فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



إذن: إرادة عدم التوثيق لها مقصد عند المنتفع، فإذا كان الموثّق هو الله تعالى فليس أوثق من عُرْوته.
وفي موضع آخر يقول الحق عنها {واعتصموا بحَبْل الله جَميعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103] فالعروة الوُثْقى هي حبل الله المتين الذي يجمعنا فلا نتفرق؛ لذلك في الاصطلاح نسمي الفتحة في الثوب والتي يدخل فيها الأزرار {عروة} لماذا؟ لأنها هي التي تجمع الثوب، فلا يتفرق.
وفي آية أخرى وصفَ العروة الوثقى بقوله سبحانه: {لاَ انفصام لَهَا} [البقرة: 256].
ثم يقول سبحانه: {وإلى الله عَاقبَةُ الأمور} [لقمان: 22] أي: مرجعها، فلا نظن أن الله تعالى خلقنا عبثًا، أو أنه سبحانه يتركنا سُدًى: {أَفَحَسبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ} [المؤمنون: 115]. ولو تركنا الله تعالى بلا حساب لكان المنحرف الذي أعطى لنفسه شهواتها في الدنيا أوفر حظًا من المستقيم، وما كان الله تعالى ليغشَّ عبده الذي آمن به، وسار على منهجه، أو يسلمه للظلمة والمنحرفين.
وإذا كانت لله تعالى عاقبة الأمور أي: في الآخرة، فإنه سبحانه يترك لنا شيئًا من ذلك في الدنيا نصنعه بذواتنا لتستقيم بنا مسيرة الحياة وتثمر حركتها، ومن ذلك مثلًا ما نجريه من الامتحانات للطلاب آخر العام لنميز المجدّ من الخامل، وإلا تساوى الجميع ولم يذاكر أحد، ولم يتفوق أحد؛ لذلك لابد من مبدأ الثواب والعقاب لتستقيم حركة الحياة، فإذا كنا نُجري هذا المبدأ في دنيانا، فلماذا نستنكره في الآخرة؟
فهل يليق بهذا العالمَ الذي خلقه الله على هذه الدقة؛ وكوَّنه بهذه الحكمة أن يتركه هكذا هَملًا يستشري فيه الفساد، ويرتع فيه المفسدون، ثم لا يُحاسبون؟ إن كانت هذه هي العاقبة، فيا خسارة كل مؤمن، وكل مستقيم في الدنيا.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَمَن كَفَرَ فَلاَ يَحْزُنكَ كُفْرُهُ إلَيْنَا مَرْجعُهُمْ فَنُنَبّئُهُم}.
بعد أن بيّن الحق سبحانه أن إليه مرجع كل شيء ونهاية الأمور كلها، أراد أن يُسلّى رسوله صلى الله عليه وسلم فقال: {وَمَن كَفَرَ} [لقمان: 23] أي: بعدما قلناه من الجدل بالعلم وبالهدى وبالكتاب المنير، وبعدما بيناه من ضرورة إسلام الوجه لله، مَنْ يكفر بعد ذلك {فَلاَ يَحْزُنكَ كُفْرُهُ} [لقمان: 23].
وهذا القول من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم يدل على أن الله علم أن رسوله يحب أن تكون أمته كلها مؤمنة، وأنه يحزن لكفر من كفر منهم ويؤلمه ذلك، وقد كرر القرآن هذا المعنى في عدة مواضع، منها قوله تعالى: {فَلَعَلَّكَ بَاخعٌ نَّفْسَكَ على آثَارهمْ إن لَّمْ يُؤْمنُوا بهذا الحديث أَسَفًا} [الكهف: 6] ويقول: {لَعَلَّكَ بَاخعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمنينَ} [الشعراء: 3].
فالله تعالى يريد أنْ يقول لرسوله: أنا أرسلتُك للبلاغ فحسب، فإذا بلَّغْت فلا عليك بعد ذلك، وكثيراُ ما تجد في القرآن عتابًا لرسول الله في هه المسألة، وهو عتاب لصالحه لا عليه، كما تعاتب ولدك الذي أجهد نفسه في المذاكرة خوفًا عليه.
ومن ذلك قوله تعالى معاتبًا نبيه صلى الله عليه وسلم: {عَبَسَ وتولى أَن جَاءَهُ الأعمى وَمَا يُدْريكَ لَعَلَّهُ يزكى} [عبس: 1-3].
