فصل: قال الإمام نظام الدين النيسابوري:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{وَمَن كَفَرَ فَلاَ يَحْزُنكَ كُفْرُهُ} فإنه لا يضرك في الدنيا والآخرة، وقرىء {فَلاَ يَحْزُنكَ} من أحزن وليس بمستفيض. {إلَيْنَا مَرْجعُهُمْ} في الدارين. {فَنُنَبّئُهُم بمَا عَملُوا} بالإهلاك والتعذيب. {إنَّ الله عَليمٌ بذَات الصدور} فمجازٍ عليه فضلًا عما في الظاهر.
{نُمَتّعُهُمْ قَليلًا} تمتيعًا أو زمانًا قليلًا فإن ما يزول بالنسبة إلى ما يدوم قليل. {ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إلى عَذَابٍ غَليظٍ} يثقل عليهم ثقل الأجرام الغلاظ أو يضم إلى الإحراق الضغط.
{وَلَئن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السموات والأرض لَيَقُولُنَّ الله} لوضوح الدليل المانع من إسناد الخلق إلى غيره بحيث اضطروا إلى إذاعته. {قُل الحمد للَّه} على إلزامهم والجائهم إلى الإعتراف بما يوجب بطلان معتقدهم. {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} أن ذلك يلزمهم.
{للَّه مَا في السموات والأرض} لا يستحق العبادة فيهما غيره {إنَّ الله هُوَ الغنى} عن حمد الحامدين. {الحميد} المستحق للحمد وإن لم يحمد.
{وَلَوْ أَنَّما في الْأَرْض منْ شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ} ولو ثبت كون الأشجار أقلامًا، وتوحيد {شَجَرَةٍ} لأن المراد تفصيل الآحاد. {والبحر يَمُدُّهُ من بَعْده سَبْعَةُ أَبْحُرٍ} والبحر المحيط بسعته مدادًا ممدودًا بسبعة أبحر، فأغنى عن ذكر المداد بمده لأنه من مد الدواة وأمدها، ورفعه للعطف على محل أن ومعموليها وبمده حال أو للابتداء على أنه مستأنف أو الواو للحال، ونصبه البصريان بالعطف على اسم {أَن} أو إضمار فعل يفسره {يَمُدُّهُ} وقرىء {تمده} و{يمده} بالياء والتاء.
{مَّا نَفدَتْ كلمات الله} بكتبها بتلك الأقلام بذلك المداد وإيثار جمع القلة للإشعار بأن ذلك لا يفي بالقليل فكيف بالكثير. {أَنَّ الله عَزيزٌ} لا يعجزه شيء. {حَكيمٌ} لا يخرج عن علمه وحكمته أمر، والآية جواب لليهود سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أمروا وفد قريش أن يسألوه عن قوله تعالى: {وَمَا أُوتيتُم مّن العلم إلاَّ قَليلًا} وقد أنزل التوراة وفيها علم كل شيء.
{مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إلاَّ كَنَفْسٍ واحدة} إلا كخلقها وبعثها إذ لا يشغله شأن عن شأن لأنه يكفي لوجود الكل تعلق إرادته الواجبة مع قدرته الذاتية كما قال: {إنَّمَا أَمْرُنَا لشَىْءٍ إذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} {إنَّ الله سَميعٌ} يسمع كل مسموع {بَصيرٌ} يبصر كل مبصر لا يشغله إدراك بعضها عن بعض فكذلك الحق.
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُولجُ اليل في النهار وَيُولجُ النهار في اليل وَسَخَّرَ الشمس والقمر كُلٌّ يَجْرى} كل من النيرين يجري في فلكه. {إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى} إلى منتهى معلوم الشمس إلى آخر السنة والقمر إلى آخر الشهر. وقيل إلى يوم القيامة والفرق بينه وبين قوله: {لأَجَلٍ مُّسَمًّى} أن ال {أَجَلٌ} ها هنا منتهى الجري وثمة غرضه حقيقة أو مجازًا وكلا المعنيين حاصل في الغايات. {وَأَنَّ الله بمَا تَعْمَلُونَ خَبيرٌ} عالم بكنهه.
