فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وفي قوله: {لكل صبّار شكور} حسن التخلص إلى التفصيل الذي عقبه في قوله: {وإذا غشيهم موج كالظُّلَل} الآية، فعطف على آيات سير الفلك إشارة إلى أن الناس يذكرون الله عند تلك الآيات عند الاضطرار، وغفلتهم عنها في حال السلامة، وهو ما تقدم مثله في قوله في سورة العنكبوت (65): {فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون} وقوله في سورة يونس (22): {حتى إذا كنتم في الفلك وجرَيْنَ بهم بريح طيبة} الآيات.
والغشيان: مستعار للمجيء المفاجىء لأنه يشبه التغطية، وتقدم في قوله تعالى: {يُغشي الليل النهار} في سورة الأعراف (54).
والظُّلَل: بضم الظاء وفتح اللام: جمع ظُلّة بالضم وهي: ما أظلّ من سحاب.
والفاء في قوله: {فمنهم مقتصد} تدلّ على مقدر كأنه قيل: فلما نجاهم انقسموا فمنهم مقتصد ومنهم غيره كما سيأتي.
وجعل ابن مالك الفاء داخلة على جواب {لمّا} أي رابطة للجواب ومخالفوه يمنعون اقتران جواب {لما بالفاء كما في مغني اللبيب}.
والمقتصد: الفاعل للقصد وهو التوسط بين طرفين، والمقام دليل على أن المراد الاقتصاد في الكفر لوقوع تذييله بقوله: {وما يجحد بآياتنا إلاّ كل خَتّار كفور} ولقوله في نظيره في سورة العنكبوت (65) {فلما نجّاهم إلى البرّ إذا هم يشركون} وقد يطلق المقتصد على الذي يتوسط حالُه بين الصلاح وضده.
كما قال تعالى: {منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون} [المائدة: 66] والجاحد الكفور: هو المُفرط في الكفر والجَحد.
والجُحود: الإنكار والنفي.
وتقدم عند قوله تعالى: {ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون} في سورة الأنعام (33).
وعلم أن هنالك قسمًا ثالثًا وهو الموقن بالآيات الشاكر للنعمة وأولئك هم المؤمنون.
قال في سورة فاطر (32) {فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات} وهذا الاقتصار كقول جرير:
كانت حنيفة أثلاثًا فثلثهم ** من العبيد وثلث من مواليها

أي: والثلث الآخر من أنفسهم.
والخَتَّار: الشديد الختر، والختر: أشدّ الغدر.
وجملة: {وما يجحد} إلى آخرها تذييل لأنها تعم كل جاحد سواء من جحد آية سير الفلك وهول البحر ويجحد نعمة الله عليه بالنجاة ومن يجحد غير ذلك من آيات الله ونعمه.
والمعنى: ومنهم جاحد بآياتنا.
وفي الانتقال من الغيبة إلى التكلم في قوله: {بآياتنا} التفات.
والباء في {بآياتنا} لتأكيد تعدية الفعل إلى المفعول مثل قوله: {وامسحوا برءوسكم} [المائدة: 6]، وقول النابغة:
لك الخير إن وارت بك الأرض واحدًا.
وقوله تعالى: {وما نرسل بالآيات إلاَّ تخويفًا} [الإسراء: 59]. اهـ.

.قال الشعراوي:

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْري في الْبَحْر بنعْمَت اللَّه}.
بعد أن ذكر الحق سبحانه بعض الآيات الكونية البعيدة عنا أراد سبحانه أنْ يعطينا نموذجًا آخر للآيات التي بيْن أيدينا في الأرض فقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الفلك تَجْري في البحر بنعْمَة الله} [لقمان: 31] ألم تر: يعني ألم تعلم {أَنَّ الفلك} [لقمان: 31] أي: السفن.
وربما أن سيدنا رسول الله لم يَرَ هذه السفن في البحار، ولم تكن قد ظهرت السفن العملاقة التي نراها اليوم كالأعلام، كما في قوله سبحانه: {وَلَهُ الجوار المنشئات في البحر كالأعلام} [الرحمن: 24].
ومتى وُجدت البوارج العالية التي تشبه الجبال والمكوَّنة من عدة أدوار. لم توجد إلا حديثًا، إذن: فهذا مظهر من مظاهر إعجاز القرآن، ومن ذلك قوله تعالى: {وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ الناس أُمَّةً وَاحدَةً لَّجَعَلْنَا لمَن يَكْفُرُ بالرحمن لبُيُوتهمْ سُقُفًا مّن فضَّةٍ وَمَعَارجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} [الزخرف: 33].
