فصل: قال عبد الكريم الخطيب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قيل: وعلى هذا فالجملة بيان لحكم تسخيرهما أو تنبيه على كيفية إيلاج أحد الملوين في الآخر، وكون ذلك بحسب اختلاف جريان الشمس على مداراتها اليومية فكلما كان جريانها متوجهًا إلى سمت الرأس تزداد القوس التي فوق الأرض كبرًا فيزداد النهار طولًا بانضمام بعض أجزاء الليل إليه إلى أن يبلغ المدار الذي هو أقرب المدارات إلى سمت الرأس وذلك عند بلوغها إلى رأس السرطان ثم ترجع متوجهة إلى التباعد عن سمت الرأس فلا تزال القسى التي فوق الأرض تزداد صغرًا فيزداد النهار قصرًا بانضمام بعض أجزائه إلى الليل إلى أن يبلغ المدار الذي هو أبعد المدارات اليومية عن سمت الرأس وذلك عند بلوغها رأس الجدى.
وأنت تعلم أنه لا مدخل لجريان القمر في الإيلاج فالتعرض له في الآية الكريمة يبعد هذا الوجه، ولعل الأظهر على تقدير جعل جريهما عبارة عن حركتهما الخاصة بهما أن يجعل الأجل المسمى عبارة عن يوم القيامة أو يجعل عبارة عن آخر السنة والشهر المعروفين عند العرب فتأمل، وجرى يتعدى بإلى تارة وباللام أخرى وتعديته بالأول باعتبار كون المجرور غاية وبالثاني باعتبار كونه غرضًا فتكون اللام لام تعليل أو عاقبة وجعلها الزمخشري للاختصاص ولكل وجه، ولم يظهر لي وجه اختصاص هذا المقام بإلى وغيره باللام، وقال النيسابوري: وجه ذلك أن هذه الآية صدرت بالتعجيب فناسب التطويل وهو كما ترى فتدبر، وقوله تعالى: {وَأَنَّ الله بمَا تَعْمَلُونَ خَبيرٌ} عطف على قوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله} الخ داخل معه في حيز الرؤية على تقديري خصوص الخطاب وعمومه فإن من شاهد مثل ذلك الصنع الرائق والتدبير اللائق لا يكاد يغفل عن كون صانعه عز وجل محيطًا بجلائل أعماله ودقائقها وقرأ عياش عن أبي عمرو: {بمَا يَعْمَلُونَ} بياء الغيبة.
{ذلك} إشارة إلى ما تضمنته الآيات وأشارت إليه من سعة العلم وكمال القدرة واختصاص الباري تعالى شأنه بها {بأَنَّ الله هُوَ الحق} أي بسبب أنه سبحانه وحده الثابت المتحقق في ذاته أي الواجب الوجود.
{وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ من دُونه} إلهًا {الباطل} المعدوم في حد ذاته وهو الممكن الذي لا يوجد إلا بغيره وهو الواجب تعالى شأنه {وَأَنَّ الله هُوَ العلى} على الأشياء {الكبير} عن أن يكون له سبحانه شريك أو يتصف جل وعلا بنقص لا بشيء أعلى منه تعالى شأنه شأنًا وأكبر سلطاناف، ووجه سببية الأول لما ذكر أن كونه تعالى وحده واجب الوجود في ذاته يستلزم أن يكون هو سبحانه وحده الموجد لسائر المصنوعات البديعة الشأن فيدل على كمال قدرته عز وجل وحده والايجاب قد أبطل في الأصول ومن صدرت عنه جميع هاتيك المصنوعات لابد من أن يكون كامل العلم على ما بين في الكلام، ووجه سببية الثالث لذلك أن كونه تعالى وحده عليًا على جميع الأشياء متسلطًا عليها متنزهًا عن أن يكون له سبحانه شريك أو يتصف بنقص عز وجل يستلزم كونه تعالى وحده واجب الوجود في ذاته وقد سمعت الكلام فيه، وأما وجه سببية كون ما يدعونه من دونه إلهًا باطلًا ممكنًا في ذاته لذلك فهو أن إمكانه على علو شأنه عندهم على ما عداه مما لم يعتقدوا إلهيته يستلزم إمكان غيره مما سوى الله عز وجل لأن ما فيه مما يدل على إمكانه موجود في ذلك حذو القذف بالقذة ومتى كان ما يدعونه إلهًا من دونه تعالى وغيره مما سوى الله سبحانه وتعالى ممكنًا انحصر وجوب الوجود في الله تعالى فيكون جل وعلا وحده واجب الوجود في ذاته وقد علمت إفادته للمطلوب وكأنه إنما قيل أن ما يدعون من دونه الباطل دون أن ما سواه الباطل مثلا نظير قول لبيد:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل

تنصيصًا على فظاعة ما هم عليه واستلزام ذلك إمكان ما سوى الله تعالى من الموجودات من باب أولى بناء على ما يزعم المشركون في آلهتهم من علو الشأن ولم يكتف في بيان السبب بقوله سبحانه: {بأَنَّ الله هُوَ الحق} بل عطف عليه ما عطف مع أنه مما يعود إليه وتشعر تلك الجملة به إظهارًا لكمال العناية بالمطلوب وبما يفيده منطوق المعطوف من بطلان الشريك وكونه تعالى هو العلي الكبير.
