فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

وتنكير {قتال} مراد به العموم، إذ ليس المسؤول عنه قتالًا معينًا ولا في شهر معين، بل المراد هذا الجنس في هذا الجنس. و{فيه} ظرف صفة لقتال مخصصة له.
وقوله: {قل قتال فيه كبير} إظهار لفظ القتال في مقام الإضمار ليكون الجواب صريحًا حتى لا يتوهم أن الشهر الحرام هو الكبير، وليكون الجواب على طبق السؤال في اللفظ، وإنما لم يعرف لفظ القتال ثانيًا باللام مع تقدم ذكره في السؤال، لأنه قد استغنى عن تعريفه باتحاد الوصفين في لفظ السؤال ولفظ الجواب وهو ظرف {فيه}، إذ ليس المقصود من تعريف النكرة باللام إذا أعيد ذكرها إلاّ التنصيصَ على أن المراد بها تلك الأولى لا غيرها، وقد حصل ذلك بالوصف المتحد، قال التفتازاني: فالمسؤول عنه هو المجاب عنه وليس غيره كما توهم بناء على أن النكرة إذا أعيدت نكرة كانت غير الأولى، لأن هذا ليس بضربة لازم يريد أن ذلك يتبع القرائن.
والجواب تشريع إن كان السؤال من المسلمين، واعتراف وإبكات إن كان السؤال إنكارًا من المشركين، لأنهم توقعوا أن يجيبهم بإباحة القتال فيثَوِّروا بذلك العرب ومن في قلبه مرض. اهـ.

.قال الفخر:

للنحويين في هذه الآية وجوه الأول: قول البصريين وهو الذي اختاره الزجاج، أن قوله: {وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ الله وَكُفْرٌ بِهِ والمسجد الحرام وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ} كلها مرفوعة بالابتداء، وخبرها قوله: {أَكْبَرُ عِندَ الله} والمعنى: أن القتال الذي سألتم عنه، وإن كان كبيرًا، إلا أن هذه الأشياء أكبر منه، فإذا لم تمتنعوا عنها في الشهر الحرام، فكيف تعيبون عبد الله بن جحش على ذلك القتال مع أن له فيه عذرًا ظاهرًا، فإنه كان يجوز أن يكون ذلك القتل واقعًا في جمادى الآخرة، ونظيره قوله تعالى لبني إسرائيل: {أَتَأْمُرُونَ الناس بالبر وَتَنسَوْنَ أنفسكم} [البقرة: 44]، {لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ} [الصف: 2] وهذا وجه ظاهر، إلا أنهم اختلفوا في الجر في قوله: {والمسجد الحرام} وذكروا فيه وجهين أحدهما: أنه عطف على الهاء في به والثاني: وهو قول الأكثرين: أنه عطف على {سَبِيلِ الله} قالوا: وهو متأكد بقوله تعالى: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله والمسجد الحرام} [الحج: 25].
واعترضوا على الوجه الأول بأنه لا يجوز العطف على الضمير، فإنه لا يقال: مررت به وعمرو، وعلى الثاني بأن على هذا الوجه يكون تقدير الآية: صد عن سبيل الله وعن المسجد الحرام، فقوله: عن المسجد الحرام صلة للصد، والصلة والموصول في حكم الشيء الواحد، فإيقاع الأجنبي بينهما لا يكون جائزًا.
أجيب عن الأول: لم لا يجوز إضمار حرف الجر فيه حتى يكون التقدير: وكفر به وبالمسجد الحرام، والإضمار في كلام الله ليس بغريب، ثم يتأكد هذا بقراءة حمزة {تَسَاءلُونَ بِهِ والأرحام} [النساء: 1] على سبيل الخفض ولو أن حمزة روى هذه اللغة لكان مقبولًا بالاتفاق، فإذا قرأ به في كتاب الله تعالى كان أولى أن يكون مقبولًا، وأما الأكثرون الذين اختاروا القول الثاني قالوا: لا شك أنه يقتضي وقوع الأجنبي بين الصلة والموصول، والأصل أنه لا يجوز إلا أنا تحملناه هاهنا لوجهين الأول: أن الصد عن سبيل الله والكفر به كالشيء الواحد في المعنى، فكأنه لا فصل الثاني: أن موضع قوله: {وَكُفْرٌ بِهِ} عقيب قوله: {والمسجد الحرام} إلا أنه قدم عليه لفرط العناية، كقوله تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُوًا أَحَدًا} [الإخلاص: 4] كان من حق الكلام أن يقال: ولم يكن له أحد كفوًا إلا أن فرط العناية أوجب تقديمه فكذا ههنا.
الوجه الثاني: في هذه الآية، وهو اختيار الفراء وأبي مسلم الأصفهاني أن قوله تعالى: {والمسجد الحرام} عطف بالواو على الشهر الحرام، والتقدير: يسألونك عن قتال في الشهر الحرام والمسجد الحرام، ثم بعد هذا طريقان أحدهما: أن قوله: {قِتَالٌ فِيهِ} مبتدأ، وقوله: {كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ الله وَكُفْرٌ بِهِ} خبر بعد خبر، والتقدير: إن قتلًا فيه محكوم عليه بأنه كبير وبأنه صد عن سبيل الله، وبأنه كفر بالله.
والطريق الثاني: أن يكون قوله: {قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} جملة مبتدأ وخبر، وأما قوله: {وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ الله} فهو مرفوع بالابتداء، وكذا قوله: {وَكُفْرٌ بِهِ} والخبر محذوف لدلالة ما تقدم عليه، والتقدير: قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله كبير وكفر به كبير، ونظيره قولك: زيد منطلق وعمرو، تقديره: وعمرو منطلق، طعن البصريون في هذا الجواب فقالوا: أما قولكم تقدير الآية: يسألونك عن قتال في المسجد الحرام فهو ضعيف لأن السؤال كان واقعًا عن القتال في الشهر الحرام لا عن القتال في المسجد الحرام، وطعنوا في الوجه الأول بأنه يقتضي أن يكون القتال في الشهر الحرام كفرًا بالله، وهو خطأ بالإجماع، وطعنوا في الوجه الثاني بأنه لما قال بعد ذلك: {وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ} أي أكبر من كل ما تقدم فيلزم أن يكون إخراج أهل المسجد من المسجد أكبر عند الله من الكفر، وهو خطأ بالإجماع.
وأقول: للفراء أن يجيب عن الأول بأنه من الذي أخبركم بأنه ما وقع السؤال عن القتال في المسجد الحرام، بل الظاهر أنه وقع لأن القوم كانوا مستعظمين للقتال في الشهر الحرام وفي البلد الحرام وكان أحدهما كالآخر في القبح عند القوم، فالظاهر أنهم جمعوهما في السؤال، وقولهم على الوجه الأول يلزم أن يكون القتال في الشهر الحرام كفرًا.
قلنا: يلزم أن يكون قتال في الشهر الحرام كفرًا ونحن نقول به، لأن النكرة في الإثبات لا تفيد العموم، وعندنا أن قتالًا واحدًا في المسجد الحرام كفر، ولا يلزم أن كل قتال كذلك، وقولهم على الوجه الثاني يلزم أن يكون إخراج أهل المسجد منه أكبر من الكفر، قلنا: المراد من أهل المسجد هم الرسول عليه السلام والصحابة، وإخراج الرسول من المسجد على سبيل الإذلال لا شك أنه كفر وهو مع كونه كفرًا فهو ظلم لأنه إيذاء للإنسان من غير جرم سابق وعرض لاحق ولا شك أن الشيء الذي يكون ظلمًا وكفرًا، أكبر وأقبح عند الله مما يكون كفرًا وحده، فهذا جملة القول في تقرير قول الفراء.
القول الثالث: في الآية قوله: {قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سبيل الله وَكُفْرٌ بِهِ} وجهه ظاهر، وهو أن قتالًا فيه موصوف بهذه الصفات، وأما الخفض في قوله: {والمسجد الحرام} فهو واو القسم إلا أن الجمهور ما أقاموا لهذا القول وزنًا. اهـ.
وقال الفخر:
وأما قوله: {والمسجد الحرام} فإن عطفناه على الضمير في {بِهِ} كان المعنى: وكفر بالمسجد الحرام، ومعنى الكفر بالمسجد الحرام هو منع الناس عن الصلاة فيه والطواف به، فقد كفروا بما هو السبب في فضيلته التي بها يتميز عن سائر البقاع، ومن قال: إنه معطوف على سبيل الله كان المعنى: وصد عن المسجد الحرام، وذلك لأنهم صدوا عن المسجد الحرام الطائفين والعاكفين والركع السجود. اهـ.
وقال الفخر:
وأما قوله تعالى: {وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ} فالمراد أنهم أخرجوا المسلمين من المسجد، بل من مكة، وإنما جعلهم أهلًا له إذ كانوا هم القائمين بحقوق البيت كما قال تعالى: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التقوى وَكَانُواْ أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا} [الفتح: 26] وقال تعالى: {وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذّبَهُمُ الله وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ المسجد الحرام وَمَا كَانُواْ أَوْلِيَاءهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ المتقون} [الأنفال: 34] فأخبر تعالى أن المشركين خرجوا بشركهم عن أن يكونوا أولياء المسجد، ثم إنه تعالى بعد أن ذكر هذه الأشياء حكم عليها بأنها أكبر، أي كل واحد منها أكبر من قتال في الشهر الحرام، وهذا تفريع على قول الزجاج، وإنما قلنا: إن كل واحد من هذه الأشياء أكبر من قتال في الشهر الحرام لوجهين: أحدهما: أن كل واحد من هذه الأشياء كفر، والكفر أعظم من القتال والثاني: أنا ندعي أن كل واحد من هذه الأشياء أكبر من قتال في الشهر الحرام وهو القتال الذي صدر عن عبد الله بن جحش، وهو ما كان قاطعًا بوقوع ذلك القتال في الشهر الحرام، وهؤلاء الكفار قاطعون بوقوع هذه الأشياء منهم في الشهر الحرام، فيلزم أن يكون وقوع هذه الأشياء أكبر. اهـ.

