فصل: من أقوال المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{يَا بُنَيَّ إنَّهَا إنْ تَكُ مثْقَالَ حَبَّةٍ منْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ في صَخْرَةٍ}.
لما قال: {فَأُنَبئُكُم بمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} وقع لابنه أن ما يفعل في خفية يخفي فقال: {يا بني إنها} أي الحسنة والسيئة إن كانت في الصغر مثل حبة خردل وتكون مع ذلك الصغر في موضع حريز كالصخرة لا تخفى على الله، وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
قوله: {فَتَكُنْ} بالفاء لإفادة الاجتماع يعني إن كانت صغيرة ومع صغرها تكون خفية في موضع حريز كالصخرة لا تخفى على الله لأن الفاء للاتصال بالتعقيب.
المسألة الثانية:
لو قيل الصخرة لابد من أن تكون في السموات أو في الأرض فما الفائدة في ذكرها؟ ولأن القائل لو قال هذا رجل أو امرأة أو ابن عمرو لا يصح هذا الكلام لكون ابن عمرو داخلًا في أحد القسمين فكيف يفهم هذا، فنقول الجواب عنه من أوجه أحدها: ما قاله بعض المفسرين وهو أن المراد بالصخرة صخرة عليها الثور وهي لا في الأرض ولا في السماء والثاني: ما قاله الزمخشري وهو أن فيه إضمارًا تقديره فتكن في صخرة أو في موضع آخر في السموات أو في الأرض والثالث: أن نقول تقديم الخاص وتأخير العام في مثل هذا التقسيم جائز وتقديم العام وتأخير الخاص غير جائز، أما الثاني فلما بينتم أن من قال هذا في دار زيد أو في غيرها أو في دار عمرو لا يصح لكون دار عمرو داخلة في قوله أو في غيرها، وأما الأول فلأن قول القائل هذا في دار زيد أو في دار عمرو أو في غيرها صحيح غير قبيح فكذلك هاهنا قدم الأخص أو نقول خفاء الشيء يكون بطرق منها أن يكون في غاية الصغر ومنها أن يكون بعيدًا، ومنها أن يكون في ظلمة، ومنها أن يكون من وراء حجاب، فإن انتفت الأمور بأسرها بأن يكون كبيرًا قريبًا في ضوء من غير حجاب فلا يخفى في العبادة، فأثبت الله الرؤية والعلم مع انتفاء الشرائط فقوله: {إنَّهَا إن تَكُ مثْقَالَ حَبَّةٍ} إشارة إلى الصغر وقوله: {فَتَكُنْ في صَخْرَةٍ} إشارة إلى الحجاب وقوله: {أَوْ في السموات} إشارة إلى البعد فإنها أبعد الأبعاد وقوله: {أَوْ في الأرض} إشارة إلى الظلمات فإن جوف الأرض أظلم الأماكن وقوله: {يَأْت بهَا الله} أبلغ من قول القائل يعلمها الله لأن من يظهر له الشيء ولا يقدر على إظهاره لغيره يكون حاله في العلم دون حال من يظهر له الشيء ويظهره لغيره فقوله: {يَأْت بهَا الله} أي يظهرها الله للأشهاد وقوله: {إنَّ الله لَطيفٌ} أي نافذ القدرة {خَبيرٌ} أي عالم ببواطن الأمور.
{يَا بُنَيَّ أَقم الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بالْمَعْرُوف وَانْهَ عَن الْمُنْكَر وَاصْبرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إنَّ ذَلكَ منْ عَزْم الْأُمُور (17)}.
لما منعه من الشرك وخوفه بعلم الله وقدرته أمره بما يلزمه من التوحيد وهو الصلاة وهي العبادة لوجه الله مخلصًا، وبهذا يعلم أن الصلاة كانت في سائر الملل غير أن هيئتها اختلفت.
