فصل: قال نظام الدين النيسابوري في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال نظام الدين النيسابوري في الآيات السابقة:

{يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215) كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216) يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217) إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218)}.
التفسير: إنه سبحانه لما بالغ في وجوب الإعراض عن العاجل والإقبال على الآجل بكل ما يمكن من الدخول في السلم وبذل المهج والأموال والصبر على مواجب التكاليف والدعاء إلى الدين القويم انتظارًا لنصرة الله، شرع بعد ذلك في بيان الأحكام وهو من هذه الآية إلى قوله: {ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم} [البقرة: 243] جريًا على سننه المرضى من خلط بيان التوحيد وذكر النصيحة والوعظ ببيان الأحكام، ليكون كل منهما مؤكدًا للآخر. الحكم الأول: بيان مصرف الإنفاق {يسئلونك ماذا ينفقون} عن ابن عباس: نزلت الآية «في رجل أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن لي دينارًا فقال: أنفقه على نفسك. فقال: إن لي دينارين. فقال: أنفقهما على أهلك. فقال: إن لي ثلاثة فقال: أنفقها على خادمك. فقال: إن لي أربعة قال: أنفقها على والديك. قال: إن لي خمسة قال: أنفقها على قرابتك. قال: إن لي ستة. قال: أنفقها في سبيل الله وهو أخسها أي أقلها ثوابًا». وعنه في رواية أبي صالح أنها نزلت في عمرو بن الجموح وهو الذي قتل يوم أحد وكان شيخًا كبيرًا هرمًا وعنده ملك عظيم فقال: ماذا ننفق من أموالنا وأين نضعها؟ أما بحث {ماذا} فقد تقدم في قوله: {ماذا أراد الله بهذا مثلًا} [المدثر: 31] وأما أن القوم سألوا عما ينفقون لا عمن تصرف النفقة إليهم فكيف طابق قوله في الجواب {قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين} الآية.
فالوجه فيه أنه حصل في الآية ما يكون جوابًا عن السؤال، وضم إليه زيادة بها يكمل المقصود. وذلك أن قوله: {ما أنفقتم من خير} تضمن بيان ما ينفقونه وهو كل خير، وبنى الكلام على ما هو أهم وهو بيان المصرف لأن النفقة لا يعتد بها إلا إذا صرفت إلى جهة الاستحقاق. وقال القفال: السؤال وإن كان واردًا بلفظ ما إلا أن المقصود هو الكيفية. فمن المعلوم لهم أن الذي أمروا بإنفاقه مال يخرج قربة إلى الله تعالى، وحينئذ يكون الجواب مطابقًا للسؤال كما طابق قوله: {إنها بقرة لا ذلول} [البقرة: 71] سؤالهم عن البقرة ما هي، حيث كان من المعلوم أن البقرة بهيمة شأنها كذا وكذا، فتوجه الطلب إلى تعيين الصفة لا الماهية. وقيل: إنهم لما سألوا هذا السؤال أجيبوا بأن السؤال فاسد، أنفق أي شيء كان ولكن بشرط كونه مالًا حلالًا ومصروفًا إلى مصبه، كما لو سأل شخص صحيح المزاج طبيبًا حاذقًا أي طعام آكل؟ والطبيب يعلم أنه لا يضره أكل الطعام أي طعام كان، فيقول له: كل في اليوم مرتين أي كل ما شئت. لكن بهذا الشرط، فكذا هاهنا المعنى لينفق أي شيء أراد، لكن بشرط وهو أن يراعي الترتيب في الإنفاق فيقدم الوالدين لأنهما كالسبب لوجوده وقد ربياه صغيرًا، ثم الأقربين لأن الإنسان لا يمكنه أن يقوم بمصالح جميع الفقراء، الترجيح لابد له من مرحج والقرابة تصلح للترجيح لأنه أعرف بحاله. والإطلاع على غنى الغني مما يحمل المرء على الإنفاق. وأيضًا لو لم يعطه قريبه احتاج إلى الرجوع إلى غيره وذلك عار وشنار. وأيضًا قريب المرء كجزء منه والإنفاق على النفس أولى من الإنفاق على الغير، ثم اليتامى لعدم قدرتهم على الاكتساب لصغرهم، ثم المساكين الذين هم غير اليتامى، وأبناء السبيل لأنهم بسبب الاشتراك في دار الإقامة من أنفسهم، ثم أبناء السبيل المنقطعون عن بلدهم ومالهم ما يتبلغون به إلى أوطانهم، {وما تفعلوا من خير} من إنفاق شيء من مال بناء على أن الخير هو المال أو من كل ما يتعلق بالبر والطاعة طلبًا لجزيل الثواب وهربًا من أليم العقاب. {فإن الله به عليم} فيجازيكم أحسن الجزاء. عن السدي: أن الآية منسوخة بفرض الزكاة. وقال المحققون: ويروى عن الحسن أنها ثابتة، فقد يكون الإنفاق على الفروع والأصول واجبًا، ويحتمل أن يكون المراد: من أحب التقرب إلى الله تعالى في باب النفقة تطوعًا فليراع هذا الترتيب.