وقيل: أي ذلك الاتصاف بما تضمنته الآيات من عجائب القدرة والحكمة بسبب أن الله تعالى هو الإله الثابت إلهيته وإن من دونه سبحانه باطل الإلهية وإن الله تعالى هو العلي الشأن الكبير السلطان ومدار أمر السببية على كونه سبحانه هو الثابت الإلهية وبين ذلك الطيبي بأنه قد تقرر أن من كان إلهًا كان قادرًا خالقًا عالمًا إلى غير ذلك من صفات الكمال ثم قال إن قوله تعالى: {ذلك بأن الله هو الحق} كالفذلكة لما تقدم من قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ الله سَخَّرَ لَكُمْ} [لقمان: 13] إلى {هذا} وقوله تعالى: {وَأَنَّ الله هُوَ العلى الكبير} كالفذلكة لتلك الفواصل المذكورة هنالك كلها.
ولعل ما قدمنا أولى بالاعتبار، وقال العلامة أبو السعود في الاعتراض على ذلك: أنت خبير بأن حقيته تعالى وعوله وكبرياءه وإن كانت صالحة لمناطية ما ذكر من الصفات لكن بطلان إلهية الأصنام لا دخل له في المناطية قطعًا فلا مساغ لنظمه في سلك الأسباب بل هو تعكيس للأمر ضرورة أن الصفات المذكورة هي المقتضية لبطلانها لا أن بطلانها يقتضيها انتهى، وفيه تأمل والعجب منه أنه ذكر مثل ما اعترض عليه في نظير هذه الآية في سورة الحج ولم يتعقبه بشيء.
وجوز أن يكون المعنى ذلك أي ما تلى من الآيات الكريمة بسبب بيان أن الله هو الحق إلهيته فقط ولأجله لكونها ناطقة بحقية التوحيد ولأجل بيان بطلان إليهة ما يدعون من دونه لكونها شاهدة شهادة بينة لا ريب فيها ولأجل بيان أنه تعالى هو المرتفع على كل شيء المتسلط عليه فإن ما في تضاعيف تلك الآيات الكريمة مبين لاختصاص العلو والكبرياء به أي بيان وهو وجه لا تكلف فيه سوى اعتبار حذف مضاف كما لا يخفى وكأنه إنما قيل هنا: وأن ما يدعون من دونه الباطل بدون ضمير الفصل، وفي سورة الحج (62) {وأن ما يدعون من دونه هو الباطل} بتوسيط ضمير الفصل لما أن الحط على المشركين وآلهتهم في هذه السورة دون الحط عليهم في تلك السورة.
وقال النيسابوري في ذلك أن آية الحج وقعت بين عشر آيات كل آية مؤكدة مرة أو مرتين فناسب ذلك توسيط الضمير بخلاف ما هنا ويمكن أن يقال تقدم في تلك السورة ذكر الشيطان مرات فلهذا ذكرت تلك المؤكدات بخلاف هذه السورة فإنه لم يتقدم ذكر الشيطان فيها نحو ذكره هناك، وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر وأبو بكر {تَدْعُونَ} بتاء الخطاب. اهـ.

.قال عبد الكريم الخطيب:

وقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّما في الْأَرْض منْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ منْ بَعْده سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفدَتْ كَلماتُ اللَّه إنَّ اللَّهَ عَزيزٌ حَكيمٌ}.
ومما يكشف عن غنى اللّه الغنى المطلق، واستحقاقه الحمد، حمدا مطلقا، هو سعة ملكه الذي لا حدود له، وما للّه من تصريف في هذا الملك، كيف شاءت إرادته. لا معقب لحكمه.