ثم قال تعالى: {وَأْمُرْ بالمعروف وانه عَن المنكر} أي إذا كملت أنت في نفسك بعبادة الله فكمل غيرك، فإن شغل الأنبياء وورثتهم من العلماء هو أن يكملوا في أنفسهم ويكملوا غيرهم، فإن قال قائل كيف قدم في وصيته لابنه الأمر بالمعروف على النهي عن المنكر، وقبل قدم النهي عن المنكر على الأمر بالمعروف فإنه أول ما قال: {يا بنى لاَ تُشْركْ} ثم قال: {يا بني أقم الصلاة} فنقول هو كان يعلم من ابنه أنه معترف بوجود الله فما أمره بهذا المعروف ونهاه عن المنكر الذي يترتب على هذا المعروف، فإن المشرك بالله لا يكون نافيًا لله في الاعتقاد وإن كان يلزمه نفيه بالدليل فكان كل معروف في مقابلته منكر والمعروف في معرفة الله اعتقاد وجوده والمنكر اعتقاد وجود غيره معه، فلم يأمره بذلك المعروف لحصوله ونهاه عن المنكر لأنه ورد في التفسير أن ابنه كان مشركًا فوعظه ولم يزل يعظه حتى أسلم، وأما هاهنا فأمر أمرًا مطلقًا والمعروف مقدم على المنكر ثم قال تعالى: {واصبر على مَا أَصَابَكَ} يعني أن من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر يؤذي فأمره بالصبر عليه، وقوله: {إنَّ ذَلكَ منْ عَزْم الأمور} أي من الأمور الواجبة المعزومة أي المقطوعة ويكون المصدر بمعنى المفعول، كما تقول أكلي في النهار رغيف خبز أي مأكولي.
{وَلَا تُصَعّرْ خَدَّكَ للنَّاس وَلَا تَمْش في الْأَرْض مَرَحًا إنَّ اللَّهَ لَا يُحبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18)}.
لما أمره أمره بأن يكون كاملًا في نفسه مكملًا لغيره وكان يخشى بعدهما من أمرين أحدهما: التكبر على الغير بسبب كونه مكملًا له والثاني: التبختر في النفس بسبب كونه كاملًا في نفسه فقال: {وَلاَ تُصَعّرْ خَدَّكَ للنَّاس} تكبرًا {وَلاَ تَمْش في الأرض مَرَحًا} تبخترًا {إنَّ الله لاَ يُحبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ} يعني من يكون به خيلاء وهو الذي يرى الناس عظمة نفسه وهو التكبر {فَخُورٌ} يعني من يكون مفتخرًا بنفسه وهو الذي يرى عظمة لنفسه في عينه، وفي الآية لطيفة وهو أن الله تعالى قدم الكمال على التكميل حيث قال: {أَقم الصلاة} ثم قال: {وَأْمُرْ بالمعروف} وفي النهي قدم ما يورثه التكميل على ما يورثه الكمال حيث قال: {وَلاَ تُصَعّرْ خَدَّكَ} ثم قال: {وَلاَ تَمْش في الأرض مَرَحًا} لأن في طرف الإثبات من لا يكون كاملًا لا يمكن أن يصير مكملًا فقدم الكمال، وفي طرف النفي من يكون متكبرًا على غيره متبخترًا لأنه لا يتكبر على الغير إلا عند اعتقاده أنه أكبر منه من وجه، وأما من يكون متبخترًا في نفسه لا يتكبر، ويتوهم أنه يتواضع للناس فقدم نفي التكبر ثم نفي التبختر، لأنه لو قد نفي التبختر للزم منه نفي التكبر فلا يحتاج إلى النهي عنه.
ومثاله أنه لا يجوز أن يقال لا تفطر ولا تأكل، لأن من لا يفطر لا يأكل، ويجوز أن يقال لا تأكل ولا تفطر، لأن من لا يأكل قد يفطر بغير الأكل، ولقائل أن يقول إن مثل هذا الكلام يكون للتفسير فيقول لا تفطر ولا تأكل أي لا تفطر بأن تأكل ولا يكون نهيين بل واحدًا.
{وَاقْصدْ في مَشْيكَ وَاغْضُضْ منْ صَوْتكَ إنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَات لَصَوْتُ الْحَمير (19)}.
