فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

سورة السجدة:
أشهر أسماء هذه السورة هوسورة السجدة، وهو أخصر أسمائها، وهو المكتوب في السطر المجعول لاسم السورة من المصاحف المتداولة.
وبهذا الاسم ترجم لها الترمذي في جامعه وذلك بإضافة كلمة سورة إلى كلمة السجدة.
ولابد من تقدير كلمة {ألم} محذوفة للاختصار إذ لا يكفي مجرد إضافة سورة إلى السجدة في تعريف هذه السورة، فإنه لا تكون سجدة من سجود القرآن إلا في سورة من السور.
وتسمى أيضا {الم تنزيل}؛ روى الترمذي عن جابر بن عبد الله: إن النبيء صلى الله عليه وسلم كان لا ينام حتى يقرأ: {الم تنزيل} [السجدة: 1، 2] و{تَبَارَكَ الَّذي بيَده الْمُلْكُ} [الملك: 1].
وتسمى الم تنزيل السجدة.
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة: كان النبيء صلى الله عليه وسلم يقرأ يوم الجمعة في صلاة الفجر الم تنزيل السجدة و{هَلْ أَتَى عَلَى الْأنْسَان} [الانسان: 1].
قال شارحو صحيح البخاري ضبط اللام من كلمة {تَنْزيلُ} بضمة على الحكاية، وأما لفظ السجدة في هذا الحديث فقال ابن حجر: هو بالنصب.
وقال العيني والقسطلاني بالنصب على أنه عطف بيان- يعني أنه بيان للفظ {الم تنزيل}، وهذا بعيد لأن لفظ السجدة ليس اسما لهذه السورة إلا بإضافة سورة إلى السجدة، فالوجه أن يكون لفظ السجدة في كلام أبي هريرة مجرورا بإضافة مجموع {الم تنزيل} إلى لفظ السجدة، وسأبين كيفية هذه الإضافة.
وعنونها البخاري في صحيحه: سورة تنزيل السجدة.
ويجب أن يكون {تَنْزيلُ} مضمونا على حكاية لفظ القرآن، فتميزت هذه السورة بوقوع سجدة تلاوة فيها من بين السور المفتتحة ب {ألم}، فلذلك فمن سماها سورة السجدة عنى تقدير مضاف أي سورة الم السجدة.
ومن سماها تنزيل السجدة فهو على تقدير الم تنزيل السجدة بجعل.
{الم تنزيل} اسما مركبا ثم أضافته إلى السجدة، أي ذات السجدة، لزيادة التمييز والإيضاح، وإلا فإن ذكر كلمة {تَنْزيلُ} كاف في تمييزها عما عداها من ذوات {ألم} ثم اختصر بحذف {ألم} وإبقاء {تَنْزيلُ}، واضيف {تَنْزيلُ} إلى السجدة على ما سيأتي في توجيه تسميتها الم تنزيل السجدة.
ومن سماها الم السجدة فهو على إضافة الم إلى السجدة إضافة على معنى اللام وجعل الم اسما للسورة.
ومن سموها الم تنزيل السجدة لم يتعرضوا لضبطها في شروح صحيح البخاري ولا في النسخ الصحيحة من الجامع الصحيح، ويتعين أن يكون {ألم} مضافا إلى {تَنْزيلُ} على أن مجموع المضاف والمضاف إليه اسم لهذه السورة محكي لفظه؛ فتكون كلمة {تَنْزيلُ} مضمونه على حكاية لفظها القرآني، وأن يعتبر هذا المركب الإضافي اعتبار العلم مثل: عبد الله، ويعتبر مجموع ذلك المركب الإضافي مضافا إلى السجدة إضافة المفردات، وهو استعمال موجود، ومنه قول تأبط شرا:
إني لمهد من ثنائي فقاصد ** به لبن عم الصدق شمس بن مالك

إذ أضاف مجموع ابن عم إلى الصدق، ولم يرد إضافة عم إلى الصدق.
وكذلك قول أحد الطائيين في ديوان الحماسة:
داو ابن السوء بالنأي والغنى ** كفى بالغنى والنأي عنه مداويا

فإنه ما أراد وصف عمه بالسوء ولكنه أراد وصف ابن عمه بالسوء.
فأضاف مجموع ابن عم إلى السوء، ومثله قول رجل من كلب في ديوان الحماسة:
هنيئا لابن عم السوء أني ** مجاوره بني ثعل لبوني