{ذلك} إشارة إلى الذي ذكر من سعة العلم وشمول القدرة وعجائب الصنع واختصاص الباري بها. {بأَنَّ الله هُوَ الحق} بسبب أنه الثابت في ذاته الواجب من جميع جهاته، أو الثابت إلهيته. {وَأَنَّ مَّا تَدْعُونَ من دُونه الباطل} المعدوم في حد ذاته لأنه لا يوجد ولا يتصف إلا بجعله أو الباطل إلهيته، وقرأ البصريان والكوفيون غير أبي بكر بالياء. {وَأَنَّ الله هُوَ العلى الكبير} مترفع على كل شيء ومتسلط عليه.
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ الفلك تَجْرى في البحر بنعْمَة الله} بإحسانه في تهيئة أسبابه وهو استشهاد آخر على باهر قدرته وكمال حكمه وشمول إنعامه والباء للصلة أو الحال، وقرىء {الفلك} بالتثقيل و{بنعمات الله} بسكون العين، وقد جوز في مثله الكسر والفتح والسكون. {ليُريَكُمْ مّنْ ءاياته} دلائله. {إنَّ في ذلك لآيات لّكُلّ صَبَّارٍ} على المشاق فيتعب نفسه بالتفكر في الأفاق والأنفس. {شَكُورٍ} يعرف النعم ويتعرف مانحها، أو للمؤمنين فإن الإيمان نصفان نصف صبر ونصف شكر.
{وَإذَا غَشيَهُمْ} علاهم وغطاهم. {مَّوْجٌ كالظلل} كما يظل من جبل أو سحاب أو غيرهما، وقرىء كالظلال جمع ظلة كقلة وقلال. د {دَعَوُا الله مُخْلصينَ لَهُ الدين} لزوال ما ينازع الفطرة من الهوى والتقليد بما دهاهم من الخوف الشديد. {فَلَمَّا نجاهم إلَى البر فَمنْهُمْ مُّقْتَصدٌ} مقيم على الطريق القصد الذي هو التوحيد، أو متوسط في الكفر لانزجاره بعض الانزجار. {وَمَا يَجْحَدُ بآياتنا إلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ} غدار فإنه نقض للعهد الفطري، أو لما كان في البحر والختر أشد الغدر. {كَفُورٌ} للنعم.
{يا أيها الناس اتقوا رَبَّكُمْ واخشوا يَوْمًا لاَّ يَجْزى وَالدٌ عَن وَلَده} لاَ يقضي عنه، وقرىء {لا يجزىء} من أجزأ إذا أغنى والراجع إلى الموصوف محذوف أي لا يجزى فيه. {وَلاَ مَوْلُودٌ} عطف على {وَالدٌ} أو مبتدأ خبره. {هُوَ جَازٍ عَن وَالده شَيْئًا} وتغيير النظم للدلالة على أن المولود أولى بأن لا يجزي، وقطع طمع من توقع من المؤمنين أن ينفع أباه الكافر في الآخرة. {إنَّ وَعْدَ الله} بالثواب والعقاب. {حَقّ} لا يمكن خلفه. {فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الحياة الدنيا وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بالله الغرور} الشيطان بأن يرجيكم التوبة والمغفرة فيجسركم على المعاصي.
{إنَّ الله عندَهُ علْمُ الساعة}.
علم وقت قيامها. لما روي أن الحرث بن عمرو أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: متى قيام الساعة؟ وإني قد ألقيت حباتي في الأرض فمتى السماء تمطر؟ وحمل امرأتي أذكر أم أنثى؟ وما أعمل غدًا وأين أموت؟ فنزلت. وعنه عليه الصلاة والسلام: «مفاتح الغيب خمس» وتلا هذه الآية. {وَيُنَزّلُ الغيث} في إبانه المقدر له والمحل المعين له في علمه، وقرأ نافع وابن عامر وعاصم بالتشديد. {وَيَعْلَمُ مَا في الأرحام} أذكر أم أنثى أتام أم ناقص. {وَمَا تَدْرى نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسبُ غَدًا} من خير أو شر وربما تعزم على شيء وتفعل خلافه. {وَمَا تَدْرى نَفْسٌ بأَىّ أَرْضٍ تَمُوتُ} كما لا تدري في أي وقت تموت. روي أن ملك الموت مر على سليمان فجعل ينظر إلى رجل من جلسائه يديم النظم إليه، فقال الرجل من هذا؟ قال: ملك الموت فقال كأنه يريدني فمر الريح أن تحملني وتلقيني بالهند ففعل فقال الملك: كان دوام نظري إليه تعجبًا منه إذ أمرت أن أقبض روحه بالهند وهو عندك، وإنما جعل العلم لله تعالى والدراية للعبد لأن فيها معنى الحيلة فيشعر بالفرق بين العلمين، ويدل على أنه إن أعمل حيلة وأنفذ فيها وسعه لم يعرف ما هو الحق به من كسبه وعاقبته فكيف بغيره مما لم ينصب له دليل عليه، وقرىء {بأية أرض} وشبه سيبويه تأنيثها بتأنيث كل في {كُلُّهُنَّ}.