لما قال: {وَلاَ تَمْش في الأرض مَرَحًا} وعدم ذلك قد يكون بضده وهو الذي يخالف غاية الاختلاف، وهو مشي المتماوت الذي يرى من نفسه الضعف تزهدًا فقال: {واقصد في مَشْيكَ} أي كن وسطًا بين الطرفين المذمومين، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى:
هل للأمر بالغض من الصوت مناسبة مع الأمر بالقصد في المشي؟ فنقول: نعم سواء علمناها نحن أو لم نعلمها وفي كلام الله من الفوائد ما لا يحصره حد ولا يصيبه عد، ولا يعلمه أحد والذي يظهر وجوه الأول: هو أن الإنسان لما كان شريفًا تكون مطالبه شريفة فيكون فواتها خطرًا فأقدر الله الإنسان على تحصيلها بالمشي، فإن عجز عن إدراك مقصوده ينادي مطلوبه فيقف له أو يأتيه مشيًا إليه فإن عجز عن إبلاغ كلامه إليه، وبعض الحيوانات يشارك الإنسان في تحصيل المطلوب بالصوت كما أن الغنم تطلب السخلة والبقرة العجل والناقة الفصيل بالثغاء والخوار والرغاء ولكن لا تتعدى إلى غيرها، والإنسان يميز البعض عن البعض فإذا كان المشي والصوت مفضيين إلى مقصود واحد لما أرشده إلى أحدهما أرشده إلى الآخر الثاني: هو أن الإنسان له ثلاثة أشياء عمل بالجوارح يشاركه فيه الحيوانات فإنه حركة وسكون، وقول باللسان ولا يشاركه فيه غيره وعزم بالقلب وهو لا اطلاع عليه إلا لله، وقد أشار إليه بقوله: {إنَّهَا إن تَكُ مثْقَالَ حَبَّةٍ مّنْ خَرْدَلٍ} [لقمان: 16] أي أصلح ضميرك فإن الله خبير، بقي الأمران فقال: {واقصد في مَشْيكَ واغضض من صَوْتكَ} إشارة إلى التوسط في الأفعال والأقوال الثالث: هو أن لقمان أراد إرشاد ابنه إلى السداد في الأوصاف الإنسانية والأوصاف التي هي للملك الذي هو أعلى مرتبة منه، والأوصاف التي للحيوان الذي هو أدنى مرتبة منه.
فقوله: {وَأْمُرْ بالمعروف وانه عَن المنكر} إشارة إلى المكارم المختصة بالإنسان فإن الملك لا يأمر ملكًا آخر بشيء ولا ينهاه عن شيء.
وقوله: {وَلاَ تُصَعّرْ خَدَّكَ للنَّاس وَلاَ تَمْش في الأرض مَرَحًا} الذي هو إشارة إلى عدم التكبر والتبختر إشارة إلى المكارم التي هي صفة الملائكة فإن عدم التكبر والتبختر صفتهم.
وقوله: {واقصد في مَشْيكَ واغضض من صَوْتكَ} إشارة إلى المكارم التي هي صفة الحيوان ثم قال تعالى: {إنَّ أَنكَرَ الأصوات لَصَوْتُ الحمير} وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
لم ذكر المانع من رفع الصوت ولم يذكر المانع من سرعة المشي، نقول أما على قولنا إن المشي والصوت كلاهما موصلان إلى شخص مطلوب إن أدركه بالمشي إليه فذاك، وإلا فيوقفه بالنداء، فنقول رفع الصوت يؤذي السامع ويقرع الصماخ بقوة، وربما يخرق الغشاء الذي داخل الأذن.
وأما السرعة في المشي فلا تؤذي أو إن كانت تؤذي فلا تؤذي غير من في طريقه والصوت يبلغ من على اليمين واليسار، ولأن المشي يؤذي آلة المشي والصوت يؤذي آلة السمع وآلة السمع على باب القلب، فإن الكلام ينتقل من السمع إلى القلب ولا كذلك المشي، وأما على قولنا الإشارة بالشيء والصوت إلى الأفعال والأقوال فلأن القول قبيحه أقبح من قبيح الفعل وحسنه أحسن لأن اللسان ترجمان القلب والاعتبار يصحح الدعوى.