والعتاب هنا لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الرجل المؤمن الذي جاءه يستفهم عن أمور دينه، وذهب يدعو الكفار والمكّذبين به، فكأنه اختار الصعب الشاق وترك السهل اليسير، إذن: فالعتاب هنا عتاب لصالح الرسول لا ضده، كما يظن البعض في فهمهم لهذه الآيات.
كذلك الأمر في قوله تعالى: {يا أيها النبي لمَ تُحَرّمُ مَآ أَحَلَّ الله لَكَ} [التحريم: 1] فالله يعاتب رسوله لأنه ضيَّق على نفسه، فحرَّم عليها ما أحله الله لها.
ثم يقول سبحانه: {إلَيْنَا مَرْجعُهُمْ} [لقمان: 23] يعني: إذا لم تَرَ فيهم عاقبة كفرهم، وما ينزل بهم في الدنيا، فسوف يرجعون إلينا ونحاسبهم في الآخرة، كما قال سبحانه في موضع آخر: {فَإمَّا نُريَنَّكَ بَعْضَ الذي نَعدُهُمْ} [غافر: 77] أي: ترى بعينك ما ينزل بهم من العقاب {أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإلَيْنَا يُرْجَعُونَ} [غافر: 77].
إذن: {إلَيْنَا مَرْجعُهُمْ} [لقمان: 23] هذه هي الغاية النهائية، وهذه لا تمنع أن نُريَك فيهم أشياء تُظهر عزتك وانتصارك عليهم، وانكسارهم وذلَّتهم أمامك، وهذا ما حدث يوم الفتح يوم أنْ دخل النبي مكة منصرًا ومتواضعًا يطأطئ رأسه بأدب وتواضع؛ لأنه يعلم أن النصر من الله، وكأنه صلى الله عليه وسلم يقول لأهل مكة: لقد كنتم تريدون الملْك لتتكبروا به، وأنا أريده لأتواضع به، وهذا هو الفرق بين عزَّة المؤمن وعزّة الكافر.
لذلك لما تمكن رسول الله من رقابهم- بعد أنْ فعلوا به ما فعلوا- جمعهم وقال قولته المشهورة: «يا معشر قريش ما تظنون أني فاعل بكم؟» قالوا: خيرًا، أخ كريم، وابن أخ كريم، قال: «اذهبوا فأنتم الطلقاء».
ولك أنْ تلحظ تحوُّل الأسلوب من صيغة الإفراد في {وَمَن كَفَرَ فَلاَ يَحْزُنكَ} [لقمان: 23] إلى صيغة الجمع في {إلَيْنَا مَرْجعُهُمْ} [لقمان: 23] ولم يقل: إليَّ مرجعه؛ لأن مَنْ في اللغة تقوم مقام الأسماء الموصولة كلها، فإنْ أردتَ لفظها فأفردها، وإن أردتَ معناها فاجمعه.
وقوله تعالى: {فَنُنَبّئُهُم بمَا عملوا} [لقمان: 23] لأننا نُسجّله عليهم ونحصيه، كما قال سبحانه: {أَحْصَاهُ الله وَنَسُوهُ} [المجادلة: 6] {إنَّ الله عَليمٌ بذَات الصدور} [لقمان: 23] أي: بنات الصدر ومكنوناته يعلمها الله، حتى قبل أنْ تُترجم إلى نزوع سلوكي عملي أو قَوْلي، فالله يعلم ما يختلج في صدورهم من حقد أو غلٍّ أو حسد أو تآمر.
و{عَليمٌ} [آل عمران: 119] صيغة مبالغة من العلم، وفَرْق بين عالم وعليم: عالم: ذاتٌ ثبت لها العلم، أما عليم فذات علْمها ذاتي؛ لذلك يقول تعالى: {وَفَوْقَ كُلّ ذي علْمٍ عَليمٌ} [يوسف: 76].
ثم يقول الحق سبحانه: {نُمَتّعُهُمْ قَليلًا ثُمَّ}.
الحق سبحانه يُبيّن لكل مؤمن ألاَّ يغتر بحال الكفار حين يراهم في حال رَغَد من العيش، وسعة وعافية وتمكُّن؛ لأن ذلك كله متاع قليل، والحق سبحانه يريد من أتباع الأنبياء أنْ يدخلوا الدين على أنه تضحية لا مغنم.