ومَنْ يبحث في القرآن يجد فيه الكثير من هذه الآيات التي تثبت صدْق القرآن وصدْق رسول الله في البلاغ عن الله.
وذكرنا قصة المرأة التي أسلمت لما قرأت التاريخ الإسلامي، وقرأت في سيرة رسول الله أن المؤمنين به كانوا يجعلون عليه حراسة دائمة يتبادلونها حماية له من أعدائه، وفجأة صرف رسول الله هؤلاء الحرس من حوله وقال لهم لقد أنزل الله عليَّ {والله يَعْصمُكَ منَ الناس} [المائدة: 67] فوقفت المرأة عند هذه الآية وقالت: والله لو أن هذا الرجل كان يخدع الناس جميعًا ما خدع نفسه في حياته.
وقلنا في معنى {أَلَمْ تَرَ} [لقمان: 31] أنها بمعنى ألم تعلم، لأن إعلام الله لك أوثق من رؤية عينيك.
وكلمة {تَجْري في البحر بنعْمَة الله} [لقمان: 31] الجري: حركة تودع فيها مكانًا إلى مكان آخر، هذا التوديع إما أن تمشي الهُوَيْنَا أو تجري. لكن ما هي نعمة الله في جريها؟ أولًا كانت أول سفينة من الخشب المربوط إلى بعضه بالحبال والدُّسُر، وكان الغاطس منها في الماء حوالي شبر واحد يزيح من الماء بحجم وزن السفينة، فإذا ما وضعت عليها ثقلًا فإنها تغطس بمقدار هذا الثقل، حتى إذا ما زاد وزن الماء المزاح عن وزن السفينة وحمولتها فإنها تغرق.
وهذه الفكرة هي التي تُستخدم في الغواصات، فبالوزن يتم التحكم في حركة الغواصة تحت الماء. والآن نرى السفن العملاقة والتي تُصنع من الحديد، والعجيب أن هذا الحديد الصلب يحمله الماء السائل الليّن ويجري به، ثم تأتي الريح فتدفع السفن إلى حيث تريد، حتى وإنْ كانت تسير عكس جريان الماء، ويتمكن ربان السفينة من التحكم في حركتها باستخدام بعض الآلات البسيطة وبتوجيه الشراع بطريقة معينة فتسير السفينة حسب ما أراد حتى لو كان اتجاهها عكس اتجاه الريح، ويسمون هذه الحركة تسفيح.
لذلك يقول سبحانه عن حركة السفن: {إن يَشَأْ يُسْكن الريح فَيَظْلَلْنَ رَوَاكدَ على ظَهْره} [الشورى: 33].
وكأن الحق سبحانه يريد أن يُبيّن لنا أن أقل الأشياء كثافة بقوة الحق له يحمل أكثر الأشياء كثافة، وانظر إنْ شئتَ إلى جرارات النقل الثقيل، هذه الجرارات العملاقة التي تحمل عدة أطنان من الحديد مثلًا على أي شيء تسير وتتحرك؟ إنها تسير وتتحرك على الهواء المضغوط في عجلاتها، والذي يأخذ قوته من هذا الضغط، بحيث إذا زدتَ في ضغط هذه العجلات تقوي على نفسها فتنفجر.
وقوله تعالى: {ليُريَكُمْ مّنْ آيَاته} [لقمان: 31] أي: من عجائبه في كونه في البحار، ففي الماضي كنا لا نرى من المخلوقات في الأعماق إلا السمك الذي يصطاده الصيادون، أما الآن ومع تطور علوم البحار وطرق التصوير تحت الماء أصبحنا نرى في أعماق البحار عجائب أكثر مما نراه على اليابسة.
ثم يقول تعالى: {إنَّ في ذَلكَ لآيَاتٍ لّكُلّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [لقمان: 31] قوله تعالى: {لّكُلّ صَبَّارٍ} [لقمان: 31] توحي بأن آيات الله في كونه كثيرة، لكن على الإنسان أنْ يبذل جهدًا في البحث عنها واكتشافها، وعليه أن يكون صبَّارًا على مشقة البحث والغوص تحت الماء، فإذا ما رأينا ما في أعماق البحار من عجائب مخلوقات الله فقد وجب علينا الشكر {لّكُلّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [لقمان: 31] والشكر لا يكون إلا عن نعمة جدَّت لم تكُنْ موجودة من قبل.
إذن: الحق- تبارك وتعالى- يريد منا أن نستقبل آياته في الكون استقبالَ بحث وتأمل ونظر، لا استقبال غفلة وإعراض، كما قال سبحانه: {وَكَأَيّن مّن آيَةٍ في السماوات والأرض يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرضُونَ} [يوسف: 105].