المسألة الثانية:
كيف يفهم كونه أنكر مع أن مس المنشار بالمبرد وحت النحاس بالحديد أشد تنفيرًا؟ نقول الجواب عنه من وجهين أحدهما: أن المراد أن أنكر أصوات الحيوانات صوت الحمير فلا يرد ما ذكرتم وما ذكرتم في أكثر الأمر لمصلحة وعمارة فلا ينكر، بخلاف صوت الحمير وهذا وهو الجواب الثاني.
المسألة الثالثة:
أنكر هو أفعل التفضيل فمن أي باب هو؟ نقول يحتمل أن يكون من باب أطوع له من بنانه، بمعنى أشدها طاعة فإن أفعل لا يجىء في مفعل ولا في مفعول ولا في باب العيوب إلا ما شذ، كقولهم أطوع من كذا للتفضيل على المطيع، وأشغل من ذات النحيين للتفضيل على المشغول، وأحمق من فلان من باب العيوب، وعلى هذا فهو في باب أفعل كأشغل في باب مفعول فيكون للتفضيل على المنكر، أو نقول هو من باب أشغل مأخوذًا من نكر الشيء فهو منكر، وهذا أنكر منه، وعلى هذا فله معنى لطيف، وهو أن كل حيوان قد يفهم من صوته بأنه يصيح من ثقل أو تعب كالبعير أو غير ذلك، والحمار لو مات تحت الحمل لا يصيح ولو قتل لا يصيح، وفي بعض أوقات عدم الحاجة يصيح وينهق فصوته منكور، ويمكن أن يقال هو من نكير كأجدر من جدير. اهـ.

.قال الجصاص:

وقَوْله تعالى: {يَا بُنَيَّ أَقمْ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بالْمَعْرُوف وَانْهَ عَنْ الْمُنْكَر وَاصْبرْ عَلَى مَا أَصَابَك} يعني وَاَللَّهُ أَعْلَمُ اصْبرْ عَلَى مَا أَصَابَك منْ النَّاس في الْأَمْر بالْمَعْرُوف وَظَاهرُهُ يَقْتَضي وُجُوبَ الصَّبْر وَإنْ خَافَ عَلَى النَّفْس إلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَبَاحَ إعْطَاءَ التَّقيَّة في حَال الْخَوْف في آيٍ غَيْرهَا قَدْ بَيَّنَّاهَا، وَقَدْ اقْتَضَتْ الْآيَةُ وُجُوبَ الْأَمْر بالْمَعْرُوف وَالنَّهْي عَنْ الْمُنْكَر.
قَوْله تعالى: {وَلَا تُصَعّرْ خَدَّك للنَّاس}.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهدٌ: مَعْنَاهُ لَا تُعْرضْ بوَجْهك عَنْ النَّاس تَكَبُّرًا وَقَالَ إبْرَاهيمُ هُوَ التَّشَدُّقُ وَمَعْنَاهُ يَرْجعُ إلَى الْأَوَّل؛ لأَنَّ الْمُتَشَادقَ في الْكَلَام مُتَكَبّرٌ، وَقيلَ: إنَّ أَصْلَ الصَّعَر دَاءٌ يَأْخُذُ الْإبلَ في أَعْنَاقهَا وَرُءُوسهَا حَتَّى يَلْويَ وُجُوهَهَا وَأَعْنَاقَهَا فَيُشَبّهُ بهَا الرَّجُلَ الَّذي يَلْوي عُنُقَهُ عَنْ النَّاس، قَالَ الشَّاعرُ: وَكُنَّا إذَا الْجَبَّارُ صَعَّرَ خَدَّهُ أَقَمْنَا لَهُ منْ مَيْله فَتَقَوَّمَا. اهـ.
قوله تعالى: {وَلَا تَمْش في الْأَرْض مَرَحًا}.
الْمَرَحُ الْبَطَرُ وَإعْجَابُ الْمَرْء بنَفْسه وَازْدرَاءُ النَّاس وَالاسْتهَانَةُ بهمْ، فَنَهَى اللَّهُ عَنْهُ؛ إذْ لَا يَفْعَلُ ذَلكَ إلَّا جَاهلٌ بنَفْسه وَأَحْوَاله وَابْتدَاء أَمْره وَمُنْتَهَاهُ؛ قَالَ الْحَسَنُ: أَنَّى لابْن آدَمَ الْكبْرَ وَقَدْ خَرَجَ منْ سَبيل الْبَوْل مَرَّتَيْن.