{إنَّ الله عَليمٌ} يعلم الأشياء كلها. {خَبيرٌ} يعلم بواطنها كما يعلم ظواهرها.
وعنه عليه الصلاة والسلام: «من قرأ سورة لقمان كان له لقمان رفيقًا يوم القيامة، وأعطي من الحسنات عشرًا عشرًا بعدد من عمل بالمعروف ونهى عن المنكر». اهـ.

.قال الإمام نظام الدين النيسابوري:

{أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا في السَّمَاوَات وَمَا في الْأَرْض وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نعَمَهُ ظَاهرَةً وَبَاطنَةً}.
التفسير:
لما ذكر أن معرفة الصانع غير مختصة بالنبوة ولكنها توافق الحكمة ايضًا، ولو كانت تعبدًا محضًا للزم قبوله، كيف وإنها توافق المعقول، أعاد الاستدلال بالأمور المشاهدة الآفاقية والأنفسية. ومعنى {سخر لكم} لأجلكم كما مر في سورة إبراهيم من قوله: {وسخر لكم الشمس والقمر دائبين} [إبراهيم: 33] الآية ومعنى {اسبغ} أتم، والنعم الظاهرة كل ما يوجد للحس الظاهر إليه سبيل ومن جملتها الحواس أنفسها. والباطنة مالا يدرك إلا بالحس الباطن أو بالعقل أو لا يعلم أصلًا. ومن المفسرين من يخص، فعن مجاهد: الظاهرة ظهور الإسلام والنصر على الأعداء ظاهرًا، والباطنة إمداد الملائكة. وعن الضحاك: الظاهرة حسن الصورة وامتداد القامة وتسوية الأعضاء والباطنة المعرفة والعلم.
وقيل: النفس. ثم ذكر أن بعض الناس يجادلون في الله بعد ظهور الدلائل على وحدانيته وقد مر في أول الحج. ثم ذكر أنه لا مستند له في ذلك إلا التقليد، ثم وبخه على جهله وتقليده بأنه يتبع سبيل الشيطان ولو دعاه إلى النار قائلًا {أولو كان} إلخ. ومعناه أيتبعونهم ولو كان كذا؟ ثم اراد أن يفصل حال المؤمن والكافر بعض التفصيل فقال: {ومن يسلم وجهه إلى الله} وهو نظير قوله في البقرة {بلى من أسلم وجهه لله} [الآية: 112] والفرق أن معناه مع إلى يرجع إلى التفويض والتسليم، ومع اللام يؤل إلى الإخلاص والإذعان والاستمساك بالعروة الوثقى تمثيل كما مر في آية الكرسي.
وقوله: {يمتعهم} الاية. كقوله في البقرة {ومن كفر فأمتعه قليلًا ثم أضطره} [الآية: 126] وغلظ العذاب شدته. ثم بين أنهم معترفون بالمعبود الحق إلا أنهم يشركون به وقد مر في آخر العنكبوت مثله إلا أنه قال في آخره {بل أكثرهم لا يعلمون} وذلك أنه زاد هناك قوله: {وسخر الشمس والقمر} [الرعد: 2] فبالغ، فإن نفي العقل أبلغ من نفي العلم إذ كل عالم عاقل ولا ينعكس. ثم ذكر أن الملك كله له وهو غني على الإطلاق حميد بالاستحقاق. وحين بين غاية قدرته أراد أن يبين أنه لا نهاية لعلمه فقال: {ولو أن ما في الأرض} الاية. عن ابن عباس: أنها نزلت جوابًا لليهود وأن التوراة فيها كل الحكمة. وقيل: هي جواب قول المشركين أن الوحي سينفد.
