فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشعراوي:

{إنَّ الَّذينَ آمَنُوا وَعَملُوا الصَّالحَات لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعيم (8)}.
وهؤلاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات في مقابل الذين يشترون لهو الحديث ليضلوا عن سبيل الله، وهذه سمَة من سمات الأسلوب القرآني؛ لأن ذكر الشيء مع مقابله يُوضّح المعنى ويعطيه حُسْنًا، كما في قوله تعالى: {إنَّ الأبرار لَفي نَعيمٍ وَإنَّ الفجار لَفي جَحيمٍ} [الانفطار: 13-14].
فالجمع بين المتقابلات يُفرح المؤمن بالنعيم، ثم يفرحه بأنْ يجد أعداءه من الكفار الذين غاظوه واضطهدوه وعذَّبوه يجدهم في النار.
وقلنا: إن الحق- سبحانه وتعالى- حينما يتكلم عن الإيمان يردفه بالعمل الصالح {إنَّ الذين آمَنُوا وَعَملُوا الصالحات} [لقمان: 8] لأن الإيمان أن تعلم قضايا غيبية فتُصدّق بها، لكن ما قيمة هذا الإيمان إذا لم تنفذ مطلوبه؟
وكذلك في سورة العصر: {والعصر إنَّ الإنسان لَفى خُسْرٍ إلاَّ الذين آمَنُوا وَعَملُوا الصالحات} [العصر: 1-3] ففائدة الإيمان العمل بمقتضاه، وإلا فما جدوى أن تؤمن بأشياء كثيرة، لكن لا تُوظف ما تؤمن به، ولا تترجمه إلى عمل وواقع؛ لذلك إنْ اكتفيتَ بالإيمان ككلمة تقال دون عمل، فقد جعلت الإيمانَ حجة عليك لا حجةً لك.
ومعنى {وَعَملُوا الصالحات} [لقمان: 8] أي: الصالح، والحق سبحانه خلق الكون على هيئة الصلاح، فالشيء الصالح عليك أنْ تزيد من صلاحه، فإنْ لم تقدر فلا أقلَّ من أنْ تدعَ الصالح على صلاحه فلا تفسده.
ثم يذكر سبحانه جزاء الإيمان والعمل الصالح {لَهُمْ جَنَّاتُ النعيم} [لقمان: 8] فهي جنات لا جنة واحدة، ثم هي جنات النعيم أي: المقيم الذي لا تفوته ولا يفوتك.
ثم يقول الحق سبحانه: {خَالدينَ فيهَا وَعْدَ الله حَقًّا}.
حين نتأمل هذه الآيات نلمس رحمة الله بعباده حتى الكافر منهم الذي ضلَّ وأضلَّ، ومع ذلك فالله رحيم به حتى في تناول عذابهم، ألا ترى أن الله تعالى قال في عذابهم أنه مهين، وأنه أليم، لكن لم يذكر معه خلودًا كما ذكر هنا الخلود لنعيم الجنات، كما أن العذاب جاء بصيغة المفرد، أما الجنة فجاءت بصيغة الجمع، ثم أخبر عنها أنها {وَعْدَ الله حَقًّا} [لقمان: 9].
والوعد يستخدم دائمًا لعَدةٍ بخير يأتيك، وقلنا: إن العبد يعد وقد لا يفي بوعده؛ لأنه لا يملك كل مُقوّمات الوفاء، أما الوعد إنْ كان من الله فهو محقق لأنه سبحانه يملك كل أسباب الوفاء، ولا يمنعه أحد عن تحقيق ما أراد؛ لأنه سبحانه يملك كل أسباب الوفاء، ولا يمنعه أحد عن تحقيق ما أراد؛ لأنه سبحانه ليس له شريك، كالرجل الذي أراد أنْ يذم آخر فقال له: الدليل على أن الله ليس له شريك أنه خلقك، فلو كان له شريك لقال له: لا داعي لأنْ تخلق هذا.
لذلك يعلمنا الحق- سبحانه وتعالى- أنْ نردف وَعْدنا بقولنا: إن شاء الله حتى نكون منصفين لأنفسنا من الناس، ولا نُتهم بالكذب إذا لم نَف، وعندها لي أن أقول: أردت ولكن الله لم يُرد، فجعلت المسألة في ساحة ربك عز وجل.