.قال ابن عاشور:

مقتضى ظاهر ترتيب نظم الكلام أن يقال: وصدٌّ عن سبيل الله وكفر به وصد عن المسجد الحرام وإخراجُ أهله منه أكبر عند الله، فخولف مقتضى هذا النظم إلى الصورة التي جاءت الآية عليها، بأن قُدم قوله: {وكفر به} فجعل معطوفًا على {صد} قبل أن يستوفَى صد ما تعلق به وهو {والمسجِد الحرام} فإنه معطوف على {سبيل الله} المتعلق ب {صد} إذ المعطوف على المتعلَّق متعلِّقٌ فهو أولى بالتقديم من المعطوف على الاسم المتعلَّق به، لأن المعطوف على المتعلَّق به أجنبي عن المعطوف عليه، وأما المعطوف على المتعلِّق فهو من صلة المعطوف عليه، والداعي إلى هذا الترتيب هو أن يكون نظم الكلام على أسلوب أدق من مقتضى الظاهر وهو الاهتمام بتقديم ما هو أفظع من جرائمهم، فإن الكفر بالله أفظع من الصد عن المسجد الحرام، فكان ترتيب النظم على تقديم الأهمِّ فالأهمِّ، فإن الصد عن سبيل الإسلام يجمع مظالم كثيرة؛ لأنه اعتداء على الناس في ما يختارونه لأنفسهم، وجحد لرسالة رسول الله، والباعث عليه انتصارهم لأصنامهم {أجعل الآلهة إلهًا وَاحدًا إنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجاب} [ص: 5] فليس الكفر بالله إلا ركنًا من أركان الصد عن الإسلام فلذلك قدم الصد عن سبيل الله ثم ثنَّى بالكفر بالله ليفاد بدلالة المطابقة بعد أن دَلَّ عليه الصدُّ عن سبيل الله بدلالة التضمن، ثم عد عليهم الصد عن المسجد الحرام ثم إخراج أهله منه. ولا يصح أن يكون {والمسجد الحرام} عطفًا على الضمير في قوله: {به} لأنه لا معنى للكفر بالمسجد الحرام فإن الكفر يتعدى إلى ما يُعبد ومَا هو دين وما يتضمن دينًا، على أنهم يعظمون المسجد الحرام ولا يعتقدون فيه ما يسوغ أن يتكلف بإطلاق لفظ الكفر عليه على وجه المجاز.
وقوله: {وإخراج أهله منه} أي إخراج المسلمين من مكة؛ فإنهم كانوا حول المسجد الحرام؛ لأن في إخراجهم مظالم كثيرة فقد مرض المهاجرون في خروجهم إلى المدينة ومنهم كثير من أصابته الحمى حتى رفعت من المدينة ببركة دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم على أن التفضيل إنما تعلق بوقوع القتال في الأشهر الحرم لا بنفس القتل فإن له حكمًا يخصه. اهـ.

