فصل: تفسير الآيات (6- 7):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآيات (6- 7):

قوله تعالى: {وَمنَ النَّاس مَنْ يَشْتَري لَهْوَ الْحَديث ليُضلَّ عَنْ سَبيل اللَّه بغَيْر علْمٍ وَيَتَّخذَهَا هُزُوًا أُولَئكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهينٌ (6) وَإذَا تُتْلَى عَلَيْه آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ في أُذُنَيْه وَقْرًا فَبَشّرْهُ بعَذَابٍ أَليمٍ (7)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان فطم النفس عن الشهوات.
أعظم هدى قائد إلى حصول المرادات، وكان اتباعها الشهوات أعظم قاطع عن الكمالات، وكان في ختام الروم أن من وقف مع الموهومات عن طلب المعلومات مطبوع على قلبه، وكان ما دعا إليه الكتاب هو الحكمة التي نتيجتها الفوز، وما دعا إليه اللهو هو السفه المضاد للحكمة، بوضع الأشياء في غير مواضعها، المثمر للعطب، قال تعالى معجبًا ممن يترك الجد إلى اللهو، ويعدل عن جوهر العلم إلى صدق السهو، عاطفًا على ما تقديره: فمن الناس من يتحلى بهذا الحال فيرقى إلى حلبة أهل الكمال: {ومن} ويمكن أن يكون حالًا من فاعل الإشارة.
أي أشير إلى آيات الكتاب الحكيم حال كونه هدى لمن ذكر والحال أن من {الناس} الذين هم في أدنى رتبة الإحساس، لم يصلوا إلى رتبة أهل الإيمان، فضلًا عن مقام أولي الإحسان.
ولما كان التقدير: من يسير بغير هذا السير، فيقطع نفسه عن كل خير، عبر عنه بقوله: {من يشتري} أي غير مهتد بالكتاب ولا مرحوم به {لهو الحديث} أي ما يلهي من الأشياء المتجددة التي تستلذ فيقطع بها الزمان من الغناء والمضحكات وكل شيء لا اعتبار فيه، فيوصل النفس بما أوصلها إليه من اللذة إلى مجرد الطبع البهيمي فيدعوها إلى العبث من اللعب كالرقص ونحوه مجتهدًا في ذلك معملًا الخيل في تحصيله باشتراء سببه، معرضًا عن اقتناص العلوم وتهذيب النفس بها عن الهموم والغموم، فينزل إلى أسفل سافلين كما علا الذي قبله بالحكمة إلى أعلى عليين- قال ابن عباس رضي الله عنهما: نزلت في رجل اشترى جارية تغنيه ليلًا ونهارًا، وقال مجاهد: في شرى القيان والمغنين والمغنيات، وقال ابن مسعود: اللهو الغناء، وكذا قال ابن عباس وغيره.
ولما كان من المعلوم أن عاقبة هذه الملاهي الضلال، بانهماك النفس في ذلك، لما طبعت عليه من الشهوة لمطلق البطالة، فكيف مع ما يثير ذلك ويدعو إليه من اللذاذة، فتصير أسيرة الغفلة عن الذكر، وقبيلة الإعراض عن الفكر، وكان المخاطب بهذا الكتاب قومًا يدعون العقول الفائقة، والأذهان الصافية الرائقة قال تعالى: {ليضل} من الضلال والإضلال على القراءتين، ضد ما كان عليه المحسنون من الهدى {عن سبيل الله} أي الطريق الواضح الواسع الموصل إلى رضى الملك الأعلى المستجمع لصفات الكمال والجلال والجمال التي هم مقرّون بكثير منها، منبهًا لهم على أن هذا مضل عن السبيل ولابد، وأن ذلك بحيث لا يخفى عليهم، فإن كان مقصودًا لهم فهو ما لا يقصده من له عداد البشر، وإلا كانوا من الغفلة سوء النظر وعمى البصيرة بمنزلة هي دون ذلك بمراحل.