وبهذه المشيئة رحم الله الناس من ألسنة الناس، فإذا كلفتني بشيء فلم أقضه لك فاعلم أن له قدرًا عند الله لم يأت وقته بعد، واعلم أن الأمر لا يُقْضي في الأرض حتى يُقْضي في السماء، فلا تغضب ولا تتحامل على الناس، فالأمور ليست بإرادة الناس، وإنما بإرادة الله.
لذلك حين تتوسط لأخيك في قضاء مصلحة وتُقْضي على يديك، المؤمن الحق الذي يؤمن بقدر الله يتأدب مع الله فيقول: قُضيْتْ معي لا بي، يعني: شاء الله أنْ يقضيها فأكرمني أن أتكلم فيها وقت مشيئته تعالى، كذلك يقول الطبيب المؤمن: جاء الشفاء عندي لا بي.
ولو فهم الناس معنى قدر الله لاستراحوا، فحين ترى المجدّ العامل يُقْصي ويُبعد، وحين ترى الخامل والمنافق يُقرّب ويعتلي أرفع المناصب فلا تغضب، وإذا لم تحترمه لذاته فاحترم قدر الله فيه.
فالمسائل لا تجري في كَوْن الله بحركة ميكانيكية، إنما بقدر الله الذي يرفع مَنْ يشاء ويضع مَنْ يشاء، وله سبحانه الحكمة البالغة في هذه وتلك، وإلا لقلنا كما يقول الفلاسفة: إن الله تعالى خلق القضايا الكونية ثم تركها للناس يُسيّرونها.
والحق سبحانه ما ترك هذه القضايا، بدليل قوله تعالى: {يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لمَن يَشَاءُ إنَاثًا وَيَهَبُ لمَن يَشَاءُ الذكور أَوْ يُزَوّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإنَاثًا وَيَجْعَلُ مَن يَشَاءُ عَقيمًا}.
[الشورى: 49-50].
فبعد هذه الآية لا يقل أحد: إن فلانًا لا ينجب أو فلانه لا تنجب؛ لأن هذه مرادات عليا لله تعالى، ولو أن العقيم احترم قَدَر الله في العقم لجعل الله كل مَنْ يراهم من الأولاد أولاده، وما دام الله تعالى قال: {يَهَبُ} [الشورى: 49] فالمسألة في كل حالاتها هبة من الله تعالى لا دَخْلَ لأحد في الذكورة أو الأنوثة أو العقم. فلماذا- إذن- قبلتَ هبة الله في الذكور، ولم تقبل هبة الله في العقم؟
وسبق أن تحدثنا عن وَأْد البنات قبل الإسلام؛ لأن البنت كانت لا تركب الخيل، ولا تدافع عن قومها، ولا تحمل السلاح. إلخ، فلما جاء الإسلام حرم ذلك وكرَّم المرأة، وأعلى من شأنها، لكن ما زالت المفاضلة قائمة بين الولد والبنت.
والآن احتدم صراع مفتعل بين أنصار الرجل وأنصار المرأة، والإسلام بريء من هذا الصراع؛ لأن الرجل والمرأة في الإسلام متكاملان لا متضادان، وعجيب أنْ نرى من النساء مَنْ تتعصب ضد الرجال وهي تُجَنّ إنْ لم تنجب الولد، وهذه شهادة منهن بأفضليته.
وكأن الحق- تبارك وتعالى- يعلمنا أن مَنْ يحترم قدره في إنجاب البنات يقول الله له: لقد احترمتَ قدري فسوف أعطيك على قدرْي، فيعطيه الله البنين، أو يُيسّر لبناته أزواجًا يكونون أبرَّ به من أولاده وأطوع.
ثم أَلاَ ترى أن الله تعالى قدم البنات، في الهبة، فقال: {يَهَبُ لمَن يَشَاءُ إنَاثًا وَيَهَبُ لمَن يَشَاءُ الذكور} [الشورى: 49] لماذا؟ لأنه سبحانه يعلم محبة الناس للذكور: {وَإذَا بُشّرَ أَحَدُهُمْ بالأنثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظيمٌ يتوارى منَ القوم من سواء مَا بُشّرَ به} [النحل: 58-59].
