فصل: قال الشوكاني في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فإن قيل: ما الحكمة في قوله تعالى في العنكبوت: {فلما نجاهم إلى البرّ إذا هم يشركون}.
وقال هنا {فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد}؟
أجيب: بأنه لما ذكر هاهنا أمرًا عظيمًا وهو الموج الذي كالجبال بقي أثر ذلك في قلوبهم فخرج منهم مقتصد، وهناك لم يذكر مع ركوب البحر معاينة مثل ذلك الأمر، فذكر إشراكهم حيث لم يبق عندهم أثر وقوله تعالى: {وما يجحدنا بآياتنا إلا كل ختار} أي: غدّار فإنه نقض للعهد الفطري أي: لما كان في البحر والختر أشدّ الغدر {كفور} أي: للنعم في مقابله قوله تعالى: {إن في ذلك لآيات} أي: يعترف بها الصبار الشكور، ويجحدها الختار الكفور، فالصبار في موازنة الختار لفظًا ومعنى، والكفور في موازنة الشكور كذلك أما لفظا فيهما فظاهر، وأمّا كون الختار في موازنة الصبار معنى فلأن الختار هو الغدّار الكثير الغدر أو شديد الغدر مثال مبالغة من الختر وهو أشدّ الغدر، والغدر لا يكون إلا من قلة الصبر؛ لأنّ الصبور لا يعهده منه الإضرار فإنه يصبر ويفوّض الأمر إلى الله تعالى، وأما الغدّار ليعاهدك ولا يصبر على العهد فينقضه. وأما أن الكفور في مقابلة الشكور معنى فظاهر، ولما ذكر تعالى الدلائل من أول السورة إلى هنا وعظ بالتقوى بقوله تعالى: {يا أيها الناس} أي: عامّة. وقيل: أهل مكة {اتقوا ربكم} أي: الذي لا محسن إليكم غيره {واخشوا} أي: خافوا {يومًا} لا يشبه الأيام ولا يعدّ هول البحر ولا غيره عند أدنى هول من أهواله شيئًا بوجه {لا يجزي} أي: لا يقضي ولا يغني {والد عن ولده} والراجع إلى الموصوف محذوف أي: لا يجزي فيه. وفي التعبير بالمضارع إشارة إلى أنّ الوالد لا تزال تدعوه الوالدية إلى الشفقة على الولد ويتجدّد عنده العطف والرقة. والمفعول إما محذوف لأنه أشدّ في النفي وإما مدلول عليه بما في الشق الذي بعده. وقوله تعالى: {ولا مولود} عطف على والد أو مبتدأ وخبره {هو جاز عن والده} أي: فيه {شيئًا} من الجزاء وتغيير النظم للدلالة على أن المولود أولى بأن لا يجزي، وقطع طمع من توقع من المؤمنين أن ينفع أباه الكافر في الآخرة {إنّ وعد الله} أي: الذي له معاقد العز والجلال {حق} أي: أنّ هذا اليوم الذي هذا شأنه هو كائن؛ لأنّ الله تعالى وعد به ووعده حق، وقيل: إنّ وعد الله حق بأن لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئًا لأنه وعد بأن لا تزر وازرة وزر أخرى ووعد الله حق {فلا تغرّنكم الحياة الدنيا} بزخرفها ورونقها فإنها زائلة لوقوع اليوم المذكور بالوعد الحق {ولا يغرّنكم بالله} أي: الذي لا أعظم منه ولا مكافئ مع ولايته معكم {الغرور} أي: الكثير الغرور المبالغ فيه وهو الشيطان الذي لا أحقر منه لما جمع من البعد والطرد والاحتراق مع عداوته بما يزين لكم من أمرها ويلهيكم به من تعظيم قدرها وينسيكم كيدها وغدرها وتعبها وأذاها فيوجب ذلك لكم الإعراض عن ذلك اليوم فلا تعدّونه معادًا فلا تتخذون له زاد لما اقترن بغروره من حلم الله تعالى وإمهاله، قال سعيد بن جبير: الغرة بالله أن يعمل المعصية ويتمنى المغفرة، وروي أنّ الحارث بن عمرو أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال متى قيام الساعة وإني قد ألقيت حبًا في الأرض فمتى السماء تمطر، وحمل امرأتي أذكر أم أنثى وما أعمل غدًا وأين أموت؟ فنزل قوله تعالى: {إن الله} أي: بما له من العظمة وجميع أوصاف الكمال {عنده} أي: خاصة {علم الساعة} أي: وقت قيامها لا علم لغيره بذلك أصلًا {وينزل الغيث} أي: في أوانه المقدّر له والمحل المعين له في علمه، وقرأ نافع وابن عامر وعاصم بفتح النون وتشديد الزاي، والباقون بسكون النون وتخفيف الزاي {ويعلم ما في الأرحام} أي: من ذكر أو أنثى أحيّ أو ميت تامّ أو ناقص {وما تدري نفس} أي: من الأنفس البشرية وغيرها {ماذا تكسب غدًا} أي: من خير أو شرّ وربما تعزم على شيء وتفعل خلافه.
