فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الألوسي:

{يا أيها الناس اتقوا رَبَّكُمْ واخشوا يَوْمًا لاَّ يَجْزى وَالدٌ عَن وَلَده}.
أمر بالتقوى على سبيل الموعظة والتذكير بيوم عظيم بعد ذكر دلائل الوحدانية، ويجزي من جزى بمعنى قضى ومنه قيل للمتقاضي المتجازي أي لا يقضي والد عن ولده شيئًا.
وقرأ أبو السماء وعامر بن عبد الله وأبو السوار {لا يُجزئ} بضم الياء وكسر الزاي مهموزًا ومعناه لا يغني والد عن ولده ولا يفيده شيئًا من أجزأت عنك مجزأ فلان أي أغنيت.
وقرأ عكرمة {يَوْمًا لاَّ يُجْزَى} بضم الياء وفتح الزاي مبنيًا للمفعول والجملة على القراءات صفة يومًا والراجع إلى الموصوف محذوف أي فيه فأما أن يحذف برمته وأما على التدريج بأن يحذف حرف الجر فيعدي الفعل إلى الضمير ثم يحذف منصوبًا، وقوله تعالى: {وَلاَ مَوْلُودٌ} إما عطف على {وَالدٌ} فهو فاعل {يَجْزى} وقوله تعالى: {هُوَ جَازٍ عَن وَالده شَيْئًا} في موضع الصفة له والمنفي عنه هو الجزاء في الآخرة والمثبت له الجزاء في الدنيا أو معنى هو جاز أي من شأنه الجزاء لعظيم حق الوالد أو المراد بلا يجزي لا يقبل منه ما هوجاز به، وأما مبتدأ والمسوغ للابتداء به مع أنه نكرة تقدم النفي، وذهل المهدوي عن ذلك فمنع صحة كونه مبتدأ وجملة {هُوَ جَازٍ} خبره و{شَيْئًا} مفعول به أو منصوب على المصدرية لأنه صفة مصدر محذوف، وعلى الوجهين قيل تنازعه {يَجْزى} واختيار ما لا يفيد التأكيد في الجملة الأولى وما يفيده في الجملة الثانية لأن أكثر المسلمين وأجلتهم حين الخطاب كان آباؤهم قد ماتوا على الكفر وعلى الدين الجاهلي فلما كان غناء الكافر عن المسلم بعيدًا لم يحتج نفيه إلى التأكيد، ولما كان غناء الملسم عن الكافر مما يقع في الأوهام أكد نفيه قاله الزمخشري.
وتعقبه ابن المنير بأنه يتوقف صحته على أن هذا الخطاب كان خاصًا بالموجودين حينئذ والصحيح أنه عام لهم ولكل من ينطلق عليه اسم الناس، ورده في الكشف بأن المتقدمتين فاسدتان، أما الثانية فلما تقرر في أصول الفقه أن {يُذْهبْكُمْ أَيُّهَا الناس} يتناول الموجودين، وأما لغيرهم فبالإعلام أو بطريقه والمالكية موافقة، وأما الأولى فعلى تقدير التسليم لا شك أن أجلة المؤمنين وأكابرهم إلى انقراض الدنيا هم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله تعالى عنهم ومعلوم أن أكثرهم قبض آباؤهم على الكفر فمن أين التوقيف. اهـ.
واختار ابن المنير في وجه ذلك أن الله تعالى لما أكد الوصية بالآباء وقرن وجوب شكرهم بوجوب شكره عز وجل وأوجب على الولد أن يكفي والده ما يسوءه بحسب نهاية إمكانه قطع سبحانه هاهنا وهم الوالد في أن يكون الولد في القيامة يجزيه حقه عليه ويكفيه ما يلقاه من أهوال يوم القيامة كما أوجب الله تعالى عليه في الدنيا ذلك في حقه فلما كان جزاء الولد عن الوالد مظنة الوقوع لأنه سبحانه حض عليه في الدنيا كان جديدًا بتأكيد النفي لإزالة هذا الوهم ولا كذلك العكس وقريب منه ما قاله الإمام: إن الولد من شأنه أن يكون جازيًا عن والده لما عليه من الحقوق والولد يجزي لما فيه من النفقة وليس ذلك بواجب عليه فلذا قال سبحانه في الوالد: {لاَّ يَجْزى} وفي الولد {وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالده} ألا ترى أنه يقال لمن يحيك وليست الحياكة صنعته هو يحيك ولمن يحيك وهي صنعته هو حائك، وقيل إن التأكيد في الجملة الثانية الدلالة على أن المولود أولى بأن لا يجزى لأنه دون الوالد في الحنو والشفقة فلما كان أولى بهذا الحكم استحق التأكيد وفي القلب منه شيء، وقد يقال: إن العرب كانوا يدخرون الأولاد لنفعهم ودفع الأذى عنهم وكفاية ما يهمهم ولعل أكثر الناس اليوم كذلك فأريد حسم توهم نفعهم ودفعهم الأذى وكفاية المهم في حق آبائهم يوم القيامة فأكدت الجملة المفيدة لنفي ذلك عنهم وعد من جملة المؤكدات التعبير بالمولود لأنه من ولد بغير واسطة بخلاف الولد فإنه عام يشمل ولد الولد فإذا أفادت الجملة أن الولد الأدنى لا يجزي عن والده علم أن من عداه من ولد الولد لا يجزى عن جده من باب أولى.