وقال عيينة بن مرداس في الحماسة:
فلما عرفت اليأس منه وقد بدت ** أيادي سبا الحاجات للمتذكر

فأضاف مجموع أيادي سبا وهو كالمفرد لأنه جرى مجرى المثل إلى الحاجات.
وقال بعض رجازهم:
أنا ابن عم الليل وابن خاله ** إذا دجى دخلت في سرباله

فأضاف ابن عم إلى لفظ الليل، وأضاف ابن خال إلى ضمير الليل على معنى أنا مخالط الليل، ولا يريد إضافة عم ولا خال إلى الليل.
ومن هذا اسم عبد الله بن قيس الرقيات، فالمضاف إلى الرقيات هو مجموع المركب إما عبد الله، أو ابن قيس.
لا أحد مفرداته.
وهذه الإضافة قريبة من إضافة العدد المركب إلى من يضاف إليه مع بقاء اسم العدد على بنائه كما تقول: أعطه خمسة عشره.
وتسمى هذه السورة أيضا سورة المضاجع لوقوع لفظ {المضاجع} في قوله تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَن الْمَضَاجع} [السجدة: 16].
وفي تفسير القرطبي عن مسند الدرامي أن خالد بن معدان سماها: المنجية.
قال: بلغني أن رجلا يقرؤها ما يقرأ شيئا غيرها، وكان كثير الخطايا فنشرت جناحها وقالت: رب اغفر له فإنه كان يكثر من قراءتي فشفعها الرب فيه وقال: اكتبوا له بكل خطيئة حسنة وارفعوا له درجة. اهـ.
وقال الطبرسي: تسمى سورة سجدة لقمان لوقوعها بعد سورة لقمان لئلا تلتبس بسورة حم السجدة، أي كما سموا سورة حم السجدة وهي سورة فصلت سورة سجدة المؤمن لوقوعها بعد سورة المؤمنين.
وهي مكية في إطلاق أكثر المفسرين وإحدى روايتين عن ابن عباس، وفي رواية أخرى عنه استثناء ثلاث آيات مدنية وهي: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمنًا كَمَنْ كَانَ فَاسقًا} إلى {لَعَلَّهُمْ يَرْجعُونَ} [السجدة: 18- 21].
قيل نزلت يوم بدر في علي بن أبي طالب والوليد ابن عقبة وسيأتي إبطاله.
وزاد بعضهم آيتين {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَن الْمَضَاجع} إلى {بمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 16، 17] لما روي في سبب نزولها وهو ضعيف.
والذي نعول عليه أن السورة كلها مكية وأن ما خالف ذلك إن هو إلا تأويل أو إلحاق خاص بعام كما أصلنا في المقدمة الخامسة.
نزلت بعد سورة النحل وقبل سورة نوح، وقد عدت الثالثة والسبعين في النزول.
وعدت آياتها عند جمهور العادين ثلاثين، وعدها البصريون سبعا وعشرين.
من أغراض هذه السورة:
أولها التنويه بالقرآن أنه منزل من عند الله، وتوبيخ المشركين على ادعائهم أنه مفترى بأنهم لم يسبق لهم التشرف بنزول كتاب.
والاستدلال على إبطال إلهية أصنامهم بإثبات انفراد الله بأنه خالق السماوات والأرض ومدبر أمورهما.
وذكر البعث والاستدلال على كيفية بدء خلق الإنسان ونسله، وتنظيره بإحياء الأرض، وأدمج في ذلك أن إحياء الأرض نعمة عليهم كفروا بمسديها والإنحاء على الذين أنكروه ووعيدهم والثناء على المصدقين بآيات الله ووعدهم، ومقابلة إيمانهم بكفر المشركين، ثم إثبات رسالة رسول عظيم قبل محمد صلى الله عليه وسلم هدى به أمة عظيمة والتذمير بما حل بالمكذبين السابقين ليكون ذلك عظة للحاضرين، وتهديدهم بالنصر الحاصل للمؤمنين وختم ذلك بانتظار النصر وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالإعراض عنه تحقيرا لهم، ووعده بانتظار نصره عليهم.
ومن مزايا هذه السورة وفضائلها ما رواه الترمذي والنسائي وأحمد والدرامي عن جابر بن عبد الله قال: كان النبيء صلى الله عليه وسلم لا ينام حتى يقرأ: {الم تَنْزيلُ} [السجدة: 1، 2] و{تَبَارَكَ الَّذي بيَده الْمُلْكُ} [الملك: 1]. اهـ.

