فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ الله سَخَّرَ لَكُمْ مَّا في السماوات وَمَا في الأرض}.
رجوع إلى تعداد دلائل الوحدانية وما صحب ذلك من منة على الخلق، فالكلام استئناف ابتدائي عن الكلام السابق ورجوع إلى ما سلف في أول السورة في قوله تعالى: {خَلَق السَّماوات بغَير عمد} [لقمان: 10] فإنه بعد الاستدلال بخلق السماوات والأرض والحيوان والأمطار عاد هنا الاستدلال والامتنان بأن سخر لنا ما في السماوات وما في الأرض.
وقد مضى الكلام على هذا التسخير في تفسير قوله تعالى: {الله الذي خلق السماوات والأرض} الآيات من سورة إبراهيم (32)، وكذلك في سورة النحل.
ومعنى {سخر لكم} لأجلكم لأن من جملة ذلك التسخير ما هو منافع لنا من الأمطار والرياح ونور الشمس والقمر ومواقيت البروج والمنازل والاتجاه بها.
والخطاب في {ألم تروا} يجوز أن يكون لجميع الناس مؤمنهم ومشركهم لأنه امتنان، ويجوز أن يكون لخصوص المشركين باعتبار أنه استدلال.
والاستفهام في {ألم تروا} تقرير أو إنكار لعدم الرؤية بتنزيلهم منزلة من لم يروا آثار ذلك التسخير لعدم انتفاعهم بها في إثبات الوحدانية.
والرؤية بصرية.
ورؤية التسخير رؤية آثاره ودلائله.
ويجوز أن تكون الرؤية علمية كذلك، والخطاب للمشركين كما في قوله: {خلق السماوات بغير عَمد ترونها}.
وإسباغ النعم: إكثارها.
وأصل الإسباغ: جعل ما يلبس سابغًا، أي وافيًا في الستر.
ومنه قولهم: درع سابغة.
ثم استعير للإكثار لأن الشيء السابغ كثير فيه ما يتخذ منه من سَرْد أو شُقَق أثواب، ثم شاع ذلك حتى ساوى الحقيقة فقيل: سوابغ النعم.
والنعمة: المنفعة التي يقصد بها فاعلُها الإحسان إلى غيره.
وقرأ نافع وأبو عمرو وحفص عن عاصم وأبو جعفر {نعَمهُ} بصيغة جمع نعمة مضاف إلى ضمير الجلالة، وفي الإضافة إلى ضمير الله تنويه بهذه النعم.
وقرأ الباقون {نعْمَةً} بصيغة المفرد، ولما كان المراد الجنس استوى فيه الواحد والجمع.
والتنكير فيها للتعظيم فاستوى القراءتان في إفادة التنويه بما أسبغ الله عليهم.
وانتصب {ظاهرة وباطنة} على الحال على قراءة نافع ومن معه، وعلى الصفة على قراءة البقية.
والظاهرة: الواضحة.
والباطنة: الخفية وما لا يعلم إلا بدليل أو لا يعلم أصلًا.
وأصل الباطنة المستقرة في باطن الشيء أي داخله، قال تعالى: {باطنه فيه الرحمة} [الحديد: 13] فكم في بدن الإنسان وأحواله من نعم يعلمها الناس أو لا يعلمها بعضُهم، أو لا يعلمها إلا العلماء، أو لا يعلمها أهل عصر ثم تنكشف لمن بعدهم، وكلا النوعين أصناف دينية ودنيوية.
{وَمنَ الناس مَن يجادل في الله بغَيْر علْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كتاب مُّنيرٍ وَإذَا قيلَ لَهُمُ اتبعوا مَآ أَنزَلَ الله قَالُوا بَلْ نَتَّبعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْه ءَابَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشيطان يَدْعُوهُمْ إلى عَذَاب السعير}.
الواو في قوله: {ومن الناس من يجادل} واو الحال.
والمعنى: قد رأيتم أن الله سخّر لكم ما في السماوات وأنعم عليكم نعمًا ضافية في حال أن بعضكم يجادل في وحدانية الله ويتعامى عن دلائل وحدانيته.
وجملة الحال هنا خبر مستعمل في التعجيب من حال هذا الفريق.
ولك أن تجعل الواو اعتراضيَّة والجملة معترضة بين جملة {ألم تروا أن الله سخر لكم} وبين جملة {ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض} [لقمان: 25].