قوله تعالى: {كتب عليكم القتال} كان النبي صلى الله عليه وسلم غير مأذون له في القتال مدة إقامته بمكة، فلما هاجر أذن في قتال من يقاتله من المشركين، ثم أذن في قتال المشركين عامة، ثم فرض الله تعالى الجهاد.
قال بعض العلماء: إن هذه الآية تقتضي وجوب القتال على الكل فرض عين لا كفاية. أما الوجوب فمستفاد من لفظ الإيجاب ويكفي العمل به مرة واحدة، وقوله: {كتب} وأما العموم فلأن قوله: {عليكم} لا يمنع من الوجوب على الموجودين وعلى من سيوجد كما في قوله: {كتب عليكم القصاص} [البقرة: 178] و{كتب عليكم الصيام} [البقرة: 183] وعن مكحول أنه كان يحلف عند البيت بالله أن الغزو واجب. وعن ابن عمر وعطاء أن قوله: {كتب} يقتضي الإيجاب ويكفي العمل به مرة واحدة، وقوله: {عليكم} يقتضي تخصيص هذا الكتاب بالموجودين في ذلك الوقت. والعموم في {عليكم الصيام} مستفاد من دليل منفصل هو الإجماع. وذلك الدليل معقود هاهنا بل الإجماع منعقد على أنه من فروض الكفاية إلا أن يدخل المشركون ديار المسلمين فإنه يتعين الجهاد حينئذ على الكل. {وهو كره لكم} ليس المراد أن المؤمنين ساخطون لأوامر الله تعالى فإن ذلك ينافي الإسلام، وإنما المراد كون القتال شاقًا على النفس وهكذا شأن سائر التكاليف، وكيف لا والتكليف إلزام ما فيه كلفة ومشقة وأنها في القتال أكثر لأن الحياة أعظم ما يميل إليه الطباع فبذلها ليس بهين؟
والجود بالنفس أقصى غاية الجود

وأيضًا كراهتهم للقتال قبل أن فرض لما فيه من الخوف من كثرة الأعداء وإنارة نوائر الفتن، فبيّن تعالى أن الذي تكرهونه من القتال خير لكم من تركه للمصالح التي نذكرها. والكره الكراهة وضع المصدر موضع الوصف مبالغة، ويجوز أن يكون بمعنى مفعول كالخبز بمعنى المخبوز أي هو مكروه لكم. وقرئ بالفتح بمعنى المضموم كالضعف والضعف، ويجوز أن يكون بمعنى الإكراه على سبيل المجاز كأنهم أكرهوا عليه لشدة كراهتهم له أو مشقته عليهم كقوله تعالى: {حملته أمه كرهًا ووضعته كرهًا} وقال بعضهم: الكره بالضم ما كرهته مما لم تكره عليه، وإذا كان بالإكراه فبالفتح. {وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خير لكم} فربما كان الشيء شاقًا عليكم في الحال وهو سبب للمنافع الجليلة في الاستقبال وبالضد، ولهذا حسن شرب الدواء المر في الحال لتوقع حصول الصحة في الاستقبال، وحسن تحمل الأخطار في الأسفار لتحصيل الربح في المال، وكذا تحمل المتاعب في طلب العلم للفوز بالسعادة العظمى في الدنيا والعقبى.