ولما كان المراد: من قصد الضلال عن الشيء، ترك ذلك الشيء، وكان العاقل لا يقدم على ترك شيء إلا وهو عالم بأنه لا خير فيه قال: {بغير علم} ونكره ليفيد السلب العام لكل نوع من أنواع العلم، أي لأنهم لا علم لهم بشيء من حال السبيل ولا حال غيرها، علمًا يستحق إطلاق العلم عليه بكونه يفيد ربحًا أو يبقى على رأس مال من دين أو دنيا، فإن هذا حال من استبدل الباطل بالحق والضلال بالهدى.
ولما كان المستهزئ بالشيء المحتقر له لا يتمكن من ذلك إلا بعد الخبرة التامة بحال ذلك الشيء وأنه لا يصلح لصالحه ولا يروج له حال بحال قال معجبًا تعجيبًا آخر أشد من الأول بالنصب عطفًا على يضل في قراءة حمزة والكسائي وحفص عن عاصم، وبالرفع للباقين عطفًا على {يشتري} {ويتخذها} أي يكلف نفسه ضد ما تدعوه إليه فطرته الأولى أن يأخذ السبيل التي لا أشرف منها مع ما ثبت له من الجهل الطلق {هزوًا}.
ولما أنتج له هذا الفعل الشقاء الدائم.
بينه بقوله، جامعًا حملًا على معنى من بعد أن أفرد حملًا على لفظها، لأن الجمع في مقام الجزاء أهول، والتعجيب من الواحد أبلغ {أولئك} أي الأغبياء البعيدون عن رتبة الإنسان، وتهكم بهم التعبير باللام الموضوعة لما يلائم فقال: {لهم عذاب مهين} أي يثبت لهم الخزي الدائم ضد ما كان للمحسنين من الرحمة.
ولما كان الإنسان قد يكون غافلًا، فإذا نبه انتبه، دل سبحانه على أن هذا الإنسان المنهمك في أسباب الخسران لا يزداد على مر الزمان إلا مفاجأة لكل ما يرد عليه من البيان بالبغي والطغيان، فقال مفردًا للضمير حملًا على اللفظ أيضًا لئلا يتعلق متمحل بأن المذموم إنما هو الجمع صارفًا الكلام إلى مظهر العظمة لما اقتضاه الحال من الترهيب: {وإذا تتلى عليه آياتنا} أي يتجدد عليه تلاوة ذلك مع ما له من العظمة من أيّ تال كان وإن عظم {ولى} أي بعد السماع، مطلق التولي سواء كان على حالة المجانبة أو مدبرًا {مستكبرًا} أي حال كونه طالبًا موجدًا له بالإعراض عن الطاعة تصديقًا لقولنا آخر تلك {ولئن جئتهم بآية ليقولن الذين كفروا إن أنتم إلا مبطلون} [الروم: 58].
ولما كان السامع لآياته سبحانه جديرًا بأن تكسبه رقة وتواضعًا، قال تعالى دالًا على أن هذا الشقي كان حاله عند سماعه وبعده كما كان قبل: {كأن} أي كأنه، أي مشبهًا حالة بعد السماع حاله حين {لم يسمعها} فدل ذلك على أنه لم يزل على حالة الكبر لآنه شبه حاله مع السماع بحاله مع عدم السماع، وقد بين أن حاله مع السماع الاستكبار فكان حاله قبل السماع كذلك.
ولما كان من لم يسمع الشيء قد يكون قابلًا للسمع، فإذا كلم من قد جرت العادة بأن يسمع منه سمع، بين أن حال هذا كما كان مساويًا لما قبل التلاوة فهو مساو لما بعدها، لأن سمعه مشابه لمن به صم، فالمضارع في {يتلى} مفهم لأن الحال في الاستقبال كهي في الحال فقال تعالى: {كأن في أذنيه وقرًا} أي صممًا يستوي معه تكليم غيره له وسكوته.
ولما تسبب عن ذلك استحقاقه لما يزيل نخوته وكبره وعظمته، وكان استمرار الألم أعظم كاسرٍ لذوي الشمم، وكان من طبع الإنسان الاهتزاز لوعد الإحسان كائنًا من كان نوع اهتزاز قال: {فبشره} فلما كان جديرًا بأن يقبل- لا يولّي لظنه البشري- على حقيقتها لأن من يعلم أنه أهل للعذاب بأفعاله الصعاب لا يزال يتوالى عليه النعم مرة بعد مرة حتى يظن أو يكاد يقطع بأن المعاصي سبب لذلك وأنه- لما كان عند الله من عظيم المنزلة- لا يكره منه عمل من الأعمال، قرعة بقوله: {بعذاب} أي عقاب مستمر {أليم}. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{وَمنَ النَّاس مَنْ يَشْتَري لَهْوَ الْحَديث ليُضلَّ عَنْ سَبيل اللَّه بغَيْر علْمٍ}.