وقوله تعالى: {وَهُوَ العزيز الحكيم} [لقمان: 9] العزيز الذي لا يغلب، ولا يستشير أحدًا فيما يفعل {الحكيم} [لقمان: 9] أي: حين يعد، وحين يفي بالوعد.
ثم تنتقل الآيات إلى دليل من أدلة الإيمان الفطري بوجود الإله: {خَلَقَ السماوات بغَيْر عَمَدٍ}.
أولًا: ذكر الحق سبحانه آية كونية لم يدَّعها أحد لنفسه من الكفار أو من الملاحدة، وهي آية موجودة ومُشَاهدة، وبعد أن قال سبحانه أنا خالق السماء والأرض لم يعارضه أحد، ولم يأْت مَنْ يعارضه فيقول: بل أنا خالق السماء والأرض.
وسبق أنْ قلنا: إن القضية تسلم لصاحبها ومدعيها إذا لم يَقُمْ لها معارض، فإن كانت هذه القضية صحيحة، والحق سبحانه هو الخالق فقد انتهتْ المسألة، وإذا كان هناك خالق غيره سبحانه فأين هو؟ هل درى أن واحدًا آخر أخذ منه الخَلْق، ولماذا لم يعارض ويدافع عن حقّه؟ أو أنه لم يَدْر بشيء فهو إله نائم على ودنه، وفي كلا الحالين لا يصلح أن يكون إلهًا يُعبد.
لذلك قال تعالى: {شَهدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إلاَّ هُوَ} [آل عمران: 18]، فهذه شهادة الذات للذات، ولم يعارضها معارض فصَحَّتْ لصاحبها إلى أنْ يوجد معارض.
وسبق أن مثَّلنا لذلك- ولله المثل الأعلى- بجماعة جلسوا في مجلس فلما انفضَّ مجلسهم وجد صاحب البيت حافظة نقود لا يعرف صاحبها، فاتصل بمن كانوا في مجلسه، وسألهم عنها فلم يقُلْ واحد منهم أنها له، إلى أن طرق الباب أحدهم وقال: والله لقد نسيت حافظة نقودي هنا، فلا شكَّ إذن أنها له وهو صاحبها حيث لم يدَّعها واحد آخر منهم.
والحق سبحانه يقول في إثبات هذه القضية: {قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إذًا لاَّبْتَغَوْا إلى ذي العرش سَبيلًا} [الإسراء: 42] أي: لذهبوا يبحون عمَّنْ أخذ منهم الخَلْق والناس، وأخذ منهم الألوهية.
فإنْ قالوا نحن آلهة لكن فوقنا إله أكبر يردُّ الحق عليهم: {مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السماوات والأرض وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسهمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخذَ المضلين عَضُدًا} [الكهف: 51].
وقوله تعالى: {بغَيْر عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} [لقمان: 10] حين تدور في أنحاء الكرة الأرضية من شمالها إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها تجد السماء تظلّك، ومع سعة السماء لا تجد لها عمدًا ترفعها، وكلمة {تَرَوْنَهَا} [لقمان: 10] تحمل معنيين: إما هي فعلًا بغير عمد، أو لها عمد لكن لا نراها {بغَيْر عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} [لقمان: 10] يعني: لا نرى لها عمدًا، لكن الحقيقة أن لها عمدًا لا ترونها بإحساسكم ومقاييسكم.
فإنْ قلت، فما هذه العمد التي لا نراها؟ البعض يقول: هي الجاذبية، وهذا القول مجانب للصواب، والحق سبحانه يكفينا مؤنة البحث في هذه المسألة، فيقول سبحانه: {وَيُمْسكُ السماء أَن تَقَعَ عَلَى الأرض إلاَّ بإذْنه} [الحج: 65].
