فصل: قال الشوكاني في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وعن الضحاك، الظاهرة: حسن الصورة وامتداد القامة وتسوية الأعضاء، والباطنة: المعرفة.
وقيل: الظاهرة: البصر والسمع واللسان وسائر الجوارح، والباطنة: القلب والعقل والفهم.
والذي ينبغي أن يقال: إن الظاهرة مما يدرك بالمشاهدة، والباطنة ما لا يعلم إلا بدليل، أو لا يعلم أصلًا.
فكم من نعمة في بدن الإنسان لا يعلمها، ولا يهتدي إلى العلم بها؟ وانتصب {ظاهرة} على الحال من {نعمه} الجمع على الصفة، ومن نعمة على الإفراد.
وتقدم الكلام على: {ومن الناس} إلى: {منير} في الحج، وعلى ما بعده إلى: {آباءنا} في نظيره في البقرة.
{أوَلو} كان تقديره: أيتبعونهم في أحوالهم؟ وفي هذه الحال التي لا ينبغي أن لا يتبع فيها الآباء؟ لأنها حال تلف وعذاب.
وقد تقدم لنا أن مثل هذا التركيب الذي فيه ولو، إنما يكون في الشيء الذي كان ينبغي أن لا يكون، نحو: اعطوا السائل ولو جاء على فرس، ردوا السائل ولو بظلف محرق، {وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين} وكذلك هذا، كان ينبغي من دعا إلى عذاب السعير أن لا يتبع.
وقرأ الجمهور: {ومن يسلم} مضارع أسلم؛ وعلي، والسلمي، وعبد الله بن مسلم بن يسار: بتشديد اللام، مضارع سلم، وتقدم الكلام على نظير هذه الجملة في البقرة، والمراد: التفويض إلى الله.
{فقد استمسك بالعروة الوثقى} تقدم الكلام عليه في البقرة.
وقال الزمخشري، من باب التمثيل: مثلت حال المتوكل بحال من تدلى من شاهق، فاحتاط لنفسه بأن استمسك بأوثق عروة من حبل متين مأمون انقطاعه. انتهى.
ولما ذكر حال الكافر المجادل، ذكر حال المسلم، وأخبر بأن منتهى الأمور صائرة إليه.
قال ابن عطية: والعروة: موضع التعليق، فكأن المؤمن متعلق بأمر الله، فشبه ذلك بالعروة.
وسلى رسوله بقوله: {ومن كفر} إلى آخره، وشبه إلزام العذاب وإرهاقهم إليه باضطرار من يضطر إلى الشيء الذي لا يمكنه دفعه، ولا الإنفكاك منه.
والغلظ يكون في الإجرام، فاستعير للمعنى، والمراد: الشدة.
{ليقولنّ الله} أقام الحجة عليهم بأنهم يقرون بأن الله هو خالق العالم بأسره، ويدعون مع ذلك إلهًا غيره.
{قل الحمد لله} على ظهور الحجة عليهم.
{بل أكثرهم لا يعلمون} إضراب عن مقدر، تقديره: ليس دعواهم، نحو: لا يعلمون أن ما ارتكبوه من ادعاء إله غير الله لا يصح، ولا يذهب إليه ذو علم.
ثم أخبر أنه مالك للعالم كله، وأنه هو الغني، فلا افتقار له لشيء من الموجودات.
{الحميد} المستحق الحمد على ما أنشأ وأنعم.
{ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام} تقدم في أول السورة سبب نزول هذه الآية.
ولما ذكر تعالى أن ما في السموات والأرض ملك له، وكان ذلك متناهيًا، بين أن في قدرته وعلمه عجائب لا نهاية لها، فقال: {ولو أن ما في الأرض} وأن بعد لو في موضع رفع على الفاعلية، أي لو وقع أو ثبت على رأي المبرد، أو في موضع مبتدأ محذوف الخبر على رأي غيره، وتقرر ذلك في علم النحو.
و{من شجرة} تبيين لما، وهو في التقرير في موضع الحال من الضمير الذي في الجار والمجرور المنتقل من العامل فيه، وتقديره: ولو أن الذي استقر في الأرض كائنًا من شجرة وأقلام خبر لأن، وفيه دليل على بطلان دعوى الزمخشري وبعض العجم ممن ينصر قوله: إن خبر أن الجائية بعد لولا يكون اسمًا جامدًا ولا اسمًا مشتقًا، بل يجب أن يكون فعلًا، وهو قول باطل، ولسان العرب طافع بالزيادة عليه.
قال الشاعر:
ولو أنها عصفورة لحسبتها ** مسومة تدعو عبيدًا وأيمًا