.قال سيد قطب:

مقدمة سورة السجدة:
هذه السورة المكية نموذج آخر من نماذج الخطاب القرآني للقلب البشري بالعقيدة الضخمة التي جاء القرآن ليوقظها في الفطر، ويركزها في القلوب: عقيدة الدينونة لله الأحد الفرد الصمد، خالق الكون والناس، ومدبر السماوات والأرض وما بينهما وما فيهما من خلائق لا يعلمها إلا الله. والتصديق برسالة محمد صلى الله عليه وسلم الموحى إليه بهذا القرآن لهداية البشر إلى الله. والاعتقاد بالبعث والقيامة والحساب والجزاء.
هذه هي القضية التي تعالجها السورة؛ وهي القضية التي تعالجها سائر السور المكية. كل منها تعالجها بأسلوب خاص، ومؤثرات خاصة؛ تلتقي كلها في أنها تخاطب القلب البشري خطاب العليم الخبير، المطلع على أسرار هذه القلوب وخفاياها، ومنحنياتها ودروبها، العارف بطبيعتها وتكوينها، وما يستكن فيها من مشاعر وما يعتريها من تأثرات واستجابات في جميع الأحوال والظروف.
وسورة السجدة تعالج تلك القضية بأسلوب وبطريقة غير أسلوب وطريقة سورة لقمان السابقة. فهي تعرضها في آياتها الأولى؛ ثم تمضي بقيتها تقدم مؤثرات موقظة للقلب، منيرة للروح، مثيرة للتأمل والتدبر؛ كما تقدم أدلة وبراهين على تلك القضية معروضة في صفحة الكون ومشاهده؛ وفي نشأة الإنسان وأطواره؛ وفي مشاهد من اليوم الآخر حافلة بالحياة والحركة؛ وفي مصارع الغابرين وآثارهم الناطقة بالعبرة لمن يسمع لها ويتدبر منطقها!.
كذلك ترسم السورة صورا للنفوس المؤمنة في خشوعها وتطلعها إلى ربها. وللنفوس الجاحدة في عنادها ولجاجها؛ وتعرض صورا للجزاء الذي يتلقاه هؤلاء وهؤلاء، وكأنها واقع مشهود حاضر للعيان، يشهده كل قارئ لهذا القرآن.
وفي كل هذه المعارض والمشاهد تواجه القلب البشري بما يوقظه ويحركه ويقوده إلى التأمل والتدبر مرة، وإلى الخوف والخشية مرة، وإلى التطلع والرجاء مرة. وتطالعه تارة بالتحذير والتهديد، وتارة بالإطماع، وتارة بالإقناع. ثم تدعه في النهاية تحت هذه المؤثرات وأمام تلك البراهين. تدعه لنفسه يختار طريقه، وينتظر مصيره على علم وعلى هدى وعلى نور.
ويمضي سياق السورة في عرض تلك القضية في أربعة مقاطع أو خمسة متلاحقة متصلة: يبدأ بالأحرف المقطعة ألف. لام. ميم منبها بها إلى تنزيل الكتاب من جنس هذه الأحرف. ونفي الريب عن تنزيله والوحي به: {من رب العالمين}. ويسأل سؤال استنكار عما إذا كانوا يقولون: افتراه ويؤكد أنه الحق من ربه لينذر قومه {لعلهم يهتدون}.
وهذه هي القضية الأولى من قضايا العقيدة: قضية الوحي وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم في التبليغ عن رب العالمين.
ثم يعرض قضية الألوهية وصفتها في صفحة الوجود: في خلق السماوات والأرض وما بينهما، وفي الهيمنة على الكون وتدبير الأمر في السماوات والأرض، ورفع الأمر إليه في اليوم الآخر. ثم في نشأة الإنسان وأطواره وما وهبه الله من السمع والبصر والإدراك. والناس بعد ذلك قليلا ما يشكرون.
وهذه هي القضية الثانية: قضية الألوهية وصفتها: صفة الخلق، وصفة التدبير، وصفة الإحسان، وصفة الإنعام، وصفة العلم. وصفة الرحمة. وكلها مذكورة في سياق آيات الخلق والتكوين.
ثم يعرض قضية البعث، وشكهم فيه بعد تفرق ذراتهم في التراب: وقالوا: أئذا ضللنا في الأرض أئنا لفي خلق جديد؟ ويرد على هذا الشك بصيغة الجزم واليقين.