لما بين أن القرآن كتاب حكيم يشتمل على آيات حكمية بين من حال الكفار أنهم يتركون ذلك ويشتغلون بغيره، ثم إن فيه ما يبين سوء صنيعهم من وجوه الأول: أن ترك الحكمة والاشتغال بحديث آخر قبيح الثاني: هو أن الحديث إذا كان لهوًا لا فائدة فيه كان أقبح الثالث: هو أن اللهو قد يقصد به الإحماض كما ينقل عن ابن عباس أنه قال أحمضوا ونقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «روحوا القلوب ساعة فساعة» رواه الديلمي عن أنس مرفوعًا ويشهد له ما في مسلم «يا حنظلة ساعة وساعة» والعوام يفهمون منه الأمر بما يجوز من المطايبة، والخواص يقولون هو أمر بالنظر إلى جانب الحق فإن الترويح به لا غير فلما لم يكن قصدهم إلا الإضلال لقوله: {ليُضلَّ عَن سَبيل الله} كان فعله أدخل في القبح.
ثم قال تعالى: {بغَيْر علْمٍ} عائد إلى الشراء أي يشتري بغير علم ويتخذها أي يتخذ السبيل هزوًا أولئك {لَهُمْ عَذَابٌ مُّهينٌ} قوله: {مُّهينٌ} إشارة إلى أمر يفهم منه الدوام، وذلك لأن الملك إذا أمر بتعذيب عبد من عبيده، فالجلاد إن علم أنه ممن يعود إلى خدمة الملك ولا يتركه الملك في الحبس يكرمه ويخفف من تعذيبه، وإن علم أنه لا يعود إلى ما كان عليه وأمره قد انقضى، فإنه لا يكرمه.
فقوله: {عَذَابٌ مُّهينٌ} إشارة إلى هذا وبه يفرق بين عذاب المؤمن وعذاب الكافر، فإن عذاب المؤمن ليطهر فهو غير مهين.
{وَإذَا تُتْلَى عَلَيْه آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ في أُذُنَيْه وَقْرًا فَبَشّرْهُ بعَذَابٍ أَليمٍ (7)} أي يشتري الحديث الباطل، والحق الصراح يأتيه مجانًا يعرض عنه، وإذا نظرت فيه فهمت حسن هذا الكلام من حيث إن المشتري يطلب المشترى مع أنه يطلبه ببذل الثمن، ومن يأتيه الشيء لا يطلبه ولا يبذل شيئًا، ثم إن الواجب أن يطلب العاقل الحكمة بأي شيء يجده ويشتريها، وهم ما كانوا يطلبونها، وإذا جاءتهم مجانًا ما كانوا يسمعونها، ثم إن فيه أيضًا مراتب الأولى: التولية عن الحكمة وهو قبيح والثاني: الاستكبار، ومن يشتري حكاية رستم وبهرام ويحتاج إليها كيف يكون مستغنيًا عن الحكمة حتى يستكبر عنها؟ وإنما يستكبر الشخص عن الكلام وإذا كان يقول أنا أقول مثله، فمن لا يقدر يصنع مثل تلك الحكايات الباطلة كيف يستكبر على الحكمة البالغة التي من عند الله؟ الثالث: قوله تعالى: {كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا} شغل المتكبر الذي لا يلتفت إلى الكلام ويجعل نفسه كأنها غافلة الرابع: قوله: {كَأَنَّ في أُذُنَيْه وَقْرًا} أدخل في الإعراض.
ثم قال تعالى: {فَبَشّرْهُ بعَذَابٍ أَليمٍ} أي له عذاب مهين بشره أنت به وأوعده، أو يقال إذا كان حاله هذا {فَبَشّرْهُ بعَذَابٍ أَليمٍ}. اهـ.

