكون.
قوله: {في كتَاب الله} الظاهرُ أنه متعلّقٌ ب {لَبثْتم} بمعنى فيما وَعَدَ به في كتابه من الحشر والبعث. وقال قتادة: على التقديم والتأخير، والتقدير: وقال الذين أُوْتُوا العلم في كتاب الله لقد لَبثْتُمْ، وفي بمعنى الباء أي: العلم بكتاب الله. وصدورُه عن قتادةَ بعيدٌ.
والعامَّةُ على سكون عَيْن {البعث} والحسنُ بفتحها. وقُرئ بكسرها. فالمكسورُ اسمٌ، والمفتوحُ مصدرٌ.
قوله: {فهذا يومُ} في الفاء قولان، أظهرهما: أنها عاطفةٌ هذه الجملةَ على {لَقَدْ لَبثْتُمْ}. وقال الزمخشري: هي جوابُ شرطٍ مقدرٍ كقوله:
فقد جئْنا خُراسانا

كأنه قيل: إنْ صَحَّ ما قُلتم: إنَّ خراسان أقصى ما يُراد بكم، وآن لنا أن نَخْلُصَ، وكذلك إنْ كنتم منكرينَ للبعث فهذا يومُ البعث ويشير إلى البيت المشهور وهو:
قالوا خراسانُ أَقْصى ما يُراد بنا ** ثم القُفولُ فقد جئْنا خُراسانا

قوله: {لا تَعْلَمُوْن} أي البعثَ أي: ما يرادُ بكم، أو لا ُيُقَدَّرُ له مفعولٌ أي: لم يكونوا منْ أولي العلم. وهو أبلَغُ.
{فَيَوْمَئذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذينَ ظَلَمُوا مَعْذرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57)}.
قوله: {فَيَوْمَئذٍ} أي: إذ يقعُ ذلك، ويقولُ الذين أوتوا العلمَ تلك المقالة.
قوله: {لا يَنْفَعُ} هو الناصبُ ل {يومئذٍ} قبله. وقرأ الكوفيون هنا وفي غافر بالياء منْ تحتُ. وافقهم نافعٌ على ما في غافر، لأن التأنيثَ مجازيٌّ ولأنه قد فُصل أيضًا. والباقون بالتأنيث فيهما مراعاةً للَّفْظ.
قوله: {وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} قال الزمخشري: منْ قولك: اسْتَعْتَبني فلانٌ فَأَعْتَبْتُه أي: استرضاني فَأَرْضَيْتُه، وكذلك إذا كنتَ جانيًا عليه. وحقيقةُ أَعْتَبْتَه. أَزَلْتَ عَتْبَه ألا ترى إلى قوله:
غَضبَتْ تميمٌ أَنْ يُقتَّل عامرٌ ** يومَ النسار فَأُعْتبُوا بالصَّيْلَم