{وما تدري نفس بأي أرض تموت} أي: كما لا تدري في أي: وقت تموت ويعلمه الله تعالى، وروى ابن أبي حاتم عن مجاهد قال: جاء رجل من أهل البادية فقال: يا رسول الله إنّ امرأتي حبلى فأخبرني ما تلد، وبلادنا مجدبة فأخبرني متى ينزل الغيث، وقد علمت متى ولدت فأخبرني متى أموت، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وعن عكرمة أنّ رجلًا يقال له الوارث من بني حازن جاء إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد متى قيام الساعة وقد أجدبت بلادنا فمتى تخصب، وقد تركت امرأتي حبلى فمتى تلد، وقد علمت ما كسبت اليوم فماذا أكسب غدًا، وقد علمت بأيّ أرض ولدت فبأي أرض أموت؟ فنزلت هذه الآية، وعن قتادة قال: خمس من الغيب استأثر الله بهنّ فلم يطلع عليهنّ ملكًا مقرّبًا ولا نبيًا مرسلًا: إنّ الله عنده علم الساعة فلا يدري أحد من الناس متى تقوم الساعة في أي: سنة ولا في أي: شهر أليلًا أم نهارًا، وينزل الغيث فلا يعلم أحد متى ينزل أليلًا أم نهارًا، ويعلم ما في الأرحام فلا يعلم أحد ما في الأرحام أذكر أم أنثى أحمر أم أسود، ولا تدري نفس ماذا تكسب غدًا أخيرًا أم شرًا، وما تدري نفس بأي أرض تموت ليس أحد من الناس يدري أين مضجعه من الأرض أفي بحر أم في برّ أم سهل أم جبل.
وعن أحمد وابن أبي شيبة موقوفًا على شهر بن حوشب أنّ ملك الموت مرّ على سليمان فجعل ينظر إلى رجل من جلسائه يديم النظر إليه فقال الرجل: من هذا؟ فقال: ملك الموت، فقال: فكأنه يريدني فمر الريح أن تحملني وتلقيني بالهند، فأمر سليمان الريح فحلمته إلى بلاد الهند فوق سحابة فلما استقرّ فيها قبض روحه ملك الموت، عليه السلام ثم جاء إلى سليمان عليه السلام فسأله عن نظره إلى الرجل، فقال ملك الموت: كان دوام نظري إليه تعجبًا منه إذا أمرت أن أقبض روحه بالهند وهو عندك، وعن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مفاتيح الغيب خمس لا يعلمهنّ إلا الله لا يعلم ما في غد إلا الله، ولا متى تقوم الساعة إلا الله، ولا ما في الأرحام إلا الله، ولا متى ينزل الغيث إلا الله، وما تدري نفس بأي: أرض تموت إلا الله».