إذن: لا نملك إلا أنْ نقول إنها ممسوكة بقدرة الله، ولكي لا نحار في كيفية ذلك يُقرّب الله لنا هذه المسألة بمثال مُشاهد لنا، فالطير يمسكه الله في جو السماء:
{أَلَمْ يَرَوْا إلى الطير مُسَخَّرَاتٍ في جَوّ السماء مَا يُمْسكُهُنَّ إلاَّ الله} [النحل: 79].
وفي موضوع آخر يقول الحق سبحانه: {إنَّ الله يُمْسكُ السماوات والأرض أَن تَزُولاَ} [فاطر: 41] إذن: فهو سبحانه يمسكها بقانون، لكن لا نعرفه نحن ولا ندركه.
والسماء في اللغة: كل مَا علاك فأظلّك، فالغيم الذي يعلوك وتراه قريبًا منك يُعد من السماء بدليل قول الله تعالى: {وَأَنزَلْنَا منَ السماء مَاءً} [لقمان: 10] والماء ينزل من الغيم، لا من السماوات العلا، والفرق بينهما أن الغيم تراه في مكان دون آخر، وتراه مُتقطعًا منفطرًا، أمَّا السماء العليا فهي بشكل واحد، لا ترى فيها من فطور.
وحين تكلم الحق سبحانه عن الأرض والسماء قال: إنها سبع سماوات، ولم يقُلْ سبع أراضين، بل {وَمنَ الأرض مثْلَهُنَّ} [الطلاق: 12] فدلَّ على أن الأرض سبع كالسماء، وإنْ كانت السماء كل ما أظلّك، فالأرض كل ما أقلَّك، لكن أين هذه الأرَضين السبع؟
لقد أخبرنا القرآن الكريم أن السماوات سبع، وأخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أنه مرَّ بها في مرحلة المعراج فقال في الأولى كذا وكذا، وفي الثانية كذا وكذا، وما دامتْ السماء كل ما أظلك، والأرض كل ما أقلك فالخَلْق في السماء الأولى مثلًا سماؤهم السماء الثانية، وأرضهم سماؤنا الأولى، وهكذا وهكذا.
ثم يقول سبحانه: {وألقى في الأرض رَوَاسيَ} [لقمان: 10] أي: الجبال الراسية الثابتة المتصلة بالأرض اتصالًا وثيقًا بحيث لا تتخلخل منها، والعلة في خَلْق الجبال الرواسي على الأرض {أَن تَميدَ بكُمْ} [لقمان: 10] أي: تميل وتضطرب بكم، ولو أن الأرض مخلوقة على هيئة الثبات لما احتاجت إلى ما يثبتها.
إذن: فالأرض متحركة، وما خُلقت الجبال إلا لتثبيتها وضبط حركتها، فدَّلت هذه الآية على صدْق النظرية القائلة بدوران الأرض، كذلك في قوله تعالى: {وَتَرَى الجبال تَحْسَبُهَا جَامدَةً وَهيَ تَمُرُّ مَرَّ السحاب} [النمل: 88].
إذن: فللجبال حركة مرتبطة بحركة الأرض، فإنْ قُلْتَ: ولماذا لا نراها؟ نقول: لأن وحدة المكان تجعلك لا تدرك هذه الحركة، فالمتحد في مكان لا تختلف مرائي الأشياء بالنسبة له.
فلو تصوَّرنا أن هذا المسجد الذي يجمعنا صُمّم على هيئة رَحَىً تدور بنا، فهل نشعر بدورانه ونحن ندور بدورانه؟ لا نشعر، لماذا؟ لأن مواقعنا من بعض ثابتة لا تتغير، كذلك موقعنا من المكان؛ لذلك لا نشعر بالحركة لكن نشعر بالحركة حين نقيس متحركًا بثابت، فلو فتحنا الباب مثلًا أو الشباك ورأينا ما هو خارج المسجد، عندها نشعر أننا نتحرك.
إذن: لا يمكن لمَنْ على الأرض أن يشعر بحركتها؛ لأنه يتحرك معها، وما دامت الجبال أوتادًا في الأرض وهي- أي الجبال- تمر مرَّ السحاب فلابد أن الأرض كذلك تمر وتتحرك بنفس الحركة، وحركة الجبال ليست ذاتية، إنما هي تابعة لحركة الأرض، والحق سبحانه شبَّه حركة الجبال بحركة السحاب، والسحاب حركته غير ذاتية، إنما هي تابعة لحركة الرياح.