كيف جعلهم غضابًا؟ ثم قال: فَأُعْتبوا أي: أُزيل غَضَبُهم. والغضب في معنى العَتْب. والمعنى: لا يُقال لهم: أرْضُوا ربَّكم بتوبة وطاعةٍ. ومثلُه قولُه تعالى: {فاليوم لاَ يُخْرَجُونَ منْهَا وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} [الجاثية: 35] فإنْ قلتَ: كيف جُعلوا غيرَ مُسْتَعْتبين في بعض الآيات وغيرَ مُعْتَبين في بعضها، وهو قولُه: {وَإن يَسْتَعْتبُوا فَمَا هُم مّنَ المعتبين} [فصلت: 24]. قلت: أمَّا كونُهم غيرَ مُسْتَعْتبين فهذا معناه، وأمَّا كونُهم غيرَ مُعْتَبين فمعناه: أنهم غيرُ راضين بما هم فيه، فشُبّهَتْ حالُهم بحال قومٍ جُني عليهم فهم عاتبون على الجاني، غيرُ راضين عنه بما هم فيه. فإنْ يَسْتَعتبوا الله أي يَسْألوه إزالة ما هم فيه فما هم من المجابين انتهى.
قال ابن عطية: ويَسْتَعْتبون بمعنى يَعْتبون كما تقول: يَمْلك ويَسْتملك. والبابُ في استفعل طلبُ الشيء، وليس هذا منه؛ لأنَّ المعنى كان يَفْسُدُ؛ إذ كان المفهومُ منه: ولا يُطْلَبُ منهم عُتْبى. قلت: وليس فاسدًا لما تقدَّم منْ قول أبي القاسم.
{وَلَقَدْ ضَرَبْنَا للنَّاس في هَذَا الْقُرْآن منْ كُلّ مَثَلٍ وَلَئنْ جئْتَهُمْ بآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذينَ كَفَرُوا إنْ أَنْتُمْ إلَّا مُبْطلُونَ (58)}.
قوله: {وَلَئن جئْتَهُمْ} إنما وُحّد هنا، وجُمع بعده في قوله: {أنتم} لنكتَةٍ: وهو أنه تعالى أخبر في موضعٍ آخرَ فقال: {ولَئنْ جئتَهم بكل آية} أي جاءَتْ بها الرسلُ. فقال الكفار: ما أنتم أيها المدَّعون الرسالةَ كلُّكم إلاَّ كذا.
{كَذَلكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوب الَّذينَ لَا يَعْلَمُونَ (59)}.
قوله: {كَذَلكَ يَطْبَعُ} أي: مثلَ ذلك الطبع يطبعُ.
{فَاصْبرْ إنَّ وَعْدَ اللَّه حَقٌّ وَلَا يَسْتَخفَّنَّكَ الَّذينَ لَا يُوقنُونَ (60)}.
قوله: {وَلاَ يَسْتَخفَّنَّكَ} العامَّةُ من الاستخفاف بخاء معجمة وفاء. ويعقوب وابن أبي إسحاق بحاءٍ مهملةٍ وقاف من الاستحقاق. وابن أبي عبلة ويعقوب بتخفيف نون التوكيد. والنهي من باب قولهم لا أُرَيَنَّكَ هاهنا. اهـ.

.التفسير الإشاري:

قال الألوسي:
ومن باب الإشارة في الآيات: {الم غُلبَت الروم في أَدْنَى الأرض وَهُم مّن بَعْد غَلَبهمْ سَيَغْلبُونَ} [الروم: 1 3] إلى آخره، قيل: الألف إشارة إلى ألفة طبع المؤمنين واللام إلى لؤم طبع الكافرين والميم إلى مغفرة رب العالمين جل شأنه، والروم إشارة إلى اقلب، وفارس المشار إليهم بالضمير النائب عن الفاعل إشارة إلى النفس، والمؤمنون إشارة إلى الروح والسر والعقل، ففي الآية إشارة إلى أن حال أهل الطلب يتغير بتغير الأوقات فيغلب فارس النفس روم القلب تارة ويغلب روم القلب فارس النفس بتأييد الله تعالى ونصره سبحانه تارة أخرى وذلك في بعض سنين من أيام الطلب ويومئذ يفرح المؤمنون الروح والسر والعقل، وعلى هذا المنهاج سلك النيسابوري.
{يَعْلَمُونَ ظَاهرًا مّنَ الحياة الدنيا} [الروم: 7] فيه إشارة إلى حال المحجوبين ووقوفهم على ظواهر الأشياء، وما من شيء إلا له ظاهر وهو ما تدكره الحواس الظاهرة منه، وباطن وهو ما تدركه العقل بإحدى طريق الإدراك من وجوه الحكمة فيه، ومنه ما هو وراء طور العقل وهو ما يحصل بواسطة الفيض الإلهي وتهذيب النفس أتم تهذيب وهو وإن لم يكن من مستنبطات العقل إلا أن العقل يقبله، وليس معنى أنه ما وراء طور العقل أن العقل يحيله ولا يقبله كما يتوهم، ومما ذكرنا يعلم أن الباطن لا يجب أن يتوصل إليه بالظاهر بل قد يحصل لا بواسطته وذلك أعلى قدرًا من حصوله بها، فقول من يقول: إنه لا يمكن الوصول إلى الباطن إلا بالعبور على الظاهر لا يخلو عن بحث {فَأَمَّا الذين ءامَنُوا وَعَملُوا الصالحات فَهُمْ في رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ} [الروم: 5 1] أي يسرون بالسماع في روضة الشهود وذلك غذاء أرواحهم ونعيمها، وأعلى أنواع السماع في هذه النشأة عند السادة الصوفية ما يكون من الحضرة الإلهية بالأرواح القدسية والأسماع الملكوتية، وهذه الأسماع لم يفارقها سماع {أَلَسْتَ برَبّكُمْ} [الأعراف: 2 17] واشتهر عندهم السماع في سماع الأصوات الحسنة وسماع الأشباه المحركة لما غلب عليهم من الأحوال من الخوف والرجاء والحب والتعظيم وذلك كسماع القرآن والوعظ والدف والشبابة والأوتار والمزمار والحداء والنشيد وفي ذلك الممدوح والمذموم.
وفي قواعد عز الدين عبد العزيز بن عبد عبد السلام الكبرى تفصيل الكلام في ذلك على أتم وجه، وسنذكر إن شاء الله تعالى قريبًا ما يتعلق بذلك والله تعالى هو الموفق للصواب {فَسُبْحَانَ الله حينَ تُمْسُونَ} [الروم: 7 1] الخ فيه إشارة إلى أنه ينبغي استغراق الأوقات في تنزيه الله سبحانه والثناء عليه جل وعلا بما هو سبحانه وتعالى أهله فإن ذلك روضة هذه النشأة، وفي الأثر إن حلق الذكر رياض الجنة {يُخْرجُ الحى منَ الميت وَيُخْرجُ الميت منَ الحى} [الروم: 9 1] فيه إشارة إلى أن الفرع لا يلزم أن يكون كأصله.
إنما الورد من الشوك ولا ** ينبت النرجس إلا من بصل