وتقدير الآية على قراءة الرفع: لو ثبت كون الأشجار أقلامًا وثبت البحر ممدودًا بسبعة أبحر. ويجوز أن تكون الجملة حالًا واللام في البحر للجنس. وجعل جنس البحار ممدودًا بالسبعة للتكثير لا للتقدير، فإن كثيرًا من الشياء عددها سبعة كالسيارات السبعة والأقاليم السبعة وأيام الأسبوع ومثله قوله صلى الله عليه وسلم: «المؤمن يأكل في معًا واحد والكافر يأكل في سبعة أمعاء» أراد الأكل الكثير. وقال في الكشاف جعل البحر الأعظم بمنزلة الدواة، وجعل الأبحر السبعة مملوأة مدادًا، فهي تصب فيه مدادها ابدًا صبًا لا ينقطع. قلت: جعله الأبحر سبعة تقديرًا ينافي قوله أبدا لا ينقطع وإنما لم يجعل للأقلام مدادًا لأن نقصان المداد بالكتابة أظهر من نقصان القلم. وإنما لم يقل: كلم الله على جمع الكثرة للمبالغة إذ يفهم منه أن كلماته لا تفي بكتبتها البحار فكيف بكلمه؟ وقيل: أراد بكلماته عجائب مصنوعاته الموجودة بكلمة كن وقد مر نظير هذه الآية في آخر الكهف. ثم بين أنه لا يصعب على قدرته كثرة الإيجاد والإعدام فإن تعلق قدرته بمقدور واحد كتعلقها بمقدورات غير محصورة لأن اقتداره لا يتوقف على آلة وعدة وإنما ذلك له ذاتي يكفي فيه الإرادة. ثم أكد ذلك بأن سمعه يتعلق في زمان واحد بكل المسموعات، وكذا بصره بكل المبصرات من غير أن يشغله شيء عن شيء. ثم أعاد طرفًا من دلائل قدرته مع تذكير بعض نعمه قائلًا {الم تر} وقد مر نظيره في الحج إلى قوله: {الكبير} وقوله هاهنا {يجري إلى أجل مسمى} وقوله في فاطر والزمر {لأجل مسمى} [الزمر: 5، فاطر: 13] يؤل إلى معنى واحد وإن كان الطريق مغايرًا، لأن الأول معناه انتهاؤهما إلى وقت معلوم وهو للشمس آخر السنة وللقمر آخر الشهر. وعن الحسن: هو يوم القيامة لأن جريهما لا ينقطع إلا وقتئذ.
والثاني معناه اختصاص الجري بإدراك أجل معلوم كما وصفنا. ووجه اختصاص هذا المقام بإلى وغيره باللام، أن هذه الآية صدّرت بالتعجيب فناسب التطويل. والمشار إليه بذلك هو ما وصف من عجيب قدرته أو أراد أن الموحى من هذه الآيات بسبب بيان أن الله هو الحق. قال بعضهم {العلي} إشارة إلى كونه تمامًا وهو أن حصل له كما ينبغي أن يكون له. و{الكبير} إشارة إلى كونه فوق التمام وهو أنه يحصل لغيره ما يحتاج إليه. ثم أكد الآية السماوية بالآية الأرضية.
ومعنى {بنعمته} بإحسانه ورحمته أو بالريح الطيبة التي هي بأمر الله {إن في ذلك} الإجراء {لايات لكل صبار} على الضراء {شكور} في السراء. ووجه المماسبة أن كلتا الحالتين قد يقع لراكب البحر أو صبار على النواحي والتروك شكور في الأفعال والأوامر ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «الإيمان نصفان: نصف صبر ونصف شكر» ثم ذكر أن بعض الناس لا يخلص لله إلا عند الشدائد، وإنما وحد الموج وجمع الظلل وهي كل ما أظلك من جبل أو سحاب، لأن الموج الواحد يرى له صعود ونزول كالجبال المتلاصقة. وإنما قال ههنا.
{فمنهم مقتصد} وقد قال فيما قبل {إذا هم يشركون} [العنكبوت: 65] لأنه ذكر هاهنا الموج وعظمته ولا محالة يبقى لمثله اثر في الخيال فيخفض شيئًا من غلو الكفر والظلم وينزجر بعض الانزجار، ويلزمه أن يكون متوسطًا في الإخلاص أيضًا لا غاليًا فيه، وقل مؤمن قد ثبت على ما عاهد عليه الله في البحر. والختر أشد الغدر ومنه قولهم لا تمد لنا شبرًا من غدر إلا مددنا لك باعًا من ختر. والختار في مقابلة الصبار لأن الختر لا يصدر إلا من عدم الصبر وقلة الاعتماد على الله في دفع المكروه. والكفور طباق الشكور. وحين بيَّن الدلائل وعظ بالتقوى وخوف من هول يوم القيامة. ومعنى {لا يجزي} لا يقضي كما مر في أول البقرة.