وقوله: {ومنَ النَّاس} من الإظهار في مقام الإضمار كأنه قيل: ومنكم، و{من} تبعيضية.
والمراد بهذا الفريق: هم المتصدون لمحاجة النبي صلى الله عليه وسلم والتمويه على قومهم مثل النضر بن الحارث، وأمية بن خلف، وعبد الله بن الزّبْعَرى.
وشمل قوله: {بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير} مراتبَ اكتساب العلم وهي إما: الاجتهاد والاكتساب، أو التلقي من العالم، أو مطالعة الكتب الصائبة.
وتقدم تفسير نظير هذه الآية في سورة الحج.
وجملة {وإذا قيل لهم} الخ عطف على صلة {مَن} أي: مَن حالهم هذا وذاك، وتقدم نظير هذه الجملة في سورة البقرة (170).
والضمير المنصوب في قوله: {يدعوهم} عائد إلى الآباء، أي أيتبعون آباءهم ولو كان الشيطان يَدعو الآباء إلى العذاب فهم يتبعونهم إلى العذاب ولا يهتدون.
و{لو} وصلية، والواو معها للحال.
والاستفهام تعجيبي من فظاعة ضلالهم وعماهم بحيث يتبعون من يدعوهم إلى النار، وهذا ذم لهم.
وهو وزان قوله في آية البقرة (170): {أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئًا} والدعاء إلى عذاب السعير: الدعاء إلى أسبابه.
والسعير تقدم في قوله تعالى: {كلما خَبَتْ زدْنَاهم سعيرًا} في سورة الإسراء (97). اهـ.

.قال الشعراوي:

{أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا في السَّمَاوَات وَمَا في الْأَرْض}.
التسخير: هو الانقياد للخالق الأعلى بمهمة يؤديها بلا اختيار في التنقُّل منها، كما سخر الله الشمس والقمر. إلخ، فعلى الرغم من أن كثيرًا من الناس منصرفون عن الله وعن منهج الله لم تتأبَّ الشمس في يوم من الأيام أنْ تشرق عليهم، ولا امتنع عنهم الهواء، ولا ضنَّتْ عليهم الأرض بخيراتها ولا السماء بمائها، لماذا؟ لأنها مُسخَّرة لا اختيار لها.
ولا نفهم من ذلك أن الله سخَّر هذه المخلوقات رغمًا عنها، فهذا فهم سطحي لهذه المسألة، حيث يرى البعض أن الإنسان فقط هو الذي خُيّر، إنما الحقيقة أن الكون كله خُيّر، وهذا واضح في قول الله تعالى: {إنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السماوات والأرض والجبال فَأبَيْنَ أَن يَحْملْنَهَا وَأَشْفَقْنَ منْهَا وَحَمَلَهَا الإنسان إنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب: 72].
إذن: فالجميع خُيّر، خُيّرت السماوات والأرض والجبال فاختارت أن تكون مُسخَّرة لا إرادة لها، وخُيّر الإنسان فاختار أنْ يكون مختارًا؛ لأن له عقلًا يفكر به ويقارن بين البدائل.
ومعنى التسخير أنك لا تستطيع أن تخضع ما ينفعك من الأشياء في الكون بعقلك ولا بإرادتك ولا بالمنهج، والدليل على ذلك أنك إذا صدْتَ طيرًا وحبسته في قفص ومنعته من أنْ يطير في السماء وتريد أن تعرف: أهو مُسخَّر لك أم غير مسخر وحبسه حلال أم حرام؟ فافتح له باب القفص، فإنْ ظلَّ في صحبتك فهو مُسخَّر لك، راضٍ عن بقائه معك باللقمة التي يأكلها أو المكان الذي أعددتَهُ له، وإنّ خرج وترك صحبتك فاعلم أنه غير مُسخَّر لك، ولا يحقُّ لك أن تستأنسه رغمًا عنه.
لذلك سيدنا عمر- رضي الله عنه- لما مَرَّ بغلام صغير يلعب بعصفور أراد أنْ يُعلّمه درسًا وهو ما يزال عجينة طيّعة، فأقنعه أنْ يبيعه العصفور، فلما اشتراه عمر وصار في حوزته أطلقه، فقال الغلام: فو الله ما قَصَرْتُ بعدها حيوانًا على الأنس به.