وتقديم صبَّار على شكور دليل على أن الصبر على مشقات العمل والبحث والاستنباط والاكتشاف يُؤتى نعمة كبيرة تدعو الإنسان إلى شكرها.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَإذَا غَشيَهُمْ مَّوْجٌ}.
معنى {غَشيَهُمْ مَّوْجٌ} [لقمان: 32] يعني: غطاهم واحتواهم؛ لذلك قال: {كالظلل} [لقمان: 32] جمع ظُلَّة، وهي التي تعلو الإنسان وتظلله، ولا يكون الموج كذلك إلا إذا علا عن مستوى الإنسان، وخرج عن رتابة الماء وسجسجته. ومن ذلك قول الله تعالى: {وَإذ نَتَقْنَا الجبل فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ} [الأعراف: 171].
وأنت تشاهد هذه المظاهر إذا كنتَ في عرض البحر، فترى الموجة من بعيد أعلى منك، وأنها حتمًا ستطمسك، حتى إذا ما وصلتْ إليك شاهدتَ فيها مظهرًا من لطف الله بك، حيث تتلاشى وتمر من تحتك بسلام، وهذا شيء عجيب ونعمة تستوجب الشكر.
فالموج إذن شيء مخيف؛ لذلك لما غشيهم وأيقنوا الهلاك {دَعَوُا الله مُخْلصينَ لَهُ الدين} [لقمان: 32] دعوا الله رغم أنهم كافرون به، لكن المرء في مثل هذه الحال لا يخدع نفسه ولا يكذب عليها، فالأمر جد، فلم يدعوا اللات أو العزى، ولم يقُلْ أحد منهم يا هبل، إنما دعوا الله بإخلاص لله، فإنْ كانوا ملتفتين لدين آخر في عبادة الأصنام، ففي هذا الموقف لابد أن يُخلصوا لله؛ لأنهم واثقون أن الأصنام لن تنفعهم، وأنها لا تملك لهم ضرًا ولا نفعًا، ولن يكون النفع وكشف البلاء إلا من الله الحق.
فإنْ قُلْتَ: ما دام الأمر كذلك، فما الذي صرفهم عن عبادة الله إلى عبادة الأصنام.
قلنا: إن التديُّن طبيعة في النفس البشرية، وهذه الطبيعة باقية في ذرات كل إنسان منذ خلق الله آدم، وأخذ من صُلْبه ذريته، وأشهدهم على أنفسهم {أَلَسْتُ برَبّكُمْ} [الأعراف: 172] فشهدوا.
فكل واحد منا فيه ذرة شهدتْ هذا العهد، وهذه الذرة هي مصدر الإشراقات في نفس المؤمن، وعليه أنْ يحافظ عليها بأن يأخذ قانون صيانة هذه الذرة ممن خلقها، لا أنْ يطمس نورها بمخالفة قانون صيانته الذي وضعه له ربه- عز وجل- فيكون كمَنْ قال الله فيه: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذكْري فَإنَّ لَهُ مَعيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القيامة أعمى} [طه: 124].
النبي صلى الله عليه وسلم يُوضح لنا هذه المسألة بقوله: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يُهوّدانه، أو يُنصرّانه أو، يُمجّسانه».
فالنفس الإنسانية بخير ما دام فيها الإشراقيات الإلهية الأولى التي شهدتْ أن الله هو الرب، لكن إذا تضبَّبت فلابد أن تحدث الخيبة ويدخل الفساد.
إذن: التديُّن طَبْع في النفس، لكن التديُّن الحق له مطلوبات ومنهج بافعل كذا، ولا تفعل كذا، وهذا يريد أنْ يُرضي نفسه بأن يكون مُتدينًا، لكن يريد أنْ يريح نفسه من مطلوبات هذا التدين، فماذا يفعل؟ يلجأ إلى عبادة إله لا مطلوبات له، وقد توفرت هذه في عبادة الأصنام.
لكن نقول لمن عبد الأصنام: لابد أنْ يأتي عليك الوقت الذي لا تلتفت فيه إلى الأصنام، بل إلى الإله الحق الذي هربتْ من مطلوباته وانصرفت عن عبادته، لابد أن تُلجئك الأحداث إلى أنْ تلوذ به؛ لذلك يقولون في المثل اللي متحبش تشوف وجهه، يُحوجك الزمن لقفاه.