وقال الآخر:
ما أطيب العيش لو أن الفتى حجر ** تنبو الحوادث عنه وهو ملموم

وقال آخر:
ولو أن حيًا فائت الموت فاته ** أخو الحرب فوق القارح القدوان

وهو كثير في لسانهم.
والظاهر أن الواو في قوله: {والبحر} في قراءة من رفع، وهم الجمهور، واو الحال؛ والبحر مبتدأ، و{يمده} الخبر، أي حال كون البحر ممدودًا.
وقال الزمخشري: عطفًا على محل إن ومعمولها على ولو، ثبت كون الأشجار أقلامًا، وثبت أن البحر ممدودًا بسبعة أبحر. انتهى.
وهذا لا يتم إلا على رأي المبرد، حيث زعم أن {أن} في موضع رفع على الفاعلية.
وقال بعض النحويين: هو عطف على أن، لأنها في موضع رفع بالإبتداء، وهو لا يتم إلا على رأي من يقول: إن أن بعد لو في موضع رفع على الابتداء، ولولا يليها المبتدأ اسمًا صريحًا إلا في ضرورة شعر، نحو قوله:
لو بغير الماء حلقي شرق ** كنت كالغصان بالماء اعتصاري

فإذا عطفت والبحر على أن ومعموليها، وهما رفع بالابتداء، لزم من ذلك أن لو يليها الاسم مبتدأ، إذ يصير التقدير: ولو البحر، وذلك لا يجوز إلا في الضرورة، إلا أنه قد يقال: إنه يجوز في المعطوف عليه نحو: رب رجل وإخيه يقولان ذلك.
وقرأ عبد الله: وبحر يمده، بالتنكير بالرفع، والواو للحال، أو للعطف على ما تقدم؛ وإن كانت الواو واو الحال، كان بحر، وهو نكرة، مبتدأ، وذكروا في مسوغات الابتداء بالنكرة أن تكون واو الحال تقدمته، نحو قوله:
سرينا ونجم قد أضاء فقد بدا ** محياك أخفى ضوءه كل شارق