وقَوْله تَعَالَى: {إنَّ اللَّهَ لَا يُحبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} قَالَ مُجَاهدٌ: هُوَ الْمُتَكَبّرُ وَالْفَخُورُ الَّذي يَفْتَخرُ بنعَم اللَّه تَعَالَى عَلَى النَّاس اسْتصْغَارًا لَهُمْ، وَذَلكَ مَذْمُومٌ؛ لأَنَّهُ إنَّمَا يَسْتَحقُّ عَلَيْه الشُّكْرَ للَّه عَلَى نعَمه لَا التَّوَصُّلَ بهَا إلَى مَعَاصيه.
وَقَالَ النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ حينَ ذَكَرَ نعَمَ اللَّه أَنَّهُ سَيّدُ وَلَد آدَمَ وَلَا فَخْرَ، فَأَخْبَرَ أَنَّهُ إنَّمَا ذَكَرَهَا شُكْرًا لَا افْتخَارًا، عَلَى نَحْو قَوْله تَعَالَى: {وَأَمَّا بنعْمَة رَبّك فَحَدّثْ}.
قَوْله تَعَالَى: {وَاقْصدْ في مَشْيك} قَالَ يَزيدُ بْنُ أَبي حَبيبٍ: هُوَ السُّرْعَةُ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَأَوَّلَهُ عَلَى ذَلكَ؛ لأَنَّ الْمُخْتَالَ في مشْيَته لَا يُسْرعُ فيهَا فَسُرْعَةُ الْمَشْي تُنَافي الْخُيَلَاءَ وَالتَّكَبُّرَ.
وقَوْله تَعَالَى: {وَاغْضُضْ منْ صَوْتك إنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَات لَصَوْتُ الْحَمير} فيه أَمْرٌ بخَفْض الصَّوْت؛ لأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى التَّوَاضُع، كَقَوْله تَعَالَى: {إنَّ الَّذينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عنْدَ رَسُول اللَّه} وَرَفْعُ الصَّوْت عَلَى وَجْه ابْتهَار النَّاس وَإظْهَار الاسْتخْفَاف بهمْ مَذْمُومٌ، فَأَبَانَ عَنْ قُبْح هَذَا الْفعْل وَأَنَّهُ لَا فَضيلَةَ فيه؛ لأَنَّ الْحَميرَ تَرْفَعُ أَصْوَاتَهَا وَهُوَ أَنْكَرُ الْأَصْوَات؛ قَالَ مُجَاهدٌ في قَوْله: {أَنْكَرَ الْأَصْوَات} أَقْبَحُهَا، كَمَا يُقَالُ: هَذَا وَجْهٌ مُنْكَرٌ؛ فَذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلكَ وَأَدَّبَ الْعبَادَ تَزْهيدًا لَهُمْ في رَفْع الصَّوْت. اهـ.

.قال ابن العربي:

قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تُصَعّرْ خَدَّك للنَّاس وَلَا تَمْش في الْأَرْض مَرَحًا إنَّ اللَّهَ لَا يُحبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ}.
فيهَا مَسْأَلَتَان:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: {وَلَا تُصَعّرْ خَدَّك} يَعْني لَا تُملْهُ عَنْهُمْ تَكَبُّرًا، يُريدُ أَقْبلْ عَلَيْهمْ مُتَوَاضعًا، مُؤْنسًا مُسْتَأْنسًا، وَإذَا حَدَّثَك أَحَدُهُمْ فَأَصْغ إلَيْه، حَتَّى يُكْملَ حَديثَهُ، وَكَذَلكَ كَانَ يَفْعَلُ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ.
وَقَالَ الشَّاعرُ: وَكُنَّا إذَا الْجَبَّارُ صَعَّرَ خَدَّهُ أَقَمْنَا لَهُ منْ مَيْله فَتَقَوَّمَ يُريدُ: فَتَقَوَّمْ أَنْتَ، أَمْرٌ، ثُمَّ كُسرَتْ للْقَافيَة.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانيَةُ: قَوْلُهُ: {وَلَا تَمْش في الْأَرْض مَرَحًا} قَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلكَ في سُورَة سُبْحَانَ.
