فصل: قال الثعلبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الثعلبي:

قوله: {وَمَن يُسْلمْ وَجْهَهُ إلَى الله} أي يخلص دينه لله ويفوّض أمره إليه، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي {يُسلّمْ} بالتشديد، وقراءة العامّة بالتخفيف من الإسلام وهو الاختيار لقوله: {بلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للَّه} [البقرة: 112] وأشباه ذلك.
{وَهُوَ مُحْسنٌ} في عمله {فَقَد استمسك بالعروة الوثقى} أي: اعتصم بالطريق الأوثق الذي لا يخاف انقطاعه. وقال ابن عبّاس: هي: {لاَ إله إلاَّ الله} [الصافات: 35].
{وإلى الله عَاقبَةُ الأمور} يعني مرجعها. {وَمَن كَفَرَ فَلاَ يَحْزُنكَ كُفْرُهُ إلَيْنَا مَرْجعُهُمْ فَنُنَبّئُهُم بمَا عملوا إنَّ الله عَليمٌ بذَات الصدور نُمَتّعُهُمْ} نعمّرهم ونمهلهم {قَليلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ} نُلجئهم، ونردّهم {إلى عَذَابٍ غَليظٍ}.
{وَلَئن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله قُل الحمد للَّه بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ للَّه مَا في السماوات والأرض إنَّ الله هُوَ الغني الحميد}.
قوله عزّ وجلّ: {وَلَوْ أَنَّمَا في الأرض من شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ} الآية. قال المفسّرون: سألت اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرّوح فأنزل الله بمكّة: {وَيَسْأَلُونَكَ عَن الروح} [الإسراء: 85] الآية، فلمّا هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أتاه أحبار اليهود، فقالوا: يا محمّد بلغنا عنك أنّك تقول: وما أُوتيتم من العلم إلاّ قليلًا، أفعنيتنا أم قومك؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «كلًا قد عنيت» قالوا: ألستَ تتلوا فيما جاءَك: إنّا قد أُوتينا التّوراة وفيها علم كلّ شيء؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هي في علم الله قليلٌ وقد آتاكم الله ما إنْ عملتم به انتفعتم. قالوا: يا محمّد كيف تزعم هذا وأنت تقول: {وَمَن يُؤْتَ الْحكْمَةَ فَقَدْ أُوتيَ خَيْرًا كَثيرًا} فكيف يجتمع هذا قليل وخير كثير؟ فأنزلَ الله: {وَلَوْ أَنَّمَا في الأرض من شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ} أي بريت أقلامًا {والبحر} بالنصب ابن أبي إسحاق وأبو عمرو ويعقوب. غيرهم بالرّفع، وحجّتهم: قراءة عبدالله وبحر {يَمُدُّهُ} أي يزيده وينصب عليه {من بَعْده} من خلفه {سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفدَتْ كَلمَاتُ الله} وفي هذه الآية اختصار تقديرها: ولو أنَّما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمدُّهُ من بعده سبعة أبحر يكتب بها كلام الله ما نفدت كلمات الله، وهذه الآية تقتضي أنّ كلامه غير مخلوق؛ لأنّه لا نهاية له ولما يتعلّق به من معناه فهو غير مخلوق.
{إنَّ الله عَزيزٌ حَكيمٌ} هذه الآية على قول عطاء بن يسار: مدنيّة، قال: نزلت بعد الهجرة كما حكينا. وعلى قول غيره: مكّيّة، قالوا: إنّما أمرَ اليهود وفد قريش أنْ يسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه ويقولوا له ذلك وهو بعد بمكّة، والله أعلم.
قوله: {مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إلاَّ كَنَفْسٍ وَاحدَةٍ} يعني إلاّ كخلق نفس واحدة وبعثها لا يتعذر عليه شيء وهذا كقوله: {تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كالذي يغشى عَلَيْه منَ الموت} [الأحزاب: 19] أي كدوران عين الذي يغشى عليه من الموت.
{إنَّ الله سَميعٌ بَصيرٌ أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُولجُ الليل في النهار وَيُولجُ النهار في الليل وَسَخَّرَ الشمس والقمر كُلٌّ يجري إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَأَنَّ الله بمَا تَعْمَلُونَ خَبيرٌ ذَلك} الذي ذكرتُ لتعلموا: {بأَنَّ الله هُوَ الحق وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ من دُونه الباطل وَأَنَّ الله هُوَ العلي الكبير أَلَمْ تَرَ أَنَّ الفلك تَجْري في البحر بنعْمَة الله} برحمة الله، {ليُريَكُمْ مّنْ آيَاته إنَّ في ذَلكَ لآيَاتٍ لّكُلّ صَبَّارٍ} على أمر الله {شَكُورٍ} على نعَمه. قال أهل المعاني: أراد لكلّ مؤمن، لأنّ الصّبر والشكر من أفضل خصال المؤمنين.
{وَإذَا غَشيَهُمْ مَّوْجٌ كالظلل} قال مقاتل: كالجبال. وقال الكلبي: كالسحاب والظلل جمع ظلّه شَبَّهَ الموجَ بها في كثرتها وارتفاعها كقول النّابغة في صفة بحر:
يماشيهن أخضر ذو ظلال ** على حافاته فلق الدنان