.قال ابن العربي:

قَوْله تَعَالَى: {وَمنْ النَّاس مَنْ يَشْتَري لَهْوَ الْحَديث ليُضلَّ عَنْ سَبيل اللَّه بغَيْر علْمٍ وَيَتَّخذَهَا هُزُوًا أُولَئكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهينٌ} فيهَا ثَلَاثُ مَسَائلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: {لَهْوَ الْحَديث} هُوَ الْغنَاءُ وَمَا اتَّصَلَ به: فَرَوَى التّرْمذيُّ وَالطَّبَريُّ وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَبي أُمَامَةَ الْبَاهليّ أَنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ قَالَ: لَا يَحلُّ بَيْعُ الْمُغَنّيَات وَلَا شرَاؤُهُنَّ وَلَا التّجَارَةُ فيهنَّ وَلَا أَثْمَانُهُنَّ؛ وَفيهنَّ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمنْ النَّاس مَنْ يَشْتَري لَهْوَ الْحَديث ليُضلَّ عَنْ سَبيل اللَّه بغَيْر علْمٍ} الْآيَةَ.
وَرَوَى عَبْدُ اللَّه بْنُ الْمُبَارَك عَنْ مَالك بْن أَنَسٍ عَنْ مُحَمَّد بْن الْمُنْكَدر عَنْ أَنَس بْن مَالكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «مَنْ جَلَسَ إلَى قَيْنَةٍ يَسْمَعُ منْهَا صُبَّ في أُذُنَيْه الْآنُكُ يَوْمَ الْقيَامَة».
وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالك بْن أَنَسٍ، عَنْ مُحَمَّد بْن الْمُنْكَدر أَنَّ اللَّهَ يَقُولُ يَوْمَ الْقيَامَة: أَيْنَ الَّذينَ كَانُوا يُنَزّهُونَ أَنْفُسَهُمْ وَأَسْمَاعَهُمْ عَنْ اللَّهْو وَمَزَامير الشَّيْطَان؟ أَدْخلُوهُمْ في ريَاض الْمسْك.
ثُمَّ يَقُولُ للْمَلَائكَة: أَسْمعُوهُمْ حَمْدي وَشُكْري، وَثَنَائي عَلَيْهمْ، وَأَخْبرُوهُمْ أَنْ لَا خَوْفٌ عَلَيْهمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ.
وَمنْ روَايَة مَكْحُولٍ عَنْ عَائشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «مَنْ مَاتَ وَعنْدَهُ جَاريَةٌ مُغَنّيَةٌ فَلَا تُصَلُّوا عَلَيْه».
الثَّاني: أَنَّهُ الْبَاطلُ.
الثَّالثُ: أَنَّهُ الطَّبْلُ؛ قَالَهُ الطَّبَريُّ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانيَةُ: في سَبَب نُزُولهَا: وَفيه قَوْلَان: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا نَزَلَتْ في النَّضْر بْن الْحَارث، كَانَ يَجْلسُ بمَكَّةَ، فَإذَا قَالَتْ قُرَيْشٌ: إنَّ مُحَمَّدًا قَالَ كَذَا وَكَذَا ضَحكَ منْهُ، وَحَدَّثَهُمْ بأَحَاديثَ مُلُوك الْفُرْس، وَيَقُولُ: حَديثي هَذَا أَحْسَنُ منْ قُرْآن مُحَمَّدٍ.
الثَّاني: أَنَّهَا نَزَلَتْ في رَجُلٍ منْ قُرَيْشٍ اشْتَرَى جَاريَةً مُغَنّيَةً، فَشُغلَ النَّاسُ بلَهْوهَا عَنْ اسْتمَاع النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالثَةُ: هَذه الْأَحَاديثُ الَّتي أَوْرَدْنَاهَا لَا يَصحُّ منْهَا شَيْءٌ بحَالٍ، لعَدَم ثقَة نَاقليهَا إلَى مَنْ ذُكرَ منْ الْأَعْيَان فيهَا.
وَأَصَحُّ مَا فيه قَوْلُ مَنْ قَالَ: إنَّهُ الْبَاطلُ.