وَفي الْحَديث الصَّحيح عَنْ مَالكٍ وَغَيْره: «بَيْنَمَا رَجُلٌ يَتَبَخْتَرُ في بُرْدَيْه أَعْجَبَتْهُ نَفْسُهُ فَخَسَفَ اللَّهُ به الْأَرْضَ وَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فيهَا إلَى يَوْم الْقيَامَة».
وَعَنْهُ، صَحيحًا: «الَّذي يَجُرُّ ثَوْبَهُ خُيَلَاءَ لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إلَيْه يَوْمَ الْقيَامَة».
وَعَنْهُ مثْلُهُ: «لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إلَى مَنْ جَرَّ إزَارَهُ بَطَرًا».
وَعَنْهُ مثْلُهُ عَنْ أَبي سَعيدٍ الْخُدْريّ: أَنَّهُ سُئلَ عَنْ الْإزَار، فَقَالَ أَبُو سَعيدٍ: أَنَا أُخْبرُكُمْ بعلْمٍ: سَمعْت رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إزْرَةُ الْمُؤْمن إلَى أَنْصَاف سَاقَيْه لَا جُنَاحَ عَلَيْه فيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَعْبَيْن وَمَا أَسْفَلَ منْ ذَلكَ فَفي النَّار».
قَالَ الْقَاضي: رُويَ أَنَّ الْمُخْتَالَ هُوَ قَارُونُ، وَذَلكَ أَنَّ هَذه الْأُمَّةَ مَعْصُومَةٌ منْ الْخَسْف.
وَفي بَعْض الْآثَار، وَفي صَحيح الْأَخْبَار: «أَنَّهُ سَيُخْسَفُ بجَيْشٍ في الْبَيْدَاء يَقْصدُ الْبَيْتَ».
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلكَ في شَرْح الْحَديث، أَمَا إنَّهُ يَتَبَخْتَرُ فَلَمْ تُخْسَفْ به الْأَرْضُ حَقيقَةً خُسفَ به في الْعَمَل مَجَازًا، فَلَمْ يَرْقَ لَهُ عَمَلٌ إلَى السَّمَاء، وَهُوَ أَشَدُّ الْخَسْف.
قَوْله تَعَالَى: {وَاقْصدْ في مَشْيكَ وَاغْضُضْ منْ صَوْتكَ إنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَات لَصَوْتُ الْحَمير}.
فيهَا مَسْأَلَتَان:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْقَصْدُ في الْمَشْي يُحْتَمَلُ أَنْ يُريدَ به وَجْهَيْن: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ السُّرْعَةَ، وَيَحْتَملُ التُّؤَدَةَ؛ وَكلَاهُمَا صَحيحٌ في مَوْضعه.
وَيَحْتَملُ أَنْ يُريدَ به الْمَشْيَ بقَصْدٍ، لَا يَكُونُ عَادَةً، بَلْ يَجْري عَلَى حُكْم النّيَّة، وَلَا يَسْتَرْسلُ اسْترْسَالَ الْبَهيمَة؛ وَالْكُلُّ صَحيحٌ مُرَادٌ.
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانيَةُ: قَوْلُهُ: {وَاغْضُضْ منْ صَوْتك} يَعْني لَا تَتَكَلَّفْ رَفْعَ الصَّوْت، وَخُذْ منْهُ مَا تَحْتَاجُ إلَيْه؛ فَإنَّ الْجَهْرَ بأَكْثَرَ منْ الْحَاجَة تَكَلُّفٌ يُؤْذي.
وَقَدْ قَالَ عُمَرُ لمُؤَذّنٍ تَكَلَّفَ رَفْعَ الْأَذَان بأَكْثَرَ منْ طَاقَته: لَقَدْ خَشيت أَنْ تَنْشَقَّ مُرَيْطَاؤُك.
وَالْمُؤَذّنُ هُوَ أَبُو مَحْذُورَةَ سَمُرَةَ بْنُ معْيَرٍ.
وَالْمُرَيْطَاءُ: مَا بَيْنَ السُّرَّة إلَى الْعَانَة. اهـ.