العلم أوله مر مذاقته ** لكنّ آخره أحلى من العسل

وههنا كذلك لأن ترك الجهاد وإن كان يفيد في الحال صون النفس عن خطر القتل وصون المال عن الإنفاق، ولكن فيه أنواع من المفاسد والمضار أدناها تسلط الكفار واستيلاؤهم على ديار المسلمين، وربما يؤدي إلى أن استباحوا بيضة الإسلام واستناخوا بحريمهم واستأصلوهم عن آخرهم. وأما منافع الجهاد فمنها الظفر بالغنائم، ومنها الفرح العظيم بالاستيلاء على العدو. وأما ما يتعلق بالدين فالثبات عليه والثواب في الآخرة. وترغيب الناس في الإسلام وإعلاء كلمة الله، وتوطين النفس للفراق عن دار البلاء والانقطاع عن عالم الحس قال الخليل: عسى من الله واجب في القرآن.
قال: {فعسى الله أن يأتي بالفتح} [المائدة: 52] وقد وجد {عسى الله أن يأتيني بهم جميعًا} [يوسف: 83] وقد حصل. والتحقيق أن معنى الرجاء فيه يعود إلى المكلف وإن كان المرجو حاله معلومًا لله تعالى كما بينا في لعل {والله يعلم وأنتم لا تعلمون} وذلك أن علمه تعالى فعلي يعلم الأسباب وما يترتب عليها، والحوادث وما نشأت هي منها، يحيط علمه بالمبادئ والغايات {لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السموات} [سبأ: 3] وعلمكم انفعالي فلعلكم تعكسون التصورات فتظنون المبادئ غايات وبالعكس، والمصالح مفاسد وبالضد. وفيه ترغيب عظيم في أداء وظائف التكاليف. وتخويف شديد عن تبعة العصيان والمرود، فإن الإنسان إذا تصور قصور نفسه وكمال علم الله تعالى علم أنه لا يأمر العبد إلا بما فيه خيره وصلاحه، فيلزم نفسه امتثاله وإن كرهه طبعه فكأنه تعالى يقول: يا أيها العبد، علمي أكمل من علمك فكن مشتغلًا بطاعتي ولا تلتفت إلى مقتضى طبعك وهواك. فهذه الآية في هذا المقام تجري مجرى قوله تعالى في جواب الملائكة {إني أعلم ما لا تعلمون} [البقرة: 30].
الحكم الثاني في قوله سبحانه: {يسئلونك عن الشهر الحرام} أكثر المفسرين على أن هؤلاء السائلين هم المسلمون حيث اختلج في صدورهم أن يكون الأمر بالقتال مقيدًا بغير الشهر الحرام والمسجد الحرام، فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم هل يحل لهم القتال في هذا الزمان وهذا المكان أم لا؟ ويؤيده ما روي عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عبد الله بن جحش- وهو ابن عمة النبي صلى الله عليه وسلم- في جمادى الآخرة قبل قتال بدر بشهرين، على رأس سبعة عشر شهرًا من مقدمة المدينة، وبعث معه ثمانية رهط من المهاجرين: سعد بن أبي وقاص الزهري، وعكاشة بن محصن الأسدي، وعتبة بن غزوان السلمي، وأبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وسهيل بن بيضاء، وعامر بن ربيعة، وواقد بن عبد الله، وخالد بن بكير. وكتب لأميرهم عبد الله بن جحش كتابًا وقال: سر على اسم الله ولا تنظر في الكتاب حتى تسير يومين. فإذا نزلت منزلتين فافتح الكتاب واقرأه على أصحابك ثم امض لما أمرتك، ولا تستكرهن أحدًا من أصحابك على السير معك. فسار عبد الله يومين ثم نزل وفتح الكتاب فإذا فيه بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد، فسر على بركة الله بمن تبعك من أصحابك حتى تنزل على بطن نخلة فترصد بها عير قريش لعلك أن تأتينا منه بخبر فلما نظر عبد الله في الكتاب قال: سمع وطاعة. ثم قال لأصحابه ذلك وقال: إنه قد نهاني أن أستكره أحدًا منكم.