وقرأ الجمهور: {يمده} بالياء، من مد؛ وابن مسعود، وابن عباس: بتاء التأنيث، من مد أيضًا؛ وعبد الله أيضًا، والحسن، وابن مطرف، وابن هرمز: بالياء من تحت، من أمد؛ وجعفر بن محمد: والبحر مداده، أي يكتب به من السواد.
قال ابن عطية: هو مصدر. انتهى.
{من بعده} أي من بعد نفاد ما فيه، {سبعة أبحر} لا يراد به الاقتصار على هذا العدد، بل جيء للكثرة، كقوله: المؤمن من يأكل في معي واحد، والكافر في سبعة أمعاء، لا يراد به العدد، بل ذلك إشارة إلى القلة والكثرة.
ولما كان لفظ سبعة ليس موضوعًا في الأصل للتكثير، وإن كان مرادًا به التكثير، جاء مميزه بلفظ القلة، وهو أبحر، ولم يقل بحور، وإن كان لا يراد به أيضًا إلا التكثير، ليناسب بين اللفظين.
فكما يجوز في سبعة، واستعمل للتكثر، كذلك يجوز في أبحر، واستعمل للتكثير.
وفي الكلام جملة محذوفة يدل عليها المعنى، وكتب بها الكتاب كلمات الله.
{ما نفدت} والمعنى: ولو أن أشجار الأرض أقلام، والبحر ممدود بسبعة أبحر، وكتبت بتلك الأقلام وبذلك المداد كلمات الله، {ما نفدت} ونفدت الأقلام والمداد الذي في البحر وما يمده، كما قال: {لو كان البحر مدادًا لكلمات ربي} الآية.
وقال الزمخشري: فإن قلت: زعمت أن قوله: {والبحر يمده} حال في أحد وجهي الرفع، وليس فيه ضمير راجع إلى ذي الحال، قلت: هو كقوله:
وقد اغتدي والطير في وكناتها.
وجئت والجيش مصطف، وما أشبه ذلك من الأحوال التي حكمها حكم الظروف.
يجوز أن يكون المعنى: وبحرها، والضمير للأرض. انتهى.
وهذا الذي جعله سؤالًا وجوابًا من واضح النحو الذي لا يجهله المبتدئون فيه، وهو أن الجملة الإسمية إذا كانت حالًا بالواو، لا يحتاج إلى ضمير يربط، واكتفى بالواو فيها.
وأما قوله: وما أشبه ذلك من الأحوال التي حكمها حكم الظروف، فليس بجيد، لأن الظرف إذا وقع حالًا، ففي العامل فيه ضمير ينتقل إلى الظرف.
والجملة الاسمية إذا كانت حالًا بالواو، فليس فيها ضمير منتقل.
وأما قوله: ويجوز، فلا يجوز إلا على رأي الكوفيين، حيث يجعلون أل عوضًا من الضمير.
وقال الزمخشري: فإن قلت: لم قيل: {من شجرة} على التوحيد دون اسم الجنس الذي هو شجر؟ قلت: أريد تفصيل الشجر ونقضها شجرة شجرة، حتى لا يبقى من جنس الشجر واحدة إلا قد بريت أقلامًا.
انتهى.
وهذا النوع هو مما أوقع فيه المفرد موقع الجمع، والنكرة موقع المعرفة، ونظيره: {ما ننسخ من آية} {ما يفتح الله للناس من رحمة} {ولله يسجد ما في السموات وما في الأرض من دابة} وكقول العرب: هو أول فارس، وهذا أفضل عالم، يريد من الآيات ومن الرحمات ومن الدواب، وأول الفرسان.
أخبروا بالمفرد والنكرة، وأرادوا به معنى الجمع المعرف بأل، وهو مهيع في كلام العرب معروف.
وكذلك يتقدر هذا من الشجرات، أو من الأشجار.
وفي هذا الكلام من المبالغة في تكثير الأقلام والمداد ما ينبغي أن يتأمل، وذلك أن الأشجار مشتمل كل واحدة منها على الأغصان الكثيرة، وتلك الأغصان كل غصن منها يقطع على قدر القلم، فيبلغ عدد الأقلام في التناهي إلى ما لا يعلم به، ولا يحيط إلا الله تعالى.
وقرأ الجمهور: {ما نفدت كلمات الله} بالألف والتاء.
وقرأ زيد بن علي: كلمة الله، على التوحيد.
وقرأ الحسن: ما نفد، بغير تاء، كلام الله.
قال أبو علي: المراد بالكلمات، والله أعلم: ما في المعدوم دون ما خرج من العدم إلى الوجود.
وقالت فرقة: المراد بكلمات الله: معلوماته.
وقال الزمخشري: فإن قلت: الكلمات جمع قلة، والمواضع مواضع التكثير لا التقليل، فهلا قيل: كلم الله؟ قلت: معناه أن كلماته لا تفي بكتبها البحار، فكيف بكلمة؟ انتهى.
وعلى تسليم أن كلمات جمع قلة، فجموع القلة إذا تعرفت بالألف واللام غير العهدية، أو أضيفت، عمت وصارت لا تخص القليل، والعام مستغرق لجميع الأفراد.
{إن الله عزيز} كامل القدرة، فمقدوراته لا نهاية لها.
{حكيم} كامل العلم، فمعلوماته لا نهاية لها.
ولما ذكر تعالى كمال قدرته وعلمه، ذكر ما يبطل استبعادهم للحشر.
{إلا كنفس واحدة} إلا كخلق نفس واحدة وبعثها، ومن لا نفاد لكلماته يقول للموتي: كونوا فيكونون، فالقليل والكثير، والواحد والجمع، لا يتفاوت في قدرته.
وقال النقاش: هذه الآية في أبيّ بن خلف، وأبي الأسد، ونبيه ومنبه ابني الحجاج، قالوا: يا محمد: إنا نرى الطفل يخلق بتدريج، وأنت تقول: الله يعيدنا دفعة واحدة، فنزلت.
{إن الله سميع بصير} سميع كل صوت، بصير كل مبصر في حالة واحدة، لا يشغله إدراك بعضها عن بعض، فكذلك الخلق والبعث. اهـ.