وعن أبي هريرة رضى الله تعالى عنه أنّ رجلًا قال: يا رسول الله متى الساعة؟ قال ما المسؤول عنها بأعلم من السائل، ولكن سأحدثكم بأشراطها: إذا ولدت الأمة ربتها فذاك من أشراطها، وإذا كانت الحفاة الرعاة رءوس الناس فذاك من أشراطها، وإذا تطاول رعاء الغنم في البنيان فذاك من أشراطها. وخمس من الغيب لا يعلمهنّ إلا الله، ثم تلا {إنّ الله عنده علم الساعة} إلى آخر الآية، وعن أبي أمامة أنّ إعرابيًا وقف على النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر على ناقة له عشراء فقال: يا محمد ما في بطن ناقتي هذه؟ فقال له رجل من الأنصار: دع عنك رسول الله صلى الله عليه وسلم وهلم إلي حتى أخبرك، وقعت أنت عليها وفي بطنها ولد منك، فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: «إنّ الله يحب كل حيي كريم ويبغض كل قاس لئيم متفحش ثم أقبل على الأعرابي فقال خمس لا يعلمهنّ إلا الله إنّ الله عنده علم الساعة الآية» وعن سلمة بن الأكوع قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في قبة حمراء إذ جاءه رجل على فرس فقال له من أنت: قال أنا رسول الله قال متى الساعة قال: «غيب وما يعلم الغيب إلا الله قال ما في بطن فرسي قال غيب وما يعلم الغيب إلا الله قال فمتى نمطر قال غيب وما يعلم الغيب إلا الله» وعن ابن عمر أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «أوتيت مفاتيح كل شيء إلا الخمس {إنّ الله عنده علم الساعة} الآية».
وعن ابن مسعود قال أوتي نبيكم صلى الله عليه وسلم مفاتيح كل شيء غير خمس: إنّ الله عنده علم الساعة الآية، وعن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه لم يعم على نبيكم إلا الخمس من سرائر الغيب هذه الآية في آخر لقمان: إنّ الله عنده علم الساعة إلى آخر السورة، وعن ربعي قال حدّثني رجل من بني عامر أنه قال: يا رسول الله هل بقي من العلم شيء لا تعلمه؟ فقال: «لقد علمني الله خيرًا وإن من العلم ما لا يعلمه إلا الله الخمس {إن الله عنده علم الساعة} الآية».
وعن بنت معوّذ قالت: دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم صبيحة عرسي وعندي جاريتان تغنيان وتقولان: وفينا نبيّ يعلم ما في غد فقال: «أما هذا فلا تقولاه ما يعلم ما في غد إلا الله» وعن ابن عزة الهذلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أراد الله قبض عبد بأرض جعل له إليها حاجة فلم ينته حتى يقدمها ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وما تدري نفس بأي: أرض تموت»، وعن أبي مالك أنّ النبي صلى الله عليه وسلم بينما هو جالس في مجلس فيه أصحابه جاءه جبريل في غير صورته يحسبه رجلًا من المسلمين فسلم فردّ، عليه السلام ثم وضع يده على ركبتي النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: يا رسول الله ما الإسلام؟ قال: «أن تسلم وجهك لله وتشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة، قال: فإذا فعلت ذلك فقد أسلمت قال نعم ثم قال ما الإيمان قال أن تؤمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين والموت والحياة بعد الموت والجنة والنار والحساب والميزان والقدر خيره وشرّه، قال فإذا فعلت ذلك فقد آمنت قال نعم ثم قال ما الإحسان قال: أن تعبد الله كأنك تراه فإن كنت لا تراه فإنه يراك قال فإذا فعلت ذلك فقد أحسنت قال نعم ثم قال فمتى الساعة يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم سبحان الله خمس من الغيب لا يعلمها إلا الله: إنّ الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدًا وما تدري نفس بأي أرض تموت».