فَأَمَّا قَوْلُ الطَّبَريّ: إنَّهُ الطَّبْلُ فَهُوَ عَلَى قسْمَيْن: طَبْلُ حَرْبٍ، وَطَبْلُ لَهْوٍ، فَأَمَّا طَبْلُ الْحَرْب فَلَا حَرَجَ فيه؛ لأَنَّهُ يُقيمُ النُّفُوسَ، وَيُرْهبُ عَلَى الْعَدُوّ.
وَأَمَّا طَبْلُ اللَّهْو فَهُوَ كَالدُّفّ.
وَكَذَلكَ آلَاتُ اللَّهْو الْمُشْهرَةُ للنّكَاح يَجُوزُ اسْتعْمَالُهَا فيه، لمَا يَحْسُنُ منْ الْكَلَام، وَيَسْلَمُ منْ الرَّفَث.
وَأَمَّا سَمَاعُ الْقَيْنَات فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ يَجُوزُ للرَّجُل أَنْ يَسْمَعَ غنَاءَ جَاريَته، إذْ لَيْسَ شَيْءٌ منْهَا عَلَيْه حَرَامًا، لَا منْ ظَاهرهَا وَلَا منْ بَاطنهَا، فَكَيْفَ يُمْنَعُ منْ التَّلَذُّذ بصَوْتهَا.
وَلَمْ يَجُزْ الدُّفُّ في الْعُرْس لعَيْنه، وَإنَّمَا جَازَ؛ لأَنَّهُ يُشْهرُهُ، فَكُلُّ مَا أَشْهَرَهُ جَازَ.
وَقَدْ بَيَّنَّا جَوَازَ الزَّمْر في الْعُرْس بمَا تَقَدَّمَ منْ قَوْل أَبي بَكْرٍ: «أَمزْمَارُ الشَّيْطَان في بَيْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ؟ فَقَالَ دَعْهُمَا يَا أَبَا بَكْرٍ فَإنَّهُ يَوْمُ عيدٍ»، وَلَكنْ لَا يَجُوزُ انْكشَافُ النّسَاء للرّجَال وَلَا هَتْكُ الْأَسْتَار، وَلَا سَمَاعُ الرَّفَث، فَإذَا خَرَجَ ذَلكَ إلَى مَا لَا يَجُوزُ مُنعَ منْ أَوَّله، وَاجْتُنبَ منْ أَصْله. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله تعالى: {وَمن النَّاس مَن يَشْتَري لَهْوَ الْحَديث} فيه سبعة تأويلات:
أحدها: شراء المغنيات لرواية القاسم بن عبد الرحمن عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لاَ يَحلُّ بَيْعُ الْمُغنيَات وَلاَ شرَاؤُهُنَّ وَلاَ التّجَارَةُ فيهنَّ وَلاَ أَثْمَانُهُنَّ وَفيهنَّ أنزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمنَ النَّاس مَن يَشْتَري لَهْوَ الْحَديث}». الثاني: الغناء، قاله ابن مسعود وابن عباس وعكرمة وابن جبير وقتادة.
الثالث: أنه الطبل، قاله عبد الكريم، والمزمار، قاله ابن زخر.
الرابع: أنه الباطل، قاله عطاء.
الخامس: أنه الشرك بالله، قاله الضحاك وابن زيد.
السادس: ما ألهى عن الله سبحانه، قال الحسن.
السابع: أنه الجدال في الدين والخوض في الباطل، قاله سهل بن عبد الله.
ويحتمل إن لم يثبت فيه نص تأويلًا ثامنًا: أنه السحر والقمار والكهانة.
وفيمن نزلت قولان:
أحدهما: أنها نزلت في النضر بن الحارث كان يجلس بمكة فإذا قالت قريش إن محمدًا قال كذا وكذا ضحك منه وحدثهم بحديث رستم واسفنديار ويقول لهم إن حديثي أحسن من قرآن محمد، حكاه الفراء والكلبي.
الثاني: أنها نزلت في رجل من قريش اشترى جارية مغنية فشغل بها الناس عن اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، حكاه ابن عيسى.
{ليُضلَّ عَن سَبيل اللَّه بغَير علْمٍ} فيه وجهان:
أحدهما: ليصد عن دين الله، قاله الطبري.
الثاني: ليمنع من قراءة القرآن، قاله ابن عباس.