واعترض بأن هذه التفرقة بين الولد والمولود لم يثبتها أهل اللغة، ورد بأن الزمخشري والمطرزي ذكرا ذلك وكفى بهما حجة، ثم إن في عموم الولد لولد الولد أيضًا مقالًا فقد ذهب جمع أنه خاص بالولد الصلبي حقيقة.
وقال صاحب المغرب يقال للصغير مولود وإن كان الكبير مولودًا أيضًا لقرب عهده من الولادة كما يقال لبن حليب ورطب جني للطري منهما، ووجه أمر التأكيد عليه بأنه إذا كان الصغير لا يجزي حينئذ مع عدم اشتغاله بنفسه لعدم تكليفه في الدنيا فالكبير المشغول بنفسه من باب أولى وهو كما ترى، وخصص بعضهم العموم بغير صبيان المسلمين لثبوت الأحاديث بشفاعتهم لوالديهم.
وتعقب بأن الشفاعة ليست بقضاء ولو سلم فلتوقفها على القبول يكون القضاء منه عز وجل حقيقة فتدبر.
{إنَّ وَعْدَ الله} قيل بالثواب والعقاب على تغليب الوعد على الوعيد أو هو بمعناه اللغوي {حَقّ} ثابت متحقق لا يخلف وعدم إخلاف الوعد بالثواب مما لا كلام فيه وأما عدم إخلاف الوعد بالعقاب ففيه كلام والحق أنه لا يخلف أيضًا، وعدم تعذيب من يغفر له من العصاة المتوعدين فليس من إخلاف الوعيد في شيء لما أن الوعيد في حقهم كان معلقًا بشرط لم يذكر ترهيبًا وتخويفًا، والجملة على هذا تعليل لنفي الجزاء، وقيل: المراد إن وعد الله بذلك اليوم حق، والجملة مستأنفة استئنافًا بيانيًا كأنه لما قيل: يا أيها الناس اتقوا يومًا الخ سأل سائل أن يكون ذلك اليوم؟ فقيل: إن وعد الله حق أي نعم يكون لا محالة لمكان الوعد به فهو جواب على أبلغ وجه، وإليه يشير كلام الإمام {فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الحياة الدنيا} بأن تلهيكم بلذاتها عن الطاعات {وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بالله الغرور} أي الشيطان كما روى عن ابن عباس وعكرمة وقتادة ومجاهد والضحاك بأن يحملكم على المعاصي بتزيينها لكم ويرجيكم التوبة والمغفرة منه تعالى أو يذكر لكم أنها لا تضر من سبق في علم الله تعالى موته على الايمان وأن تركها لا ينفع من سبق في العلم موته على الكفر، وعن أبي عبيدة كل شيء غرك حتى تعصى الله تعالى وتترك ما أمرك سبحانه به فهو غرور شيطانًا أو غيره، وإلى ذلك ذهب الراغب قال: الغرور كل ما يغر الإنسان من مال وجهاه وشهوة وشيطان.
وقد فسر بالشيطان إذ هو أخبث الغارين وبالدنيا لما قيل: الدنيا تغر وتضر وتمر، وأصل الغرور من غر فلانًا إذا أصاب غرته أي غفلته ونال منه ما يريد والمراد به الخداع، والظاهر أن {بالله} صلة {يَغُرَّنَّكُم} أي لا يخدعنك بذكر شيء من شؤنه تعالى يجسركم على معاصيه سبحانه.