وسبق أن أوضحنا أنك تستطيع أن تُفرّق بين مبدأ الحق ومبدأ الباطل بشيء واحد، هو استهلال الاثنين، فالداخل في مبدأ الحق مستعد لأنْ يُضحّي، والداخل في مبدأ الباطل ينتظر أنْ يأخذ المقابل؛ لذلك ضحَّى المسلمون الأوائل في سبيل دينهم بالأنفس والأموال، وتركوا بلادهم وأبناءهم لماذا؟ لأنهم مُكلَّفون بأداء مهمة إنسانية عالمية، لا يحملها إلا مَنْ كان مستعدًا للعطاء، أما أصحاب الدعوات الباطلة كالشيوعية وغيرها فلابد أنْ يأخذوا أولًا.
لذلك روُي أن صحابيًا حين سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم البشرى بالجنة، وأنه ليس بينه وبينها إلا أنْ يحارب فيُقتل ألقى تمرات كانت في يده، ولم ينتظر حتى يمضغها، وأسرع إلى المعركة مُبتغيًا الشهادة وطامعًا فيما عند الله، وقد سُمع منهم في ساحة القتال أنْ ينادي أحدهم: هُبّي يا رياح الجنة، وآخر يقول: إني لأجد ريح الجنة دون أحد.
فقوله تعالى: {نُمَتّعُهُمْ قَليلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إلى عَذَابٍ غَليظٍ} [لقمان: 24] هذا التمتُّع بزينه الحياة الدنيا ما هو إلا استدراج لهم لا تكريم، وقلنا: إنك لا تلقى بعدوك من على الحصيرة مثلًا، إنما تعليه وترفعه ليكون أَخْذه أليمًا وشديدًا، كذلك الحق سبحانه يُمتَّعهم، لكن لفترة محدودة لتكون حسرتهم أعظم إذا ما أخذهم من هذا النعيم.
واقرأ في هذا المعنى قول الله تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكّرُوا به فَتَحْنَا عَلَيْهمْ أَبْوَابَ كُلّ شَيْءٍ حتى إذَا فَرحُوا بمَآ أوتوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإذَا هُمْ مُّبْلسُونَ} [الأنعام: 44] أي: يائسون.
وكلمة الفتح لا تؤدي نفعًا إلا إذا جاءت معرفة الفتح وقلنا: هناك فرق بين فتح لك وفتح عليك، فتح لك أي: لصالحك، أمّا فتح عليك أي: أعطاك الدنيا لتكون حمْلًا فوق رأسك.
إذن: فإذا رأيت لهم هذا الفتح فلا تغترّ به، واعلم انهم نَسُوا ما ذُكَّروا به. وقد ورد في الأثر أن الله تعالى إذا غضب من المرء رزقه من الحرام، فإذا اشتد غضبه عليه بارك له فيه.
ذلك ليظل في سَعَة ورَغَد عيش وعُلو مكان، حتى إذا أخذه الله آلمه الأخذ واشتد عليه، فأخْذُ الكافر وهو في أَوْج قوته وجبروته يدل على قوة الأَخْذ وقدرته، أما الضعيف فلا مزيّة في أَخْذه، كالذي يريد أنْ يحطم الرقم القياسي مثلًا، فإنه يعمد إلى أعلى الأرقام فيحطمها ليثبت جدارته.
ومن ذلك أيضًا نرى أن القرآن لما أراد التحدي ببلاغته وفصاحته تحدَّى العرب، وهم أهل الفصاحة والبلاغة وفن الأداء البياني، ولا معنى لأنْ يتحدى عَيّيًا لا يقدر على الكلام.
ومعنى {نَضْطَرُّهُمْ} [لقمان: 24] نلجئهم أي: نُضيّق عليهم الخناق، بحيث لا يجدون إلا العذابَ الغليظ، أو: أن فترة الحساب وما قبل العذاب أشدّ من العذاب نفسه، كما جاء في الحديث من «أن الشمس تدنو من الرءوس، حتى ليتمنى الناسُ الانصرافَ ولو إلى النار».
ووصف العذاب هنا بأنه {غَليظٍ} [لقمان: 24] والغلظ يعني السُّمْك، فالمعنى أنه عذاب كبير يصعب قلقلة النفس منه، فلو كان رقيقًا لربما أمكن الإفلات منه.
ثم يعود السياق إليهم: {وَلَئن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ}.
هذا إفحام لهم، حيث شهدوا بأنفسهم أن الله تعالى هو خالق السماوات والأرض، وتعجب بعد ذلك لأنهم ينصرفون عن عبادة الخالق سبحانه إلى عبادة مَنْ لا يخلق ولا يرى ولا يسمع.
لذلك بعد هذه الشهادة منهم، وبعد أنْ قالوا الله يُتبعها الحق سبحانه بقول: {قُل الحمد للَّه} [لقمان: 25] أي: الحمد لله؛ لأنهم أقروا على أنفسهم، ونحن في معاملاتنا نفعل مثل هذا، فحين يعترف لك خَصمْك تقول: الحمد لله.