{بغَير علْمٍ} يحتمل وجهين:
أحدهما: بغير حجة.
الثاني: بغير رواية.
{وَيَتَّخذُهَا هُزُوًا} فيه وجهان:
أحدهما: يتخذ سبيل الله هزوًا يكذب بها، قاله قتادة. وسبيل الله دينه.
الثاني: يستهزىء بها، قاله الكلبي.
{وَأُوْلئكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهينٌ} أي مذل. اهـ.

.قال ابن عطية:

قوله تعالى: {ومن الناس من يشتري لهو الحديث}.
روي أنها نزلت في قرشي اشترى جارية مغنية تغني بهجاء محمد صلى الله عليه وسلم وسبه فنزلت الآية في ذلك، وقيل إنه ابن خطل وروي عن أبي أمامة الباهلي بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «شراء المغنيات وبيعهن حرام» وقرأ هذه الآية، وقال في هذا المعنى أنزلت علي هذه الآية، وبهذا فسر ابن مسعود وابن عباس وجابر بن عبد الله ومجاهد، وقال الحسن {لهو الحديث} المعازف والغناء، وقال بعض الناس نزلت في النضر بن الحارث لأنه اشترى كتب رستم واسبندياد وكان يخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فيحدثهم بتلك الأباطيل ويقول أنا أحسن حديثًا من محمد، وقال قتادة: الشراء في هذه الآية مستعار، وإنما نزلت الآية في أحاديث قريش وتلهيهم بأمر الإسلام وخوضهم في الأباطيل.
قال الفقيه الإمام القاضي: فكأن ترك ما يجب وامتثال هذه المنكرات شراء لها على حد قوله تعالى: {أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى} [البقرة: 16، 175] وقد قال مطرف: شراء {لهو الحديث} استحبابه، قال قتادة ولعله لا ينفق فيه مالًا ولكن سماعه هو شراؤه، وقال الضحاك {لهو الحديث} الشرك، وقال مجاهد أيضًا {لهو الحديث} الطبل وهذا ضرب من الغناء.
قال الفقيه الإمام القاضي: والذي يترجح أن الآية نزلت في لهو الحديث منضاف إلى كفر فلذلك اشتدت ألفاظ الآية بقوله: {ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوًا} والتوعد بالعذاب المهين، وأما لفظة الشراء فمحتملة للحقيقة والمجاز على ما بينا، و{لهو الحديث} كل ما يلهي من غناء وخنى ونحوه، والآية باقية المعنى في أمة محمد ولكن ليس ليضلوا عن سبيل الله بكفر ولا يتخذوا الآيات هزوًا ولا عليهم هذا الوعيد، بل ليعطل عبادة ويقطع زمانًا بمكروه، وليكون من جملة العصاة والنفوس الناقصة تروم تتميم ذلك النقص بالأحاديث وقد جعلوا الحديث من القربى، وقيل لبعضهم أتمل الحديث؟ قال: إنما يمل العتيق.
قال الفقيه الإمام القاضي: يريد القديم المعاد، لأن الحديث من الأحاديث فيه الطرافة التي تمنع من الملل، وقرأ نافع وعاصم والحسن وجماعة {ليُضل} بضم الياء.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتحها، وفي حرف أبيّ {ليضل الناس عن سبيل الله} وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم {ويتخذَها} بالنصب عطفًا على {ليضل} وقرأ الباقون {ويتخذُها} بالرفع عطفًا على {يشتري} والضمير في {يتخذها} يحتمل أن يعود على {الكتاب} المذكور أولًا ويحتمل أن يعود على السبيل، ويحتمل أن يعود على الأحاديث لأن الحديث اسم جنس بمعنى الأحاديث، وكذلك {سبيل الله} اسم جنس ولكن وجه من الحديث وجه يليق به من السبيل.
{وَإذَا تُتْلَى عَلَيْه آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ في أُذُنَيْه وَقْرًا فَبَشّرْهُ بعَذَابٍ أَليمٍ (7)}.
هذا دليل على كفر الذي نزلت فيه هذه الآية التي قبلها، والوقر في الأذن الثقل الذي يعسر إدراك المسموعات، وجاءت البشارة بالعذاب من حيث قيدت ونص عليها. اهـ.