حتى إذا كان بمعدن فوق الفرع قد أضل سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان بعيرًا لهما كانا يعتقبانه فاستأذنا أن يتخلفا في طلب بعيرهما فأذن لهما فتخلفا في طلبه. ومضى عبد الله ببقية أصحابه حتى نزلوا بطن نخلة- بين مكة والطائف- فبينما هم كذلك مرت بهم عيرٍ لقريش تحمل زبيبًا وأدمًا وتجارة من تجارة الطائف، فيهم عمرو بن الحضرمي والحكم بن كيسان وعثمان بن عبد الله بن المغيرة ونوفل بن عبد الله المخزوميان. فلما رأوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هابوهم فقال عبد الله بن جحش: إن القوم قد ذعروا منكم فاحلقوا رأس رجل منك فليتعرض لهم، فإذا رأوه محلوقًا أمنوا وقالوا: قوم عمار. فحلقوا رأس عكاشة ثم أشرف عليهم فقالوا: قوم عمار لا بأس عليكم فأمنوهم. وكان ذلك في آخر يوم من جمادى الآخرة، وكانوا يرون أنه من جمادى وهي رجب. فتشاور القوم فيهم وقالوا: لئن تركتموهم هذه الليلة ليدخلن الحرم فليمتنعن منكم. فأجمعوا أمرهم في مواقعة القوم، فرمى واقد بن عبد الله السهمي عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله فكان أول قتيل من المشركين. واستأسر الحكم وعثمان فكان أول أسيرين في الإسلام، وأفلت نوفل فأعجزهم. واستاق المؤمنون العير والأسيرين حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، فقالت قريش: قد استحل محمد الشهر الحرام شهرًا يأمن فيه الخائف ويذعر فيه الناس لمعايشهم. سفك فيه الدماء وأخذ فيه الحرائب وعيّر بذلك أهل مكة من كان فيها من المسلمين. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن جحش وأصحابه: «ما أمرتكم بالقتال في الشهر الحرام» ووقف العير والأسيرين وأبى أن يأخذ من ذلك شيئًا. فعظم ذلك على أصحاب السرية وظنوا أن قد هلكوا وسقطوا في أيديهم وقالوا: يا رسول الله إنا قتلنا ابن الحضرمي ثم أمسينا فنظرنا إلى هلال رجب فلا ندري أفي رجب أصبناه أم في جمادى وأكثر الناس في ذلك فنزلت {يسئلونك عن الشهر الحرام}.
فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم العير فعزل منها الخمس فكان أول خمس، وقسم الباقي بين أصحاب السرية فكان أول غنيمة في الإسلام. وبعث أهل مكة في فداء أسيريهم فقال: بل نقفهما حتى يقدم سعد وعتبة، وإن لم يقدما فتلناهما بهما. فلما قدما فأداهما. فأما الحكم بن كيسان فأسلم وأقام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة فقتل يوم بئر معونة شهيدًا، وأما عثمان بن عبد الله فرجع إلى مكة فمات بها كافرًا، وأما نوفل فضرب بطن فرسه يوم الأحزاب ليدخل الخندق على المسلمين فوقع في الخندق مع فرسه فتحطما جميعًا وقتله الله، وطلب المشركون جيفته بالثمن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خذوه فإنه خبيث الجيفة خبيث الدية». وقيل: إن هذا السؤال كان من الكفار، سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القتال في الشهر الحرام حتى لو أخبرهم بأنه حرام استحلوا قتاله فيه فنزلت {يسئلونك عن الشهر الحرام قتال فيه} خفض على أنه بدل الاشتمال من الشهر. وفي قراءة ابن مسعود {عن قتال فيه} بتكرير العامل. وقرأ عكرمة {قتل فيه قل قتال فيه كبير} أي عظيم مستنكر كما يسمى الذنب العظيم كبيرة. وإنما جاز وقوع قتال مبتدأ لكونه موصوفًا بالظرف. فإن قيل: كيف نكّر القتال في قوله تعالى: {قل قتال} ومن حق النكرة إذا تكررت أن يكون المذكور ثانيًا معرفًا مشارًا به إلى الأول وإلا كان الثاني مغايرًا للأول؟ قلنا: لأن المراد بالقتال الأول الذي سألوا عنه القتال الذي أقدم عليه عبد الله بن جحش. فلو جيء بالثاني معرفًا لزم أن يكون ذلك من الكبائر، مع أن الغرض منه كان نصرة الإسلام وإعلاء كلمته، فاختير التنكير ليكون تنبيهًا على أن القتال المنهي عنه هو الذي فيه تقوية الكفر وهدم قواعد الدين لا الذي سألوا عنه. ثم الجمهور اتفقوا على أن حكم هذه الآية حرمة القتال في الشهر الحرام، وهل بقي ذلك الحكم أو نسخ؟ عن ابن جريج أنه قال: حلف لي بالله عطاء أنه لا يحل للناس الغزو في الحرم ولا في الشهر الحرام إلا على سبيل الدفع. وروى جابر قال: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو في الشهر الحرام إلا أن يغزى. وسئل سعيد بن المسيب هل يصلح للمسلمين أن يقاتلوا الكفار في الشهر الحرام؟ قال: نعم. قال أبو عبيد الله: والناس بالثغور اليوم جميعًا على هذا القول، يرون الغزو مباحًا في الأشهر الحرم كلها، ولم أر أحدًا من علماء الشام والعراق ينكره عليهم. وكذلك أحسب قول أهل الحجاز والحجة في إباحته. قوله تعالى: {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} [التوبة: 5] ويمكن أن يقال أن قوله: {قتال فيه كبير} نكرة في حين الإثبات فيتناول فردًا واحدًا لا كل الأفراد، فلا يلزم منه تحريم القتال في الشهر الحرام مطلقًا، فلا حاجة فيه إلى تقدير النسخ والله أعلم.
{وصدّ عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله} من القتال في الأشهر الحرم فإذا لم تمتنعوا عنها في الشهر الحرام فكيف تعيبون عبد الله بن جحش على ذلك القتال مع أنه ظن أنه في جمادى الآخرة؟ واعلم أن قوله: {وصد} قد مر وجوه إعرابه في الوقوف. أما قوله: {والمسجد الحرام} فقيل: إنه معطوف على الهاء في {به} عند من يجوز العطف على الضمير المجرور من غير إعادة الجار، كقراءة حمزة {تساءلون به والأرحام} [النساء: 1] بالخفض.
والكفر بالمسجد الحرام منع الناس عن الصلاة فيه والطواف به وقيل: إنه معطوف على سبيل الله أي صد عن سبيل الله وصد عن المسجد الحرام. واعترض بأنه يلزم الفصل بين صلة المصدر الذي هو الصد، وبين المصدر بالأجنبي الذي هو قوله: {وكفر به} وأجيب بأن الصد عن سبيل الله والكفر به كالشيء الواحد في المعنى، فكأنه لا فصل وبأن التقديم لفرط العناية مثل {ولم يكن له كفوًا أحد} [الإخلاص: 4] وكان حق الكلام {ولم يكن أحد كفوًا له}. وقيل: والمسجد الحرام عطف على الشهر الحرام أي يسألونك عن قتال في الشهر الحرام والمسجد الحرام وهذا قول الفراء وأبي مسلم. وقيل: الواو في {والمسجد الحرام} للقسم. والصد عن سبيل الله هو المنع عن الإيمان بالله وبمحمد أو عن الهجرة. وقيل: منعهم المسلمين عام الحديبية عن عمرة البيت وزيف بأن الآية نزلت قبل غزوة بدر كما مر في قصة ابن جحش. وعام الحديبية كانت بعد غزوة بدر. وأجيب بأن معلوم الله كالواقع. والمراد بإخراج أهله، إخراج المسلمين من مكة. وإنما جعلهم أهلًا له إذ كانوا هم القائمين بحقوق المسجد ولهذا قال عز من قائل: {وكانوا أحق بها وأهلها} [الفتح: 26] وإنما كانت هذه الأمور أكبر لأن كل واحد منها كفر والكفر أعظم من القتال. وأيضًا إنها أكبر من قتال في الشهر الحرام وهو قتال عبد الله بن جحش، ولم يكن قاطعًا بأنه وقع في الشهر الحرام. وأما الكفار فيعلمون بأن هذه الأمور تصدر عنهم في الشهر الحرام {والفتنة} أي الشرك، أو إلقاء الشبهات في قلوب المؤمنين أو التعذيب كفعلهم ببلال وصهيب وعمار. {أكبر من القتل} لأن الفتنة تفضي إلى القتل في الدنيا وإلى استحقاق العذاب الدائم في الآخرة، فيصح أن الفتنة أكبر من القتل، فضلًا عن ذلك القتل الذي وقع السؤال عنه وهو قتل ابن