وهذه الكلمة تُقال تعليقًا على أشياء كثيرة، فحين يعترف لك الخَصْم بما تريد تقول: الحمد لله، وحين يُخلّصك الله من أذى أحد الأشرار تقول: الحمد لله أي: الذي نجانا من فساد هذا المفسد.
فلو بلغنا خبر موت أحد الأشقياء أو قُطّاع الطرق نقول: الحمد لله أي: الذي خلصنا من شرّه، وأراح منه البلاد والعباد، ومن ذلك قول الله تعالى: {فَقُطعَ دَابرُ القوم الذين ظَلَمُوا والحمد للَّه رَبّ العالمين} [الأنعام: 45].
كذلك تقال حينما يُنصَف المظلوم، وتُردُّ إليه مظلمته، أو تظهر براءته، كما سنقول- إنْ شاء الله- في الآخرة: {الحمد للَّه الذي أَذْهَبَ عَنَّا الحزن إنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر: 34] {وَسيقَ الذين اتقوا رَبَّهُمْ إلَى الجنة زُمَرًا حتى إذَا جَاءُوهَا وَفُتحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ طبْتُمْ فادخلوها خَالدينَ وَقَالُوا الحمد للَّه الذي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأرض نَتَبَوَّأُ منَ الجنة حَيْثُ نَشَاءُ فَنعْمَ أَجْرُ العاملين} [الزمر: 73-74].
فالحمد لله تُقال أيضًا عند خلوصك إلى غاية تُخرجك مما كنتَ فيه من الضيق، ومن الهَمّ، ومن الحزن، وتقال حين ندخل الجنة، وننعم بنعيمها ونعلم صدْق الله تعالى فيما أخبرنا به من نعيمها.
هذا كله حَمْد على نعمه، وهناك الحمد الأعلى: ألم تقرأ الحديث القدسي: «إن الله يتجلى على خَلْقه المؤمنين في الجنة فيقول: يا عبادي، ألا أزيدكم؟ فيقولون: وكيف تزيدنا وقد أعطيْتنا مَا لا عين رأتْ، ولا أذن سمعتْ، ولا خطر على قلب بشر؟ قال: أُحلُّ عليكم رضواني، فلا أسخط عليكم بعدها أبدًا» فماذا بعد هذا الرضوان؟.
يقول تعالى: {وَتَرَى الملائكة حَآفّينَ منْ حَوْل العرش يُسَبّحُونَ بحَمْد رَبّهمْ وَقُضيَ بَيْنَهُمْ بالحق وَقيلَ الحمد للَّه رَبّ العالمين} [الزمر: 75].
هذا هو الحمد الأعلى، فقد كنت في الحمد مع النعمة، وأنت الآن في الحمد مع المنعم سبحانه.
ثم يقول سبحانه: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} [لقمان: 25] وهم أهل الغفلة عن الله، أو {لاَ يَعْلَمُونَ} [لقمان: 25] أي: العلم الحقيقي، النافع، وإنْ كانوا يعلمون العلم من كتاب غير منير، أو: يعلمون العلم الذي يُحقّق لهم شهواتهم.
ثم ينتقل السياق إلى آيات كونية فيقول سبحانه: {للَّه مَا في السماوات}.
بعد أن سجَّل الله تعالى عليهم اعترافهم وشهادتهم بأنه سبحانه خالق السماوات والأرض، أراد سبحانه أنْ يُبيّن لنا أن السماوات والأرض ظرف لما فيهما، وفيهما أشياء كثيرة، منها ما نعرفه، ومنها ما لا نعرفه، والمظروف دائمًا أغلى من المظروف فيه، فما في المحفظة من نقود عادة أغلى من المحفظة ذاتها، وما في الخزانة من جواهر وأموال أو أوراق هامة أنفَسُ من الخزانة وأهمّ.
لذلك قلنا: إياك أنْ تجعل كتاب الله حافظة لشيء هام عندك؛ لأنه أغلى من أيّ شيء فينبغي أنْ نحفظه، لا أنْ نحفظ فيه.
وكأن في الآية إشارة إلى أنهم كما اقرُّوا لله تعالى بخَلْق السماوات والأرض ينبغي أنْ يُقروا كذلك بأن له سبحانه ما فيهما، وهذه مسألة عقلية يهتدي إليها كل ذي فكر سليم، فما دامت السماوات والأرض لله، فله ما فيهما، وهَبْ أن لك قطعة أرض تمتلكها، ثم عثرتَ فيها على شيء ثمين، إنه في هذه الحالة يكون ملكك شرعًا وعقلًا.