.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

{أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا في السَّمَاوَات وَمَا في الْأَرْض}.
لما فرغ سبحانه من قصة لقمان رجع إلى توبيخ المشركين وتبكيتهم وإقامة الحجج عليهم، فقال: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ الله سَخَّرَ لَكُمْ مَّا في السماوات وَمَا في الأرض} قال الزجاج: معنى تسخيرها للآدميين: الانتفاع بها انتهى، فمن مخلوقات السموات المسخرة لبني آدم، أي التي ينتفعون بها الشمس والقمر والنجوم ونحو ذلك.
ومن جملة ذلك: الملائكة فإنهم حفظة لبني آدم بأمر الله سبحانه، ومن مخلوقات الأرض المسخرة لبني آدم: الأحجار والتراب والزرع والشجر والثمر والحيوانات التي ينتفعون بها والعشب الذي يرعون فيه دوابهم، وغير ذلك مما لا يحصى كثرة، فالمراد بالتسخير جعل المسخر بحيث ينتفع به المسخر له، سواء كان منقادًا له، وداخلًا تحت تصرّفه أم لا {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نعَمَهُ ظاهرة وَبَاطنَةً} أي أتمّ وأكمل عليكم نعمه، يقال: سبغت النعمة إذا تمت وكملت.
قرأ الجمهور: {أسبغ} بالسين، وقرأ ابن عباس ويحيى بن عمارة: {أصبغ} بالصاد مكان السين.
والنعم جمع نعمة على قراءة نافع وأبي عمرو وحفص، وقرأ الباقون: {نعمة} بسكون العين على الإفراد والتنوين اسم جنس يراد به الجمع ويدلّ به على الكثرة، كقوله: {وَإن تَعُدُّوا نعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34] وهي قراءة ابن عباس.
والمراد بالنعم الظاهرة: ما يدرك بالعقل أو الحسّ ويعرفه من يتعرفه، وبالباطنة: ما لا يدرك للناس، ويخفى عليهم.
وقيل: الظاهرة: الصحة وكمال الخلق، والباطنة: المعرفة، والعقل.
وقيل: الظاهرة ما يرى بالأبصار من المال والجاه والجمال، وفعل الطاعات، والباطنة: ما يجده المرء في نفسه من العلم بالله وحسن اليقين وما يدفعه الله عن البعد من الآفات.
وقيل: الظاهرة نعم الدنيا، والباطنة: نعم الآخرة.
وقيل: الظاهرة: الإسلام والجمال، والباطنة: ما ستره الله على العبد من الأعمال السيئة {وَمنَ الناس مَن يجادل في الله} أي في شأن الله سبحانه في توحيده وصفاته؛ مكابرة وعنادًا بعد ظهور الحق له وقيام الحجة عليه، ولهذا قال: {بغَيْر علْمٍ} من عقل ولا نقل {وَلاَ هُدًى} يهتدي به إلى طريق الصواب {وَلاَ كتاب مُّنيرٍ} أنزله الله سبحانه، بل مجرّد تعنت، ومحض عناد.
وقد تقدم تفسير هذه الآية في سورة البقرة.
{وَإذَا قيلَ لَهُمُ اتبعوا مَا أَنزَلَ الله} أي إذا قيل لهؤلاء المجادلين.
والجمع باعتبار معنى من، اتبعوا ما أنزل الله على رسوله من الكتاب تمسكوا بمجرد التقليد البحت.
و{قَالُوا بَلْ نَتَّبعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْه ءَابَاءنَا} فنعبد ما كانوا يعبدونه من الأصنام، ونمشي في الطريق التي كانوا يمشون بها في دينهم، ثم قال على طريق الاستفهام للاستبعاد والتبكيت {أَوْ لَّوْ كَانَ الشيطان يَدْعُوهُمْ إلى عَذَاب السعير} أي يدعو آباءهم الذين اقتدوا بهم في دينهم، أي يتبعونهم في الشرك، ولو كان الشيطان يدعوهم فيما هم عليه من الشرك، ويجوز أن يراد أنه يدعو هؤلاء الأتباع إلى عذاب السعير؛ لأنه زين لهم اتباع آبائهم والتدين بدينهم، ويجوز أن يراد أنه يدعو جميع التابعين والمتبوعين إلى العذاب، فدعاؤه للمتبوعين بتزيينه لهم الشرك، ودعاؤه للتابعين بتزيينه لهم دين آبائهم، وجواب لو محذوف، أي يدعوهم فيتبعونهم، ومحل الجملة النصب على الحال.
وما أقبح التقليد، وأكثر ضرره على صاحبه، وأوخم عاقبته، وأشأم عائدته على من وقع فيه.
فإن الداعي له إلى ما أنزل الله على رسوله كمن يريد أن يذود الفراش عن لهب النار لئلا تحترق، فتأبى ذلك، وتتهافت في نار الحريق، وعذاب السعير.