وإنّما شبّه الموج وهو واحد بالظلل وهي جمع، لانَّ الموج يأتي شيء بعد شيء ويركب بعضه بعضًا كالظلل. وقيل: هو بمعنى الجمع، وإنّما لم يجمع لأنّه مصدر، وأصله من الحركة والازدحام.
{دَعَوُا الله مُخْلصينَ لَهُ الدين فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إلَى البر فَمنْهُمْ مُّقْتَصدٌ} قال ابن عبّاس: موف بما عاهد الله عليه في البحر. ابن كيسان: مؤمن. مجاهد: مقتصد في القول مضمر للكفر. الكلبي: مقتصد في القول من الكفّار لأنَّ بعضهم أشدّ قولًا وأغلى في الافتراء من بعض. ابن زيد: المقتصد الذي على صلاح من الأمر. {وَمَا يَجْحَدُ بآيَاتنَآ إلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ} غدّار {كَفُورٍ} جحود، والختر أسوأ الغدر. وقال عمرو بن معدي كرب:
وإنّك لو رأيت أبا عمير ** ملأت يديك من غدر وختر

قوله: {يا أيها الناس اتقوا رَبَّكُمْ واخشوا يَوْمًا لاَّ يَجْزي} لا يقضي ولا يُغني ولا يكفّر {وَالدٌ عَن وَلَده وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالده شَيْئًا إنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الحياة الدنيا وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بالله الغرور}. قراءة العامّة: بفتح الغين هاهنا وفي سورة الملائكة والحديد وقالوا: هو الشيطان. وقال سعيد بن جبير: هو أن يعمل بالمعصية ويتمنّى المغفرة. وقرأ سماك بن حرب: بضم الغين ومعناه لا تغتروا {إنَّ الله عندَهُ علْمُ الساعة} الآية. نزلت في الوارث بن عمرو بن حارثة بن محارب بن خصفة من أهل البادية، أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم فسأله عن الساعة ووقتها وقال: إنّ أرضنا أجدبت فمتى ينزل الغيث؟ وتركتُ امرأتي حبلى فما تلد؟ وقد علمتُ أين وُلدتْ فبأيّ أرض تموت؟ فأنزل الله هذه الآية.
أخبرنا أبو سعيد محمد بن عبدالله بن حمدون، عن أحمد بن محمد بن الحسن، عن محمد بن يحيى، عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد، عن أبي عن ابن شهاب، عن سالم بن عبدالله ابن عمر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه قال: «مفاتيحُ الغيب خمسة {إنَّ الله عندَهُ علْمُ الساعة} الآية».
وروى يونس بن عبيد عن عمرو بن سعيد أنَّ رجلًا قال: يا رسول الله هل من العلم علم لم تؤته؟ فقال: لقد أُوتيتُ علمًا كثيرًا أو علمًا حسنًا أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمّ تلا رسول الله هذه الآية {إنَّ الله عندَهُ علْمُ الساعة} إلى قوله: {خَبيرٌ} فقال: هؤلاء خمسة لا يعلمهنّ إلاّ الله تبارك وتعالى.
وأخبرنا أبو زكريا يحيى بن إسماعيل الحربي قال: أخبرني أبو حامد أحمد بن حمدون بن عمارة الأعمش، عن علي بن حشرم، عن الفضل بن موسى، عن رجل سمّاه قال: بلغ ابن عبّاس أنَّ يهوديًا خرج من المدينة يحسب حساب النجوم فأتاه فسأله. فقال: إنْ شئت أنبأتك عن نفسك وعن ولدك. فقال: إنّك ترجع إلى منزلك وتلقى لك بابن محموم، ولا تمكث عشرة أيّام حتّى يموت الصبي، وأنت لا تخرج من الدُّنيا حتى تعمى، فقال ابن عبّاس: وأنت يا يهودي؟ قال: لا يحول عليَّ الحول حتى أموت، قال: فأين موتك؟ قال: لا أدري. قال ابن عبّاس: صدق الله {وَمَا تَدْري نَفْسٌ بأَيّ أَرْضٍ تَمُوتُ}. قال: فرجع ابن عبّاس فتلقّى بابن محموم فما بلغَ عشرًا حتّى مات الصبي، وسأل عن اليهودي قبل الحول فقالوا: مات، وما خرجَ ابن عبّاس من الدنيا حتّى ذهب بصره. قال علي: هذا أعجب حديث.
قوله: {بأَيّ أَرْضٍ تَمُوتُ} كان حقه بأيّة أرض، وبه قرأ أُبيّ بن كعب، إلاّ أنّ مَن ذَكَّر قال: لانّ الأرض ليس فيها من علامات التأنيث شيء. وقيل: أراد بالأرض المكان فلذلك ذَكَّر، وأحتجُ بقول الشاعر:
فلا مزنة ودقت ودقها ** ولا الأرض أبقل إبقالها