فلو تصور متصور أن كل ما في الأرض من شجر كان أقلاما، وأن كل مياه البحار قد أصبحت مدادا. ثم أخذت هذه الأقلام تستملى من هذا المداد، وتكتب- من غير توقف- ما تتلقّى من كلمات اللّه- لما نفدت كلمات اللّه! وكلمات اللّه، هي مقدراته التي يقوم بها الوجود، وينشأ عنها كل موجود.
فبالكلمة، خلق اللّه كل شىء. {إنَّما أَمْرُهُ إذا أَرادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (82: يس).
وفي قوله تعالى: {منْ شَجَرَةٍ} إشارة إلى استغراق كل ما في الأرض، شجرة شجرة، من كل جنس، وكل صنف من أصناف الشجر.
ولو جاء النظم القرآنى من شجر بالجمع بدلا {من شجرة} بالإفراد، لما دلّ على هذا الاستغراق، الذي يشمل كل شجرة في الأرض ولكان فيه متأول يتناول بعض الشجر دون بعض، أو الشجر الذي تستعمل منه الأقلام دون غيره مثلا.
وفي التعبير بكلمات اللّه- وهو جمع قلّة- بدلا من كلام الذي هو جمع كثرة، إشارة إلى أن القليل من كلام اللّه، وهو الكلمات، لا ينفذ، ولو فنيت في كتابتها الأقلام من كل شجر الأرض، وجفّت في مدّ هذه الأقلام بالمداد كلّ بحار العالم.! فكيف بالكثير من كلام اللّه.
هذا، وقد جاء في القرآن الكريم قوله تعالى: {قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مدادًا لكَلمات رَبّي لَنَفدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلماتُ رَبّي وَلَوْ جئْنا بمثْله مَدَدًا} (109: الكهف).
وفي هذه الصورة، لم تذكر الأقلام التي تستملى من هذا البحر، اكتفاء بما جاء هنا من ذكر الأقلام. فالصورتان تكمل إحداهما الأخرى، وليست إحداهما تكرارا للأخرى، كما يبدو ذلك في ظاهر الأمر.
ويلاحظ أن البحر هنا يمدّه من بعده سبعة أبحر، على حين أنه في سورة الكهف يمدّه بحر مثله. وقد يبدو أن في هذا تناقضا عند من يأخذ بظاهر الأمور، ولا يتعمق النظر فيها.
إن الأمر قائم على الفرض، وكثير من مادة الفرض وقليلها سواء في تحقيق المطلوب منه، وهو الدلالة على سعة علم اللّه، وبسطة سلطانه، وامتداد ملكه، الذي لا ينفد، وأن بحرا واحدا، أو جزءا من هذا البحر ليكفى عند التجربة في الكشف عن سعة هذا العلم، وبسطة ذلك السلطان، وامتداد هذا الملك.
فالبحر الذي يمده من بعده سبعة أبحر، يواجهه الحكم ب قوله تعالى: {ما نَفدَتْ كَلماتُ اللَّه} مع السكوت عن نفاد ماء البحر.
والبحر الذي يمده بحر مثله، يواجهه الحكم بقوله سبحانه: {لَنَفدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلماتُ رَبّي وَلَوْ جئْنا بمثْله مَدَدًا}.
ففى كل صورة من الصورتين احتمال ترفعه الصورة الأخرى.
والاحتمال في قوله تعالى في سورة الكهف: {لَنَفدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلماتُ رَبّي وَلَوْ جئْنا بمثْله مَدَدًا} هو أنه يمكن أن تنفد كلمات اللّه، لو جىء بمثلى هذا البحر، مددا، أو بثلاثة أمثاله. وقد رفع هذا الاحتمال قوله تعالى في سورة لقمان: {وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ منْ بَعْده سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفدَتْ كَلماتُ اللَّه}.
والاحتمال في قوله تعالى في سورة لقمان: {وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ منْ بَعْده سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفدَتْ كَلماتُ اللَّه}- هو أن الأبحر لم تنفد، وأن كلمات اللّه لم تنفد، وأنه لو نفدت الأبحر لنفدت كلمات اللّه، وقد رفع هذا الاحتمال قوله تعالى في سورة الكهف: {لَنَفدَ الْبَحْرُ}.
وعد إلى الآيتين مرة أخرى:
{وَلَوْ أَنَّما في الْأَرْض منْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ منْ بَعْده سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفدَتْ كَلماتُ اللَّه} (لقمان).
{قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مدادًا لكَلمات رَبّي لَنَفدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلماتُ رَبّي وَلَوْ جئْنا بمثْله مَدَدًا} (الكهف) واجعل من الآيتين آية واحدة، تجد الأبحر قد نفدت، وما نفذت كلمات اللّه، وتجد كلمات اللّه لا نفاد لها، ولو مدّ البحر، لا ببحر واحد مثله، بل بسبعة أبحر!.