الحضرمي. يروى أنه لما نزلت الآية كتب عبد الله بن جحش إلى مؤمني مكة إذا عيركم المشركون بالقتال في الشهر الحرام فعيروهم أنتم بالكفر وإخراج الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة ومنع المؤمنين عن البيت الحرام {ولا يزالون يقاتلونكم} إخبار عن استمرار الكفار على عداوة المسلمين {حتى يردوكم عن دينكم} كي يرودكم عنه كقولك أسلمت حتى أدخل الجنة بمعنى كي أدخل. ويجوز أن يكون بمعنى إلى كقوله: {ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم} [البقرة: 120] وقوله: {إن استطاعوا} استبعاد لاقتدارهم كقول الرجل لعدوّه وهو واثق بأنه لا يظفر به إن ظفرت بي فلا تبقِ عليّ {ومن يرتدد} ومن يرجع {منكم عن دينه فيمت وهو كافر} باق على الردة {فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة} أما في الدنيا فلما يفوته من فوائد الإسلام العاجلة فيقتل عند الظفر به ويقاتل إلى أن يظفر به ولا يستحق من المؤمنين موالاة ولا نصرًا ولا ثناء حسنًا وتبين زوجته منه ويحرم الميراث، وأما في الآخرة فيكفي في تقريره قوله: {وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} واعلم أن الردة أغلظ أنواع الكفر حكمًا، وأنها تارة تحصل بالقول الذي هو كفر كجحد مجمع عليه، وكسبّ نبي من الأنبياء.
وأخرى بالفعل الذي يوجب استهزاء صريحًا بالدين كالسجود للشمس والصنم وإلقاء المصحف في القاذورات. وكذا لو اعتقد وجوب ما ليس بواجب. ويشترط في صحة الردة التكليف، فلا تصح ردة الصبي والمجنون. وهاهنا بحث أصولي وهو أن جماعة من المتكلمين ذهبوا إلى أن شرط صحة الإيمان والكفر حصول الموافاة. فالإيمان لا يكون إيمانًا إلا إذا مات المؤمن عليه، والكفر لا يكون كفرًا إلا إذا مات الكافر عليه. لأن من كان مؤمنًا ثم ارتد- والعياذ بالله- فلو كان ذلك الإيمان الظاهر إيمانًا في الحقيقة لكان قد استحق عليه الثواب الأبدي. فإما أن يبقي الاستحقاقان وهو محال، وإما أن يقال إن الطارئ يزيل السابق وهو أيضًا محال، لأنهما متنافيان وليس أحدهما أولى بالتأثير من الآخر، بل السابق بالدفع أولى من اللاحق بالرفع لأن الدفع أسهل من الرفع. وأيضًا شرط طريان الطارئ زوال السابق. فلو عللنا زوال السابق بطريان الطارئ لزم الدور. وبحث فروعي: وهو أن المسلم إذا صلى ثم ارتد ثم أسلم في الوقت فعند الشافعي: لا إعادة عليه لأن شرط حبوط العمل أن يموت على الردة لقوله تعالى عطفًا على الشرط {فيمت وهو كافر} وعند أبي حنيفة لزمه قضاء ما أدى وكذلك الحج لما جاء في موضع آخر مطلقًا {ولو أشركوا الحبط عنهم ما كانوا يعملون} [الأنعام: 88] والحبط في اللغة أن تأكل الإبل شيئًا يضرها فتعظم بطونها فتهلك. وفي الحديث: «وإن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطًا أو يلم» سمي بطلان الأعمال بهذا لأنه كفساد الشيء بسبب ورود المفسد عليه. ولا شك أن المراد من إحباط العمل ليس هو إبطال نفس العمل، لأن العمل شيء كما وجد فني وزال وإعدام المعدوم محال. فقال المثبتون للإحباط والتكفير: المعنى أن عقاب الردة الحادثة يزيل ثواب الإيمان السابق. إما بشرط الموازنة كما هو مذهب أبي هاشم وجمهور المتأخرين من المعتزلة، أو لا بشرط الموازنة كما هو مذهب أبي علي. وقال المنكرون للإحباط: المراد بالإحباط الوارد في كتاب الله تعالى هو أن المرتد إذا أتى بالردة فتلك الردة عمل محبط لا يمكنه أن يأتي بدلها بعمل يستحق ثوابًا، فمعنى حبط عمله أنه أتى بعمل ليس فيه فائدة، بل فيه مضرة عظيمة، أو المراد أنه تبين أن أعماله السابقة لم تكن معتدًا بها شرعًا.