. اهـ.

.قال الزمخشري:

.[سورة لقمان: آية 22].

{وَمَنْ يُسْلمْ وَجْهَهُ إلَى اللَّه وَهُوَ مُحْسنٌ فَقَد اسْتَمْسَكَ بالْعُرْوَة الْوُثْقى وَإلَى اللَّه عاقبَةُ الْأُمُور (22)}.
قرأ على بن أبى طالب رضى اللّه عنه: ومن يسلم بالتشديد، يقال: أسلم أمرك وسلم أمرك إلى اللّه. فإن قلت: ماله عدّى بإلى، وقد عدّى باللام في قوله بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للَّه؟ قلت:
معناه مع اللام: أنه جعل وجهه وهو ذاته ونفسه سالما للّه. أي خالصا له. ومعناه- مع إلى:
أنه سلم إليه نفسه كما يسلم المتاع إلى الرجل إذا دفع إليه. والمراد: التوكل عليه والتفويض إليه فَقَد اسْتَمْسَكَ بالْعُرْوَة الْوُثْقى من باب التمثيل: مثلت حال المتوكل بحال من أراد أن يتدلى من شاهق، فاحتاط لنفسه بأن استمسك بأوثق عروة من حبل متين مأمون انقطاعه وَإلَى اللَّه عاقبَةُ الْأُمُور أي هي صائرة إليه.

.[سورة لقمان: الآيات 23- 24].

{وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إلَيْنا مَرْجعُهُمْ فَنُنَبّئُهُمْ بما عَملُوا إنَّ اللَّهَ عَليمٌ بذات الصُّدُور (23) نُمَتّعُهُمْ قَليلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إلى عَذابٍ غَليظٍ (24)}.
قرئ: يحزنك، ويحزنك: من حزن، وأحزن. والذي عليه الاستعمال المستفيض: أحزنه ويحزنه. والمعنى: لا يهمنك كفر من كفر وكيده للإسلام، فإن اللّه عزّ وجلّ دافع كيده في نحره، ومنتقم منه، ومعاقبه على عمله إنَّ اللَّهَ يعلم ما في صدور عباده، فيفعل بهم على حسبه نُمَتّعُهُمْ زمانا قَليلًا بدنياهم ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إلى عَذابٍ غَليظٍ شبه إلزامهم التعذيب وإرهاقهم إياه باضطرار المضطرّ إلى الشيء الذي لا يقدر على الانفكاك منه. والغلظ: مستعار من الأجرام الغليظة. والمراد الشدّة والثقل على المعذب.