وينبغي للعاقل أنْ يتأمل هذه المسألة: لله تعالى ما في السماوات وما في الأرض، ومن هذه الأشياء الإنسان الذي كرَّمه الله، وجعله سيدًا لجميع المخلوقات وأعلى منها، بدليل أنها مُسخَّرة لخدمته: الحيوان والنبات والجماد، فهل يصح أن يكون الخادم أعظم من سيده أو أطول عمرًا منه؟
فعلى العاقل أن يتأمل هذه المسألة، وأن يستعرض أجناس الكون ويتساءل: أيكون الجماد الذي يخدمني أطول عمرًا مني؟
إذن: لابد أن لي حياة أخرى تكون أطول من حياة الشمس والقمر وسائر الجمادات التي تخدمني، وهذا لا يكون إلا في الآخرة حيث تنكدر الشمس، وتتلاشى كل هذه المخلوقات ويبقى الإنسان.
إذن: أنت محتاج لما في الأرض ولما في السماء من مخلوقات الله، وبه وحده سبحانه قوامها مع أنه سبحانه غنيٌّ عنها لا يستفيد منها بشيء، فالله سبحانه خلق ما هو غنيٌّ عنه؛ لذلك يقول: {إنَّ الله هُوَ الغني الحميد} [لقمان: 26] لأنه سبحانه بصفات الكمال خلق، فلم يزدْه الخلق صفة كمال لم تكُنْ له، فهو مُحْيٍ قبل أنْ يوجد مَنْ يُحييه، مُعزٌّ قبل أنْ يوجد من يعزه.
وقلنا: إنك لا تقول فلان شاعر لأنك رأيته يقول قصيده؛ بل لأنه شاعر قبل أن يقولها، ولولا أنه شاعر ما قال.
فمعنى {إنَّ الله هُوَ الغني} [لقمان: 26] أي: الغني المطلق؛ لأن له سبحانه كل هذه الملْك في السماوات والأرض، بل جاء في الحديث القدسي أن السماء والأرض بالنسبة لملْك الله تعالى كحلقة ألقاها مُلْقٍ في فلاة، فلا تظن أن مُلْك الله هو مجرد هذه المخلوقات التي نعلمها، رغم ما توصَّل إليه العلم من الهندسة وحساب المسافات الضوئية.
فالله سبحانه هو الغنيُّ الغنَي المطلق؛ لأنه خلق هذا الخَلْق وهو غني عنه، ثم أعطاه لعبيده وجعله في خدمتهم، فكان من الواجب لهذا الخالق أن يكون محمودًا {إنَّ الله هُوَ الغني الحميد} [لقمان: 26] وحميد فعيل بمعنى محمود، وهو أيضًا حامد كما جاء في قوله تعالى: {فَإنَّ الله شَاكرٌ عَليمٌ} [البقرة: 158] لكن، شاكر لمن؟
قالوا: إذا كان العبد يشكر ربه، وقد علَّمه الله: أن الذي يحيّيك بتحية ينبغي عليك أنْ تُحيّيَه بأحسن منها، فربُّك يعاملك هذه المعاملة، فإنْ شكرْتَهُ يزدك، فهذه الزيادة شُكْر لك على شُكْرك لربك. أي: مكافأة لك. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
قوله جلّ ذكره: {وَمَنْ يُسْلمْ وَجْهَهُ إلَى الله وَهُوَ مُحْسنٌ فَقَد اسْتَمْسَكَ بالْعُرْوَة الْوُثْقَى وَإلَى الله عَاقبَةُ الأُمُور}.
وعلى العكس:-
{وَمَنْ كَفَرَ فَلاَ يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إلَيْنَا مَرْجعُهُمْ فَنُنَبّئُهُم بمَا عَملُوا إنَّ اللهَ عَليمٌ بذَات الصُّدُور}.
إلينا إيابُهم، ومنَّا عذابُهم، وعلينا حسابُهم. ولئن سألتَهم عن خالقهم لأَقرُّوا، ولكن إذا عادوا إلى غيّهم نقضوا وأصروا.
{للَّه مَا في السَّمَاوَات وَالْأَرْض إنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنيُّ الْحَميدُ (26)}.
لله ما في السموات والأرض ملْكًا، ويُجْري فيهم حُكْمَه حَقَّا، وإليه مَرْجعُهم حتمًا. اهـ.