وسبق أنْ تكلمنا عن مسألة التسخير، وكيف أن الله سخر الجمل الضخم بحيث يسوقه الصبي الصغير ولم يُسخّر لك مثلًا البرغوث فلو لم يُذلّل الله لك هذه المخلوقات ويجعلها في خدمتك ما استطعت أنت تسخيرها بقوتك.
وقوله تعالى: {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نعَمَهُ ظَاهرَةً وَبَاطنَةً} [لقمان: 20] أسبغ: أتمّ وأكمل، ومنها قوله تعالى عن سيدنا داود: {أَن اعمل سَابغَاتٍ} [سبأ: 11] أي: دروعًا ساترة محكمة تقي لابسها من ضربات السيوف وطعنات الرماح، والدروع تُجعل على الأعضاء الهامة من الجسم كالقلب والرئتين، وقد علَّم الله تعالى داود أن يصنع الدروع على هيئة الضلوع، ليست ملساء، إنما فيها نتوءات تتحطم عليها قوة الضربة، ولا تتزحلق فتصيب مكانًا آخر.
ورُوي أن لقمان رأى دواد- عليه السلام- يعجن الحديد بين يديه فتعجب، لكنه لم يبادر بالسؤال عما يرى وأمهله إلى أن انتهى من صنعته للدرع، فأخذه ولبسه وقال: نعْمَ لَبُوس الحرب أنت، فقال لقمان: الصمت حُكْمٌ وقليل فاعله فظلت حكمة تتردد إلى آخر الزمان.
فمعنى أسبغ علينا النعمة: أتمها إتمامًا يستوعب كل حركة حياتكم، ويمدكم دائمًا بمقوّمات هذه الحياة بحيث لا ينقصكم شيء، لا في استبقاء الحياة، ولا في استبقاء النوع؛ لأن الذي خلق سبحانه يعلم كل ما يحتاجه المخلوق.
أما إذا رأيتَ قصورًا في ناحية، فالقصور من ناحية الخَلْق في أنهم لم يستنبطوا من معطيات الكون، أو استنبطوا خيرات الكون، لكن بخلوا بها وضنُّوا على غيرهم، وهذه هي آفة العالم في العصر الحديث، حيث تجد قومًا قعدوا وتكاسلوا عن البحث وعن الاستنباط، وآخرين جدُّوا، لكنهم بخلوا بثمرات جدهم، وربما فاضتْ عندهم الخيرات حتى ألقَوْها في البحر، وأتلفوها في الوقت الذي يموت فيه آخرون جوعًا وفقرًا.
إذن: فآفة العالم ليس في أنه لا يجد، إنما في أنه لا يحسن استغلال ما يجد من خيرات، ومن مُقوّمات لله تعالى في كونه. فقوله تعالى: {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نعَمَهُ ظَاهرَةً وَبَاطنَةً} [لقمان: 20] هذه حقيقة لا ينكرها أحد، فهل تنكرون أنه خلقكم، وخلق لكم من أنفسكم أزواجًا منها تتناسلون؟
هل تنكرون أنه خلق السماوات بما فيها من الكواكب والمجرَّات، وخلق الليل فيه منامكم، والنهار وفيه سعيكم على معايشكم؟ ثم في أنفسكم وما خلقه فيكم من الحواس الظاهرة وغير الظاهرة، وجعل لكل منها مجالًا ومهمة تؤديها دون أنْ تشعر أنت بما أودعه الله في جسمك من الآيات والمعجزات، وكل يوم يطلع علينا العلم بجديد من نعَم الله علينا في أنفسنا وفي الكون من حولنا.
فمعنى {ظَاهرَةً} [لقمان: 20] أي: التي ظهرتْ لنا: {وَبَاطنَةً} [لقمان: 20] لم نصل إليها بعد، ومن نعَم الله علينا ما ندركه، ومنها ما لا ندركه.
تأمل في نفسك مثلًا الكليتين وكيف يعمل بداخلك وتصفي الدم من البولينا، فتنقيه وأنت لا تشعر بها، وأول ما فكر العلماء في عمل بديل لها حال فشلها صمموا جهازًا يملأ حجرة كبيرة، كانت نصف هذا المسجد من المعدات لتعمل عمل الكليتين، ثم تبين لهم أن الكُلْية عبارة عن مليون خلية لا يعمل منها إلا مائة بالتناوب.
وقالوا: إن الفشل الكُلَوي عبارة عن عدم تنبه المائة خلية المناط بها العمل في الوقت المناسب يعني المائة الأولى أدَّتْ مهمتها وتوقفت دون أنْ تنبه المائة الأخرى، ومن هندسة الجسم البشري أن خلق الله للإنسان كليتين، حتى إذا تعطلت إحداهما قامت الأخرى بدورها.