وجوز أن يكون قسمًا وفيه بعد، وقرأ ابن أبي إسحاق وابن أبي عبلة ويعقوب {تَغُرَّنَّكُمُ} بالنون الخفيفة.
وقرأ سمال بن حرب وأبو حيوة {الغرور} بضم الغين وهو مصدر والكلام من باب جد جده، ويمكن تفسيره بالشيطان بجعله نفس الغرور مبالغة.
{إنَّ الله عندَهُ علْمُ الساعة} الخ، أخرج ابن المنذر عن عكرمة أن رجلًا يقال له الوارث بن عمرو جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد متى قيام الساعة؟ وقد أجدبت بلادنا فمتى تخصب؟ وقد تركت امرأتي حبلى فما تلد؟ وقد علمت ما كسبت اليوم فماذا أكسب غدًا؟ وقد علمت بأي أرض ولدت فبأي أرض أموت؟ فنلزت هذه الآية، وذكر نحوه محيى السنة البغوي والواحدي والثعلبي فهو نظرًا إلى سبب النزول جواب لسؤال محقق ونظرًا إلى ما قبلها من الآية جواب لسؤال مقدر كأن قائلًا يقول: متى هذا اليوم الذي ذكر من شأنه ما ذكر؟ فقيل: إن الله، ولم يقل إن علم الساعة عند الله مع أنه أخصر لأن اسم الله سبحانه أحق بالتقديم ولأن تقديمه وبناء الخبر عليه يفيد الحصر كما قرره الطيبي مع ما فيه من مزية تكرر الإسناد، وتقديم الظرف يفيد الاختصاص أيضًا بل لفظ عند كذلك لأنها تفيد حفظه بحيث لا يوصل إليه فيفيد الكلام من أوجه اختصاص علم وقت القيامة بالله عز وجل، وقوله تعالى: {وَيُنَزّلُ الغيث} أي في إبانه من غير تقديم ولا تأخير في بلد لا يتجاوزه به وبمقدار تقتضيه الحكمة، الظاهر أنه عطف على الجملة الظرفية المبنية على الاسم الجليل على عكس قوله تعالى: {نُّسْقيكُمْ مّمَّا في بُطُونهَا وَلَكُمْ فيهَا منافع} [المؤمنون: 1 2] فيكون خبرًا مبنيًا على الاسم الجليل مثل المعطوف عليه فيفيد الكلام الاختصاص أيضًا والمقصود تقييدات التنزيل الراجعة إلى العلم لا محض القدرة على التنزيل إذ لا شبهة فيه فيرجع الاختصاص إلى العلم بزمانه ومكانه ومقداره كما يشير إلى ذلك كلام الكشف، وقال العلامة الطيبي في شرح الكشاف: دلالة هذه الجملة على علم الغيب من حيث دلالة المقدور المحكم المتفن على العلم الشامل؛ وقوله تعالى: {وَيَعْلَمُ مَا في الارحام} أي أذكر أم أنثى أتام أم ناقص وكذلك ما سوى ذلك من الأحوال عطف على الجملة الظرفية أيضًا نظير ما قبله، وخولف بين {عندَهُ علْمُ الساعة} وبين هذا ليدل في الأول على مزيد الاختصاص اعتناء بأمر الساعة ودلالة على شدة خفائها، وفي هذا على استمرار تجدد التعلقات بحسب تجدد المتعلقات مع الاختصاص، ولم يراع هذا الأسلوب فيما قبله بأن يقال: ويعلم الغيث مثلًا إشارة بإسناد التنزيل إلى الاسم الجليل صريحًا عظم شأنه لما فيه من كثرة المنافع لأجناس الخلائق وشيوع الاستدلال بما يترتب عليه من إحياء الأرض على صحة البعث المشار إليه بالساعة في الكتاب العظيم قال تعالى: {وَإن كَانُوا من قَبْل أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهمْ مّن قَبْله لَمُبْلسينَ فانظر إلى ءاثار رَحْمَة الله كَيْفَ يُحْى الأرض بَعْدَ مَوْتهَا إنَّ ذَلكَ لَمُحْى}.