{وَمنْ ءاياته أَنْ خَلَقَ لَكُم مّنْ أَنفُسكُمْ أزواجا لّتَسْكُنُوا إلَيْهَا} [الروم: 1 2] فيه إشارة إلى أن الاشتراك في الجنسية من أسباب الألفة، إن الطيور على أشباهها تقع.
{كُلُّ حزْبٍ بمَا لَدَيْهمْ فَرحُونَ} [الروم: 2 3] فيه إشارة إلى أنه عز وجل لم يكره أحدًا على ما هو عليه إن حقًا وإن باطلًا، وإنما وقع التعاشق بين النفوس بحسب استعدادها وما هي عليه فأعطى سبحانه حلت قدرته كل عاشق معشوقه الذي هام به قلب استعداده وصار حبه ملء فؤاده وهذا سر الفرح، وما ألطف ما قال قيس بن ذريح:
تعلق روحي روحها قبل خلقنا ** ومن قبل ما كنا نطافا وفي المهد

فزاد كما زدنا فأصبح ناميا ** وليس إذا متنا بمنفصم العقد

ولكنه باق على كل حادث ** وزائرنا في ظلمة القبر واللحد

{وَإذَا مَسَّ الناس} [الروم: 33] الآية فيها إشارة إلى أن طبيعة الإنسان ممزوجة من هداية الروح وإطاعتها ومن ضلال النفس وعصيانها، فالناس إذا أظلتهم المحنة ونالتهم الفتنة ومستهم البلية وانكسرت نفوسهم وسكنت دواعيها وتخلصت أرواحهم عن أسر ظلمة شهواتها رجعت أرواحهم إلى الحضرة ووافقتها النفوس على خلاف طباعها فدعوا ربهم منيبين إليه فإدا جاد سبحانه عليهم بكشف ما نالهم ونظر جل وعلا باللطف فيما أصابهم عاد منهم من تمرد إلى عادته المذمومة وطبيعته الدنية المشؤمة {ظَهَرَ الفساد في البر والبحر} [الروم: 1 4] الخ فيه إشارة إلى أن الشرور ليست مرادة لذاتها بل هي كبط الجرح وقطع الأصبع التي فيها آكلة {فاصبر إنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ وَلاَ يَسْتَخفَّنَّكَ الذين لاَ يُوقنُونَ} [الروم: 60] فيه إشارة لأهل الوراثة المحمدية أهل الإرشاد بأن يصبروا على مكاره المنكرين المحجوبين الذين لا يوقنون بصدق أحوالهم ولذا يستخفون بهم وينظرون إليهم بنظر الحقارة ويعيرونهم وينكرون عليهم فيما يوقولون ويفعلون، نسأل الله تعالى أن يجعلنا من الموقنين وأن يحفظنا وأولادنا وإخواننا من الأمراض القلبية والقالبية بحرمة نبيه الأمين صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين. اهـ.