وروي أن عبد الله بن جحش وأصحابه حين قتلوا ابن الحضرمي ظن قوم أنهم إن سلموا من الإثم لم يكن لهم أخر فنزلت {إن الذين آمنوا} الآية. لأن عبد الله كان مؤمنًا وكان مهاجرًا وصار بسبب هذا القتال مجاهدًا. وقيل: إنه تعالى لما أوجب الجهاد بقوله: {كتب عليكم القتال} وبين أن تركه سبب للوعيد، أتبع ذلك بذكر من يقوم به فقال: {إن الذين آمنوا} الآية ولا يكاد يوجد وعيد إلا ويعقبه وعد. ومعنى هاجروا فارقوا أوطانهم وعشائرهم من الهجر الذي هو ضد الوصل. والهجر الكلام القبيح لأنه مما ينبغي أن يهجر. وجاز أن يكون المراد أن الأحباب والأقارب هجروه بسبب هذا الدين وهو أيضًا هجرهم بهذا السبب فكان ذلك مهاجرة. والمجاهدة من الجهد بالفتح الذي هو المشقة، أو من الجهد بالضم الطاقة لأنه يبذل الجهد في قتال العدو عند فعل العدو مثل ذلك، ويجوز أن يكون معناها ضم جهده إلى جهد أخيه في نصرة دين الله كالمساعدة ضم ساعده إلى ساعد أخيه لتحصيل القوة {أولئك يرجون رحمة الله} يحتمل أن يكون الرجاء بمعنى القطع واليقين ولكن في أصل الثواب، والظن إنما دخل في كميته وكيفيته وفي وقته. ويحتمل أن يراد المنافع التي يتوقعونها، فإن عبد الله بن جحش ما كان قاطعًا بالثواب في عمله بل كان يظن ظنًا، وإنما جعل الوعد معلقًا بالرجاء ليعلم أن الثواب على الإيمان والعمل غير واجب، وإنما ذلك بفضله ورحمته كما هو مذهبنا. ولو وجب أيضًا صح لأنه متعلق بأن لا يكفر بعد ذلك وهذا الشرط مشكوك. وأيضًا المذكور هاهنا هو الإيمان والهجرة والجهاد. ولابد للإنسان مع ذلك من سائر الأعمال والتوفيق فيها مرجو من الله. وأيضًا المراد وصفهم بأنهم يفارقون الدنيا مع هذه الخصال مستقصرين أنفسهم في نصرة دين الله، فيقدمون عليه راجين رحمته خائفين عقابه {والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون} [المؤمنون: 60].
{والله غفور رحيم} يحقق لهم رجاءهم إن شاء بعميم فضله وجسيم طوله. عن قتادة: هؤلاء خيار هذه الأمة. ثم جعلهم الله أهل رجاء كما تسمعون وإنه من رجا طلب ومن خاف هرب. وقال شاه الكرماني: علامة الرجاء حسن الطاعة. وقيل: الرجاء رؤية الجلال بعين الجمال. وقيل: قرب القلب من ملاطفة الرب. روي عن لقمان أنه قال لابنه: خف الله تعالى خوفًا لا تأمن فيه مكره، وأرجه رجاء أشد من خوفك. قال: فكيف أستطيع ذلك وإنما لي قلب واحد؟ قال: أما علمت أن المؤمن كذي قلبين يخاف بأحدهما ويرجو بالآخر؟ وهذا لأنهما من حكم الإيمان وهما للمؤمن كالجناحين للطائر، إذا استويا استوى الطير وتم في طيرانه. ومن هنا قيل: لو وزن خوف المؤمن ورجاؤه لاعتدلا. اهـ.