أما النعم الباطنة فمنه ما يُكتشف في مستقبل الأيام من آيات ونعَم، فمنذ عدة سنوات أو عدة قرون لم نكُنْ نعرف شيئًا عن الكهرباء مثلًا، ولا عن السيارات وآلات النقل وعصر العجلة والبخار.
إلخ.
كلها نعَم ظاهرة لنا الآن، وكانت مستورة قبل ذلك أظهرها النشاط العلمي والبحث والاستنباط من معطيات الكون، وحين تحسب ما أظهره العلم من نعَم الله تجده حوالي 3% ونسبة 97% عرفها الإنسان بالصدفة.
وقلنا: إن أسرار الله ونعمه في كونه لا تتناهى، وليس لأحد أن يقول: إن ما وضعه الله في الأرض من آيات وأسرار أدى مهمته؛ لأنه باقٍ ببقاء الحياة الدنيا، ولا يتوقف إلا إذا تحقَّق قوله تعالى: {حتى إذَآ أَخَذَت الأرض زُخْرُفَهَا وازينت وَظَنَّ أَهْلُهَآ أَنَّهُمْ قَادرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَآ أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بالأمس} [يونس: 24].
وفي الآخرة سنرى من آيات الله ومن عجائب مخلوقاته شيئًا آخر، وكأن الحق تعالى يقول لنا: لقد رأيتُم آياتي في الدنيا واستوعبتموها، فتعالوا لأُريكم الآيات الكبرى التي أعددتها لكم في الآخرة.
ففي الآخرة سأنشئكم نشأة أخرى، بحيث تأكلون ولا تتغوَّطون ولا تتألمون، وتمر عليكم الأعوام ولا تشيبون، ولا تمرضون، ولا تموتون، لقد كنتم في الدنيا تعيشون بأسبابي، أما في الآخرة فأنتم معي مع المسبّب سبحانه، فلا حاجة لكم للأسباب، لا لشمس ولا لقمر ولا. إلخ.
لذلك نقول: من أدب العلماء أنْ يقولوا اكتشفنا لا اخترعنا؛ لأن آيات الله ونعَمه مطمورة في كونه تحتاج لمن يُنقّب عنها ويستنتجها مما جعله الله في كونه من معطيات ومقدمات.
وسبق أنْ قلنا: إن كل سرٍّ من أسرار الله في كونه له ميلاد كميلاد الإنسان، فإذا حان وقته أظهره الله، إما ببحث العلماء وإلا جاء مصادفة تكرُّمًا من الله تعالى على خَلْقه الذين قَصُرَت جهودهم عن الوصول إلى أسراره تعالى في كونه.
وفي هذا إشارة مقدمة لنْ نؤمن بالغيب الذي أخبرنا الله به، فما دُمْنا قد رأينا نعَمه التي كانت مطمورة في كونه فينبغي علينا أنْ نؤمنَ بما يخبرنا به من الغيب، وأنْ نأخذَ من المُشاهَد دليلًا على ما غاب.
واقرأ في هذه المسألة قول الله تعالى: {وَلاَ يُحيطُونَ بشَيْءٍ مّنْ علْمه إلاَّ بمَا شَاءَ} [البقرة: 255] أي: شاء سبحانه أنْ يوجد هذا الغيب، وأن يظهر للناس بعد أنْ كان مطمورًا، فإنْ صادف بحثًا جاء مع البحث، وإنْ لم يصادف جاء مصادفة وبلا أسباب، بدليل أنه نسب إحاطة العلم لهم.
أما الغيب الذي ليس له مُقدّمات توصل إليه، ولا يطلع عليه إلا الله فهو المعنيّ بقوله تعالى: {عَالمُ الغيب فَلاَ يُظْهرُ على غَيْبه أَحَدًا إلاَّ مَن ارتضى من رَّسُولٍ} [الجن: 26-27].
وقال سبحانه: {ظَاهرَةً وَبَاطنَةً} [لقمان: 20] لأن الظاهرة تلفتنا إلى الإيمان بالله واجب الوجود الأعلى، والباطنة يدخرها الله لمن يأتي بعد، ثم يدخر ادخارًا آخر، بحيث لا يظهر إلا حين نكون مع الله في جنة الله.