{إن الله} أي: المختص بأوصاف الكمال {عليم} أي: شامل علمه للأمور كلها كلياتها وجزئياتها، فأثبت العلم المطلق لنفسه سبحانه بعد أن نفاه عن الغير في هذه الخمس {خبير} أي: يعلم خبايا الأمور وخفايا الصدور، كما يعلم ظواهرها وجلاياها كل عنده على حدّ سواء فهو الحكيم في ذاته وصفاته، ولذلك أخفى هذه المفاتيح عن عباده؛ لأنه لو أطلعهم عليها لفات كثير من الحكم باختلال هذا النظام على ما فيه من الأحكام فقد انطبق آخر السورة بإثبات العلم والخبر مع تقرير أمر الساعة التي هي مفتاح الدار الآخرة على أوّلها المخبر بحكمة صفته التي من علمها حق علمها وتخلق بما دعت إليه وحضت عليه، لاسيما الإيقان بالآخرة كان حيكمًا.
فسبحان من هذا كلامه وتعالى كبرياؤه وعز مرامه. وما رواه البيضاوي تبعًا للزمخشري من أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة لقمان كان له لقمان رفيقًا يوم القيامة، وأعطي من الحسنات عشرًا بعدد من عمل المعروف ونهى عن المنكر» حديث موضوع. اهـ.

.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولجُ اللَّيْلَ في النَّهَار وَيُولجُ النَّهَارَ في اللَّيْل}.
الخطاب بقوله: {أَلَمْ تَرَ} لكلّ أحد يصلح لذلك، أو للرسول صلى الله عليه وسلم {أَنَّ الله يُولجُ اليل في النهار وَيُولجُ النهار في الليل} أي يدخل كل واحد منهما في الآخر، وقد تقدّم تفسيره في سورة الحج والأنعام {وَسَخَّرَ الشمس والقمر} أي ذللهما وجعلهما منقادين بالطلوع والأفول تقديرًا للآجال، وتتميما للمنافع، والجملة معطوفة على ما قبلهما مع اختلافهما {كُلٌّ يَجْري إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى} اختلف في الأجل المسمى ماذا هو؟ فقيل: هو يوم القيامة.
وقيل: وقت الطلوع ووقت الأفول، والأوّل أولى، وجملة: {وَأَنَّ الله بمَا تَعْمَلُونَ خَبيرٌ} معطوفة على أن {الله يولج} أي خبير بما تعملونه من الأعمال؛ لا تخفى عليه منها خافية؛ لأن من قدر على مثل هذه الأمور العظيمة فقدرته على العلم بما تعملونه بالأولى.
قرأ الجمهور: {تعملون} بالفوقية، وقرأ السلمي ونصر بن عامر والدوري عن أبي عمرو بالتحتية على الخبر.
والإشارة بقوله: {ذلك} إلى ما تقدّم ذكره، والباء في {بأَنَّ الله} للسببية، أي ذلك بسبب أنه سبحانه: {هُوَ الحق} وغيره الباطل، أو متعلقة بمحذوف، أي فعل ذلك ليعلموا أنه الحق {وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ من دُونه الباطل} قال مجاهد: الذي يدعون من دونه هو الشيطان.
وقيل: ما أشركوا به من صنم، أو غيره، وهذا أولى {وَأَنَّ الله هُوَ العلي الكبير} معطوفة على جملة: {أن الله هو الحق} والمعنى: أن ذلك الصنع البديع الذي وصفه في الآيات المتقدّمة للاستدلال به على حقية الله، وبطلان ما سواه، وعلوّه وكبريائه {هو العليّ} في مكانته، ذو الكبرياء في ربوبيته وسلطانه.
ثم ذكر من عجيب صنعه وبديع قدرته نوعًا آخر فقال: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الفلك تَجْري في البحر بنعْمَت الله} أي بلطفه بكم ورحمته لكم، وذلك من أعظم نعمه عليكم: لأنها تخلصكم من الغرق عند أسفاركم في البحر لطلب الرزق، وقرأ ابن هرمز: {بنعمات الله} جمع نعمة {ليُريَكُمْ مّنْ ءاياته} من للتبعيض، أي ليريكم بعض آياته.
قال يحيى بن سلام: وهو جري السفن في البحر بالريح.
وقال ابن شجرة: المراد بقوله: {من آياته} ما يشاهدونه من قدرة الله.