وذكر شخصين في غاية الشفقة والمحبة وهما الوالد والولد ليلزم منه عدم الانتفاع بغيرهما بالأولى، وفيه إشارة إلى ما جرت به العادة من أن الأب يتحمل الآلام عن ابنه ما أمكن، والولد يتحمل الإهانة عن الأب ما أمكن، فكأنه قال: لا يجزي فيه {والد عن ولده} شيئًا من الآلام {ولا مولود هو جاز عن والده شيئًا} من أسباب الإهانة. قال جار الله: إنما أوردت الجملة الثانية إسمية لأجل التوكيد. وذلك أن الخطاب للمؤمنين فأراد حسم أطماعهم أن يشفعوا لآبائهم الكفرة وفي توسيط هو مزيد تأكيد. وفي لفظ {المولود} دون أن قول ولا ولد تأكيد آخر، لأن الولد يقع على ولد الولد أيضًا بخلاف المولود فإنه لمن ولد منك فكأنه قيل: إن الواحد منهم لو شفع للأب الأدنى الذي ولد منه لم تقبل شفاعته فضلًا أن يشفع لمن فوقه.
وقيل: إنما أوردت الثانية إسمية لأن الابن من شأنه أن يكون جازيًا عن والده لما عليه من الحقوق والوالد يجزي شفقة لا وجوبًا {إن وعد الله} بمجيء ذلك اليوم {حق} أو وعده بعدم جزاء الوالد عن الولد وبالعكس حق. و{الغرور} بناء مبالغة وهو الشيطان اي لا ينبغي أن تغرنكم الدنيا بنفسها ويزينها في أعينكم غار من الشيطان أو النفس الأمارة. روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: «مفاتيح الغيب خمس» وتلا قوله: {إن الله عنده علم الساعة} إلى آخرها. وعن المنصور، أنه همه معرفة مدة عمره فرأى في منامه كأن خيالًا أخرج يده من البحر واشار إليه بالأصابع الخمس. فاستفتى العلماء في ذلك فتأولوها بخمس سنين وبخمسة أشهر وبغير ذلك حتى قال أبو حنيفة: تأويلها أن مفاتيح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله، وأن ما طلبت معرفته لا سبيل لك إليه. قال في التفسير الكبير: ليس مقصود الآية أنه تعالى مختص بمعرفة هذه الأمور فقط فإنه يعلم الجوهر الفرد أين هو وكيف هو من أول يوم خلق العالم إلى يوم النشور، وإنما المراد أنه تعالى حذر الناس من يوم القيامة. كان لقائل أن يقول: متى الساعة؟ فذكر أن هذا العلم لا يحصل لغيره ولكن هو كائن لدليلين ذكرهما مرارًا وهو إنزال الغيث المستلزم لإحياء الأرض وخلق الأجنة في الأرحام، فإن القادر على الإبداء قادر على الإعادة بالأولى. ثم إنه كأنه قال: أيها السائل إن لك شيئًا أهم منها لا تعلمه فإنك لا تعلم معاشك ومعادك فلا تعلم {ماذا تكسب غدًا} مع أنه فعلك وزمانك ولا تعلم أين تموت مع أنه شغلك ومكانك فكيف تعلم قيام الساعة؟ والسر في إخفاء الساعة وإخفاء وقت الموت بل مكانة هو أنه ينافي التكليف كما مر في أول طه، ولو علم المكلف مكان موته لأمن الموت إذا كان في غيره. والسر في إخفاء الكسب في غير الوقت الحاضر هو أن يكون المكلف ابدًا مشغول السر بالله معتمدًا عليه في اسباب الرزق وغيره. روي أن ملك الموت مر على سليمان عليه السلام فجعل ينظر إلى رجل من جلسائه. فقال الرجل: من هذا؟ قال: ملك الموت. فقال: كأنه يريدني. وسأل سليمان أن يحمله على الريح إلى بلاد الهند ففعل. ثم قال ملك الموت لسليمان: كان نظري إليه تعجبًا منه لأني أمرت أن اقبض روحه بالهند وهو عندك. قال جار الله: جعل العلم لله والدراية للعبد لما في الدراية من معنى الختل والحيلة كأنه قال: إنها لا تعرف وإن أعلمت حيلها وقرئ: {بآية أرض} والأفصح عدم تأنيثه. اهـ.