.[سورة لقمان: الآيات 25- 27].

{وَلَئنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماوات وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُل الْحَمْدُ للَّه بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (25) للَّه ما في السَّماوات وَالْأَرْض إنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنيُّ الْحَميدُ (26) وَلَوْ أَنَّما في الْأَرْض منْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ منْ بَعْده سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفدَتْ كَلماتُ اللَّه إنَّ اللَّهَ عَزيزٌ حَكيمٌ (27)}.
قُل الْحَمْدُ للَّه إلزام لهم على إقرارهم بأنّ الذي خلق السماوات والأرض هو اللّه وحده، وأنه يجب أن يكون له الحمد والشكر. وأن لا يعبد معه غيره، ثم قال بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ أنّ ذلك يلزمهم، وإذا نبهوا عليه لم ينتبهوا إنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنيُّ عن حمد الحامدين المستحق للحمد، وإن لم يحمدوه.
قرئ: والبحر، بالنصب عطفا على اسم إنّ، وبالرفع عطفا على محل إن، ومعمولها على.
ولو ثبت كون الأشجار أقلاما، وثبت البحر ممدودا بسبعة أبحر. أو على الابتداء والواو للحال، على معنى. ولو أنّ الأشجار أقلام في حال كون البحر ممدودا، وفي قراءة ابن مسعود:
وبحر يمدّه على التنكير، ويجب أن يحمل هذا على الوجه الأوّل. وقرئ: يمدّه، ويمدّه. وبالتاء والياء. فإن قلت: كان مقتضى الكلام أن يقال: ولو أنّ الشجر أقلام، والبحر مداد. قلت:
أغنى عن ذكر المداد قوله: يمدّه، لأنه من قولك: مدّ الدواة وأمدّها، جعل البحر الأعظم بمنزلة الدواة، وجعل الأبحر السبعة مملوءة مدادا، فهي تصب فيه مدادها أبدا صبا لا ينقطع. والمعنى:
ولو أنّ أشجار الأرض أقلام، والبحر ممدود بسبعة أبحر. وكتبت بتلك الأقلام وبذلك المداد كلمات اللّه، لما نفدت كلماته ونفدت الأقلام والمداد، كقوله تعالى: {قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مدادًا لكَلمات رَبّي لَنَفدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلماتُ رَبّي} فإن قلت: زعمت أنّ قوله: {وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ} حال في أحد وجهى الرفع، وليس فيه ضمير راجع إلى ذى الحال. قلت: هو كقوله:
وقد اغتدى والطّير في وكناتها

وجئت والجيش مصطف، وما أشبه ذلك من الأحوال التي حكمها حكم الظروف. ويجوز أن يكون المعنى: وبحرها، والضمير للأرض. فإن قلت: لم قيل منْ شَجَرَةٍ على التوحيد دون اسم الجنس الذي هو شجر؟ قلت: أريد تفصيل الشجر وتقصيها شجرة شجرة، حتى لا يبقى من جنس الشجر ولا واحدة إلا قد بريت أقلاما. فإن قلت: الكلمات جمع قلة، والموضع موضع التكثير لا التقليل. فهلا قيل: كلم اللّه؟ قلت: معناه أنّ كلماته لا تفي بكتبتها البحار، فكيف بكلمة؟
وعن ابن عباس رضى اللّه عنهما: أنها نزلت جوابا لليهود لما قالوا قد أوتينا التوراة وفيها كل الحكمة وقيل: إن المشركين قالوا: إنّ هذا يعنون الوحى- كلام سينفد، فأعلم اللّه أن كلامه لا ينفد. وهذه الآية عند بعضهم مدنية، وأنها نزلت بعد الهجرة، وقيل هي مكية، وإنما أمر اليهود وقد قريش أن يقولوا لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: ألست تتلو فيما أنزل عليك: أنا قد أوتينا التوراة وفيها علم كل شيء إنَّ اللَّهَ عَزيزٌ لا يعجزه شيء حَكيمٌ لا يخرج من علمه وحكمته شيء، ومثله لا تنفد كلماته وحكمه.