وقال النقاش: ما يرزقهم الله في البحر {إنَّ في ذلك لآيات لّكُلّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} هذه الجملة تعليل لما قبلها، أي إن فيما ذكر لآيات عظيمة لكل من له صبر بليغ وشكر كثير، يصبر عن معاصي الله، ويشكر نعمه.
{وَإذَا غَشيَهُمْ مَّوْجٌ كالظلل} شبه الموج لكبره بما يظلّ الإنسان من جبل أو سحاب أو غيرهما، وإنما شبه الموج وهو واحد بالظلل وهي جمع، لأن الموت يأتي شيئًا بعد شيء، ويركب بعضه بعضًا.
وقيل: إن الموج في معنى الجمع لأنه مصدر، وأصل الموج: الحركة والازدحام، ومنه يقال: ماج البحر وماج الناس.
وقرأ محمد بن الحنفية: {موج كالظلال} جمع ظلّ: {دَعَوُا الله مُخْلصينَ لَهُ الدين} أي دعوا الله وحده لا يعوّلون على غيره في خلاصهم؛ لأنهم يعلمون أنه لا يضرّ ولا ينفع سواه، ولكنه تغلب على طبائعهم العادات وتقليد الأموات، فإذا وقعوا في مثل هذه الحالة اعترفوا بوحدانية الله، وأخلصوا دينهم له؛ طلبًا للخلاص والسلامة مما وقعوا فيه {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إلَى البر} صاروا على قسمين: فقسم {مُّقْتَصدٌ} أي موف بما عاهد عليه الله في البحر من إخلاص الدين له، باق على ذلك بعد أن نجاه الله من هول البحر، وأخرجه إلى البرّ سالمًا.
قال الحسن: معنى {مقتصد} مؤمن متمسك بالتوحيد والطاعة.
وقال مجاهد: مقتصد في القول مضمر للكفر، والأولى ما ذكرناه، ويكون في الكلام حذف، والتقدير فمنهم مقتصد ومنهم كافر، ويدلّ على هذا المحذوف قوله: {وَمَا يَجْحَدُ بئاياتنا إلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ} الختر: أسوأ الغدر، وأقبحه، ومنه قول الأعشى:
بالأبلق الفرد من تيماء منزله ** حصن حصين وجار غير ختار

قال الجوهري: الختر: الغدر، يقال: ختره فهو ختار.
قال الماوردي: وهذا قول الجمهور.
قال ابن عطية: إنه الجاحد، وجحد الآيات: إنكارها، والكفور: عظيم الكفر بنعم الله سبحانه.
{يا أيها الناس اتقوا رَبَّكُمْ واخشوا يَوْمًا لاَّ يَجْزي وَالدٌ عَن وَلَده} أي: لا يغني الوالد عن ولده شيئًا، ولا ينفعه بوجه من وجوه النفع لاشتغاله بنفسه.
وقد تقدّم بيان معناه في البقرة {وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالده شَيْئًا} ذكر سبحانه فردين من القرابات وهو الوالد والولد، وهما الغاية في الحنوّ والشفقة على بعضهم البعض، فما عداهما من القرابات لا يجزي بالأولى، فكيف بالأجانب؟ اللهمّ اجعلنا ممن لا يرجو سواك ولا يعوّل على غيرك {إنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ} لا يتخلف فما وعد به من الخير وأوعد به من الشرّ فهو كائن لا محالة {فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الحياة الدنيا} وزخارفها فإنها زائلة ذاهبة {وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بالله الغرور} قرأ الجمهور: {الغرور} بفتح الغين المعجمة.
والغرور هو: الشيطان؛ لأن من شأنه أن يغرّ الخلق ويمنيهم بالأماني الباطلة، ويلهيهم عن الآخرة، ويصدّهم عن طريق الحق.
وقرأ سماك بن حرب وأبو حيوة وابن السميفع بضم الغين مصدر غرّ يغرّ غرورًا، ويجوز أن يكون مصدرًا واقعًا وصفًا للشيطان على المبالغة.