[الروم: 9 4، 0 5] وقال سبحانه: {ويحي الأرض بعد موتها وكذلك تخرجون} [الروم: 9 1] إلى غير ذلك، وربما يقال: إن لتنزيل الغيب وإن لم يكن الغيث المعهود دخلًا في المبعث بناء على ما ورد من حديث مطر السماء بعد النفخة الأولى مطرًا كمني الرجال، وقيل: الاختصاص راجع إلى التنزيل وما ترجع إليه تقييداته التي يقتضيها المقام من العلم، وفي ذلك رد على القائلين مطرنا بنوء كذا وللاعتناء برد ذلك لما فيه من الشرك في الربوبية عدل عن يعلم إلى {يُنَزّلٍ} وهو كما ترى، وقوله تعالى: {وَمَا تَدْرى نَفْسٌ} أي كل نفس برة كانت أو فاجرة كما يدل عليه وقوع النكرة في سياق النفي {مَّاذَا تَكْسبُ غَدًا} أي في الزمان المستقبل من خير أو شر، وقوله سبحانه: {وَمَا تَدْرى نَفْسٌ بأَىّ أَرْضٍ تَمُوتُ} عطف على ما استظهره صاحب الكشف على قوله تعالى: {إنَّ الله عندَهُ علْمُ الساعة} وأشار إلى أنه لما كان الكلام مسوقًا للاختصاص لا لإفادة أصل العلم له تعالى فإنه غير منكر لزم من النفي على سبيل الاستغراق اختصاصه به عز وجل على سبيل الكناية على الوجه الأبلغ، وفي العدول عن لفظ العلم إلى لفظ الدراية لما فيها من معنى الختل والحيلة لأن أصل دري رمي الدرية وهي الحلقة التي يقصد رميها الرماة وما يتعلم عليه الطعن والناقة التي يسيبها الصائد ليأنس بها الصيد فيستتر من ورائها فيرميه وفي كل حيلة، ولكونها علمًا بضرب من الختل والحيلة لا تنسب إليه عز وجل إلا إذا أولت بمطلق العلم كما في خبر خمس {لا أءلاه مَّعَ الله تَعَالَى} وقيل: قد يقال الممنوع نسبتها إليه سبحانه بانفراده تعالى أما مع غيره تبارك اسمه تغليبًا فلا، ويفهم من كلام بعضهم صحة النسبة إليه جل وعلا على سبيل المشالكة كما في قوله:
لا هم لا أدري وأنت الداري

فلا حاجة إلى ما قيل: إنه كلام إعرابي جلف لا يعرف ما يجوز إطلاقه على الله تعالى وما يمتنع فيكون المعنى لا تعرف كل نفس وإن أعملت حيلها ما يلصق بها ويختص ولا يتخطاها ولا شيء أخص بالإنسان من كسبه وعاقبته فإذا لم يكن له طريق إلى معرفتهما كان من معرفة ما عداهما أبعد وأبعد، وقد روعي في هذا الأسلوب الإدماج المذكور ولذا لم يقل: ويعلم ماذا تكسب كل نفس ويعلم أن كل نفس بأي أرض تموت.
وجوز أن يكون أصل {وَيُنَزّلُ الغيث} وأن ينزل الغيث فحذف إن وارتفع الفعل كما في قوله:
أيهذا الزاجري أحضر الوغى.
وكذا قوله سبحانه: {وَيَعْلَمُ مَا في الارحام} والعطف على {علْمُ الساعة} فكأنه قيل: إن الله عنده علم الساعة وتنزيل الغيث وعلم ما في الأرحام، ودلالة ذلك على اختصاص علم تنزيل الغيث به سبحانه ظاهر لظهور أن المراد بعنده تنزيل الغيث عنده علم تنزيله، وإذا عطف {يُنَزّلٍ} على {الساعة} كان الاختصاص أظهر لانسحاب علم المضاف إلى الساعة إلى الانزال حينئذ فكأنه قيل: إن الله عنده علم الساعة وعلم تنزيل الغيث، وهذا العطف لا يكاد يتسنى في {وَيَعْلَمَ} إذ يكون التقدير وعنده علم علم ما في الأرحام وليس ذاك بمراد أصلًا.
وجعل الطيبي {وَمَا تَدْرى نَفْسٌ} الخ معطوفًا على خبر إن من حيث المعنى بأن يجعل المنفي مثبتًا بأن يقال: ويعلم ماذا تكسب كل نفس غدًا ويعلم أن كل نفس بأي أرض تموت وقال: إن مثل ذلك جائز في الكلام إذا روعي نكتة كما في قوله تعالى: {أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَن لا تُشْركُوا به شَيْئًا وبالوالدين إحسانا} [الأنعام: 151] فإن العطف فيه باعتبار رجوع التحريم إلى ضد الإحسان وهي الإساءة، وذكر في بيان نكتة العدول عن المثبت إلى المنفي نحو ما ذكرنا آنفًا.