.[سورة لقمان: آية 28].

{ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إلاَّ كَنَفْسٍ واحدَةٍ إنَّ اللَّهَ سَميعٌ بَصيرٌ (28)}.
إلَّا كَنَفْسٍ واحدَةٍ إلا كخلقها وبعثها، أي: سواء في قدرته القليل والكثير، والواحد والجمع، لا يتفاوت، وذلك أنه إنما كانت تفاوت النفس الواحدة والنفوس الكثيرة العدد:
أن لو شغله شأن عن شأن وفعل عن فعل، وقد تعالى عن ذلك إنَّ اللَّهَ سَميعٌ بَصيرٌ يسمع كل صوت ويبصر كل مبصر في حالة واحدة، لا يشغله إدراك بعضها عن إدراك بعض، فكذلك الخلق والبعث.

.[سورة لقمان: الآيات 29- 30].

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولجُ اللَّيْلَ في النَّهار وَيُولجُ النَّهارَ في اللَّيْل وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْري إلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بما تَعْمَلُونَ خَبيرٌ (29) ذلكَ بأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ منْ دُونه الْباطلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَليُّ الْكَبيرُ (30)}.
كل واحد من الشمس والقمر يجرى في فلكه، ويقطعه إلى وقت معلوم: الشمس إلى آخر السنة، والقمر إلى آخر الشهر. وعن الحسن: الأجل المسمى: يوم القيامة. لأنه لا ينقطع جريهما إلا حينئذ. دلّ أيضا بالليل والنهار وتعاقبهما وزيادتهما ونقصانهما وجرى النيرين في فلكيهما كل ذلك على تقدير وحساب، وبإحاطته بجميع أعمال الخلق: على عظم قدرته وحكمته. فإن قلت: يجرى لأجل مسمى، ويجرى إلى أجل مسمى: أهو من تعاقب الحرفين؟ قلت: كلا، ولا يسلك هذه الطريقة إلا بليد الطبع ضيق العطن. ولكن المعنيين. أعنى الانتهاء والاختصاص كل واحد منهما ملائم لصحة الغرض لأنّ قولك يجرى إلى أجل مسمى: معناه يبلغه وينتهى كل واحد منهما ملائم لصحة الغرض، لأنّ قولك يجرى إلى أجل مسمى: معناه يبلغه وينتهى إليه. وقولك: يجرى لأجل مسمى: تريد يجرى لإدراك أجل مسمى، تجعل الجري مختصا بإدراك أجل مسمى. ألا ترى أن جرى الشمس مختص بآخر السنة، وجرى القمر مختص بآخر الشهر، فكلا المعنيين غير ناب به موضعه ذلكَ الذي وصف من عجائب قدرته وحكمته التي يعجز عنها الأحياء القادرون العالمون. فكيف بالجماد الذي تدعونه من دون اللّه، إنما هو بسبب أنه هو الحق الثابت إلهيته. وأنّ من دونه باطل الإلهية وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَليُّ الشأن الْكَبيرُ السلطان. أو ذلك الذي أوحى إليك من هذه الآيات بسبب بيان أنّ اللّه هو الحق، وأنّ إلها غيره باطل، وأنّ اللّه هو العلىّ الكبير عن أن يشرك به.

.[سورة لقمان: آية 31].

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْري في الْبَحْر بنعْمَت اللَّه ليُريَكُمْ منْ آياته إنَّ في ذلكَ لَآياتٍ لكُلّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31)}.
قرئ: الفلك، بضم اللام. وكل فعل: يجوز فيه فعل، كما يجوز في كل فعل فعل، على مذهب التعويض. وبنعمات اللّه: بسكون العين. وعين فعلات يجوز فيها الفتح والكسر والسكون بنعْمَت اللَّه بإحسانه ورحمته صَبَّارٍ على بلائه شَكُورٍ لنعمائه، وهما صفتا المؤمن، فكأنه قال: إنّ في ذلك لآيات لكل مؤمن.