وهذه هي القضية الثالثة: قضية البعث والمصير.
ومن ثم يعرض مشهدا من مشاهد القيامة: إذ المجرمون ناكسوا رءوسهم عند ربهم يعلنون يقينهم بالآخرة ويقينهم بالحق الذي جاءتهم به الدعوة. ويقولون الكلمة التي لو قالوها في الدنيا لفتحت لهم أبواب الجنة؛ ولكنها في موقفهم ذاك لا تجدي شيئا ولا تفيد. لعل هذا المشهد أن يوقظهم- قبل فوات الأوان- لقول الكلمة التي سيقولونها في الموقف العصيب. فيقولوها الآن في وقتها المطلوب.
وإلى جوار هذا المشهد البائس المكروب يعرض مشهد المؤمنين في هذه الأرض: إذا ذكروا بآيات ربهم.
{خروا سجدا وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون}. وهي صورة موحية شفيفة ترف حولها القلوب. يعرض إلى جوارها ما أعده الله لهذه النفوس الخاشعة الخائفة الطامعة من نعيم يعلو على تصور البشر الفانين: {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون}. ويعقب عليه بمشهد سريع لمصائر المؤمنين والفاسقين في جنة المأوى وفي نار الجحيم وبتهديد المجرمين بالانتقام منهم في الأرض أيضا قبل أن يلاقوا مصيرهم الأليم.
ثم ترد إشارة إلى موسى- عليه السلام- ووحدة رسالته ورسالة محمد صلى الله عليه وسلم والمهتدين من قومه، وصبرهم على الدعوة، وجزائهم على هذا الصبر بأن جعلهم الله أئمة. وفي هذه الإشارة إيحاء بالصبر على ما يلقاه الدعاة إلى الإسلام من كيد ومن تكذيب.
وتعقب هذه الإشارة جولة في مصارع الغابرين من القرون، وهم يمشون في مساكنهم غافلين. ثم جولة في الأرض الميتة ينزل عليها الماء بالحياة والنماء؛ فيتقابل مشهد البلى ومشهد الحياة في سطور.
وتختم السورة بحكاية قولهم: {متى هذا الفتح}؟ وهم يتساءلون في شك عن يوم الفتح الذي يتحقق فيه الوعيد. والجواب بالتخويف من هذا اليوم والتهديد. وتوجيه الرسول صلى الله عليه وسلم ليعرض عنهم ويدعهم لمصيرهم المحتوم.
والآن نأخذ في عرض السورة بالتفصيل:
الدرس الأول:
1- 3 إثبات النبوة والوحي:
{الم تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين أم يقولون افتراه بل هو الحق من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يهتدون}.
ألف لام ميم هذه الأحرف التي يعرفها العرب المخاطبون بهذا الكتاب؛ ويعرفون ما يملكون أن يصوغوا منها ومن نظائرها من كلام، ويدركون الفارق الهائل بين ما يملكون أن يصوغوه منها وبين هذا القرآن؛ وهو فارق يدركه كل خبير بالقول، وكل من يمارس التعبير باللفظ عن المعاني والأفكار. كما يدرك أن في النصوص القرآنية قوة خفية، وعنصرا مستكنا، يجعل لها سلطانا وإيقاعا في القلب والحس ليسا لسائر القول المؤلف من أحرف اللغة، مما يقوله البشر في جميع الأعصار. وهي ظاهرة ملحوظة لا سبيل إلى الجدال فيها، لأن السامع يدركها، ويميزها، ويهتز لها، من بين سائر القول، ولو لم يعلم سلفا أن هذا قرآن! والتجارب الكثيرة تؤكد هذه الظاهرة في شتى أوساط الناس.
والفارق بين القرآن وما يصوغه البشر من هذه الحروف من كلام، هو كالفارق بين صنعة الله وصنعة البشر في سائر الأشياء. صنعة الله واضحة مميزة، لا تبلغ إليها صنعة البشر في أصغر الأشياء. وإن توزيع الألوان في زهرة واحدة ليبدو معجزة لأمهر الرسامين في جميع العصور. وكذلك صنع الله في القرآن وصنع البشر فيما يصوغون من هذه الحروف من كلام!. اهـ.