.قال البقاعي:

ولما كان كل ما تقدم من أمر الكفار فتنة كان كأنه قيل: أكبر، لأن ذلك فتنة {والفتنة} أي بالكفر والتكفير بالصد والإخراج وسائر أنواع الأذى التي ترتكبونها بأهل الله في الحرم والأشهر الحرم {أكبر من القتل} ولو كان في الشهر الحرام لأن همه يزول وغمها يطول. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وقوله: {والفتنة أكبر من القتل} تذييل مسوق مساق التعليل، لقوله: {وإخراج أهله منه}؛ وإذ قد كان إخراج أهل الحرم منه أكبر من القتل؛ كان ما ذكر قبله من الصد عن الدِّين والكفر بالله والصد عن المسجد الحرام أكبر بدلالة الفحوى، لأن تلك أعظم جرمًا من جريمة إخراج المسلمين من مكة.
والفتنة: التشغيب والإيقاع في الحيرة واضطراب العيش فهي اسم شامل لما يعظم من الأذى الداخل على أحد أو جماعة من غيرهم، وأريد بها هنا ما لقيه المسلمون من المشركين من المصائب في الدين بالتعرض لهم بالأذى بالقول والفعل، ومنعهم من إظهار عبادتهم، وقطيعتهم في المعاملة، والسخرية بهم والضرب المدمي والتمالئ على قتل الرسول صلى الله عليه وسلم والإخراج من مكة ومنع من أموالهم ونسائهم وصدهم عن البيت، ولا يخفى أن مجموع ذلك أكبر من قتل المسلمين واحدًا من رجال المشركين وهو عَمرو الحضرمي وأسِرهم رجلين منهم.
و{أكبر} أي أشد كِبَرًا أي قوة في المحارم، أي أكبر من القتل الذي هو في الشهر الحرام كبير.
جملة معترضة دعا إلى الاعتراض بها مناسبة قوله: {والفتنة أكبر من القتل} لما تضمنته من صدور الفتنة من المشركين على المسلمين وما تتضمنه الفتنة من المقاتلة التي تداولَها المسلمون والمشركون. إذ القتال يشتمل على أنواع الأذى وليس القتل إلاّ بعض أحوال القتال ألا ترى إلى قوله تعالى: {أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا} [الحج: 39] فسمى فعل الكفار مع المسلمين مقاتلة وسمى المسلمين مقاتَلين بفتح التاء، وفيه إعلام بأن المشركين مضمرون غزو المسلمين ومستعدون له وإنما تأخروا عنه بعد الهجرة، لأنهم كانوا يقاسون آثار سني جدب فقوله: {لا يزالون} وإن أشعر أن قتالهم موجود فالمراد به أسباب القتال، وهو الأذى وإضمار القتال كذلك، وأنّهم إن شرعوا فيه لا ينقطعون عنه، على أن صريح لا يزال الدلالة على أن هذا يدوم في المستقبل، و{حتى} للغاية وهي هنا غاية تعليلية.
والمعنى: أن فتنتهم وقتالهم يدوم إلى أن يحصل غرضهم وهو أن يردوكم عن دينكم. اهـ.