وتعقب ذلك صاحب الكشف بأن عنه مندوحة أي بما ذكر من عطفه على جملة {إنَّ الله عندَهُ علْمُ الساعة} وقال الإمام: في وجه نظم الجمل الحق أنه تعالى لما قال: {واخشوا يَوْمًا} [لقمان: 33] الخ وذكر سبحانه أنه كائن بقوله عز وجل قائلًا: {إنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ} [لقمان: 33] فكأن قائلًا يقول: فمتى هذا اليوم؟ فأجيب بأن هذا العلم مما لم يحصل لغيره تعالى وذلك قوله سبحانه: {إنَّ الله عندَهُ علْمُ الساعة} ثم ذكر جل وعلا الدليلين اللذين ذكرا مرارًا على البعث:
أحدهما إحياء الأرض بعد موتها المشار إليه بقوله تعالى: {وَيُنَزّلُ الغيث} والثاني الخلق ابتداء المشار إليه بقوله سبحانه: {وَيَعْلَمُ مَا في الارحام} فكأنه قال عز وجل: يا أيها السائل إنك لا تعلم وقتها ولكنها كائنة والله تعالى قادر عليها كما هو سبحانه قادر على إحياء الأرض وعلى الخلق في الأرحام ثم بعد جل شأنه له أن يعلم ذلك بقوله عز وجل وما تدري الخ فكأنه قال تعالى: يا أيها السائل إنك تسأل عن الساعة أيان مرساها وإن من الأشياء ما هو أهم منها لا تعلمه فإنك لا تعلم معاشك ومعادك فما تعلم ماذا تكسب غدًا مع أنه فعلك وزمانك ولا تعلم أين تموت مع أنه شغلك ومكانك فكيف تعلم قيام الساعة متى يكون والله تعالى ما علمك كسب غدك ولا علمك أين تموت مع أن لك في ذلك فوائد شتى وإنما لم يعلمك لكي تكون في كل وقت بسبب الرزق راجعًا إلى الله تعالى متوكلًا عليه سبحانه ولكيلا تأمن الموت إذا كنت في غير الأرض التي أعلمك سبحانه أنك تموت فيها فإذا لم يعلمك ما تحتاج إليه كيف يعلمك ما لا حاجة لك إليه وهو وقت القيامة وإنما الحاجة إلى العلم بأنها تكون وقد أعلمك جل وعلا بذلك على ألسنة أنبيائه تعالى عليهم الصلاة والسلام انتهى، ولا يخفى أن الظاهر على ما ذكره أن يقال: ويخلق ما في الأرحام كما قال سبحانه: {وَيُنَزّلُ الغيث} ووجه العدول عن ذلك إلى ما في النظم الجليل غير ظاهر على أن كلامه بعد لا يخلو عن شيء، وكون المراد اختصاص علم هذه الخمس به عز وجل الذي تدل عليه الأحاديث والآثار، فقد أخرج الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة من حديث طويل أنه صلى الله عليه وسلم سئل متى الساعة؟ فقال للسائل: «ما المسؤول عنها بأعلم من السائل وسأخبرك عن أشراطها إذا ولدت الأمة ربها وإذا تطاول رعاة الإبل البهم في البنيان في خمس لا يعلمهن إلا الله تعالى ثم تلا النبي صلى الله عليه وسلم {إنَّ الله عندَهُ علْمُ الساعة وَيُنَزّلُ الغيث} الآية» أي إلى آخر السورة كما في بعض الروايات، وما وقع عند البخاري في التفسير من قوله: إلى الأرحام تقصير من بعض الرواة، وأخرجا أيضًا هما وغيرهما عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مفتاح وفي رواية مفاتح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله تعالى لا يعلم أحد ما يكون في غد ولا يعلم أحد ما يكون في الأرحام ولا تعلم نفس ماذا تكسب غدًا وما تدري نفس بأي أرض تموت وما يدري أحد متى يجيء المطر».
وأخرج أحمد والبزار وابن مردويه والروياني والضياء بسند صحيح عن بريدة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «خمس لا يعلمهن إلا الله إن الله عنده علم الساعة الآية» وظاهر هذه الأخبار يقتضي أن ما عدا هذه الخمس من المغيبات قد يعلمه غيره عز وجل وإليه ذهب من ذهب.