ثم يذكر الحق سبحانه علة أخرى لخَلْق الجبال: {وَبَثَّ فيهَا من كُلّ دَآبَّةٍ} [لقمان: 10] وسبق أنْ أوضحنا أن الجبال تمثل مخازن للقوت الذي به قوام الحياة للإنسان وللحيوان والذي ينشأ من الزرع، وبيَّنا أن الطبقة الخارجية للجبال تتفتتْ بعوامل التعرية، ثم يحملها ماء المطر إلى الوديان فتزيد من خصوبة الأرض بمقدار كل عام، ومن الجبال أيضًا يتكون الماء في الأنهار او في مسارب الأرض فنخرجه حين الحاجة إليه.
ومن حكمته تعالى أنْ جعل الجبال راسية ثابتة، وجعلها صلدة وإلا لو كانت هشّة لأذابتها الأمطار وفتتها في عدة سنوات، ثم حرمت الأرض من الخصوبة التي تستمدها من الجبال؛ لذلك يقول الله تعالى: {وَمَا نُنَزّلُهُ إلاَّ بقَدَرٍ مَّعْلُومٍ} [الحجر: 21] فمع زيادة السكان تزداد المساحة الخصْبة التي يُكوّنها الغرْين الذي يتفتت من الجبال عامًا بعد عام.
واقرأ إنْ شئتَ قوله تعالى: {قُلْ أَئنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذي خَلَقَ الأرض في يَوْمَيْن وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلكَ رَبُّ العالمين وَجَعَلَ فيهَا رَوَاسيَ من فَوْقهَا وَبَارَكَ فيهَا وَقَدَّرَ فيهَآ أَقْوَاتَهَا} [فصلت: 9-10].
فالجبال جعلها الله راسية حتى لا تضطرب بنا الأرض، وجعلها صلبة لأنها مخزن الخصْب الذي يُمدُّنا بالزرع الذي به قوَام حياتنا.
ومن رحمة الله بالإنسان أنْ جعل فيه ذاتية استبقاء الحياة، فإن مُنع عنه الطعام أو الشراب تغذَّى من المخزون في جسمه؛ فيأخذ أولًا من الدهن، ثم من اللحم، ثم من العظم؛ لذلك قلنا: إن العظم هو آخر مخازن القوت في جسم الإنسان، وفي ضوء ذلك نفهم قول سيدنا زكريا: {إنَّي وَهَنَ العظم منّي} [مريم: 4].
يعني: قد بلغتُ آخر مرحلة من مراحل استبقاء الحياة.
فكان من رحمة الله بالخَلْق أنْ جعل حتى شَرَه الإنسان للطعام والشراب رحمة به، حيث يتحول الزائد عن طاقته وحاجته إلى مخزون في جسمه، فإذا انقطعتْ به السُّبُل أو تعذَّر عليه الطعام والشراب استمد مما في جسمه.
كذلك من رحمة الله بالإنسان أنْ جعله يصبر على الطعام إلى شهر، ويصبر على الماء من ثلاثة أيام إلى عشرة بحسب ما في جسمه من مخزون الطعام والشراب، اما الهواء فلا يصبر عليه إلا بمقدار شهيق وزفير؛ لذلك تتجلى رحمته تعالى وحكمته في خَلْقه بألاَّ يُملّك الهواء لأحد، فلو مَلكه عدوك لمتّ قبل أن يرضى عنك.
وقوله: {وَبَثَّ فيهَا من كُلّ دَآبَّةٍ} [لقمان: 10] بث أي: نشر، والدابة: كل ما له دبيب على الأرض، والدبيب بحسب ما يدبّ على الأرض، وكل ما يمشي على الأرض له دبيب نسمعه في الحيوان الضخم مثلًا، لكن لا نسمعه في النملة مثلًا، فهي أيضًا لها دبيب بدليل قولنا: فلان يسمع دبّة النملة، إذن: لها دبيب على الأرض، لكن أذن مَنْ التي تستطيع أنْ تسمعه؟