فأنتم أعرضتم عن الله وكفرتم به، فلما نزلت بكم الأحداث وأحاطت بكم الأمواج صرْتم أرانب، فلماذا الآن تلجئون إلى الله؟ لماذا لم تستمروا على عنادكم وتكبُّرهم حتى على الله؟
ثم يقول تعالى: {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إلَى البر فَمنْهُمْ مُّقْتَصدٌ} [لقمان: 32] وكان ينبغي عليهم بعد أنْ نجاهم وأسعفهم، كان ينبغي عليهم أن يؤمنوا به، وأنْ يطيعوه، وأن تؤثر فيهم هذه الهزة التي زلزلتهم، إلا أنهم عادوا إلى ما كانوا عليه من الكفر والإعراض عن الله، وطاوع نفسه وشهوته.
هذه هي حال الكافر حينما يتعرض للابتلاء والتمحيص، فإنه ينتكس ولا يرعوى على خلاف المؤمن، فإنه إن تعرَّض لمثل هذا الاختبار يزداد إيمانًا ويقينًا.
والمقتصد هو البين بين، تأخذه الأحداث والخطوب، فتردُّه إلى الله حال الكرب والشدة، لكنه إذا كشف عنه تردد وضعفتْ عنده هذه الروح، بدليل أن الله تعالى يذكر في مقابل المقتصد نوعًا آخر منهم غير مقتصد {وَمَا يَجْحَدُ بآيَاتنَآ إلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ} [لقمان: 32].
فمنهم من بهت كفره حينما تنبه في الوازع الإيماني، لكنه لما نجا غرَّته الدنيا من جديد، ومنهم الجاحد الختَّار أي: الغادر.
ولك أنْ تلحظ المقابلة بين صبَّار وختَّار، وبين شكور وكفور. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْري في الْبَحْر بنعْمَت اللَّه ليُريَكُمْ منْ آيَاته}.
في الظاهر سلامتُهم في السفينة، وفي الباطن سلامتُهم من حدثان الكون، ونجاتهم في سفائن العصمة في بحار القدرة.
{إنَّ في ذلكَ لآيَات لّكُلّ صَبَّارٍ} وَقُوفٍ لا ينهزم من البلايا، شَكُورٍ على ما يصيبه من تصاريف التقدير من جنسي البلايا والعطايا.
{وَإذَا غَشيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَل دَعَوُا اللَّهَ مُخْلصينَ لَهُ الدّينَ}.
إذا تلاطمت عليهم أمواجُ بحار التقدير تمنوا أن تلفظَهم تلك البحارُ إلى سواحل السلامة، فإذا جاد الحقُّ بتحقيق مُناهم عادوا إلى رأس خطاياهم:
وكم قد جهلتم ثم عُدْنَا بحلْمنا ** أحباءَنا كم تجهلون ونَحْلُمُ

. اهـ.

.تفسير الآيات (33- 34):

قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزي وَالدٌ عَنْ وَلَده وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالده شَيْئًا إنَّ وَعْدَ اللَّه حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ باللَّه الْغَرُورُ (33) إنَّ اللَّهَ عنْدَهُ علْمُ السَّاعَة وَيُنَزّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا في الْأَرْحَام وَمَا تَدْري نَفْسٌ مَاذَا تَكْسبُ غَدًا وَمَا تَدْري نَفْسٌ بأَيّ أَرْضٍ تَمُوتُ إنَّ اللَّهَ عَليمٌ خَبيرٌ (34)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما ظهرت بما ذكر في هذه السورة دقائق الحكمة، وانتشرت في الخافقين ألوية العظمة ونفوذ الكلمة، وأعربت ألسن القدرة عن دلائل الوحدانية، فلم تدع شيئًا من العجمة، فظهر كالشمس أنه لابد من الصيرورة إلى يوم الفصل وختم بالمكذب، أمر سبحانه عباده عامة عاصيهم ومطيعهم بالإقبال عليه، وخوّفهم ما هم صائرون إليه، مناديًا لهم بأدنى أوصافهم لما لهم من الذبذبة كما عرف به الحال الذي شرح آنفًا فقال: {يأ أيها الناس} أي عامة، ولفت الكلام إلى الوصف المذكر بالإحسان ترغيبًا وترهيبًا فقال: {اتقوا ربكم} أي والذي لا إله لكم غيره، لأنه لا محسن إليكم غيره، اتقاء يدوم وأنتم في غاية الاجتهاد فيه، لا كما فعلتم عند ما رأيتم من أهوال البحر.
ولما كانت وحدة الأله الملك توجب الخوف منه، لأنه لا مكافئ له، وكان أن عهد منه أنه لا يستعرض عبادة لمجازاتهم على أعمالهم لا يخشى كما يخشى إذا علم منه أن يستعرضهم قال: {واخشوا يومًا} لا يشبه الأيام، ولا يعد هول البحر ولا غيره عند أدنى هول من أهواله شيئًا بوجه.