هذا كلام اللّه، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه.
{وَلَوْ كانَ منْ عنْد غَيْر اللَّه لَوَجَدُوا فيه اخْتلافًا كَثيرًا}.
وقوله تعالى: {إنَّ اللَّهَ عَزيزٌ حَكيمٌ} توكيد لسلطان اللّه، وتمكنه تمكن العزيز الذي لا يغلب، الحكيم الذي تجرى أحكام عزّته على العدل والإحسان، لا العسف والجبروت، شأن كل عزّة لا تحكمها الحكمة.
قوله تعالى: {ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إلَّا كَنَفْسٍ واحدَةٍ إنَّ اللَّهَ سَميعٌ بَصيرٌ}.
كانت الآية السابقة معرضا فسيحا لقدرة اللّه، وإنه لا يحسن النظر فيه، والإفادة منه، إلا من أوتى بصرا نافذا، وبصيرة مشرقة، ثم كان معه- مع هذا- قلب مؤمن.
وفي هذه الآية، معرض محدود من معارض هذا الوجود، وهو معرض الخلق والبعث. ثم أجمل هذا العرض في وحدة من وحدات الخلق، وهى الإنسان، في ذات واحدة، ونفس واحدة.
فهذا الإنسان، في خلقه، وبعثه، يكفى النظر إليه وحده، في الاستدلال على قدرة اللّه، وعلى أنه هو الخالق لهذا الوجود الذي لا حدود له.
فمن نظر إلى الإنسان، وإلى أصل نشأته، وكيف تنقل في الخلق، من حال إلى حال، حتى صار هذا الكائن القوىّ، العاقل، الذي يمخر عباب البحر، ويغوص في أعماق المحيط، ويحلق في أجواء السماء، بل ويطأ القمر بقدميه- من نظر إلى هذا الإنسان الذي تخلق من نطفة، تخلقت من من أخلاط مختلفة، ثم نظر إليه في قوته وجبروته، ثم أعاد النظر إليه وقد ردّ إلى الشيخوخة والهرم- رأى كمال قدرة اللّه، وعلمه، وحكمته، وأنه وحده سبحانه، القادر على كل شىء، قدرة مطلقة لا يعجزها شىء. وأن الذي خلق الإنسان، قادر على أن يخلق الناس جميعا، وأن الذي خلق الناس، قادر على أن يخلق السموات والأرض. ففى القليل ما يدل على الكثير، وإن قطرة الماء لتحمل في كيانها خصائص ما في البحار كلها من مي. اهـ!.
وفي قوله تعالى: {إنَّ اللَّهَ سَميعٌ بَصيرٌ}. إشارة إلى شمول سمع اللّه لكل شىء، وإحاطة بصره بكل شىء، يستوى في هذا خفيض الأصوات وجهيرها، وقريب الأشياء وبعيدها. وأقرب مثل لهذا- وللّه المثل الأعلى- السمع والبصر، في كيان الإنسان. فالسمع السليم، يستقبل ويسمع جميع الأصوات الواقعة تحت دائرة حسه، لا فرق في ذلك بين كلام الإنسان، وأصوات الحيوان، وحفيف الأشجار، وهدير الرعد، وخرير الماء. وكذلك البصر السليم، يرى كل المرئيات التي تقع في دائرته، سواء في ذلك الجميل والقبيح، والأبيض والأسود، والمتحرك والثابت.
فإذا كان سمع الإنسان وبصره، يتّسعان لأكثر من شيء في وقت واحد، أفلا يكون في قدرة اللّه أن يسمع كل شىء، ويبصر كل شى ء؟ وإذا كان الإنسان قد استطاع أن يتخذ من الوسائل ما يرى بوساطتها الأشياء البعيدة التي لم تكن تراها عينه، ويسمع الأصوات الخفية التي لم تكن تسمعها أذنه- أفلا يكون ذلك مما تطوله القدرة الإلهية وتعمل به؟ وإذا كان الإنسان قد استطاع أن ينقل الأصوات والمرئيات، لسمعه وبصره، من أطراف الأرض كلها في لحظة، أفلا تستطيع القدرة القادرة أن تفعل الكثير الذي لا حدود له في هذا المقام؟
وإذا كان بين العلماء الذين يملكون هذه الوسائل، وبين من يعيشون في حدود حواسهم الطبيعية- هذا المدى البعيد في مدركات السمع والبصر- أفلا يكون بين اللّه سبحانه وتعالى وبين خلقه، ما لا نهاية له من فروق؟ وإذن فما الفرق بين الخالق وما خلق؟ {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} (17: النحل).
قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولجُ اللَّيْلَ في النَّهار وَيُولجُ النَّهارَ في اللَّيْل وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْري إلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بما تَعْمَلُونَ خَبيرٌ}.
وهذا معرض آخر من المعارض الدالة على قدرة اللّه، وسعة علمه، ونفوذ سلطانه، إلى جانب تلك المعارض التي عرضتها الآيات السابقة.
فهنا- في هذا المعرض- نشهد تلك الحركة الدائبة التي يدور في فلكها الليل والنهار، على هذا النظام الدقيق البديع، الذي لا يتوقف لحظة، ولا ينحرف قيد أنملة.
وولوج الليل في النهار، مغيبه فيه، ودخوله في كيانه، وكذلك ولوج النهار في الليل، هو مغيبه في الليل، وتواريه في داخله.
ومن هذه الصورة نرى الظلام مستكنّا في أحشاء النور: {يُولجُ اللَّيْلَ في النَّهار} ثم نرى النور مطويّا في كيان الظلام: {وَيُولجُ النَّهارَ في اللَّيْل}.
فمن أحشاء النور يخرج الظلام، ومن أحشاء الظلام يولد النور. وهذا من دلائل القدرة القادرة، التي تؤلّف بين الأضداد. {يُخْرجُ الْحَيَّ منَ الْمَيّت وَمُخْرجُ الْمَيّت منَ الْحَيّ ذلكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} (95: الأنعام).
ومن آياته سبحانه، أنه سخر الشمس والقمر، وأجراهما على هذا النظام المحكم، فجعل الشمس ضياء والقمر نورا، فتتجلّى آية الشمس في النهار، ونتجلى آية القمر في الليل: {تَبارَكَ الَّذي جَعَلَ في السَّماء بُرُوجًا وَجَعَلَ فيها سراجًا وَقَمَرًا مُنيرًا} (61: الفرقان). ولكلّ من الشمس والقمر فلكها الذي تدور فيه، من غير أن ينحرف أي منها عن مداره: {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغي لَها أَنْ تُدْركَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابقُ النَّهار وَكُلٌّ في فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} (40: يس).
وقوله تعالى: {إلى أَجَلٍ مُسَمًّى}. الأجل المسمى، هو الزمن المحدد لدورة كلّ من الشمس والقمر، أو هو الأمد المحدد لهما الجريان فيه، ثم إذا انتهى هذا الأمد توقّفا، أوأخذا اتجاها آخر. شأنهما في هذا شأن كل مخلوق.
فلا دوام لحال أبدا.
وقوله تعالى: {وَأَنَّ اللَّهَ بما تَعْمَلُونَ خَبيرٌ} معطوف على قوله تعالى: {أَنَّ اللَّهَ يُولجُ اللَّيْلَ في النَّهار} وكأنه تعقيب عليه. وذلك أن الذي ينظر متأملا في نظام الوجود، وفي قدرة اللّه الممسكة به، لابد أن يؤدّيه هذا النظر المتأمل، إلى إدراك هذه الحقيقة، وهو أن اللّه عليم بكل ما نعمل، فلا تخفى عليه خافية من أعمالنا، دقيقها وعظيمها، خيرها وشرّها. إنه علم العليم الخبير، الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور.
قوله تعالى: {ذلكَ بأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ منْ دُونه الْباطلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَليُّ الْكَبيرُ}.
الإشارة هنا، إلى ما عرضته الآيات من مظاهر قدرة للّه، وسعة علمه.
والجار والمجرور في قوله تعالى: {بأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} متعلق بمحذوف، يدل عليه السياق وتقديره: يقضى، أو يقطع. ونحو هذا. أي أن ذلك الذي يراه الراءون في هذا الوجود من آيات القدرة، ومظاهر العلم- يقضى، ويقطع بأن اللّه هو الحق، أي الإله الحق، الذي يتفرد بالألوهة، من غير شريك، كما يقضى بأن تلك الآلهة التي يعبدها المشركون من دون اللّه، هي الباطل كله، لا شيء من حق فيه أبدا. وذلك من شأنه أن يقضى ويقطع بأن اللّه هو {العلىّ}، المنفرد بالعلوّ والسلطان، {الكبير} الذي له الكبرياء وحده، وأن مادونه دون ضئيل، لا وزن له، ولا قدر!. اهـ.